|
-ستار أكادمي- و -على الهواء- التداعيات السياسية و النفسية
إقبال الغربي
الحوار المتمدن-العدد: 1850 - 2007 / 3 / 10 - 13:07
المحور:
الصحافة والاعلام
"ستار أكادمي" و "على الهواء" التداعيات السياسية و النفسية
يقسم الفيلسوف الايطالي أمبرتو إيكو تاريخ التلفزة، ويصنّف المراحل التي مرت بها إلى ثلاث فترات :
1) مرحلة التلفزة التقليدية
2) مرحلة التلفزة الجديدة
3) مرحلة ما بعد التلفزة
خلال المرحلة الأولى التي حددها هذا الفيلسوف، والتي تواصلت حتى بداية الثمانينات، كانت الأضواء تسلط حكرا على صفوة القوم و كان لا يٌدعى إلى الظهور على الشاشة الفضية إلا النخبة أي بعض الشخصيات اللامعة من ذوي الكفاءات المعترف بها من مفكرين ومحللين سياسيين وفنانين مشهورين وأبطال رياضيين .
أما في المرحلة الثانية من تاريخها فقد أصبحت التلفزة اقل " نخبوية " و أكثر "ديمقراطية"، عندما أتاحت موضة المسابقات التلفزية الفرصة للرجل العادي للظهور على شاشتها، والمشاركة والفوز بجوائز وبمبالغ خيالية إن صادفه الحظ.
ֹ
في المرحلة الحالية،هذه المرحلة التي نعتها امبرتو ايكو بطور ما بعد التلفزة , فقد أصبح لرجل الشارع إمكانيات تلفزية غير مسبوقة . فبإمكانه اليوم أن يتقمص دور البطل, دون إعداد مسبق, في إطار تلفزة الواقع . ونحن نلاحظ انه مع ظهور المنوّعات الواقعية على غرار "ستار أكادمي" و "على الهواء سوا"، تغيرت ماهية المؤسسة التلفزية نوعيا. فقد اتضح اليوم أن صناعة المشهد قد استنفذت جميع إمكانياتها المبدعة واختزلت إنتاجها في مجرد موضات ثقافية و فنية سمجة سرعان ما تظهر لتختفي من جديد. فهده النوعية من البرامج والتي تنعت بـ"تلفزة الواقع"، تمكّن المركب الإعلامي الثقافي من منتوج مستعجل ومرتجل، متدني النفقات ومرتفع المرابيح والإيرادات. لإعطاء فكرة عن ذلك، يكفي ذكر انه في مصر وحدها بلغ عدد الإتصالات التي تلقاها برنامج "ستار أكادمي" في حلقته الأخيرة 32 مليونا و 175 ألف اتصال. وقد فاقت الإتصالات به في مجموع كل الحلقات نصف مليار، وهو ما وفر لمنتجيه مبالغ مالية ضخمة قد تكشف عن حجمها الأيام القادمة. ولا يخفى على أحد أن هذه المنوعات الواقعية لا تتطلب استثمارات هامة كتلك التي يتطلبها إنتاج فيلم تلفزي أو سينمائي مثلاً. إذ لا تحتاج هذه النوعية من البرامج إلا لمنزل فخم متعالي عن الزمان و المكان ٬ مقطوع من العالم الخارجي، وبضعة مراهقين مسجونين داخله، كفئران المخابر . فهم معزولون عن محيطهم الطبيعي والاجتماعي، يُحرم عليهم متابعة البرامج التلفزية و الإذاعية وقراءة الجرائد والمجلات اليومية والالكترونية عبر الانترنيت.
و في هذا الصدد من حقنا أن نتساءل عن تداعيات هذه البرامج التي تشجع بطريقة غير مباشرة الشباب على الابتعاد عن قضايا الشأن العام، عوض أن تنمي فيهم الشعور بالمواطنة و بالانتماء الاجتماعي و السياسي .
ּ
و تعتمد هذه الفرجة التلفزية على متابعة الأحداث اليومية التي تقع لهذه المجموعة الاصطناعية التي يقع تصويرها على مدى 24 ساعة بفضل عشرات الكاميرات الموزعة في كامل أركان المنزل .
في هذه الحالة، وعندما يزول الفرق بين الواقع والخيال التلفزي ويتلاشى الفن و الإبداع، يتحول الواقع البسيط واليومي إلى منوّعة تلفزية. عندئذ يصبح بإمكان أي مشارك أن يرتقي من مرتبة المشاهد السلبي إلى مرتبة النجم اللامع الذي يستقطب أنظار الملايين، وأن يتحوّل بين عشية و ضحاها إلى شخصية هامة تلعب أدواراَ رئيسية ضمن مسلسل ترفيهي يومي على غرار أبطال الروايات و الأفلام الشهيرة التي كان يعجب بهم و يتماهى معهم.ּ
السؤال المطروح هو لماذا يتسمّر المشاهد العربي من المحيط إلى الخليج أمام هذه البرامج و يدمن على مشاهدتها! كيف استطاعت هذه النوعية من البرامج في وقت قياسي وفي رقعة بث محدودة أن تحظى بمتابعة واسعة! فقد هرع مئات الأفراد في مظاهرات ضخمة متجهين إلى مطار تونس قرطاج لاستقبال المشارك التونسي في "ستار اكادمي"!
ما هي الوظائف التي تؤديها هذه المنوعات التي تبث السطحية والرداءة المعمّمة عبر الأقمار الصناعية ؟
تشبع هذه البرامج عدة حاجات و تلبي عدة رغبات نذكر منها :
1) الرغبة التسلطية
كما نعلم، "متعة التسلط"، أي الرغبة في السيطرة على الآخرين وتطويعهم وإخضاع إرادتهم لإرادتنا المطلقة، هي رغبة متأصلة في أعماق الفرد. إذ نلاحظها حتى لدى الأطفال الذين يسعون إلى السيطرة على من هو أصغر وأضعف منهم. هذه الآلية المتحكمة في كل الحياة العربية والقابعة في أعماقنا، تتجسّد من خلال "تلفزة الواقع"، و تجد متنفساً لها . فالمتفرج الذي فقد كل سيطرة على حياته الاجتماعية، لأن المشاكل غدت اليوم واسعة ومعقدة جدا تعالجها مؤسسات بعيدة ومجرّدة، مؤسسات إقتصادية واجتماعية وأحيانا منظمات دولية، ينتابه شعور لذيذ بأن بيده سلطة وأنه قادر، عبر التصويت ، على تقرير مصير الشخصيات المتسابقة وهو ما يشبع لاشعوريا ساديته وجنون عظمته. وطبعا تشفي هذه المنوعات جرح المتفرج السلبي الذي يشعر في أعماق ذاته انه بلا إرادة حرة و بلا حياة حقة . و هكذا يوهم نفسه بأنه لا يزال مخيرّاً لا مسيراً. ولهذا الوهم اللذيذ عدة انعكاسات سلبية فهو يجعل المتفرج المقهور اجتماعيا و سياسيا يتخلى عن ذاته ليتقمص لاشعوريا ادوار الأبطال الجدد الذين تقدمهم له الشاشة و يهتم بمصيرهم و بسعادتهم عوض الاهتمام بسعادته و بأسباب ضياع ذاته و بؤس حياته. وهو ما يعمق في الفرد الشعور بالعجز و يعمق فيه الجمود و عدم القدرة على تغيير حياته اليومية تغييرا حقيقيا بتحريرها من الروتين و الكبت و سيادة الأشياء على البشر وسيطرة الطغاة على الأفراد.
2) الرغبة في انتهاك الممنوعات و المحرمات
من أهم الأوامر والنواهي التي تشربناها في مرحلة الطفولة: النهي عن التلصص على الغير، والنهي عن استعراض الجسد و كل ما هو خصوصي أمام الآخرين. فالحياة الشخصية تعتبر من المحرمات التي لا يجوز الخوض فيها أمام الأغراب. و بما أن أحب شيء إلى الفرد هو ما مُنع و ما حُرّم، تتلاعب هذه البرامج بهذه المكبوتات و النواهي وتقدم للمتفرج، وأيضا للمشارك، تسوية مقبولة بين تحقيق الرغبة الدفينة في التلصص على خصوصيات الغير واستعراض الحميمية، وبين مستلزمات الواقع والضوابط الاجتماعية .
3) الرغبة في الشفافية و النزاهة
تستهوي هذه المنوعات حيث تسود الشفافية المطلقة المتفرج العربي الذي ضاق ذرعاّ بـ"إعلام الرتابة و الرقابة" على حد تعبير المفكر العفيف الأخضر. هذا الإعلام الذي يعطي الأولوية لرضا النخبة الحاكمة على رضا الجمهور والذي يشيع الكذب المنظم علي مدى السنة دون كلل أو ملل و يذيع البرامج البائتة التي تسجل ثم يؤجل بثها إلى ما بعد مرورها بمختبر الرقابة لتعقيمها، بينما توهم هذه البرامج المتفرج أنه شاهد عيان علي الوقائع وعلى الأحداث وﺃن ما يشاهده لم يخضع لأي تزوير أو تشويه أو تلفيق .
الجدير بالذكر هو ﺃن هذه البرامج أصبحت محل جدل طويل في الشرق و الغرب. البعض يناهضها لاعتبارات أخلاقية صارمة، والبعض الآخر، كالعديد من الجمعيات الحقوقية و البيئية، ترى فيها خطرا على الحريات الفردية. فهي من جهة تشيّئ الفرد وتصادر حياته الحميمية، التي تمثل جوهر ﺇنسانيته ، و تستحوذ على أخص جزئياتها وتحوّلها إلى بضاعة في المشهد الإعلامي، ٌتباع و تٌشترى مقابل سويعات من الشهرة و النجومية. وهي، من جهة أخرى، تهيّئ المشاهدين وجدانياً، وتكيّفهم نفسانياُ، لقبول مبدﺃ المراقبة الشاملة والوشاية المعممة التابعة لها في جميع الأماكن والفضاءات. وهو السيناريو- الكابوس الذي تنبّأ به الروائي جورج أورويل في كتابه الشهير "1984 "، عندما دمّر "الأخ الأكبر " كل هامش للحرية والاستقلالية و الإبداع• و لعله من المصادفات ذات الدلالة أن يكون اسم منوعة الواقع التي تم إيقافها من طرف قناة "إم بي سي" هو "الأخ الأكبر".
#إقبال_الغربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثورة الجنسية : نداء إلى تطور دون تهور
-
دفاعا عن الكلمة الحرة وعن حرية التعبير.
-
المثقف الليبرالي والتعذيب
-
مقاربة نفسية لفهم الطائفية و التطرف الديني
-
لماذا تفضل نساء المسلمين عمرو خالد على ابن رشد و فولتير ?
-
ما هي أسباب كراهية العرب للمرأة؟
-
أين العرب والمسلمون من زمن الصفح و الغفران
-
الحجاب في زمن العولمة: عودة المكبوت
-
الجريمة الفضيحة
-
العنف ضد المرأة ׃ﻫﺫه المجزرة الصامتة
-
إذا لم نغير ما بأنفسنا سيغير العالم أحوالنا
-
الصيف و الحجاب و شاطئ البحر...مداخل نفسية لفهم المشروع التوت
...
-
المرأة التونسية منعت تعدّد الزوجات منذ 9 قرون
المزيد.....
-
مجلس الوزراء السعودي يوافق على -سلم رواتب الوظائف الهندسية-.
...
-
إقلاع أول رحلة من مطار دمشق الدولي بعد سقوط نظام الأسد
-
صيادون أمريكيون يصطادون دبا من أعلى شجرة ليسقط على أحدهم ويق
...
-
الخارجية الروسية تؤكد طرح قضية الهجوم الإرهابي على كيريلوف ف
...
-
سفير تركيا في مصر يرد على مشاركة بلاده في إسقاط بشار الأسد
-
ماذا نعرف عن جزيرة مايوت التي رفضت الانضمام إلى الدول العربي
...
-
مجلس الأمن يطالب بعملية سياسية -جامعة- في سوريا وروسيا أول ا
...
-
أصول بمليارات الدولارات .. أين اختفت أموال عائلة الأسد؟
-
كيف تحافظ على صحة دماغك وتقي نفسك من الخرف؟
-
الجيش الإسرائيلي: إصابة سائق حافلة إسرائيلي برصاص فلسطينيين
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|