أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - آلان غريش - تسكين المسألة الدينية لطرح المسالة الاجتماعية - في أصول الجدل حول العلمنة















المزيد.....



تسكين المسألة الدينية لطرح المسالة الاجتماعية - في أصول الجدل حول العلمنة


آلان غريش

الحوار المتمدن-العدد: 556 - 2003 / 8 / 7 - 03:59
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


 

إن تعيين الرئيس جاك شيراك لجنة مهمتها البحث في مسالة العلمانية في الجمهورية، في الوقت الذي تنكب فيه الجمعية الوطنية على موضوع ارتداء ما يعكس الانتماءات الدينية في المدرسة يوضح حدة النقاش الدائر في المجتمع الفرنسي. فمنذ قرن جاء إقرار قانون العام 1905 حول فصل الدين عن الدولة يحدد مرحلة حاسمة في المعركة من أجل العلمانية. والنقاشات التي دارت في تلك الحقبة تساعد في توضيح الرهانات الحالية وفي تصحيح بعض الأفكار المكتسبة.

آلان غريش
ALAIN GRESH

الفصل؟ لست جاداً في ما تقول. يحتاج الأمر عشرين سنة أخرى." يعود هذا الكلام الى ربيع العام 1903، في باريس حيث كان مجلس النواب قد انتخب حديثاً لجنة كلفت اقتراح مشروع قانون بفصل الدين عن الدولة. الا أن اميل كومب، رئيس المجلس عبر عن شكوكه. ففي ظل الجمهورية الثالثة ألم يكن تشكيل لجنة وسيلة لدفن القضايا؟ لكن ليس هذه المرة، إذ بعد عامين وفي 9 مانون الأول/دسمبر عام 1905 أقر قانون الفصل. فبعد قرن من الزمن من يتذكر في ظل أية ظروف فرضت العلمانية نفسها في فرنسا؟

بعد انهيار امبراطورية نابوليون الثالث في العام 1870، وبعد سحق كومونة باريس وفشل محاولات إعادة النظام الملكي تولت زمام القيادة في العام 1879 أغلبية جمهورية. هذا ما ساعد في اعتماد سلسلة من الاجراءات لصالح العلمنة، مثل إلغاء العطلة الالزامية يوم الأحد (1879) والنضال ضد الجمعيات الدينية وفرض الطابع الدنيوي على المقابر(1881) والسماح بالطلاق (1884) وخصوصاً ونشر التعليم العام باشراف جول فيري. ففي العام 1882 أصبح التعليم الابتدائي مجانياً في مؤسسات الدولة الرسمية وفي العام 1886 عهد بمهمة التعليم الى ملاك معلمين علمانيين فقط.

وبحسب ما يؤكد آلان بوايي أن "العلمانية أصبحت كلمة السر التي لا يمكن فهمها الا بالمقارنة مع الاكليروسية المنتصرة في القرن التاسع عشر عندما سعت الكنيسة(...) الى قيادة الدول والى فرض سياسة مسيحية" [1] . ولم يكن الأمر، بالنسبة الى غالبية الجمهوريين سحق للديانات بل الحد من سلطة الكنيسة الكاثوليكية المتحالفة مع الملكيين معتمدة عند الحاجة على مذاهب أخرى، والبروتستانت بنوع خاص....

وقد ترافقت هذه الاستراتيجية الجمهورية مع الرغبة في تحاشي قيام أي حرب اهلية وفي التشجيع على تطوير الفكر بدلاً من فرض قساوة القانون، كما يتبين من "قضية الصلبان". فهل كان يجب نزع هذه الرموز الدينية من المدارس الرسمية لدى فتح أبواب العودة اليها في العام 1882؟ لقد دعت التعميمات الوزارية الى تطبيق القانون "بالذهنية نفسها التي أقر بها وبذهنية التصريحات التي كررتها الحكومة، ليس كقانون معركة يجب فرض انتصاره بالعنف، وإنما كأحد القوانين الناظمة المهمة التي يفترض بها ان تواكب البلاد في حياتها وأن يتماهى مع شيمه ويشكل جزءاً من تراثه". وغداة الحرب العالمية الثانية كان ما يزال هناك صلبان تعلق في المدارس الرسمية...

بعد أن تحققت العلمنة في قطاع التعليم هل كان من المفترض الاتجاه الى فصل الدين عن الدولة وهو ما وضعته جميع الأحزاب الجمهورية، من الراديكاليين الى الاشتراكيين في برامجها السياسية؟ وقع الجمهوريون في حيرة من الأمر خصوصاً وأن بابا جديداً، هو ليون الثالث عشر المنتخب في العام 1878 قد اعتمد موقفاً متساهلاً إزاء النظام الجمهوري. وقد تجسد هذا الموقف في شباط من العام 1892 بالرسالة البابوية التي جاءت تحت عنوان "في خضم التضرعات" التي أثارت معارضة قوية في صفوف اليمين الكاثوليكي الفرنسي. إلا أن رسالة البابا ليون الثالث عشر جاءت تعبر عن تطور قسم من الهيئات الناخبة، تلك التي أسماها اميل ليتري "كاثوليكيي الانتخابات العامة" وعن رغبة بعض الكاثوليك والملكيين المعتدلين في ضم جهودهم الى جهود الجمهوريين المعتدلين من أجل محاربة الخطر الجديد المتمثل بالاشتراكية.

لكنه كان من المبكر بعد ردم الهوة الفاصلة بين حزبي فرنسا. وسوف يساهم عاملان في فرض التشدد في المواقف، وهما التجديد الذي طال المؤسسات الدينية، والنسائية منها بنوع خاص [2] ، التابعة "لسلطة أجنبية" يمثلها البابا، وقضية درايفوس التي ترافقت مع حملة هجومية على الجمهورية نهض بها خاصة "الآباء الصعوديين"، على صفحات جريدة "لا كروا" التي أظهرت في وقتها أنها "الأكثر عدائية لليهود في فرنسا".

جاءت انتخابات العام 1902 تؤكد وتوسع الغالبية التي يتمتع بها الجمهوريون بالرغم من ان الفارق بين الكتلتين في الدورة الأولى لم يكد يتجاوز الـ200000 صوت. وقد ركز المرشحون حملتهم على مسألة مستقبل الأنظمة الدينية لكنهم تفادوا الخوض في موضوع الفصل. وقد حصلت الكتلة الجمهورية التي هيمن عليها الراديكاليون على 368 نائباً 48 منهم للاشتراكيين، فيما حصلت المعارضة على 230 نائباً. وتولى رئاسة الحكومة الماسوني اميل كومب. وهذا الطالب الاكليريكي سابقاً "الأب كومب الصغير" المعروف بمواقفه المعارضة للاكليروس، لم يأت ولو بكلمة واحدة على موضوع الفصل في بيانه الحكومي. وفي المقابل قام بحرب لا هوادة فيها على المؤسسات الدينية متشدداً عند الحاجة في تطبيق روحية قانون العام 1901 حول الجمعيات. فرفض طلبات الترخيص للغالبية الكبرى من المؤسسات الدينية وأغلق مدارسها وانتهى به الأمر الى تحريم التعليم (حتى التعليم الخاص) على جميع أعضاء الجمعيات الدينية الذين اضطروا الى الهجرة بأعداد كبيرة.

وقد رأينا كيف ان اميل كومب لم يخفِ شكوكه عندما اقر مجلس النواب في ربيع العام 1903 تشكيل لجنة خاصة بموضوع الفصل. ولم يكن في الأمر مجرد موقف انتهازي أو خوف من إغراق البلاد في حرب أهلية. فالوضع القائم كان يوفر الكثير من الفرص التي لم يكن قسم من الجمهوريين يرغب في تفويتها.

كانت المعاهدة البابوية التي عقدت بين البابوية وفرنسا في 15 تموز/يوليو عام 1801 بتشجيع من بونابرت قد حددت العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية الموحدة تحت سلطة البابا وبين الجمهورية، وكانت الكنيسة الدستورية التي نشأت من الثورة قد حلت. ويؤكد نص المعاهدة على أن "الحكومة الجمهورية تعترف بالديانة الكاثوليكية الرسولية الرومانية ديناً للغالبية الكبرى من المواطنين الفرنسيين." وقد شكل هذا "الاعتراف" نقطة تطور أساسية وافق عليه البابا لم تعد بعدها الكاثوليكية هي دين الدولة.

وخلال النقاشات حول عملية الفصل في العام 1905 اوضح القس غايرو الذي كان يتمنى فتح مفاوضات جديدة مع الكرسي الرسولي، امام مجلس النواب أنه يبقى مؤيداً " الوحدة بين المجتمع المدني والمجتمع الديني". وانتقد المعاهدة البابوية التي "اعتبرت الكنيسة لا تمثل الديانة الحقيقية، كما نراها نحن، بل بكل بساطة ديانة غالبية الشعب الفرنسي."

ولم يتم التصديق على المعاهدة البابوية الا في 8 نيسان/أبريل عام 1802. في هذه الأثناء كان بونابرت قد طلب الى مستشاره جان-اتيان بورتاليس أن يدبج بنودها الناظمة. وقد استنت هذه البنود، البالغ عددها 77، بدون التشاور مع روما. وبذلك وضعت فرنسا نظاماً فعالاً جداً للرقابة البوليسية على الكنيسة الكاثوليكية وبشكل أوسع على سائر الديانات المعترف بها. وهكذا لم يعد بالامكان عقد أي مجمع كاثوليكي محلي بدون موافقة الحكومة. وبات على الأساقفة أن يلازموا أبرشياتهم ولا يغادروها الا باذن من نابوليون نفسه. حتى أن المادة 39 فرضت ألا تقام "إلا ليتورجية واحدة وتعليم ديني موحد لجميع الكنائس الكاثوليكية في فرنسا" الخ. وخلال النقاشات حول عملية الفصل أوضح جوليان دو نافرون، المؤرخ الليبرالي للكاثوليكية، أن المعاهدة البابوية قد زادت من إخضاع الكنيسة في فرنسا لوصايتين، وصاية الدولة ووصاية الفاتيكان.

ألا يعني إذن أن التخلي عن المعاهدة البابوية، وبالتالي عن بنودها الناظمة، الاستغناء عن سلطة الدولة على الكنيسة؟ هذا ما جعل الراديكاليين يحارون. إن النزاعات مع الفاتيكان هي التي زعزعت "السلام بموجب المعاهدة" وحملت الغالبية الجمهورية على المطالبة بالفصل. وهذا ما يذكرهم به جوليان دو نافرون: "لقد أثار النزاع الأول البابا بيوس العاشر لدى معارضته سفر السيد لوبي[رئيس الجمهورية] الى روما، والثاني نتج عن الاستقالة التي فرضها البابا على أسقفي ديجون ولافال. تسبب الأول بنصف قطيعة أما الآخر فأدى الى قطع العلاقات نهائياً بين فرنسا والفاتيكان.".

 في القضية الأولى أراد البابا التأكيد على أنه يبقى صاحب السلطة الزمنية وأنه لا يعترف بضم روما الى إيطاليا. وكانت صحيفة "لومانيته" قد نشرت مذكرة سرية وزعها الكرسي الرسولي على جميع الحكومات بعد ان اطلعت عليها... من أمير موناكو. هذا التدخل في الشؤون الداخلية للجمهورية أثار فضيحة في مجلس النواب الذي وافق بغالبية واسعة، 427 صوتاً مقابل 96، على استدعاء السفير الفرنسي لدى البابا.

اما القضية  الثانية فقد أدت الى انعكاسات أكثر خطورة. فقد مارست روما ضغوطها لفرض استقالة أسقفين فرنسيين متهمين من جانب أبناء رعيتهم ومن رجال الدين بميولهم الجمهورية على الأرجح. وبذلك طرحت على بساط البحث مسألة التوازن المعقد في "تعيين" الأساقفة [3] . وفي 30 تموز/يوليو كشفت الحكومة الفرنسية عن قرارها بقطع العلاقات الديبلوماسية مع الكرسي الرسولي، مما أسقط بعد ذلك المعاهدة البابوية...

وقد أيد إميل كومب في خطابه الشهير في أوكسير عام 1904 إلغاء المعاهدة. الا أنه، بعد اتهامه بقضية طرد بعض الضباط، اضطر الى الاستقالة في 14 كانون الثاني/يناير عام 1905. وقد خلفه موريس روفييه أحد المقتنعين بالمعاهدة، ومع ذلك تمت عملية الفصل في ظل رئاسته. في هذه الأثناء كان اميل كومب قد تقدم في 10 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1904 بمشروع قانون أثار معارضة شديدة حتى في أوساط البروتستانت الذين كانوا حتى ذلك الوقت أصدقاء وحلفاء الجمهوريين.

فقد احتجوا بشكل أساسي على المادة الثامنة التي حظرت على الجمعيات المنشأة لممارسة العبادة الاجتماع خارج حدود المحافظة، وهو بند استهدف قبل كل شيء الكنيسة الكاثوليكية واعتبر تدخلاً في تنظيم سائر الكنائس. كما احتجوا على المادة الثالثة التي نصت على أن وقف الأملاك المنقولة وغير المنقولة على طوائف معترف بها سابقاً سوف يسمح به "لمدة عشر سنوات" وبذلك خيمت على عدد من الكاثوليك فكرة امكانية سحب الحق في إدارتها فيما بعد... وفي الواقع أن مشروع كومب يعكس فلسفة تهدف ليس فقط الى فصل الدين عن الدولة بل الى تحطيم الكنيسة الكاثوليكية والى تدميرها من الداخل مع الحفاظ في الوقت نفسه على رقابة الدولة.

وبحسب ما لخص الوضع الكاهن لويس لافون مدير مجلة "الحياة الجديدة" (La Vie nouvelle ) فان "هناك طريقتين لانجاز عملية الفصل، أو بالأحرى، عند القيام بها يمكن التطلع الى هدفين مختلفين: فاما هناك رغبة في علمنة الدولة، أو هناك رغبة في تدمير الدين(...). اما الدين فانه قضية معتقد، قضية المعتقد الفردي. وما على الدولة الا أن تمتنع كلياً عن أي مساهمة أو عن أي عمل في المجال الديني، ولها الحق بل عليها ان تطلب في المقابل من الكنيسة ألا تتعاطى مع من يرغب في الهيمنة عليها او في بنائها كما يريد. أعتقد أنني فيما يتعلق بالحكم في دور الدولة تجاه الكنائس أشارك في الرأي جميع الديموقراطيين وعدداً كبيراً من أصحاب الفكر الحر أنفسهم. لكن هناك آخرين ممن يحلمون بتدمير الكنيسة وكل ديانة عبر القانون. إنهم يعللون النفس بالحلم الاجرامي والأخرق الذي راود جميع الطغاة الذين طالما أرادوا أن يسيطروا على الضمير البشري وتصوروا أنهم قد يصبحون أسياده بواسطة العنف(...). إن حرية الاجتماع يجب ان تكون حقاً كاملاً للكاثوليك والبروتستانت واليهود كما لأصحاب الفكر الحر والماسونيين. ولذلك فان المادة الثامنة المهتزة جداً يجب ان تسقط كلياً."

وهذا ما سيحدث. فإذا كانت الذاكرة الجماعية تقرن ما بين "الأب كومب الصغير" وعملية الفصل، فلا شيء ابعد عن الحقيقة من هذا. فبتشجيع من الاشتراكي أريستيد بريان، مقرر اللجنة، وبنصيحة من المحامي جان جوراس، تم التوصل الى تسوية تضمن في آنٍ معاً عملية الفصل وحرية الكنائس في أن تنظم شؤونها كما تريد.

إن قانون العام 1905 يبدأ بمادتين. المادة الأولى: "تكفل الجمهورية حرية المعتقد. وهي تضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية الا في الحالات المقيدة المنصوص عنها أدناه في إطار المصلحة العامة." المادة الثانية: "لا تعترف الجمهورية ولا تقدم اجراً ولا المساعدة لأي طائفة. (...). إلا انه يمكن في مطلق الأحوال أن تسجل في الموازنات المختصة [موازنات الدولة والمحافظات والبلدات] المصاريف المتعلقة بممارسة أعمال الصدقة والمخصصة لتأمين حرية ممارسة الشعائر الدينية في المؤسسات العامة مثل الليسيات والمعاهد والمدارس والمستشفيات ودور العجزة والسجون."

وهنا ملاحظتان تفرضان نفسيهما. الأولى تتعلق بعبارة "الاعتراف". بحسب ما يحدد جان بوسينسك إنها "لا تعني أبداً أن الدولة تنفي وجود الحق (الخاص) للكنائس كهيئات نظامية. بل يجب ان تفهم استناداً الى الوضع السابق حيث كان في فرنسا أربع طوائف "معترف بها" (الكاثوليك واللوثريون والاصلاحيون والاسرائيليون) (...). فالمادة الثانية لا تعني إذن أنه لم يعد هناك كنائس مميزة قانونياً وأنه، بالنتيجة، أصبحت جميع الكنائس (القائمة والمممكن أن تنشأ) متساوية قانونياً. [4] " وعلى هذا الأساس لن يبقى من المسموح به، وبعكس الحالات السابقة، أن يحتل بعض الأساقفة بحكم القانون مناصب في مجلس الشيوخ أو في مجالس التعليم الرسمي. وبعكس ذلك أمكن للدولة بعد حوالى عشر سنوات، وبدون أن تنتهك القانون أو تصدم النفوس، أن تعين في بعض لجان الأبحاث، كتلك الخاصة بالقضايا الأخلاقية، شخصيات لها انتماؤها الديني المعروف والثابت...

ومن جهة أخرى فان الدولة تضع في تصرف الكنائس، والكاثوليكية منها بنوع خاص، ممتلكات عقارية ضخمة، هي (الدولة) تؤمن صيانتها فوق ذلك.، وأقل ما يقال في هذا أن هذا يشكل مساعدة مباشرة للطوائف... كما ان ترتيبات أخرى قد اتخذت خلال العقود التالية معززة هذه المعونات. ففي اوائل عشرينات القرن الماضي مولت السلطات العامة بناء جامع باريس. وهذا ما يفسره ادوار هيريو مقرر مشروع القانون في مجلس النواب قائلاً: "نحن لا ننتهك قانون العام 1905، إذ إننا نفعل هنا للمسلمين ما فعلناه في العام 1905 للبروتستانت أو للكاثوليك."

وبعد إقرار المادتين الأوليين تركز البحث في البرلمان على الجمعيات الدينية. فقد نصت المادة الرابعة على أن جميع المؤسسات العامة الخاصة بالطوائف تحول الى جمعيات "تنشأ قانونياً لممارسة العبادة". لكن من الذي يقرر إذا ما كانت هذه الجمعيات قد أعيد تأهيلها فعلاً؟ وماذا يحدث إذا وقع خلاف بين جمعيتين؟ لقد شغلت هذه المسألة الكنيسة الكاثوليكية، كما أن العديد من الراديكاليين رأوا ان الفرصة سانحة من اجل تدمير الكنيسة من الداخل. وقد بلغ انعدام الثقة درجة دعت بعض الكاثوليك يشتبهون في أن الماسونيين يريدون جمعهذه الجمعيات تحت بوتقة واحدة لسحبها من قبضة الأساقفة.

وراح كل من الطرفين ينسب الى الآخر أسوأ النوايا. حتى بين الجمهوريين تصادمت فلسفات مختلفة حول العلمانية. أما أريستيد بريان، مقرر اللجنة فقد حدد موقفه مدعوماً من جان جوراس. فأوضح قائلاً ان مشروع اللجنة "ليس وليد عاطفة أو انتقام أو حقد، بل وليد المنطق والعدالة والحذر مجتمعة(...). وعبثاً التفتيش فيه عن أدنى أثر لأي موقف خلفي يرمي الى اضطهاد الطائفة الكاثوليكية." ولذك اقترح أن تضاف عبارة صغيرة الى المادة الرابعة نصت على أن الجمعيات الدينية يجب أن تتقيد بالقوانين التنظيمية  العامة للطائفة بحسب ما ترتأي تأمين ممارستها". بمعنى آخر أي جمعية تنشأ ضمن الطائفة الكاثوليكية عليها الاعتراف بالقوانين الداخلية لهذه الطائفة، وتحديداً رئاسة البابا. وإذا ما وقع خلاف فان المحاكم المدنية هي التي تبت بالموضوع [5] ... وهذا ما احدث حالة تمرد في صفوف الجمهوريين. أخيراً، وفي اليوم نفسه، رفض إقرار التعديل الذي اقترح حذف الاضافة التي أتت بها اللجنة بأغلبية 374 صةتاً معارض مقابل 200 صوت مؤيد. وهكذا تمت عملية الفصل بحسب ما سيروي جوراس...

ولماذا دفع الاشتراكيون في اتجاه التوفيق؟ هذا ما صارح به جان جوراس في مقالة له في صحيفة "لا ديباش" في 15 آب/أغسطس عام 1904: "لقد آن الأوان للتوصل اخيراً الى حل لهذه القضية الكبيرة، إنما الملحة، التي تتناول العلاقات بين الكنيسة والدولة وذلك لكي تتمكن الديموقراطية من التفرغ كلياً للعمل المهم والصعب المتعلق بالاصلاح الاجتماعي وبالتضامن الانساني الذي تطالب به البروليتاريا." كان المطلوب تسكين المسألة الدينية من أجل طرح المسألة الاجتماعية، مسألة الاصلاحات الكبرى موضوع البحث والتي يود الراديكاليون والجمهوريون أن يؤجلوها، مثل الضريبة على الدخل وتعويض نهاية الخدمة للعمال...

من قانون العام 1905 هذا، ومن النقاش المثير حوله في مجلسي النواب والشيوخ، بنوعيته التي تستدعي إعادة النظر في عدد من الأحكام المتسرعة على الجمهورية الثالثة، لا تحتفظ الذاكرة الجماعية الا ببعض الصور المبهمة، خصوصاً تلك المتعلقة بالتصادم بين "فرنسيين اثنين" وفيها احتلت "مأساة إجراء الجردات" مساحات مطولة، حول صورة رجال الشرطة يخلعون أبواب الكنائس.

في البداية كان هناك تعديل غير مؤذ في القانون: فبما ان المطلوب كان عملية تحويل الممتلكات الى الجمعيات الدينية الجديدة تطلب الأمر إجراء جردة بها. لكن في التعليمات الادارية مرت جملة صغيرة طلبت الى رجال الدين، لكي تأتي الجردة شاملة، "فتح بيت القربان"، قدس الأقداس" حيث يحفظ كأس القربان. فالقوميون، وتحديداً جماعة "العمل الفرنسي" هم الذين لعبوا دوراً أساسياً في "مقاومة" تدخل رجال الشرطة. وفي بعض المحافظات حظوا بدعم بعض الناس القلقين والمضللين، وقد صدمتهم معارك الأب كومب ضد الرهبنات. وقد كان عدد الحوادث الخطيرة محدوداً لدرجة انه ابتداءاً من 16 آذار/مارس صدر تعميم سري يدعو الى تعليق اعمال الجرد حيث تحدث مقاومة. وفي أيار/مايو عام 1906 كان 93 في المئة من اعمال الجرد قد انجز، الا أن فرنسا احتفظت بذكرى بعض "الشواذات".

وقد شجعت أعمال المقاومة، المضخمة في الصحف الكاثوليكية وفي الشائعات، الكرسي الرسولي على التصلب، خصوصاً أن بابا لا يمكن التعامل معه، هو بيوس العاشر، قد خلف ليون الثالث عشر المتوفي في 20 تموز/يوليو عام 1903. فقد خشي البابا الجديد أن تؤثر عملية الفصل على هيبته وتصبح "مثلاً سيئاً" في اماكن اخرى، وخصوصاص في اسبانيا. وفي رسالة بابوية أولى تحت عنوان "فيهيمنتر نوس" (Vehementer nos) صدرت بتاريخ 11 شباط/فبراير عام 1906، دان مبدأ الفصل بحد ذاته وأسف لالغاء المعاهدة البابوية من طرف واحد  ولاعتماد القانون، في رأيه، لضرب مبدأ جوهريفي الكنيسة التي هي "في جوهرها مجتمع متفاوت المراتب، أي انها مجتمع يضم فئتين من البشر، الرعاة والقطيع". وفي 10 آب/أغسطس عام 1906، وفي رسالة بابوية تحت عنوان "غرافيسيمو اوفيسيي" (Gravissimo officii) أمر البابا جميع الكاثوليكيين الفرنسيين المؤيدين بالأحرى لتسوية في هذه النقطة، بعدم إنشاء الجمعيات الدينية.

كان من شأن هذا العمل المعرقل أن يدفع الحكومة الى التشدد في تطبيق القانون، واستغلال هذا التصرف لتوجيه ضربات جديدة الى الكنيسة الكاثوليكية.لكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل أنها اتخذت تدابير انتقالية هدفت الى التأكيد على أن إدارة أماكن العبادة الكاثوليكية متروكة مؤقتة بيد رجال الدين المكلفين بها. وبقي الأمر حتى العام 1924 حتى سمح البابا بيوس الحادي عشر، في رسالة بابوية تحت عنوان "مكسيمان غرافيسيمانكي"(Maximam gravissimamque) بتشكيل الجمعيات الدينية. وتطلب الأمر ما يزيد عن عشرين عاماً لكي تجاري الكنيسة العلمانية.

"إن فرنسا هي جمهورية موحدة علمانية ديموقراطية اشتراكية". هذا ما تنص عليه المادة الأولى من دستور العام 1946 صادق عليه الشيوعيون والاشتراكيون، إنما الديموقراطيون المسيحيون(MRP) أيضاً، وهذا ما يوضح كثيراً ما حدث من تطورات. فقد انتصرت الجمهورية في النهاية، إذ عرفت كيف تراهن على تطور الفكر وتركت للزمن أن يفعل فعله.

وفي كل مرحلة كان مجلس شورى الدولة في تفسيره لقانون العام 1905 يفعل ذلك بذهنية ليبرالية مؤكدا على حق الكنائس في الانتظام كما تريد. وإحدى اوائل التعقيدات التي واجهتها الجمهورية كانت مسألة الزياحات خارج أماكن العبادة. وراح بعض حكام المدن ينادون بالصوت الصارخ أن "لا مسيرات دينية في الأماكن العامة!" وما بين العام 1906 و1930 صدر 139 قرار بلدي بهذا المعنى وشكلت موضوع مراجعة، الا أنه في 136 حالة تم التراجع عن هذه القرارات...

وبعد قرن من الزمن اصبحت العلمانية ثروة مشتركة للمؤمنين وغير المؤمنين، بالرغم من الكلام عليها غالباً كيفما كان. وعندما يصر وزير الداخلية الفرنسي نيقولا ساركوزي على أنه يجب ان تظهر النساء سافرات في صور بطاقات الهوية فإنما هو يطرح قضية لها علاقة بالنظام العام وليس بالعلمانية... وعندما يجري الحديث عن اختلاط الجنسين في المدرسة فإنما يتعلق الأمر بالمساواة بين الصبية والبنات وليس بالعلمانية، فالمدرسة العلمانية تأقلمت حتى أواخر ستينات القرن الماضي مع عملية الفصل بين الجنسين، كما تأقلمت الجمهورية العلمانية مع رفض حق الانتخاب للنساء على مدى عقود.

فهل ان العلمانية مهددة اليوم في فرنسا؟ وهل يجب التحرك كما في العام 1905؟ إن سيطرة الكنائس قد تقلصت وما من واحدة منها تضاهي من قريب أو بعيد النفوذ الكاسح للكنيسة الكاثوليكية في مطلع القرن الماضي. وبالعكس فان جان بوبيرو، في تأمله في صيغة "الاكليروسية، هي العدو" يتساءل حول ما إذا كانت "قد بقيت هي الراية للعلمانية المناضلة. لكن من هم اليوم رجال الاكليروس الجدد؟ ومن هم الذين يشكلون خطراً ملموساً على حرية التفكير؟ [6] . هل هم بدرجة اولى الديانات المنظمة ام بالأحرى "اكليركاتور" (كاريكاتور رجال الدين) المال أو وسائل الاعلام؟

في مطلع القرن العشرين كان على الجمهورية أن تشق طرقاً هائلة من فرض نظام الضريبة على الدخل الى تعويضات العمال. وقد فهم جوراس أنه من أجل التغلب على التحديات، كان يجب تسكين المجادلات الدينية. وبعد قرن ها ان فرنسا تواجه مخاوف رهيبة ناشئة عن النيوليبرالية التي تضرب أسس الميثاق الجمهوري. فهل أن بضع عشرات من القتيات اللواتي يضعن الحجاب في المباني المدرسية هن اللواتي يهددن هذا الميثاق؟ ام هي المظالم وأشكال التمييز والغيتوات والبطالة وكل هذه القضايا المهملة التي تستبعدها "الاصلاحات"؟ ففي مواجهة عمليات الالهاء هذه من المفيد التذكير بأن جوراس كان على حق عندما قال ان على الجمهورية الفرنسية أن تبقى علمانية واشتراكية، وقد بقيت علمانية لأنها عرفت كيف تبقى اشتراكية...

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] Alain Boyer, Le droit des religions en France, PUF, Paris, 1993

Jean Baubérot, Vers un nouveau pacte laïques ", Le Seuil, Paris, 1990. Lire également du même auteur,  Histoire de la laïcité française, coll. “ Que sais-je ? ”, PUF, 2000.

[2]  في دراسة طويلة حول ازدهار الرهبنات النسائية في القرن التاسع عشر يبرهن كلود لانغلوا انها سمحت للنساء ذوات الوضع الدوني بموجب القانون المدني ان يتبؤوا مراكز مسؤولية في التعليم والعناية الصحية. راجع

Claude Langlois, Le catholicisme au féminin. Les Congrégations à supérieure générale, Le Cerf, Paris, 1984

[3] منذ المعاهدة البابوية والدوبة الفرنسية تسمي الاساقفة ويستمر النظام معمولا به في مقاطعة الزاس ـ موزيل مما يجعل من رئيس الجمهورية الفرنسية الرئيس الوحيد في العالم يسمي الاساقفة.

[4] Jean Boussinesq, La laïcité française, Le Seuil, Paris, 1994. Ce petit mémento juridique est la meilleure introduction aux lois qui régissent la laïcité.  

[5] بموجب النص النهائي يفترض رفع النزاعات امام مجلس شورى الدولة.

[6] Jean Baubérot, Vers un nouveau pacte laïques ?, Le Seuil, Paris, 1990. Lire également du même auteur,  Histoire de la laïcité française, coll. “ Que sais-je ? ”, PUF, 2000.

 

جميع الحقوق محفوظة 2003© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
 



#آلان_غريش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرأي العام في السعودية.. البدايات


المزيد.....




- الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت ...
- تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ ...
- استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
- 82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
- 82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
- 1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
- أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - آلان غريش - تسكين المسألة الدينية لطرح المسالة الاجتماعية - في أصول الجدل حول العلمنة