العولمة وفقاً لتحليل الاقتصاد السياسي تعني : وصول نمط الإنتاج الرأسمالي ، عند منتصف هذا القرن تقريباً إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والتداول ، إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة الإنتاج ذاتها ، أي أن ظاهرة العولمة التي نشهدها هي بداية عولمة الإنتاج والرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج الرأسمالية ، وبالتالي علاقات الإنتاج الرأسمالية أيضاً ، ونشرها في كل مكان مناسب وملائم خارج مجتمعات المركز الأصلي ودوله . العولمه بهذا المعنى هي رسملة العالم على مستوى العمق (في مجال الإنتاج وإعادة الإنتاج) بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره (في مجال التبادل والتداول)، قد تمت . بعبارة أخرى ، أن ظاهرة العولمه التي نعيشها الآن هي طليعة نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي ـ إلى هذا الحد أو ذاك ـ إلى الأطراف بعد حصرها هذه المدة كليا في مجتمعات المركز ودوله . في الواقع لان عالمية دائرة التداول والتبادل بلغت حد الإشباع بوصولها إلى أقصى حدود التوسع الأفقي الممكنة وشمولها مجتمعات الكرة الأرضية كلها ـ باستثناء جيوب هنا وهناك ـ كان لابد لحركية نمط الإنتاج الرأسمالي وديناميكيته من أن تفتح أفقاً جديداً لنفسها ، وان تتجاوز حدوداً بدت ثابتة سابقاً عن طريق نقلة نوعية جديدة بدورها تأخذ الآن الشكل المزدوج لعولمة دائرة الإنتاج ذاتها ونثرها في كل مكان مناسب تقريباً على سطح الكرة الأرضية ، من ناحية وإعادة صياغة مجتمعات الأطراف مجدداً ، في عمقها الإنتاجي هذه المرة ، وليس على سطحها التبادلي التجاري الظاهر فقط، من ناحية ثانية ، أي إعادة صياغتها وتشكيلها على الصورة الملائمة لعمليات التراكم المستحدثة في المركز ذاته. [1] وهذا يعني سيادة نمط جديد للإنتاج الرأسمالي وعلاقات الإنتاج الرأسمالية تتناسب مع قوانين المرحلة الجديدة .
".... وهكذا نجد أن العولمة تفسح المجال واسعاً أمام أصحاب رؤوس الأموال لجمع المزيد من المال على حساب سياسة قديمة في الاقتصاد كانت تعتمد على الإنتاج الذي يؤدي إلى تحقيق ربح ، بينما اليوم فالاعتماد هو على تشغيل المال فقط دون مغارم من أي نوع للوصول إلى احتكار الربح : أنها مقولة تلخص إلى حد ما بعودة (شايلوك المرابي اليهودي التاريخي) محملا على أجنحة المعلوماتية والعالم المفتوح لسيطرة القوة المتغطرسة ، وعودته المدججة بالعلم والتقانة تقلب القاعدة القديمة القائلة : إن القوي يأكل الضعيف ، إلى قاعدة جديدة عصرية عولمية تقول (السريع يأكل البطيء) ، وسمك القرش المزود بالطاقة النووية ومعطيات ألحواسيب وغزو الفضاء يستطيع أن يبتلع الأسماك الأخرى والصيادين الذين يغامرون إلى ابعد من الشاطئ . " [2]
يعلمنا الاقتصاد السياسي أن منطق التطور الرأسمالي يقضي بالتوسع المستمر خارج الحدود هكذا بدأ أمره قبل قرون حين انتقلت الرأسمالية من حدود الدولة القومية والاقتصاد القومي إلى عالم (ما وراء البحار) في عملية من الزحف الاستعماري واسعة ، شملت معظم مناطق جنوب الأرض بحثاً عن المواد الخام ومصادر الطاقة واليد العاملة الرخيصة والأسواق، وحدث هذا مجدداً قبل قرن حين خرج النظام الرأسمالي العالمي من طور المنافسة الحرة إلى طور لاحتكار (الطور الإمبريالي) . واليوم ، في سياق الثورة التقانية الكبرى وثورة المعلوماتية ، يبلغ التوسع الرأسمالي ذراه ، فيطيح بحدود جديدة : الحدود القومية داخل المعسكر الرأسمالي الميتروبولي نفسه ، بعد أن أطاح منذ زمن بعيد بحدود المجتمعات التابعة المنتمية إلى مجموعة دول الجنوب . إن هذا النمط الجديد من التوسع هو ما يطلق عليه اسم العولمة ، وسمته الأساسية هي توحيد العالم وإخضاعه لقوانين مشتركة تضع حداً فيه لكل أنواع السيادة الوطنية . ولقد بدأت علائم هذا المسار منذ ميلاد ظاهرة الشركات المتعددة الجنسية ، قبل عقود ، لتصل اليوم إلى نظام التجارة الحرة الذي أقر دولياً ، بعد توقيع اتفاقيات (الغات) ، وتم التعبير عنه مؤسسيا بقيام المنظمة العالمية للتجارة ، وبقوانين وتدابير يلغي مفعولها مفعول القوانين المرعية في الدول الوطنية . [3]
قامت الولايات المتحدة الأمريكية بدورا رئيسي في دعمها للرأسمالية كنظام اقتصادي اجتماعي ، وفي نجاح وتفوق الرأسمالية خلال النصف الثاني من القرن العشرين ، ففضلا عن كونها طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أكبر سوق وأكبر دولة مصدرة في العالم ، جعلت الولايات المتحدة الأمريكية من بناء اقتصاد رأسمالي عالمي حجر أساس في توجهها دولياً على الصعيدين السياسي والاقتصادي والعسكري . ولما كانت أكبر دولة مصدرة فان لها مصلحة في الإنماء الاقتصادي على الصعيد العالمي لكونه يغذي نموها الاقتصادي . وكي تحافظ على أنظمتها ومؤسساتها الرأسمالية في وجه التهديدات التي تكونها أنظمة اجتماعية اقتصادية أخرى وأهمها الشيوعية السوفيتية ، أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية الكثير على انتشار اقتصاديات رأسمالية في بلدان أخرى وعلى الأخص لدى عدويها السابقين ألمانيا واليابان وفي بلدان أخرى في أوروبا الغربية وفي شرق وجنوب شرق آسيا بالإضافة إلى مشروع مارشال في أوروبا الغربية وإلى المساعدات الضخمة التي قدمتها إلى شرق آسيا استعملت الولايات المتحدة مساعداتها الخارجية لمناطق أخرى في العالم النامي لتعزز المؤسسات والاقتصادات الرأسمالية حيثما أمكنها ذلك " . [4]
يمثل النظام الاقتصادي المعاصر مرحلة جديدة من مراحل تطور الاقتصاد الرأسمالي العالمي . وقد يكون من الممكن تسمية هذه المرحلة بـ (العولمة) كما هي محددة أعلاه ، أو اقتصاداً دولياً أكثر تكاملاً واندماجاً . ويتسم النظام الاقتصادي العالمي المعاصر بعدد من الخصائص أهمها :
1 ـ انهيار نظام بريتون وودز .
2 ـ تزايد دور وأهمية الشركات متعدية الجنسية في الاقتصاد العالمي .
3 ـ تزايد دور وأهمية مؤسسات العولمة الثلاث ( صندوق النقد الدولي ، البنك الدولي، المنظمة العالمية للتجارة) .
4 ـ عولمة النشاط الإنتاجي .
5 ـ عولمة النشاط المالي واندماج أسواق المال .
6 ـ تغير مراكز القوى الاقتصادية العالمية .
7 ـ تغير هيكل الاقتصاد العالمي وسياسات التنمية .
8 ـ تراجع أهمية ودور مصادر الطاقة التقليدية والمواد الأولية في السوق العالمية .
إن أهم البصمات بروزاً في الاقتصاد خلال العقود الثلاثة الأخيرة هو التدويل المطرد الذي أصبح يتسم به الاقتصاد العالمي ، ويظهر التدويل في نظرة أولية كبروز متعاظم لدور العلاقات الاقتصادية الدولية ، بالمقارنة مع النشاط الاقتصادي على الصعيد المحلي أو الوطني. وهذا واضح من خلال الدور المتعاظم الذي تقوم به وتقوده الشركات متعددة الجنسية العملاقة التي تمتد نشاطاتها وفروعها إلى مختلف أنحاء العالم ، وتسيطر على شطر كبير ومتنام في عمليات إنتاج وتمويل وتوزيع الدخل العالمي . مع العلم أن هذا الدور يكون أحياناً غير مباشر وغير ظاهر ، فأصبح من الممكن الآن الحديث عن مستوى اقتصادي عالمي متميز بآلياته ومشكلاته وآفاق تطوره عن/على المستويات الوطنية ، وتصبح النظرة للعالم باعتباره الوحدة الاقتصادية الأساسية . [5]
وتبدو ملامح العولمة في الاقتصاد من خلال المظاهر التالية :
ـ الاتجاه المتزايد نحو التكتل الاقتصادي للاستفادة من التطورات التقنية الهائلة .
ـ تنامي دور الشركات متعدية الجنسية (عبر القومية) وتزايد أرباحها واتساع أسواقها وتعاظم نفوذها في التجارة الدولية .
ـ تزايد دور المؤسسات المالية الدولية بشكل مباشر وبخاصة في تصميم برامج الإصلاح الاقتصادي وسياسات التثبيت والتكيف الهيكلي في الدول النامية (التحول إلى اقتصاد السوق) .
ـ تدويل بعض المشكلات الاقتصادية مثل الفقر ، التنمية المستدامة ، السكان والتنمية ، التنمية البشرية ، التلوث وحماية البيئة ، والتوجه العالمي لتنسيق عمليات معالجة هذه المشكلات والتعاون في حلها .
ـ تعاظم دور الثورة التقنية الثالثة وتأثيرها في الاقتصاد العالمي (التغيرات السريعة في أسلوب الإنتاج ونوعية المنتج ) .
ـ بروز ظاهرة القرية العالمية ، وتقليص المسافات نتيجة لتطور وسائل النقل والمواصلات وزيادة الاحتكاك بين الشعوب .
ـ تطور وسائل الإعلام وتأثيرها على طبيعة البشر وتطلعاتهم وسلوكهم ، واثر ذلك على اختلاط الحضارات والثقافات .
ـ تعاظم دور المعلوماتية ، والإدارة ، والمراقبة من إدارة نظم المعلومات .
ويهدف النظام الرأسمالي الذي يحكمه قانون تعظيم الأرباح والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج إلى التوسع وذلك عبر استثمار أرباحه والحصول على قروض من أسواق رأس المال. فإذا لم يتوسع يتعرض للركود والكساد والأزمات الدورية ، والأمثلة التاريخية على هذه الأزمات كثيرة ومعروفة . ويؤدي التوسع إلى ظهور المنشآت الاقتصادية الكبرى عبر تركز وتمركز رأس المال . [6] ومن أهم آليات تحقيق ذلك عمليات الدمج بين المنشآت الكبرى أو استيلاء منشأة كبرى على منشأة أصغر منها عن طريق الشراء أو غير ذلك . كما انه في عملية التوسع تتراكم فوائض مالية لا تجد أحياناً مجالات مربحة في استثمارات حقيقية تؤدي إلى زيادة الإنتاج والتجارة ، بل تجد هذه الفوائض مجالاتها المربحة في المضاربة ضمن إطار الدولة الواحدة ، كما أن هذه الفوائض تضغط لتأمين حرية انتقالها من دولة إلى أخرى عبر إزالة القيود على حركة رأس المال . ومن الواضح أن أهم سمة للنظام الرأسمالي العالمي الراهن هو ما يسمى بـ (العولمة المالية) . [7]
الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
جامعة دمشق - كلية الاقتصاد
[email protected]
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - د . صادق جلال العظم ، ما هي العولمة ؟ مجلة الطريق العدد رقم 4 ، تموز/آب 1997 ص 20.
[2] - د. علي عقلة عرسان رئيس اتحاد الكتاب العرب ، دمشق . أنظر الأسبوع الأدبي العدد رقم 602 الصادر بتاريخ 14/3/1998 ، ص 19.
[3] - أنظر عبد الإله بلقزيز، العولمة والهوية الثقافية: عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة؟ المصدر السابق ص 97.
[4] - بول سالم ، الولايات المتحدة والعولمة : معالم الهيمنة في مطلع القرن الحادي والعشرين ، المصدر السابق ص 84 .
[5] - د . رمزي زكي ، ظاهرة التدويل في الاقتصاد العالمي وآثارها على البلدان النامية ، المعهد العربي للتخطيط بالكويت ، الكويت 1993.
[6] - لمزيد من المعلومات ، يمكن العودة إلى كتاب رأس المال نقد الاقتصاد السياسي ، كارل ماركس .
[7] - أنظر د . محمد الأطرش ، العرب والعولمة : ما العمل ؟ ورقة مقدمة إلى ندوة (العرب والعالم) نظمها مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت 18 - 20 كانون الأول 1997 ، نشرت في مجلة المستقبل العربي العدد229 آذار 1998 ص ص 101 - 102 .