|
رد على مقال الأستاذ زهير سالم : المجتمع المفكر و نظرية المعرفة الإسلامية
مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 1849 - 2007 / 3 / 9 - 13:54
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إنها محاولة جريئة للأستاذ زهير سالم كمفكر إسلامي أن يقارب قضية محفوفة بالمحرمات و اتهامات التكفير كقضية التفكير و العقل في الإسلام قضية كانت محور صراع طويل و مرير بين مدرستي العقل و النقل انتهى بنصر مبين "ماحق" لمدرسة النقل و إثبات أولوية النص مع اتهام مدرسة العقل بالهرطقة أو "إتباع الأهواء" أو الابتداع وصولا إلى التكفير. رغم جدية صاحب المحاولة لكنها في الحقيقة انتهت كما هو متوقع إلى تحديد و تشخيص المشكلة أكثر من حلها. المأزق المركزي في مقاربة الأستاذ زهير يعود إلى أنه مع تصريحه برغبته في إطلاق حرية العقل ( استجابة لطلب إلهي قرآني صريح يضع العقل سابقا على الإتباع و التلقي ) لكنه في نفس الوقت يحدد له النتيجة التي "لا بد" أن يتوصل إليها ( الإيمان المبني على التفكير ) , هنا يواجه هذا المنطق الذي يريد إما أن يوسع دور العقل أو أن يتكأ عليه في إثبات قدسية النص حقيقة بسيطة تتمثل في أن حرية التفكير تفترض بكل بساطة عدم وجود أفكار مسبقة على العقل أن يثبتها و أن من حق العقل المفكر أن يراجع يصحح بل و يرفض المقدمات التي انطلق منها, أن العقل الحر لا يمكن تقييده و أنه كمرجعية يحسن و يقبح كما قال المعتزلة حتى قبل ورود السماع من الأنبياء..نعلم مثلا أن أبو العلاء المعري الذي وضع العقل في مواجهة ما وراء العقل انتهى للتشكيك في الأديان أيها الغر إن خصصت بعقل فاتبعه فكل عقل نبي يرتجي الناس أن يقوم إمام ناطق في الكتيبة الخرساء كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيرا في صبحه و المساء و لا تصدق بما البرهان يبطله فتستفيد من التصديق تكذيبا و يقول ابن الراوندي الذي توصل إلى ذات النتيجة انتصارا للعقل :" و العقل هو الذي يمتحن قيمة النبوة فإما أن تتفق تعاليم النبي مع العقل و حينئذ فلا لزوم لها و إما أن تتناقض و إياه و حينئذ فهي باطلة" ( عبد الرحمن بدوي , من تاريخ الإلحاد في الإسلام ص 139 )..كان تطبيق المنهج الديكارتي ( الذي يذكره الأستاذ سالم في مقالته ) في مقاربة طه حسين للأدب و التاريخ الجاهليين انتهى بطه حسين للتشكيك في الكثير من الأحداث و الشخصيات المرتبطة بالمقدس.. القضية كما جرى تأكيدها في الصراع الذي احتل كامل مساحة القرون الوسطى هي من يمثل المرجعية العقل أو النص؟..عند قراءتي لمقالة الأستاذ سالم كنت أعكف على دراسة فكر ابن تيمية و تلميذه ابن قيم الجوزية الذي حاول أن يقوم بعقلنة ما للممارسة و الخطاب الديني السائدين يومها وسط صعود حالة صوفية شعبوية تتمحور حول رؤية لا عقلانية للعالم مدعومة سلطويا..كان ابن تيمية كما أزعم يريد أن يواجه تلك الحالة يريد أن يعيد صياغة مفاهيم قراءة النص المقدس بحيث يسحب شرعية تلك الرؤية يعيد صياغة مفهوم التوحيد بحيث يعتبر ممارسات أفراد الطرق الصوفية و "الباطنية" خارجة عن الشريعة و أن يعيد صياغة مفهوم صفات الله بحيث يحاول أن يحل الإشكاليات التي طرحها المعتزلة دون أن يتنازل عن "صحة" و أسبقية النص و مرجعيته و أن يعيد مثلا العمل بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في مواجهة تفشي الذنوب في المجتمع..لكن المسكين كان محاصرا بين خطابات الفرق و التيارات الإسلامية السابقة عليه لينتهي إلى تشكيل حالة "تلفيقية" بمعنى أنه كان عمليا يحاول التميز عمن سبقه و أن "يبدع" حلولا "جديدة" لتلك الإشكاليات في مقاربة و قراءة النص المقدس لكنه عمليا كان يردد مواقف من سبقه ( عادة أكثرها قربا و تماهيا مع الحالة اللاعقلانية أو المضادة للعقلانية التي ادعى الخروج عليها و مواجهتها ) بل و انتهى مع تلميذه ابن قيم الجوزية لإقرار رؤية إحيائية للعالم لا تقل لاعقلانية عن الحالة التي حاول التصدي لها..فالمسكين عندما كان يتحدث عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كان حريصا على أن يبتعد عن وعيدية الخوارج و المعتزلة* فانتهى فعلا إلى موقف إرجائي و عندما كان يتحدث عن صفات الله كان حريصا على أن يبتعد عن موقف المعتزلة و الجهمية الذين أولوا الصفات** فأثبتها منتهيا إلى التشبيه*** و عندما تحدث في القدر حاول أن يثبت للعبد مشيئة تصدر عنها أفعاله تشكل شرعية للثواب و العقاب الواقع عليه لكنه في النهاية وقف موقفا جبريا متشددا و في مواجهة ممارسات أفراد الفرق الصوفية و الباطنية و الشيعية إزاء مقامات شيوخها و اعتقادهم فيهم وجد نفسه في موقف تكفيري إزاء هذه الفرق و هو الذي يتمسك بموقف إمامه ابن حنبل الذي رفض قول الخوارج و المعتزلة بكفر مرتكب الكبيرة**** و عندما اصطدم ابن تيمية و تلاميذه مع السلطة التي تدعم هذه الحركات الصوفية وجد نفسه مكبلا بموقف أستاذه ابن حنبل الذي حرم الصدام مع السلطة و شرع السمع و الطاعة لأولي الأمر مهما كان الجرم الذي اقترفته هذه السلطة...كل هذا التناقض في أطروحاته و بين المقدمات و النتائج يكمن سببه في دوافع ابن تيمية و تلميذه ( تلك التي تشبه دوافع الأستاذ سالم في إجبار العقل على تأكيد صحة قراءته السابقة للنص )..كان ابن تيمية يريد تأكيد مرجعية النص و لذلك وجد نفسه في النهاية يكرر مواقف الجبرية و المرجئة و المشبهة و سواهم ممن دافعوا عن مرجعية النص و قدسيته أمام أية محاولة لتدخل العقل الإنساني في "تأويل" النص حتى الآيات المتشابهة و بدعوا و كفروا من أول تلك الآيات سواء أكان ذلك بقصد عقلنة قراءة النص كالمعتزلة أو بقصد تغيير مضمون النص و تشكيله من جديد كالفرق الباطنية مثلا..قضية أخرى لا أريد أن تفلت مني هو أطروحة المجتمع المفكر التي طرحها الأستاذ سالم..نعم إن الكثير من, بل إن أغلب, المجتمعات ليست مجتمعات مفكرة أي أنها لا تتطلب من أفرادها مقاربة عقلية نقدية للسائد أو لأطروحات النخبة السياسية و المثقفة..و أبرز مثال على هذه المجتمعات هو المجتمع الأمريكي..نعم الأمريكي المجتمع الذي لا يخضع لسلطة شمولية أو لفكرة أصولية بل على العكس توجد فيه الكثير من الحرية الفردية دون أن توجد فيه ديمقراطية فعلية ( الكلمة المأثورة عن حقيقة الحالة في لبنان )..نعم يقاد الجمهور في أمريكا بواسطة مؤسسات الإعلام الجماهيري و تشكيل الرأي العام و مؤسسات العلاقات العامة و عمليا لا وجود لجدل عقلي حر بين مكونات المجتمع الأمريكي..إنه بامتياز مجتمع الإعلام الجماهيري الذي يحدد حتى حملات انتخابات الرئاسة و مجلس النواب عبر حملات علاقات عامة يغيب فيها الخطاب العقلاني لحساب صخب الصورة و الصوت الموجهين..و حتى نقد مواقف النخبة السياسية تقوم به أقسام من النخبة ذاتها باستخدام ذات الوسائل التي تقوم على تغييب العقل لصالح خطاب إعلامي غريزي أساسا و لا عقلاني..أريد هنا لأوضح أكثر ماهية المجتمع المفكر أن أسوق اعتراض ال"مفكر" المصري شريف حتاتة على لفظ المفكر نفسها الذي يقسم الناس إلى مفكرين و غير مفكرين..يرى حتاتة بحق أننا جميعا نفكر فالفكر ليس مهنة كالطبيب أو المهندس مثلا..و يرى في استخدام هذه الصفة واحدة من التقسيمات الرجعية الطبقية في مجتمعاتنا و عالمنا الحالي..هذا يوضح أن المجتمعات غير المفكرة هي مجتمعات تصادر تفكير أفرادها لصالح حالة أو "فكرة" غير عقلانية ( أي لا يمكن إثباتها عقلانيا أي عبر الجدل الفكري الحر أو لا يراد لها أن تمتلك مشروعية عقلانية تقوم على مرجعية العقل أساسا )..هذا يوضح لماذا لا يمكن اعتبار الليبرالية فكرا نقديا تجاه الواقع مثلا..و هذا يوضح أيضا أنه ليس فقط الفكر الأصولي وحده يحتاج العقل لإثبات "حقيقته" فقط بل يشاركه في ذلك كل خطاب أو نسق أو منظومة أفكار تصادر تفكير الإنسان أو تشكله وفقا لأحكامها "المطلقة الصحة المسبقة" ( بما في ذلك الستالينية مثلا ) ..إن تردد الأستاذ سالم مفهوم و هو يعكس محاولة "تكتيكية" تتم في إطار و أسر لا عقلانية الخطاب الأصولي بعيدا عن قرار إستراتيجي بعقلنة جدية للخطاب السائد أو العودة ( كما فعل الإمام محمد عبده ) إلى الخطابات العقلانية الدينية..هذا التردد و غياب الوضوح الذي نراه مثلا في مقالة أخرى تقارب قضية هامة للغاية كالتكفير ( مشروع الفوضى المدمرة.."التكفير": لماذا..و كيف نطوقه؟ أخبار الشرق 6 شباط 2007 ) رغم تقديرنا لموقفه الرافض لاستخدام التكفير المفرط اليوم من الحركات "الجهادية" لكن هذا الموقف يبقى عن عمد غائم ضبابي لا يذهب حتى تأسيس حالة قبول بالآخر تقطع مع ممارسة التكفير السائدة منذ انتصار الخطاب الديني اللاعقلاني كما يظهر جليا إحجامه عن اعتبار العقل كمرجعية للفعل الإنساني في مقاله موضع الدراسة..يبقى مقاله إيجابيا في أنه يطرح فعلا أمامنا المهمة التي كرس لها الأستاذ سالم مقاله و هو بناء المجتمع المفكر الذي يحق لكل أفراده نقد الخطابات السائدة بحرية المجتمع الذي لا يسمح للعقل فيه فقط بحرية نسبية للفعل و التعبير بل يكون هو فيه المرجعية أمام مرجعية وسائل التحكم بالعقل أو الوعي الفردي و المجتمعي..إن هذا المجتمع المفكر هو الذي يستطيع أن يبحث في الوسائل الكفيلة بتحقيق الأفضل لأفراده و للمجتمع ككل بحرية لا تقيدها مصالح أنانية لفئة أو طبقة و لا خطابات ترفض العقل و الإنسان في النهاية كمركز للمرجعية..من جهة أخرى أريد هنا أن أؤكد أن هذا الشكل السائد اللاعقلاني بل المضاد للعقلانية للخطاب الديني لا يلغي أن المؤسسة الدينية في فترات طويلة مثلت ملجأ العقلانية أو التفكير الإنساني الحر..أريد أن أورد موقفا استثنائيا نادرا لرائد هو أبو حنيفة النعمان الذي اعتمد أساسا على القياس العقلي في اجتهاده الفقهي و اتخذ ضد السلطة مواقف مشهودة و اشترط لصحتها أن تقوم بإجماع المسلمين الصريح..فرغم أن الدين وفق النظرة الفقهية يهدف لصون المصالح الستة المعروفة و منها المال و العقل لكن أبو حنيفة أصر في موقف نادر على ألا يحجر على المجنون معتبرا أن ضياع المال أهون على الإنسان من وصمه بالجنون و الحجر عليه
مازن كم الماز
* كان الخوارج قد كفروا مرتكب الكبيرة و اعتبره المعتزلة في منزلة بين المنزلتين ( منزلة المؤمن و الكافر ) لكنهم عدوه فاسقا خالدا في النار..كان رفض معارضي هذه الوعيدية يعود أساسا للموقف من الصحابة الذين انخرطوا في أحداث الفتنة و مؤخرا الموقف من الحاكم ** تأويل الصفات الإلهية هدف المعتزلة منه أن يعقلنوا فهم النص و ذلك بهدف تنزيه الذات الإلهية من التشبيه مع الإنسان المخلوق لكنه مثل بالنسبة لمعارضيهم تدخلا مرفوضا في النص فأثبت خصومهم ( الأشاعرة أساسا ) صفات الله كما هي و كفروا السائل عن ماهيتها أو كيفيتها *** قال ابن تيمية مثلا أن القرآن محدث تكلم الله به بعد أن لم يكن و أنه يتكلم و يسكت و تحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات و ينقل عنه أنه قال : و استوى الله على عرشه كاستوائي هذا ( خالف به جمهور العلماء الذين أنكروا معرفة كيفية الاستواء ) و قال أن اليد و القدم و الساق و الوجه صفات حقيقية و غيره مما خالف فيه قول جمهور أهل السنة و عقيدة الأشاعرة الذين يمثلون علم الكلام السني **** كان الخوارج هم أول من أصر على الأمر بالمعروف و انهي عن المنكر و الخروج على الإمام الجائر و كفروا القعدة و رفضوا التقية فيم قال مخالفوهم بضرورة موالاة الإمام برا أو فاجرا و توكيل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إليه و رفضوا تكفير أي من أهل القبلة بكبيرة رغم استخدامهم التكفير ضد مخالفيهم خاصة في العقائد و الأصول
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلى عبد الكريم سليمان
-
عن تحولات الجسد
-
في حقوقنا كبشر
-
الإنسان و الحرية
-
رأي في الحرب
-
إعادة اكتشاف الصهيونية
-
السياسة و المجتمع
-
الخارج مرة أخرى
-
الحداثة..التبعية..و المقاومة
-
ابتسم..أنت سوري!!..
-
الطائفية و إشكالية التغيير الاجتماعي
-
نخبوية المثقف : الفكر لأجل الإنسان أم الإنسان تحت رحمة الفكر
...
-
قتل الآخر في عاشوراء مرة أخرى
-
نار الحرب القادمة و مستقبل التغيير
-
الديمقراطية بين خطابات -التغيير-
-
بين الخارج و الخطابات السائدة
-
كلام في الديمقراطية
-
الإمام الأعظم أبو حنيفة..قراءة مختلفة
-
القهر أم تحرير المجتمع و الإنسان ؟
-
خواطر في التغيير الوطني الديمقراطي
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|