كنتُ وما زلتُ ضد ( الستلايت) لأسباب عديدة على الرغم من الضغوطات والإلحاحات العائلية والصداقية، وفي مقدمتها تعففي الصوفي من مشاهدة أكثرية الفضائيات العربية، وبصدق أقولها إذا ما شاهدت البعض منها والبعض من برامجها بالمصادفة أثناء زيارة خاصة أصابُ بالكآبة والحزن طوال ليلة كاملة وربما تمتد كآبتي لأيام عديدة..
الفخفخة.. الدجل، الكذب والنفاق وتشوية الحقائق والواقع والوقائع، اللعب على عواطف الناس بواسطة الدين والأخلاق العربية، تشويه الوعي المعرفي، فن التطبيل والتهريج والإدعاء بالديمقرطية والحرية للبلد التي تتواجد فيه الفضائية، التهريج الخارج عن الذوق والحشمة، والأكثر من كل ذلك بعض الوجوه الفاقعة المصبوغة بألوان الزينة المزورة من مقدمي او مذيعي البرامج وبعض الذين يطلون منها علينا من المدعوين الذين يظهرون أنفسهم كسياسين فطاحل ومنظرين عظماء وفلاسفة "الفاشوش" بما يقدمون من آراء فقيرة من كل معرفة وأسس علمية وواقعية بسبب ما يعانونه من تشويهات أخلاقية ونفسية..
وهذا لا يعني أنني من المعجبين جداً بفضائيات أمريكية أو غربية أو ايرانية أو تركية وغيرها، ولا بالــ " CNN أو BBC " لكنني والحق يقال أستمع للأخيرتين على الرغم من ضعفي في اللغة الانكليزية وفي بعض المرات أستعين بزوجتى عندما تختلط عليّ الأوراق ، استمع بالرغم من معرفتي المطلقة أنهم يفبركون بعض الأخبار والوقائع ليدسوا ما يريدون تمريره لخدمة سياستهم أو يحجبوا في العديد من المرات مواضيعاً وأموراً وأخباراً لكي يضعوها في اطار تُغَيب المعرفة عنا.. وأقول أنهما في الكثير من المرات ولغاية في نفس يعقوب ينتقدون مثالب المسؤولين عندهم من القمة وحتى آخر درجات المسؤولية ويهاجمون رؤوسائهم ووزرائهم ويفضحون البعض وهذا من سابع المستحيلات على الفضائيات العربية الديمقراطية التي تحترم حقوق الإنسان والملتزمة بالدين الحنيف والقومية العربية التي هي فوق جميع القوميات وأمم الأرض !!
في مساء يوم 1 / 8 / 2003 رن جرس الهاتف فإذا بصوت شقيقتي تدعوني إلى مشاهدة " رغد ابنة الرئيس صدام حسن على شاشة الفضائية العربية" ..
هل توقفتم عند كلمة " رئيس" ، فإذا لم تتوقفوا فاعلموا أنها مازالت مرادفة لإسمه،
تقولها جميع الفضائيات والصحف العربية والأجنبية، وبنسب قليلة يضعون إلى جانب "الرئيس السابق" وتؤكدها حتى الــ "CNN و BBC " عندما تذكر أسمه..
وعليكم التأكد من قولي إذا لم تصدقوه.
مع اعتزازي بشقيقتي فقد مانعتُ في بداية الأمر، واعتذرت بأعذار شتى، لكنها أصرت وأصرت زوجتي أيضاً على مشاهدة المقابلة التلفزيونية على الفضائية العربية، وهكذا حملت نفسي إلى بيتها الذي لا يبعد سوى 200 متراً وجلست أمام جهاز التلفاز منتظراً الساعة التي تطل علينا رغد صدام حسين.
كان الجالسون أكثر مما تصورت جميعهم في الانتظار.. كانت الفضائية العربية كالمهرج في السيرك مضحكة مبكية تُظهر قبل حلول الوقت لقطات عن المقابلة ثم تقطعها في الوسط لكي تشحذ وتشدّ انتباه المشاهدين.. وكأنها أي المقابلة هدية العصر القيمة والاكتشاف العظيم، واللقاء المبجل الذي سنكتشف من خلاله قضايا مهمة كانت خافية علينا..ألم أقل لكم كم هي تافهة وملغية هذه الفضائية العربية؟
قلت في نفسي :
ـــ رغد لم تحلم يوماً من الأيام أن تكون نجمة تلفزيونية بهذا الشكل وهذه السرعة، ليس في الفضائيات العربية فحسب بل في جميع الفضائيات الأجنبية والصحف والمجلات وصفحات الأنترنيت، وربما ستعمل فلماً بالألون لتكون نجمة سينمائة كبيرة، وصدقوني أنها ستربح ملايين الدولارات "الحلال" تضاف لغسل الأموال المسروقة من قوت الشعب العراقي والمسجلة بأسماء أخرى إلا أنها عائدة لها ولأخواتها وأمها..
كان لرغد كل شيء، ولا تقاس معيشتها إلا كعيشة الملوك والأمراء، كل شيء متوفر .. إلا زوج مقتول أو فرصة لتكون نجمة تلفزيونية مشهورة كوالدها وها هي الظروف قد حانت لمساعدتها على ذلك.
الساعة التاسعة بالضبط حسب التوقيت المحلي أطل علينا المذيع سعد سيلاوي السمين بعض الشيء.. فقدم نفسه وزميله وائل النحيف، ثم اطلق سيلاً من الكلمات الميكانيكية الممزوجة بعاطفة شاذة وبدت على ملامحه وملامح زميله تاثيرات كاذبة من الأحداث والشفقة والرحمة على ما لاقته عائلة الرئيس والرئيس نفسه..
علامات الحزن المصطنع كانت هي الأخرى بادية على وجه زميله "الممصوص" الذي بدى كتمثال رخامي لصل الحيّة مُمثلاً البهاتة والسذاجة والحزن والألم.
وهنا استطرق المذيع السمين سعد سيلاوي بتقديم رغد ابنة الرئيس صدام حسين فأطل علينا الوجه الجميل لكنه الجامد والصلب الذي طليّ بمكياج خفيف يلائم لون الجلد ولون الشال الأبيض الذي يغطي الشعر المائل للحنّة والثوب الاسود.. كان كل شيء في الوجه شبيه بوجه والدتها ساجدة ابنة المليونيرخير الله طلفاح والمليونرة قبل الزواج من صدام حسين!! إلا عينيها الواسعتين الكبيرتين الواثقتين اللتين تشبها عينا رئيسنا الذي هرب من أم الحواسم الجديدة والذي يريد بعد هروبه المخجل العودة لقصره وجاهه وبطشه مرة أخرى..
تحدثت السيدة رغد بكل ثقة وأجابت على الأسئلة الموجهة وعن أشياء جميلة ولطيفة، وعن أب حنون وعادل وأم مساندة وقوية، وعائلة متكاتفة متلاحمة حتى العظم، وكانت تُعيب وتنتقد الجنود لعدم مساندتهم والدها وتركهم ساحة الحرب بحجة الدفاع عن الوطن وكأنما كانت لا تعرف أن عائلتها وأقربائها وحاشيتهم قد امتلكوا الوطن جميعه ووزعوه بينهم، حتى ضفتي دجلة والفرات وبقرار من مجلس ما يسمى قيادة الثورة أصبح مُلّكا لوالدتها وهذا القرار نشر في الجريدة الرسمية " الوقائع العراقية" وإلا كيف امتلكت هي مزرعة فيها قصرين قالت عنهما أنهما تهدما بفعل الصواريخ! وكم من القصور امتلك والدها واخوتها وخواتها وأمها مع العلم أن والدها الرئيس كان فقير الحال ومن عائلة قالت عن زوج أمه أنه كان فلاحاً لا يملك حتى أرضاً.. وعن قرية العوجة أنها كانت ستبقى قرية عادية حتى الوقت الحاضر لو لم يكن والدها رئيساً، وكأنها لا تعرف أن هناك الأكثرية من الشعب العراقي لا تملك حتى سنتمتراً واحداً من الأرض.. وهناك عشرات القرى والمدن والأراضي مهدمة معزولة تغطيها النفايات والأوساخ وتمرح فيه الأمراض والأوبئة الفتاكة..
السيدة رغد كانت صريحة لكنها لعبت على عواطف العائلة الملكية الهاشمية بكلمات "عربي، وعربية، وتقاليدنا، وتراثنا، وديننا، والشهامة، والأخ وغيرها من كلمات المديح" ثم انتقلت لتصب جام غضبها على عمها علي الكيمياوي أو ابن عم والدها وعم زوجها المقتول حسين كامل، حتى وصفته بكلمات سوقية ودون خجل، كا اتهمت اعمامها برزان ووطبان وسبعاوي بالإنانية والغيرة والحسد والتآمر.. وقالت " خلق الله الغيرة فقسمها قسمين خص العالم بالنصف وكان نصيب النصف الآخر للبيجات "
لكنها لم تنس زوجها وأخيه المقتولين بيد أخيها عدي وبأمر من والدها فأثنت عليهما وعلى شجاعتهما وبسالتهما وأخلاصهما لعمهما الرئيس.. وتناست ما قاله زوجها أثناء هروبه وتواجده في الأردن عن والدها وتهديداته وأن يسكت وإلا كشف الكثير من الأمور.
تحدثت عن مزرعتها وبيوتها وبيت والدتها في الجادرية والمقابلة الأخيرة مع والدها والعوجة والبيجات الحاقدين والحاسدين والخيانة التي أدت بسقوط الحكم الصدامي وغيرها.. ولم تنس أن تقول بعدما سألت عن والدها " أنها مشتاقة له كأب"
هل كانت تعني أنها تريد أن يراها أو تراه بالحالة التي لا يحسد عليها لكي تذكره ويتذكر ما فعله بزوجها وأولادها؟ هكذا يبدو لو تفحصنا قسمات وجهها وحديثها الواثق.
كان الجالسون الذين يشاهدون المقابلة يعلقون تعليقات كثيرة، فرحين مستبشرين بوجعها وبحزنها وما قالته تجاه عائلتها أو أعمامها ، البعض رفع عقيرته قائلاً
ـــ حيل وابو زايد خو ما يضرب الله بعصى، شوف اصار بيكم ما فكرتم بالناس والشعب الفقير، جنتوا تعيشون مثل الملوك، جاه وخدم وحماية وسيارات آخر موديل وسفرات وقصور وفلات ومزارع وأرصدة بالعملات الصعبة والذهب الذي سرقتموه بحجج كاذبة، ما فكرتم بالوطن وبالناس، بالشعب، بالمقابر الجماعية، بالسجون والاعدامات ، حيل أو بعد زايد، وين اتروحون خلي أصير حكومة وطنية وقانون ودستور حتى انطالب بيكم ونحاكمكم على الفلوس الي سرقتوها..
كلمات كثيرة تعلن عن فرحتها بما آلت إليه أمور رغد وعائلتها.. وهذا من حق الناس ، وكنت الوحيد تقريباً الذي لم أعلق، بل شاهدت بإمعان ملامحها وانصت إلى صوتها ونبراتها وهي تتحدث..
بعد عودتي إلى البيت رن جهاز الهاتف أكثر من مرة ، الجميع فرحين متشمتين بها وبوضعها، هي أصبحت لاجئة بعد ذلك العزّ والجاه والسيطرة والتملك.
الجميع مرتاح لمنظرها الحزين وبحزنها وعلامات الألم البادية عليها وبما آل عليه والدها وأخوتها وخواتها وعمامها وأقربائها وقريتهم العوجة وحتى تكريت .
لشديد الأسف لم يستطع الجميع استطلاع الحقيقة من خلف ظلال وجهها الرتيب الجامد ولا قسماته الحادة أومعاني عينيها الدائرتين بين عدسة الكاميرا وصاحبي الأسئلة السمين سعد سيلاوي والنحيف وائل، وكذلك ذلك التصميم في أفهام الناس وقبلهم والدها بأن حزنها وألمها الظاهرين مجرد مظاهر روتينية، ولم يدرك الجميع على الرغم من تلك المظاهر الحزينة عندما سألها المذيع عن والدها قالت " انها مشتاقة له " فقد كانت فرحانة ومتشفية وغير مفجوعة به ولا بأخوانها وحاقدة على الآخرين الذين تسببوا في قتل حسين كامل زوجها..
فليس من المعقول أخراج هذه المسرحية وتمثيلها وقبول رغد في الظهور من على شاشة الفضائية العربية وفضائيات أخرى بينما لحد المقابلة المذكورة لديها شقيقان مقتولان عاريان ربي ما خلقني حيث اصبحا فرجة للجميع، وأم وأخت لا تعرف مصيرهما حسبما أدعت على الرغم من انها كذبة ، وأب هارب مهما قال عن نفسه وعن نضاله القادم الفاشوشي للعودة للسلطة وإعادة ممتلكات الحزب له، أب هارب على وجهه بعد ذلك العزّ وذلك المقام الذي كانت أقواله تقرأ قبل تلاوة القرآن الكريم وقبل اية صلاة جماعية أو خطبة دينية.. رئيس متواري عن الأنظار تطارده اشباحه، كان على الأقل يموت دفاعاً عن كرسيه بدلاً من جعل الآخرين من ضباط ولجنود وغيرهم يموتون ليحيا هو وعائلته وفي مقدمتهم السيدة رغد حياة كلها نغنغة وبحبوحة وفردوس ارضي يتمتعون بالفضائيات " العربية والجزيرة " المساندة لهم أثناء وجودهم في السلطة أو خارجها والأسباب معروفة ، أب ورئيس كان السبب الأساسي لإحتلال العراق من قبل أمريكا وبريطانيا.. بينما يكون الجحيم نصيب الشعب وفقراء الناس.
لقد كانت رغد اكثر ظرافة من أختها رنا في المقابلة مع الـ CNN فعندما سألتها المذيعة " يقال أن والدك هو السبب في مقتل زوجك وزوج أختك"
أجابت رغد وهي تبتسم " لا أستطيع الجواب على هذا السؤال لأننا في وضع متوتر، ووالدي في وضع مأساوي ولا نريد الخوض في هذا المجال..
العراق سيحيا بالرغم من الويلات والمآسي التي قام بها النظام الشمولي وصدام حسين، سيحيا ويقوم على قدمية بقوة أبنائه الخيرين الذين سيحققون الحكومة العادلة والمنتخبة، والدستور والقانون وأخراج قوات الأحتلال عن أراضيه.