(مؤرخ عراقي / تورنتو – كندا )
أحاول في كل عام ان ازور مؤسسة (جابترز) الكندية المنتشرة فروعها الكبري في كل عالم كندا.. قضيت اليوم كله في واحد من اهم تلك الفروع بمدينة مسيساكا التي اقطنها، وكنت مقررا ان اقتني بعض الاصدارات الجديدة كعادتي، وفجأة اجد امامي ركاما منها عن العراق من اصدارات العام 2003.. وبدأت اتصفح بعضا منها وأقرأ متمعنا بعضا آخر كالذي نشرته هذا العام اكبر دور النشر في العالم فكان منها الكبير في حجمه ومنها المتوسط او الصغير في عدد صفحاته.. وتنوعت موضوعات تلك الكتب عن العراق تنوعا بالغا، فمنها ما يبحث في تاريخ العراق ومنها ما عالج ثقافة العراقيين ومجتمعهم وعاداتهم وتقاليدهم وأيضا شعرائهم وادبائهم او سكانه وفئاته واقلياته وفسيفساء اطيافه، ومنها اصدارات اعتنت بالحرب الاخيرة ويومياتها ومنها كتب كثيرة صدرت عن صدام حسين في سيرته ونظام حكمه.. اما الأعمال الأخري فلقد تضمنت الاوضاع الاستراتيجية والجغرافية للعراق في اقتصادياته وموارده وثرواته.. كما وقفت علي اصدارات اخري اعتنت بمشروعات اعمار العراق ومجموعات من الخطط التي تتأمل سيرورة الحياة في العراق نحو الافضل في المستقبل من خلال توظيف موارده توظيفا مسؤولا.. وهناك من اعتني بدور العراق في القرن الواحد والعشرين ومكانته في الشرق الاوسط.
واقع لابد ان يتغيّر واصدارات واسماء لابد من يعتني بها
ان الحاجة تدعو العراقيين الي الامن والاستقرار اليوم من اجل ارساء تقاليد سياسية حقيقية تقوم علي تعددية الاطياف العراقية وبلورة تنوعاتها باساليب ديمقراطية حقيقية! الخ من الموضوعات الحيوية التي اعتقد اعتقادا راسخا بأن النخبة العراقية المثقفة لابد لها من الاطلاع علي هذه الاصدارات التي تختص بهم وبمستقبلهم.. ولقد لاحظت بأن هناك تنوعا ممتازا في تباين مؤلفي تلك الكتب والاعمال، فمنهم من هو سياسي يعمل في دوائر امريكية رسمية او حزبية.. ومنهم من هو اكاديمي مختص له رصيده من السمعة العلمية الطيبة.. ومنهم من هو صحفي له درجة عالية من الثقافة الاعلامية ومنهم عدد من الباحثين والدارسين، ووجدت بأن اكثرهم كان من الامريكيين ويمكننا ان نسجل اسماء بعضهم: مرقص سابا وميشال اوهاتلون ومايك ماجوسكي وجون ستوبر وشلدون رامبتون وكريستفر هيجنس ومسشيل ايفنز وشمس اناتي وجوزيف براود وراهول مهاجان وكوين داير وسي ام بات وليام اندرسون وويلمسن ميري وسكوت ريتر ودينا خوري وكوب سيمون ويسهاك نقاش وكارل زيسيتمر وكاثي سالمون ونانسي بيرك وكنعان مكية وان كارلس وايفليان فرقس ورند رحيم وتود بودرودم وكليس مينيور وفالح جبار ولاري ايفرست وجين ساسون وجمان كبه وهاله فتاح وغيرهم كثير جدا.. هؤلاء كتاب متنوعون في انتماءاتهم وهوياتهم وتياراتهم قدموا للثقافة الانسانية جملة من الاعمال التي فيها الممتاز وفيها العادي، وبرغم ما حمل بعضها من اخطاء في المعلومات والتقديرات، الا انها في المحصلة تعمل من اجل تكوين مستقبل العراق، وتسهم في بناء مشروعاته المستقبلية المختلفة.. وهكذا، وفي ما يتعلق الامر بكل هذا الاهتمام التاريخي الذي حظي به العراق سواء كان مبعث ذلك حسنا ام سيئا، فان لذلك معاني لا حصر لها سوف لن يدركها ابناء الشرق الاوسط عموما والعراقيين خصوصا الا بعد مرور عقود من الزمن، اي بمعني: الدور الجيوستراتيجي للعراق في مستقبل الشرق الاوسط. وسواء اختلفنا مع بعض تلك الاصدارات ام اتفقنا، فانها ــ كما لابد ان نعلم ــ هي: حصيلة ثرة من الاهتمام العلمي والسياسي والفكري لم يشهده اي بلد في العالم عند فاتحة القرن الواحد والعشرين. واذا كان هو حجم ما نشر في الانكليزية فقط، فما هو اذن حجم ما نشر في بقية اللغات العالمية عن العراق والعراقيين.
الامريكيون والعراقيون
السؤال الذي يفرض نفسه الان: هل يمكننا ان نتخيل نسبة معينة وعالية من النجاح الذي سيحظي به العراق حسب كل الاشارات والدلائل التي تشير اليها تلك التنبؤات او بالاحري التوقعات التي يمكن ان نجدها في الادبيات الامريكية خصوصا؟ولكن سؤال آخر يقول: هل يمكننا ان نتفاءل بالسرعة الممكنة ونركض وراء تحقيق سراب لا يمكنه ان يكون واقعا؟ هل باستطاعة النظام العراقي الجديد ان يتعامل بسهولة وبمرونة مع طرفي المعادلة: الامريكيون والعراقيون؟ فالامريكيون لهم استحقاقاتهم علي العراقيين باعتبارهم المخلصين والمحررين من نظام صدام حسين.. في حين ان العراقيين قد اثبتت الايام صعوبتهم، وليس من السهل ابدا ان يتفهم كل العراقيين الواقع الجديد واسلوب التعامل معه! لقد وجدت من خلال اطلاعي وقراءات بعض الاعمال الجديدة عن العراق بالانكليزية بأن ثمة عدد من الباحثين والدارسين يكتبون عن العراق من اجل بناء مستقبله علي عكس ما يقوم به العراقيون والعرب معهم الذين يتأكد عندي يوما بعد آخر انهم لا يريدون اي تقدم للعراق.. وخير مثال: كتابات صحفية لبعض الكتاب العرب تحاول تزييف الحقائق من اجل ارجاع القديم الي قدمه، ولعل المواقف التي اتخذها ادوارد سعيد وامثاله من محنة العراقيين اكبر دليل علي خطورة ما أقول.
العراق 2003: هل بدأ تاريخ جديد؟
ان الغموض الذي يلف الاوضاع السياسية في دواخل العراق وبقاء المزيد من الاسئلة من دون اجوبة شافية الي حد الان تجعل العالم كله مستفهما ولائذا بالصمت مقارنا بين اوضاع العراق وما يكتب عنه من مشروعات وكتب ودراسات والعراقيين حياري في ما سيألو اليه مصير بلدهم بعد ان قدموا ثمنا تاريخيا غاليا جدا من اجل زوال النظام الدكتاتوري الفاشي والذي ختم حياته علي ايدي القوات الغازية في معادلة لا يحس بها الا ابناء وطن صعب غريب خرجوا من عنفوان عهد سياسي اثيم لا شبيه له في التاريخ علي وجه الاطلاق ليدخلوا عهدا جديدا تلفه الضبابية وعدم الوضوح مع الانفلات الامني في ظل الدبابات، ولقد توضحت اليوم ما الذي يريده العراقيون من الامريكيين، فاذا ما نجحت العملة الرديئة في طرد العملة العراقية الحسنة من السوق السياسية العراقية فانني اعتقد بأن كل الذي كتبه هؤلاء الكتاب والمحللين والمراقبين في العالم لا نفع فيه ابدا، أما ان استطاع ابناء العراق الممتازين من فهم الواقع وتقدير حجم المسؤولية التي ستقع علي كاهلهم، فانهم سيشاركون في صناعة العراق المتطور في المستقبل!
ان الذي سيقرأ بامعان مضامين ما نشر من اصدارات 2003 عن العراق يتساءل اسئلة لا تعد ولا تحصي تخص كل الذي حدث في اسبابه ونتائجه وتداعياته: لماذا هو موجود علي ارض العراق وقد رحل الدكتاتور رحلة نصف ابدية واختفت دولته بسرعة شديدة وكأنها كانت تستعد لمثل هذه التجربة الغريبة منذ ازمان! وكان حلما يراود الدكتاتور ان يجابه أعتي قوة في العالم! انها فعلا تجربة غريبة علي العراقيين الذين لم تعرف اجيالهم اليوم معني التغيير والانقلابية الحقيقية وهم مقتنعون جميعا بأن امريكا لها مصالحها، فضلا عن اقتناعهم بأن دوافع الحرب العديدة لن تمر علي العقلية السياسية المفكرة.. وهي تدرك بأن لعبة المصالح قد انتقلت اليوم وخصوصا بعد دخول القرن الواحد والعشرين الي طور جديد من العلاقات بين القطب الواحد والمجالات الحيوية في العالم. انني لا اريد ان استقرئ عموميات مبهمة لا طائل من ورائها لأن اسرارها عند اصحابها الاساسيين الذين خططوا ونفذوا ليس لهذه الحرب وحدها، وانما لما سبق من حروب تافهة ومخزية كان صدام حسين ضالعا في تنفيذها ليس علي حساب العراق وحده بل علي حساب المصالح الاقليمية العليا، وقد اشتركت معه عربيا ودوليا حكومات واحزاب وجماعات وقوي سياسية وبرلمانية ومخابراتية وعشائرية وعصابات وافراد من ساسة وصحفيين ومثقفين وتجار سلاح وكتاب مرتزقة..
معني الحدث التاريخي: الاثمان المرتفعة
ما اريد الافصاح عنه اليوم، مجرد تساؤلات واضحة تضج بها صدور العراقيين من ذوي الافق الواسع والتفكير الواقعي الذين ينتظرون خلاصهم بترتيب شؤون حياتهم في بيتهم المحترق والمنهوب والمحطم والمفتقد لأولويات لا يحس بها الا اولئك الذين كانوا يتأملون تغيير الاوضاع في ساعات كما كانوا قد الفوا ذلك منذ عشرات السنين تؤديها الانقلابات العسكرية واذاعة البيانات الثورية وفرض الاحكام العرفية وغلق الحدود ومنع التجول وقتل رموز النظام وبدء المحاكمات التلفزيونية.. الامر اليوم يختلف جملة وتفصيلا فلا صيغة الانقلابات حصلت، ولا اشتعال الثورة والانتفاضة الشعبية انطلقت، ولا مؤامرة في القصر قد نجحت!! ان ما حصل هو الحرب.. وحرب شرسة بمقاييس الحطام الذي ادته بكفاءة نادرة وشراسة بالغة الاف مؤلفة من الصواريخ والطائرات والدبابات والحشود!
لقد كانت الحرب فعلا حرب نزهة بالنسبة للامريكيين والبريطانيين الذين احكموا خططهم ليسقطوا اعتي نظام سياسي استمر باقيا من حقبة الحرب الباردة! نعم، حرب نزهة لم تدم الا ثلاثة اسابيع مع عدد قليل من صناديق الموتي لبعض من عصابات العلوج الدوليين! واحتلال بسيط لأغني بلد في العالم! وسيطرة علي اشقي وافقر شعب في العالم! ويكذب من يقول ان العراقيين لم يفرحوا بزوال الطاغوت، ولكن غصتهم انها لم تكن علي ايديهم، وان الامريكان والبريطانيين الذين تربي العراقيون علي مدي خمسين سنة علي كراهيتهم في وسائل التربية والاعلام قد ازالوا الدكتاتورية في واحد وعشرين يوما..
وأخيرا: الاولويات التاريخية
ان اولويات العراقيين التي يبدو ان الاخرين لم يدركوها حتي الان او انهم يعرفونها حق المعرفة ويتجاهلونها عمدا تقول: إن التخطيط للهدم صعب جدا ولكن التخطيط للبناء هو اصعب بكثير! ان العراقيين اليوم بحاجة ماسة للأمن الداخلي بشكل يثير القلق.. ومعرفة الدوافع الحقيقية لكل ما يحدث وهل يمكن لشعب خرج لتوه من عهد مظلم طويل بكل جروحه وقروحه ومن خلال عمليات حرب صعبة المراس ان يعتمد علي نفسه فقط في ترتيب شؤونه المعقدة، وهل باستطاعته ان يخّلص نفسه من كل ما يحيطه من المشكلات الداخلية والاقليمية والدولية خصوصا ان تجاربه التاريخية مع الاخرين مريرة جدا.. انني ادعو كل العراقيين بالاهتمام بكل ما يصدر عنهم اليوم في العالم وان يفكروا معا من اجل العمل علي تأسيس طريق لهم نحو المستقبل علي غرار ما فعله كل من اليابانيين والالمان سابقا وهو طريق ليس مفروشا بالورود والرياحين.. وبعكسه فسيدخل العراق متاهة مظلمة اخري لا يستطيع الخروج منها ببساطة لا قدر الله، وخصوصا اذا لم يكن سلاحنا الا العنتريات والشعارات!