سلام عبود
الحوار المتمدن-العدد: 1845 - 2007 / 3 / 5 - 11:47
المحور:
الحوار المتمدن - الكتاب الشهري 2007 شباط : مستلزمات بناء مجتمع مدني علماني ديمقراطي في العراق
هل التربة العراقية صالحة لإنبات حركة ثقافية معادية للعنف؟
(من أجل تأسيس منبر وطني لمقاومة العنف في العراق)
هذا السؤال كان مثار جدل ونقاش ساخن, خاضه بعض الباحثين والكتاب العراقيين, المتحمّسين لمقاومة "ثقافة العنف". إيمانهم العميق والمطلق برفض العنف, كمشروع للحياة, لم يحصّنهم من الإحساس بالقلق والحذر المشوب بالخوف, وهم يتدارس أمر الإعلان عن أفكارهم, كطريق ممكن للحل , يزاحم غيره من المشاريع المعروضة للتداول, في بيئة قائمة على التنافس القاتل, وإهدار كرامة البشر, وتحقير معنى الوجود الإنساني. لقد تطور مشروع العنف في العراق, وتمدد, وتشعب, وأضحى مع مرور الأيام نفقا مظلما مصبوغا بالدم, لا تنبعث منه إلا روائح الجثث. بدأ طريق العنف تأريخيا بأخطاء السياسيين السابقين, وتحول الى نهج شامل في زمن الديكتاتورية, ثم جرى تدويله وتطعيمه بالعنف الطائفي والمناطقي والعرقي في مرحلة ما بعد سقوط الديكتاتورية. ففي العراق لا يبزغ فجر جديد عقب زوال ليل أسود سابق. لقد أضحى تاريخنا, لقرون عديدة, عبارة عن متوالية هندسية, تتعاقب فيها الليالي المظلمات والنُهُر الكاذبة, وتأبى فيها الأصباح أن تنفجر.
الأسئلة كثيرة, معقدة ومتداخلة. بعضها قابل للحل, والبعض الآخر يشبه المستحيل. بعضها يشبه الأمل الضروري, وبعضها الآخر يشبه الكابوس القدري.
حقائق قاهرة لا يمكن القفز عليها, مهما كانت النيّات طيبة وبريئة:
ألم يكن "خيار الحرب" سببا أساسيا قاد الى حصر المشروع السياسي العراقي في معادلة ذات طرف واحد اسمها العنف: " التحرير" بالعنف, والتخلص من المحررين بالعنف.
ألم يهب السياسيون العراقيون مشروعَ العنف صكَّ الأمان التاريخي, حينما اختفت من مناهج عمل الأحزاب السياسية العراقية كافة, من دون استثناء, أساليبُ النضال الأخرى, غير العنفيّة: الإضراب, الاعتصام, الاحتجاج, المقاطعة, التعبير العلني عن الرفض, المحاسبة الدستورية البرلمانية, المصارحة والمكاشفة؟
ألا يعني غياب مشروع اللاعنف اختفاء الناظم الأخلاقي والروحي, الذي يراقب ويعدل ويهذب مسار الفعل الإنساني, بما في ذلك تهذيب طاقات العنف نفسه وترشيدها وتخفيف غلوائها؟
هل يصلح غاندي مثالاً؟
ألم يقرن غاندي اللاعنف, كمبدأ, بمقاومة الاحتلال, كسبيل؟ ألم تكن المقاومة السلبية لديه نهجا لمقاطعة المحتل ماديا وروحيا, لا نهجا للاحتماء به أو سبيلا الى حمايته؟
ولكن, هل حقا أن هذا النضال هو وثيقة الأمان المطلق وطنيا؟ ألم تنشطر الهند عرقيا ودينيا في لحظة حصولها على الاستقلال؟
هل يمكن للمجتمع العراقي الغارق في بحر العنف أن يخلق تجربته الخاصة, المعادية للعنف, التي تضمن له صيانة وطنه والحفاظ على وحدته وتعدده الثقافي؟
والإحتلال؟ ألا يُعدّ تتويجا أعلى للعنف وفق المقاييس البشرية كلها, بما فيها مقاييس المواطن الأميركي, طبقا للدستور الأميركي وتاريخ حركة الاستقلال؟
هل ستضع حركة معاداة العنف, مقاومة أشكال الإحتلال والتدخل الأجنبي كافة, في أعلى سلم أولوياتها, ولا تقبل بغير حرية الوطن والثروات والمجتمع التامة, من غير وصايات أو إملاءات أو شراكات. فلا شراكة في حرية الموطن مع أجنبي, ولا شراكة في السيادة الوطنية إلا للموطن.
ألا يمكن لثقافة اللاعنف أن تكون قيدا قانونيا وأخلاقيا يغلّ أيادي المحتلين وأعوانهم, وأيادي الطامعين من الحكام والسياسيين, لأنها السلطة الروحية والأخلاقية الأقوى, التي تستطيع شرعيا وحقوقيا تحميل الجميع مسؤولية الأخطاء السياسية والاجتماعية والإقتصادية المترتبة على أفعالهم , من دون أن تترك لهم فرصة التنصل من أفعالهم وعواقبها, حتى في حال مغادرتهم أرض الوطن طوعا أو كرها, أو تخليهم عن المسؤولية!
ولكن, ألم يأت المحتل عبر وسائط محلية؟
وإذا كان الجواب نعم, فهل يناضل دعاة اللاعنف ضد أي مسعى محلي لبقاء واستمرار وجود المحتلين, مهما كانت هوية المحتل, وتحت أي تبرير؟ وماذا سيفعل دعاة اللاعنف بمن يودون إبقاء الهيمنة الأجنبية, كسند يحمي أيامهم القادمة, تحت ذريعة الشراكة أو الحماية أو التوازن الكاذب, مستخدمين عنف الدولة أو عنف المليشيات ضد معارضيهم؟
وكيف تُبني حركة معادية للعنف في مجتمع مدجج بالسلاح والمليشيات؟ كيف سيحمي مواطنو الموصل أو كركوك أو العمارة أنفسهم في حال إلحاقهم بدولة أجنبية, تحت أي تسمية كانت؟
إذا كان دعاة اللاعنف يناضلون من أجل إقرار الحقوق المتساوية للجميع, سلميا, عبر مؤسسات شرعية, قانونية, يتم التوافق عليها وطنيا, وإذا كانوا يعتبرون أي مشروع للضم عسكريا, خروجا على الإرادة الوطنية, فكيف سيتمكنون من تحقيق هذه الأفكار حينما يصرّ الآخر على مشروعه التقسيمي العنفي؟ هل سيلجأ دعاة اللاعنف الى العنف, أم أنهم سيكتفون بقراءة بيان ثقافي على جنازة الوطن؟
ماذا سيفعل دعاة اللاعنف لو أن انسلاخا, أو معادلة للتقاسم, حدثت على أرض الواقع ؟ كيف سيواجهون من يعتقد أن الدفاع عن وحدة الوطن, بكل الوسائل الممكنة, حق شرعي؟ هل سيتم تجريمه وإدانته؟ وهل ستتم مقاومته بالعنف, أم سيمنح براءة لا عنفية على عنفه؟ لماذا خاض الأميركيون حرب ما يعرف بالتوحيد؟ أكانوا خارجين على القانون؟ وهل يحق لهم وحدهم اختراع وإلغاء قوانين السياسة والأخلاق والمنطق حينما يشاؤون؟
وكيف يحمي دعاة اللاعنف أنفسهم؟ هل سيقاتلون المليشيات المسلحة بالنيّات الحسنة؟ أم أنهم سيصنعون توابيتهم بأنفسهم؟ هل يمكن للإرادة العنيدة, والنفس السامية, أن تكون سلاحا حقيقيا في مواجهة العنف؟ ألم يُصرع مرشد اللاعنف التاريخي برصاص متطرف؟
هل يُجوّز مشروع اللاعنف لمعتنقيه حق الاستشهاد دفاعا عن مبادئ اللاعنف؟ ألا يُعد هذا التجويز, إقرارا ضمنيا بالعنف؟
هل مشروع اللاعنف مشروع ثقافي اجتماعي أم حركة سياسية؟ أم أنه منبر عقلي يهدف الى تحويل نشاطه السلمي الى تيار تربوي, تنويري؟
أمقاومة العنف فكر انتقائي, أم مبدأ شامل يعيد تنظيم العلاقات التي تربط الأفراد ببعضهم, والعلاقات التي تربط الجماعات ببعضها, ويحدد صلاتها بالدولة ومؤسسات المجتمع على أساس التكافؤ التام؟ ففي مبادئ اللاعنف ينتفي وجود الحق المكتسب للأكثرية, ويصبح مبدأ المساواة قائما على ركيزة وحيدة اسمها المواطنة. فأصغر مواطن ينتسب الى أصغر عرق أو مذهب أو جنس أو جماعة مساو للآخرين - مهما كان حجمهم العددي- في المركز والقيمة والوظيفة الاجتماعية. إن شمولية مبادئ العنف تعني أنها قوانين مترابطة تقدس معنى الحياة كوجود, ومغزى التكامل الوثيق بين عناصر المجتمع والبيئة الطبيعة التي يعيشون في أحضانها. إن نبذ العنف يعني أيضا مقاومة كل نوازع الشر, ونبذ ميول الإنصياع المرضي للرغبات الاجتماعية والفردية المعادية للإنسان, المصاغة ثقافيا ودعائيا في هيئة تمجيد للقوة والحرب والعسكرة وعبادة الأشخاص وإيذاء الطبيعة وإعلاء صوت التعصب وصناعة ميول الخضوع والاستكبار, سواء أنشأت هذه الميول طوعا أو كرها.
من المستفيد, ومن الخاسر, من قيام حركة وطنية معادية للعنف؟
هذه الأسئلة وغيرها, على الرغم من قسوتها ومباشرتها وخياليتها, بدت للمنشغلين بها كما لو أنها أسئلة تبحث عن وطن, ووطن يبحث عن مواطن.
وقد تبدو للبعض نصالا حادّة, أكثر منها أسئلة للتداول. لكنها نصال ضرورية, لا نستطيع قبولها من دون القبول بجراحها المؤلمة. ولكن, بالقدر نفسه, لا يستطيع أحد إلغاء طرحها, أو ابتلاع وجودها الجارح!
وفي حقيقة الأمر إنها قدر يبحث عن إرادة مشتركة, إرادة تتوق الى عقد لقاء روحي بين وطن مقتدر, لكنّه متواضع, ومواطن شجاع, لكنّه مسالم.
فهل نحن مؤهلون لمثل هذا اللقاء؟
#سلام_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟