التحولات الاقتصادية والسياسية للطبقات الاجتماعية في المغرب
(الجزء الثاني)
تطور أوضاع الطبقة الثانية، الوسطى
مقدمة
تتميز الطبقة العليا بهيمنتها على وسائل الإنتاج المختلفة وما يتحقق لها من أرباح وريوع وعائدات مترتب عن مستوى تحكمها في وسائل الإنتاج أكانت بشكل مباشر عبر تحكمها في الشركات والأشخاص والعقارات والآليات والمصانع ... الخ أو بشكل مباشر عبر تواجدها في مواقع نافذة في دواليب الإدارة والدولة بحيث تتمكن من استخلاص فائض اقتصادي مهم يرتبها ضمن شرائح الطبقة العليا.
في مقابل هذه الطبقة العليا هناك طبقة أخرى نقيض لهذه الطبقة تتميز بعدم توفرها على أية ثروة أو وسائل للإنتاج ولا تملك سوى قوة عملها الذي تضطر إلى تقديمه بثمن بخس إلى الطبقة العليا المتحكمة في وسائل الإنتاج وتعيش على حد الكفاف أو في فقر مدقع بهذه المواصفات نكون أمام طبقة دنيا.
لكن هناك طبقة أخرى توجد بين هاتين الطبقتين العليا والدنيا، يمكن وصفها بطبقة وسيطة أو الطبقة الثانية، وتتميز هذه الطبقة بكونها تتوفر على مستوى معين من الدخل المتوسط القار أو الملكية الخاصة المتوسطة والصغيرة وغالبا ما تعتمد هذه الطبقة في عيشها على جهدها البدني أو الفكري وغالبا ما يشكل المشتغلين معها عددا محدودا أو يعملون معها كمساعدين، وفي هذه الحالة فإن درجة تحكمها في وسائل الإنتاج تكون ضئيلة أو منعدمة كما أن استغلالها للآخرين لا يكون موجودا أو يكون محدودة جدا، بينما تتضاءل درجة خضوعها لاستغلال الطبقة العليا.
وغالبا ما يمكن وصف مكونات هذه الطبقة بالبرجوازية الصغرى أو المتوسطة لكونها تتميز عن الطبقة الدنيا الكادحة وتميل بالفطرة نحو التسلق الاجتماعي والتشبه بالبرجوازية العليا سواء في نمط عيشها أو في سلوكها اتجاه الطبقة الدنيا، الشيء الذي يصنفها موضوعيا كطبقة وصولية أو انتهازية تتحين الفرص للانتقال نحو الطبقة العليا. لكن نمط الإنتاج الرأسمالي والآثار الاقتصادية والاجتماعية السلبية التي يحدثها يجعل أغلبيتها تنحدر تدريجيا نحو مصاف الطبقة الدنيا .
وتتباين مكونات الطبقة الوسطى بشكل واضح على عدة مستويات. فهي تتباين من حيث المهن التي تزاولها كالاشتغال في الإدارة العمومية أو التعليم أو التجارة أو الصناعة أو الخدمات كما تتباين في أشكال الإنتاج والتداول المختلفة التي تعتمدها وتتباين في مستوى الدخل والوضع الاقتصادي بين أجراء وأرباب عمل وبائعي الخدمات والتباين من حيث مراكز أفرادها الخاصة في علاقات التوزيع الموجهة لتداول فائض القيمة وتحقيقه والتباين في طرق التفكير وأساليب المعيشة، إضافة إلى التباين العرقي والديني والسياسي، وكذا التباين من حيث المصالح والوعي الجماعي. ورغم هذا التباين الكبير لمكونات الطبقة الوسطى إلا أنه يمكننا تقسيمها إلى شريحتين متميزتين حسب مستوى الدخل الذي تحققه ، تتمثل الأولى في الشرائح ذات الدخل المتوسط والتي يمكن وصفها بالبرجوازية الوسطى، والثانية في الشرائح ذات الدخل المتواضع والتي يمكن وصفها بالبرجوازية الصغرى.
وقد كان حجم هذه الطبقة متواضعا في عهد الحماية إلا أنها توسعت منذ 1956بشكل ملحوظ حيث ارتفع عدد أفرادها نتيجة تموقعها كمدعم لنمط الإنتاج الرأسمالي من خلال ما تقدمه من خدمات تكميلية من جهة، ونتيجة لاستفادة شرائح واسعة من المواطنين القاطنين بالمدن على الخصوص من فتح أبواب التعليم المجاني في كل مراحله من طرف الدولة طيلة عقدي الستينات والسبعينات وانفتاح مجال التوظيف العمومي على مصراعيه خلال هذه الفترة من جهة أخرى، إلا أن حجم هذه الطبقة ضل محدودا إذ تراوحت نسبة أفرادها عام 1971 حسب تقديرات الباحث الفرنسي روبرت اسكاليه ما بين 14,8 % و16,1 % من السكان العاملين في الأوساط الحضرية المغربية .
أولا: الشريحة ذات الدخل المتوسط: البرجوازية المتوسطة
تضم البرجوازية المتوسطة من حيث الحجم عددا أكبر من الأفراد مقارنة بالطبقات العليا. إن الأصول الاجتماعية لهذه الشريحة أتت من خلفيات طبقية مختلفة، كما تميزت عن أصولها بالتعليم الحديث الذي تلقته، وبالمهن العصرية التي مارستها. وتتألف هذه الشريحة من فئتين فرعيتين هما البرجوازية الوسطى القديمة والتي تشمل الأفراد الذين ما زالوا يمارسون الوسائل القديمة في الإنتاج والتجارة كتعهد الأفران والحمامات التقليدية، وأصحاب الحوانيت والمنشآت الخدمية الصغيرة... ويكثر وجود هذه الفئة في سائر المدن المغربية، وخاصة المدن الرئيسية القديمة ومنها فاس ومكناس ومراكش. ثم البرجوازية الوسطى الحديثة التي ظهرت نتيجة انتشار الخدمات التعليمية المجانية في البلاد، ونشوء الشركات وإدارات الأعمال، وتوسع أجهزة الدولة الإدارية والعسكرية والأمنية . وقد شكلت هذه البرجوازية الوسطى المتميزة ما يسمى بالصفوة أو النخبة الجديدة، وتشتمل على موظفي الإدارات العمومية المتوسطون وضباط الجيش والأمن الداخلي المتوسطين، والقضاة والأساتذة والصحفيين وصغار رجال الأعمال وذوي المهن الفنية العليا منهم كالأطباء والصيادلة والمهندسون والمحامون والمشتغلون في البنوك وشركات التأمين والمؤسسات التجارية ومن يعملون بالخدمات الشخصية لحساب أنفسهم وغيرهم.
لقد تعرض الوضع الاقتصادي والاجتماعي لهذه الشريحة للتدهور بشكل واضح بسبب السياسات الليبرالية الجديدة المعتمدة منذ بداية عقد الثمانينات. فأغلب أفراد هذه الشريحة تعيش على المرتبات والدخول الثابتة التي يحصلون عليها من عملهم في الوظائف الإشرافية والإدارية والفنية بأجهزة الدولة والجماعات المحلية والوزارات المختلفة أو من أعمالهم المهنية الخاصة المحدودة الدخل كالأطباء والمهندسون والمحامون وأصحاب المهن الحرة ... الخ. وقد تدهور وضع هؤلاء بسبب موجة التضخم التي جاءت في ركاب هذه السياسات، فتدهورت عائداتهم وأجورهم ومرتباتهم الحقيقية. وزاد الأمر سوءا حينما تقرر إلغاء الدعم على المواد الضرورية كالمواد التموينية وتزايد أسعار منتجات القطاع العمومي كالماء والكهرباء، والرسوم المقررة على الخدمات العمومية، كما هو الشأن بالنسبة لمختلف وسائل النقل العمومي.
كما تضررت هذه الشريحة من خفض الإنفاق العمومي المخصص للخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم والضمان الاجتماعي والسكن الاقتصادي من جراء التدهور الذي أصابها ومن خوصصة بعض هذه الخدمات وارتفاع أسعارها على يد القطاع الخاص. كذلك كان لتجميد فرص التوظيف بالوزارات والمؤسسات العمومية تأثير بالغ الحدة على أوضاع هذه الشريحة، حيث تفاقمت البطالة بين أبنائها خريجي الجامعات والمعاهد العليا.
كما تجب الإشارة إلى التدهور الذي طرأ على مستوى معيشة بعض أفراد هذه الشريحة الذين بلغوا سن التقاعد، وأصبحوا يحصلون على معاشات نقدية ثابتة. ففي الوقت الذي تنخفض فيه باستمرار القيمة الحقيقية لهذه المعاشات تنعدم في المقابل الفرصة المتاحة أمامهم لزيادة دخولهم من خلال مزاولة أعمال إضافية، بحكم ارتفاع أعمارهم وظروفهم الصحية وعدم قدرتهم على العمل. و هنا يمكن أن نتصور مثلا مدى تأثير ارتفاع أسعار الأدوية والخدمات الصحية على تدهور مستوى معيشتهم وأحوالهم الصحية.
ثانيا: الشريحة ذات الدخل المتواضع: البرجوازية الصغرى
تتجاوز أعداد البرجوازية الصغرى حجم البرجوازية الوسطى وتضم عددا كبيرا من صغار الموظفين المدنيين الذين يعملون في الوظائف الكتابية والبيروقراطية والمدرسون في التعليم الأساسي والثانوي وكذا شرائح عريضة من الجنود متوسطي المرتبة والدخل. كما تضم عددا من المشتغلين لحساب أنفسهم في قطاع الخدمات والمشاريع الصغرى، كالموظفون في المراكز الصحية والمستشفيات والإدارات بالمصالح المركزية والخارجية، والعاملون في مجال البيع والتوزيع وأقسام الحسابات والأرشيف بالقطاع العمومي، والفئة الغالبة من عمال قطاع البريد والسكك الحديدية ...الخ. وتتوفر أغلبية أفراد هذه الفئة على قسط محدود من التأهيل المهني والتعليمي. وتمثل البرجوازية الصغرى أغلبية لا بأس بها من الشغيلة المغربية. وتعتبر من ذوي الدخول الثابتة والمحدودة. لذلك يتسم نمط توزيع دخولها بغلبة نسبة ما يذهب منه إلى الاستهلاك الضروري، حيث أن معدلات ادخارها ضئيلا جدا، أو تكاد تكون معدومة. وكثير من أفراد هذه الشريحة أقرب إلى حال الطبقة العاملة.
وقد انحدرت السياسات الليبرالية الجديدة المعتمدة في اطار سياسة التقويم الهيكلي بالبرجوازية الصغرى إلى الحضيض.ذلك أن أجور ومرتبات أعضاءها منخفضة في الأصل، ولهذا كانت تعتمد إلى حد كبير على الدعم السلعي الذي كانت تخصصه الدولة لضرورات الحياة. فقد أدى تقليص أو إلغاء هذا الدعم تحت حجة خفض عجز الميزانية العامة للدولة وتصحيح تشوهات الأسعار، إلى الإضرار بهم ضررا شديدا. وزاد الطين بلة، مع تزايد أسعار الضرائب غير المباشرة، وارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف النقل، وتقليص الإنفاق العمومي الموجه للخدمات الاجتماعية. كما أن السياسة الانكماشية المصاحبة لبرامج التثبيت والتقويم الهيكلي كانت ذات أثر بالغ في زيادة البطالة بين صفوف هذه الشريحة.
وينصب تسريح اليد العاملة بالمقاولات العمومية بعد خوصصتها في الغالب على أفراد هذه الشريحة، خصوصا بالنسبة للذين تتدنى كفاءاتهم المهنية وتنخفض مؤهلاتهم التعليمية، ومن يعملون بعقود عمل مؤقتة. كما أن كتلة كبيرة من أعداد هذه الشريحة تراجعت إلى ما دون خط الفقر المطلق في الكثير من الأحيان .
ثالثا: خصائص الطبقة الوسطى
تتميز الطبقة الوسطى في المغرب (البرجوازية المتوسطة والصغرى) بعدد من الخصائص يمكن الإشارة إلى أهمها فيما يلي:
1 – عرفت الطبقة الوسطى في المغرب تطورا سريعا وملحوضا منذ بداية عهد الاستقلال، وتختلف أعدادها بحسب اختلاف أحجام المدن المغربية ومستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لسكانها.
2 – تتميز الطبقة الوسطى بإنتشار التعليم بين أفرادها وبتعاطي جزء كبير منها للتجارة والحرف المتوسطة وتدبير الأوراش والمصانع الصغيرة والمنشآت الخدمية الصغيرة وامتلاك بعض الأراضي والعقارات الصغيرة وتدبير بعض وسائل النقل.
3 – تعتمد شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى الحضرية على الوظيفة العمومية في كسب عيشها، وقد فتحت أبواب الوظيفة العمومية أمام الفئات المتعلمة من الطبقة الوسطى طيلة عقدي الستينات والسبعينات، في البداية أمام حاملي الشواهد المتوسطة ثم بعد ذلك أمام حاملي الشواهد العليا، لكن سرعان ما بدأت هذه الأبواب تنغلق مع بداية عقد الثمانينات مع تفشي مظاهر الأزمة واعتماد سياسة التقويم الهيكلي. وقد انتقلت أعداد الموظفين العموميين من حوالي 12 ألف موظف سنة 1954 إلى 150 ألف موظف سنة 1964 ثم إلى حوالي300 ألف موظف سنة 1988 فإلى حوالي 900 ألف موظف سنة 2002. وإذا كان قطاع الوظيفة العمومية قد تميز خلال عقد الستينات بغالبية صغار الموظفي،ن فإن هذه البنية تحولت لصالح الموظفين المتوسطين ابتداء من أواسط عقد السبعينات. ونظرا للخبرة التي يكتسبها الموظفون داخل الإدارة فإن ذلك أهل أقلية من بينها لممارسة نفوذ سياسي في الأجهزة الحكومية وبالتالي الارتقاء إلى الوظائف القيادية والاندماج في الفئة الحاكمة .
4 – تشكل أسرة التعليم داخل الطبقة الوسطى قوة سياسية مهمة تتميز بوعيها الطبقي ونضالها النقابي من أجل انتزاع حقوقها. كما تتمتع بقدرتها على قيادة نضالات سياسية جريئة، حيث بلغ أعداد المشتغلين في قطاعي التعليم الأساسي والثانوي سنة 2001 حوالي 200.000 شخص.
5 – لا تشكل شريحة الطبقة الوسطى المشتغلة في مجال التجارة والصناعة الصغيرة والمتوسطة رغم أغلبيتها العددية قوة سياسية مهمة مقارنة بفئة الموظفين ورجال التعليم نظرا لطغيان المصالح الشخصية على مصالا الجماعية. كما أن فئة الموظفين ورجال التعليم تعيش نوعا من انفصام الشخصية وعدم التجانس في تكوينها الفكري، نظرا لتباين نمط التعليم الذي تلقته . فبعض هذه الشرائح تلقى تعليما تقليديا أصيلا والبعض الآخر تلقى تعليما عصريا إلى جانب هيمنة اللغة الفرنسية داخل الإدارة المغربية بحكم التبعية الثقافة لفرنسا. يؤدي هذا التناقض الكامن داخل الطبقة الوسطى إلى تعدد تعبيرات شرائحها السياسية وإلى إصطدامات فيما بينها .
6 - أدت الطبقة الوسطى في المجتمع المغربي منذ عهد الحماية دورا سياسيا مهما، حيث كان لها دور مهم في الكفاح من أجل الاستقلال ثم تزعمت في عهد الاستقلال حركات سياسية متعددة المشارب، فحوالي ثلثي مكونات الأحزاب السياسية المغربية المسماة بالديموقراطية كالاتحاد الاشتراكي التقدم والاشتراكية منظمة العمل الديموقراطي ... الخ تتكون من شرائح الطبقة الوسطى، بينما ينتمي الثلث المتبقى إلى شرائح الطبقة العليا. أما في حزب الاستقلال والأحرار فأكثر من ثلثي مكوناتهما ينتمي الى الطبقة العليا مقابل أقل من الثلث ينتمي للطبقة الوسطى .
7 – تتسم شرائح الطبقة الوسطى بدرجة مهمة من الطموح المقترن بقدر من المحافظة والتحرر . وفي هذا الإطار تقبل هذه الطبقة مبدأ تعليم البنات وحصولهن على أعلى الدرجات وكذا اشتغالهن في مختلف المهن.
8 – تميل عائلات الطبقة الوسطى إلى الاستقلال السكني عن الأهل والسكنى في الأحياء التقليدية والحديثة في المدن. وهناك شريحة من الطبقة الوسطى التي تلقت تعليما عصريا وتأثرث بالثقافة الغربية وتفضل الإقامة في الأحياء الراقية التي رحل عنها الأوروبيون بعد الاستقلال وبالتالي السكن في شقق سكنية في بنايات تتألف من عدة طوابق لاعتقادها أن السكن في هذه الأحياء يعبر عن ارتقائها في السلم الاجتماعي .
9 – تحرص مكونات الطبقة الوسطى على استعمال مدخراتها المالية لاقتناء المساكن والتخلص من عبء دفع الإيجار، وذلك لأن أجور الشقق السكنية في المدن المغربية ترتفع بسرعة نظرا لتفشي أزمة السكن .
10 – يمارس أفراد الطبقة الوسطى الزواج الأحادي ويفضل الشباب منهم الزواج من الفتيات العاملات في الإدارات العمومية أو الخاصة كما يستعملون أساليب تحديد النسل رغبة في تحديد عدد أطفالهم. وكل ذلك لمواجهة غلاء المعيشة وأزمة السكن والتعاون على مجابهة أعباء الحياة وتأمين مستوى حياة أفضل للأطفال. ويؤدى هذا النوع من تقنين حياة أفراد الطبقة الوسطى إلى الحد من نسبة نموها السريع الذي عاشته خلال العقود الأولى للاستقلال.
11 – في ظل نظام رأسمالي يكرس هيمنة قانون العرض والطلب داخل الأسواق ويرفع الأسعار بوثيرة متسارعة فإن الطبقة الوسطى تضررت بسرعة فهي سرعان ما تصاب بالإحباط نظرا لغياب مشروع مجتمعي يأخذ مصالحها بعين الاعتبار ونظرا لخيانة الأحزاب السياسية التي تدعي بأنها تمثلها (أنظر تجربة حكومة التناوب والاحباط الذي ولدته لدى هذه الطبقة)، وكثيرا ما يتدحرج أعضاء الطبقة الوسطى نحو الطبقة الدنيا بفعل تآكل المجالات التي كانت تشكل مصادر اقتصادية لمعيشتها.
رابعا: الدور السياسي والاقتصادي للطبقة الوسطى
تؤكد معظم الأفكار السياسية الإصلاحية التي تتوخى إعادة إنتاج نمط التراتبية الاجتماعية السائد في المجتمعات الرأسمالية والحفاظ على دور الدولة كأداة طبقية ترعى مصالح الطبقة العليا المهيمنة، على أهمية توسيع شرائح الطبقة الوسطى نظرا لما تحققه من دعم للبنية الطبقية القائمة ومن سلام اجتماعي تنتعش فيه الأرباح الرأسمالية. فالتناقض الصارخ بين مصالح الطبقة العليا وتدني أوضاع الطبقة الدنيا من شأنه إذكاء الصراع القاتل الذي يهدد النظام الطبقي القائم بالانهيار وبالتالي قيام مجتمع اشتراكي تنعدم فيه التناقضات الطبقية. لذلك توصي الأفكار السياسية الرأسمالية بإعادة إنتاج الطبقة الوسطى التي تقوم بدور المخفف من حدة التناقضات.
ونظرا للمكتسبات المحدودة التي تحققها الطبقة الوسطى في إطار النظام الرأسمالي نجدها تتطلع إلى بلوغ مرتبة الطبقة العليا نتيجة مثابرتها والتصاقها بمصالح هذه الأخيرة، من هنا تصبح تطلعات هذه الطبقة انتهازية وصولية بامتياز، فأغلبية مثقفي هذه الطبقة يستثمرون ثقافتهم من اجل التسلق الاجتماعي إلى مراتب الطبقة العليا، ويلجؤون من أجل بلوغ ذلك إلى مختلف الوسائل الممكنة حتى الدنيئة منها، وبطبيعة الحال ينجح البعض منهم في ذلك فيتحولون بين عشية وضحاها إلى مصاف الطبقة العليا.
بطبيعة الحال هناك نسبة من مثقفي هذه الطبقة من يتحولون إلى ثوريين محترفين ضد الفوارق الطبقية الصارخة وعلى النظام السياسي والاقتصادي الرأسمالي السائد المسؤول عن الأوضاع الاجتماعية المتدهورة باستمرار وذلك من أجل تحقيق مجتمع اشتراكي تنعدم فيه الفوارق الطبقية. لكن هذه النسبة من المثقفين الثوريين الذين يمارسون ما يسمى بالانتحار الطبقي نتيجة انتصارها لمصالح الطبقة الدنيا على حساب مصالح الطبقتين الوسطى والعليا، وهي بهذه المواقف تصبح موضوعا للقمع الوحشي لأجهزة السلطة، والمثال الصارخ على ذلك ما ترضت له الحركة الماركسية اللينينية المغربية في اطار منظمة إلى الأمام من قمع وحشي من طرف المخزن طيلة العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين.
في مواجهة هذه الطليعة الثورية من الطبقة الوسطى التي تلتحم مع الطبقة الدنيا، يتوزع مثقفي الطبقة الوسطى على الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية مركزين مطالبهم السياسية على هاجس إصلاح النظام السياسي القائم بما يعود بالنفع على الطبقة الوسطى، وغالبا ما تستهدف هذه التعبيرات بعض المطالب لدمقرطة الحياة السياسية كنزاهة الانتخابات والمشاركة في صياغة القرارات السياسية الاستراتيجية. أما على مستوى المطالب الاقتصادية فلا تتجاوز رغبة هؤلاء في تخفيف من العبء الضريبي عن الطبقة الوسطى وزيادة تدخل الدولة في مجالات التعليم والصحة والسكن. لكن هؤلاء المثقفون يتحاشون الدخول في صراع مكشوف مع الطبقة العليا، فيعملون من جهة أخرى على تزكية مطالب هذه الطبقة في إطلاق يدهم لتشديد استغلال الطبقة الدنيا واستخلاص أكبر نسبة من فائض القيمة.
وأبرز مثال على هذه التعبيرات السياسية ما يعرف بالأحزاب الديموقراطية الاجتماعية كالاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية واليسار الاشتراكي الموحد ... وإذا كان بعض مناضلي هذه الأحزاب قد تعرضوا خلال سنوات الرصاص للقمع المخزني الوحشي نظرا لمطالبهم الجريئة بدمقرطة أكبر للحياة السياسية، فإن ورثة هؤلاء المناضلين داخل هذه الأحزاب تخلوا عن جوهر هذه المطالب ولم يعد يربطهم بالماضي النضالي سوى اسم الحزب. فأية علاقة بين الاتحاد الاشتراكي اليوم والاتحاد الوطني بالأمس على عهد المهدي بنبركة، بل أية علاقة بين مناضلي هذا الحزب اليوم وعمر بن جلون في بداية عقد السبعينات.
ومن أبرز الأمثلة عن انتهازية مثقفي الطبقة الوسطى مهزلة حكومة التناوب التي قادها الاتحاد الاشتراكي منذ سنة 1998 حيث برهنت الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية المنضوية في هذه الحكومة عن مدى رجعيتها، فقد كرست سياسة الخوصصة التي أجهزت على العديد من مكتسبات الشعب المغربي وفضلت العديد من مصالح الطبقة العليا على حساب الطبقتين الوسطى والدنيا، كإعفاء الأراضي الحضرية غير المبنية من الضريبة وتكريس التفاوت في الأجور وتقديم الأراضي الفلاحية الخصبة التي هي من الممتلكات العمومية كهدايا لأصحاب النفوذ، إضافة إلى تجميد التوظيف وتكريس مدونة شغل رجعية. فالاجراءات اللاشعبية التي لم تتمكن الحكومات المتعاقبة السابقة من اعتمادها مررتها حكومة التناوب التي لم تكن لتحضى بالمشاركة في الحكومة لولا رصيدها لدى الشعب المغربي على عهد بن بركة وعمر بنجلون.