تعرض مفهوم العلمانية في العالم العربي إلى تحريف وتشويه كبيرين. ولا تزال مختلف مدارس الإسلام السياسي تعمل على عملية التحريف والتشويه هذه. إنها تعرض العلمانية كمبدأ وتطبيق في الحكم وكأنها طمس الدين ومحاربته. إنها تدعي أن مفهوم العلمانية، لكونه غربيا، يمثل"تآمرا" غربيا لطعن الإسلام وتحطيمه. ومن أجل البرهنة على صواب تفسيرهم يعرضون الإسلام بوصفه دينا ونظام حكم.
والحال، إنه إذا كان المفهوم غربيا[ شأنه شأن مفاهيم الديمقراطية البرلمانية وحقوق الإنسان]، فإن هذا بحد ذاته لا يعني لا "مؤامرة " ولا "غزوا "فكريا وسياسيا. إنه كشأن مفاهيم صالحة أخرى صالحة للبشرية على اختلاف البلدان والظروف والأديان والملل، دون نفي لتنوع سبل وصيغ التطبيق. وكما أن الإسلاميين لا يجدون غضاضة في استخدام آخر منجزات الغرب في الحقلين العلمي والتكنولوجي، دون أن يؤدي ذلك إلى التخلي عن الهوية الثقافية أو الانتماء الديني. ونجد المتطرفين أنفسهم يرسلون شفراتهم وتعليماتهم السرية من خلال الأنترنيت الذي ليس اختراعا إسلاميا ! فالاستفادة المرنة من تجارب الديمقراطية الغربية وما قامت عليه من أسس فكرية، لا يساوي التبعية أو الذوبان في الآخرين.
إن العلمانية تعني ببساطة فصل السلطتين الدينية والسياسية، مع ضمان احترام جميع المعتقدات الدينية والهويّات الثقافية والروحية للشعوب والمجتمعات. إنها تعني أن الدولة هي دولة قانون واحد يسري على جميع المواطنين حقوقا وواجبات بصرف النظر عن الدين والطائفة والعرق. إنها دولة المواطنة والمواطن، لا دواة مواطنين بدرجات [مسلم وذمي وكافر!] إنها الدولة التي تكتب على بطاقة هوية مواطنها جنسيتها دون تخصيص دين من الأديان أو طائفة ما.
وقد تعرضت نزعات ومدارس الخلط الإسلامية بين السلطتين الدينية والسياسية إلى نقد المفكرين العرب التنويريين الشجعان، أكثر من ذلك فقد تصدى لها بالنقد الجريء رجل دين مصري هو المفكر والعالم علي عبد الرازق في كتابه الفريد " الإسلام وأصول الحكم "الصادر في أواسط العشرينات الماضية. فقد فتح الكتاب بوضوح علمي وشجاعة فكرية وأخلاقية ملف تخطئة الادعاء بان الإسلام دين ودولة، مؤكدا وبالأدلة على أن الخلافة كانت خيارا بشريا لا إلهيا، وعلى أن القرآن لم ينص على شكل معين من أشكال الحكم والسلطة السياسية. وقد تعرض الكتاب ومؤلفه إلى حملة ضارية من علماء الأزهر ومن الكتاب والساسة المحافظين، وعزلوا الشيخ المؤلف من كل وظائفه وشهروا به [وإن لم يقتلوه، ولله الحمد، كما قتل فرج فودة وغيره بعد عقود من السنين وفي مصر نفسها.] وكانت حيثيات قرارات الأزهر وأفكار رشيد رضا من أسس انطلاق الحركة الأصولية السياسية، أي الساعية لأخذ السلطة السياسية تحت شعار الدين. وتمثلت الحركة في تنظيم "الإخوان المسلمين "الذي تأسس في أواخر تلك العشرينات. وتفرعت من حركة الإخوان مع سيد قطب والدعاة مثله مدارس التعصب الديني الجامح والعنفي الإرهابي، التي تكُفر جميع المجتمعات والدول غير المسلمة، بل وتكفر المجتمعات العربية نفسها داعية إلى تطهيرها من "المسلمين غير المؤمنين "!!
وثمة مدارس تشدد ديني أخرى قامت قبل الإخوان في الدول العربية. ومن بين مختلف هذه المدارس الإسلامية المتعصبة نشأت بعض الجماعات والتيارات الأكثر تطرفا، والتي تمارس العنف الدموي لتحقيق هدف "قيام الدولة الدينية الكبرى" أو "دولة الخلافة الإسلامية" بطرق القتل والذبح والتدمير. وما حركة بن لادن ـ الظواهري وشبكاتهما الإرهابية التي تزرع الموت في كل مكان إلا التجسيد الأعمى لما يمكن أن يؤدي إليه التطرف الديني النازع لأخذ السلطة السياسية. وقد ابتلى العرب و العالم الإسلامي وخارجه بهذه المدارس الدموية التي تقدس الموت في نفوس الشباب الضائع، مسيئة للدين نفسه ولسمعة المسلمين في العالم، و ناشرة راية الإرهاب والابتزاز، ومدعية أنها الناطقة باسم الله وأن من عداها كفار يجب اجتثاثهم اجتثاثا. وهم يستغلون لمآربهم السياسية المتسترة قضايا عربية عادلة كالقضية الفلسطينية التي يرون حلها بإبادة يهود العالم وفلسطين معهم !
إن إقحام الدين بشؤون الدولة يؤدي إلى ضرب حق الشعب في خياراته لإدارة حياة مجتمعه ويشجع على التمييز الديني والطائفي والعرقي، ويخرس بالقوة المعارضين والمخالفين بحجة أنهم يشذون ومارقون عن الدين. إن الخلط بين السلطتين ومؤسساتهما يسيء لكلتيهما. فالمعتقدات الدينية أمور خاصة بالفرد المواطن الذي يجب أن يمارس معتقده الديني بحرية تامة كحق من حقوق المواطنة، ولابد من احترام المؤسسات الدينية لتقوم بوظائفها الدينية بين الناس، لا كما فعل الاتحاد السوفيتي وسائر الدول الاشتراكية السابقة بمطاردة ومنع رجال الدين والمؤسسات الدينية. فالدول الغربية التي تفصل السياسة عن الدين لا تلغي الدين ومؤسسات الكنيسة التي تمارس في بعضها نفوذا كبيرا بين المواطنين. ومن رجالات الدول الديمقراطية الغربية أناس مؤمنون ويحضرون القداس بانتظام. والحديث هنا هو عن علمانية حقيقة غير مبتورة أو ناقصة مشوهة كما يحدث في بعض الدول العربية والإسلامية، مثلما تُمارَس أحيانا ديمقراطية شكلية وصورية، وهو ما يستخدمه الإسلام السياسي للطعن في الديموقراطية والعلمانية. إنه لا يجب محاسبة الديمقراطية العلمانية على أخطاء التطبيق وتشوهاته. وقد يكون في بعض الدول الديمقراطية الغربية هنا وهناك خلل في القوانين والممارسات. غير أن القاعدة العامة تظل صحيحة. ثم إن الأخطاء والانتهاكات في هذه الأنظمة تعالج لوجود الشفافية ولدور المجتمع المدني وحريات الصحافة والتعبير والنشر، ونظرا لما وصل إليه المواطنون من وعي بحقوقهم وإمكان محاسبة الحكومات أمام البرلمانات التي تنتخب بحرية، ولوجود السلطة القانونية المستقلة ـ وهذا وضع يختلف تماما عن أوضاع دول الدكتاتوريات العسكرية والشمولية وعن الدول ذات الحكم الإسلامي كما في السودان مثلا، وبالأمس في أفغانستان. بل حتى في دول عربية أخرى لا تعتبر نفسها دولا دينية بل مدنية، نجد أنه عندما يتدخل رجال الدين في شؤون الثقافة والتعليم والحياة الاجتماعية، يختنق التعليم، وتضطهد المرأة بقسوة، وتحارب الثقافة العلمية، ويداس على حرية المواطن.
إن المزج بين السلطتين الدينية والسياسية يشجع على تعكير الأجواء والعلاقات بين المسلم وغيره، وبين الطوائف الإسلامية نفسها. وقد كان الشيخ عبد الرازق على حق في تأكيده على أن قوانين المجتمع ونظم الحكم هي من صنع الإنسان لا من تعاليم السماء.
إن الديمقراطية العلمانية هي الطريق السليم للحكم بما يسمح لجميع المواطنين على اختلاف الدين والمذهب والقومية والجنس والانتماء السياسي بممارسة حقوقهم كاملة دون تمييز وبلا تعسف، وبما يجنب المجتمعات التصادم والتناحر الداخليين، وبما يفتح أمام البلدان العربية سبل التقدم العلمي، والتقني، والإبداعي. ومن المقومات والخصائص الكبرى لهذا النظام تمتع المرأة بحقوق متساوية مع الرجل ونسف جميع الأفكار التي تقلل من شأن المرأة وتسيء إلى شخصيتها وكرامتها. فالمرأة هي الضحية الأولى للفكر الديني المتعصب. أما خيار تغييب الديمقراطية والتساهل مع أفكار التزمت الديني و تدخل المؤسسات الدينية في مسائل تشريع القوانين والدساتير، فإنه يعني بقاء الضعف والتخلف العربيين في عالم اليوم الذي لا يرحم من يرفضون العلم والتقدم والديمقراطية. وأخيرا فان على الحركات والتنظيمات السياسية الإسلامية التي تعلن قبولها للديموقراطية أن تدين يكل وضوح كل ظواهر التطرف التي من شانها ان تكون حجر عثرة امام تقدم المجتمعات وتطورها. ومن الجهة الأخرى، فمن واجب القوى السياسية العلمانية، التي تدخل لأسباب المصالح العليا للشعب، في تحالفات مع القوى الإسلامية المعتدلة، أن تضمنن بكل يقظة عدم تقديم تنازلات سياسية تؤدي في المستقبل إلى حدوث الثغرات في النظام السياسي الديموقراطي.
نقلا عن موقع الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
http://www.aljabha.org/