أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - البشير عبيد - تراكم الوعي و الإرادة في بناء الوطن العربي الجريح















المزيد.....

تراكم الوعي و الإرادة في بناء الوطن العربي الجريح


البشير عبيد

الحوار المتمدن-العدد: 8573 - 2025 / 12 / 31 - 23:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ما بعد الصراخ: رحلة الوعي والإرادة في بناء الأوطان

– البشير عبيد / تونس

"الأوطان الجريحة لا تُبنى بالصراخ والعويل، بل يجسد البناء الفكر الحر والإرادة والثبات والذهاب بالحلم إلى الأقاصي. هكذا علمتنا دفاتر التاريخ بكل محطاته. المؤمنون بأفكارهم ورؤاهم المستقبلية ليس في قاموسهم الخوف أو الرهبة من خوض معركة الحرية والعدالة الاجتماعية والتقدم والحداثة وتجسيد قيم المواطنة على أرض الواقع. المستقبل للأحرار الشجعان وليس للسفهاء الجبناء."
هذا ما كتبته قبل سنوات وأكدته الوقائع هنا وهناك... مشرقًا ومغربًا. فقد ثبت أن الصراخ وحده لا يعيد بناء المجتمعات، وأن الانفعال اللحظي لا يُعيد صوغ مؤسسات الدولة أو المجتمع المدني. التاريخ مليء بالدروس: شعوب تعرّضت للانكسارات لكنها نهضت عبر إرادة واعية، وفكر حر، وحلم واضح، محوّلة الجراح إلى فرص، والفشل إلى دروس مستفادة.
من بين المفكرين الذين ساهموا في صياغة هذا الوعي، كان عبد الوهاب المسيري، الذي أبان في أعماله عن أهمية التحليل النقدي للتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية، وكيف يمكن للفكر الحر أن يكون سلاحًا لمواجهة الانكسارات الحضارية. المسيري كان دائمًا يربط بين الوعي الفردي والجماعي، مؤكدًا أن الأمة التي لا تدرك عمق أزماتها لا تستطيع مواجهة تحدياتها المستقبلية، وأن إرادة النهوض لا تأتي إلا عبر الإدراك النقدي المدروس.
كما أن تجربة الشهيد الرمز مهدي عامل في لبنان أظهرت كيف يمكن للمثقف أن يكون جزءًا من مقاومة الانكسار الوطني، ليس بالكلام الفارغ أو الشعارات، بل بالالتزام الفكري والعملي، وربط الفكر بالحلم الوطني، وتحويل الألم والاضطهاد إلى طاقة للبناء. مهدي عامل ترك نموذجًا فريدًا في تاريخ النضال العربي، حيث جمع بين الإرادة الصلبة والحلم المستقبلي، وفهم أن النهضة تبدأ دائمًا من وعي الفرد والمجتمع معًا.
في سياق عالمي، نجد أن نهضة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ونهضة ألمانيا الغربية بعد الحرب، تؤكدان كيف أن الإرادة المنظمة والفكر الواعي والحلم المستقبلي يمكن أن يحول الانكسارات العميقة إلى فرصة للنهوض والابتكار.

إرادة البناء في زمن الانهيار

في أوقات الانكسار، تصبح الإرادة قوة مركزية. الصراخ وحده يصنع صوتًا لكنه لا يصنع مؤسسات، ولا يحمي العدالة، ولا يضمن الاستقرار. الإرادة الحقيقية تحول الأزمة إلى فرصة، والغضب إلى طاقة بنّاءة للتغيير.
تتجسد الإرادة في العمل المستمر والمخطط بعناية: إصلاح المدارس والمستشفيات، بناء منابر تعليمية وثقافية، وخلق مؤسسات قادرة على مواجهة الفوضى والانكسار. كل مشروع صغير، كل خطوة مدروسة، هو لبنة في صرح النهوض، تؤكد قدرة المجتمع على الصمود والمثابرة رغم الصعاب.
التاريخ العربي مليء بالأمثلة الواقعية: بعد الحروب والاجتياحات، استطاعت شعوب مثل لبنان بعد الحرب الأهلية، وبعض المناطق في العراق بعد انهيار مؤسسات الدولة، أن تُظهر قدرة على إعادة البناء عبر مبادرات محلية واعية. وفي أوروبا، كانت إرادة البناء بعد الحربين العالميتين الثانية عاملًا حاسمًا لإعادة الاستقرار ونهضة المجتمعات الاقتصادية والثقافية.
حتى في شمال إفريقيا، أثبتت تونس والمغرب قدرة مجتمعاتهما على تجاوز الصعاب من خلال الإرادة التنظيمية والمبادرات المدنية. هذه الأمثلة تؤكد أن الإرادة ليست شعورًا داخليًا فحسب، بل منظومة متكاملة من التخطيط والفعل والالتزام المستمر، تجعل المواطن شريكًا في صناعة التغيير، وتحوّل القيم المجردة إلى سياسات قابلة للتطبيق، ومن ثم إلى واقع ملموس يحقق التنمية والاستقرار.

الوعي والفكر الحر كقوة مقاومة للنزيف الوطني

الوعي هو الدرع الحقيقي ضد الانكسار، والفكر الحر هو الوقود الذي يحرك هذه الطاقة. الوعي لا يقتصر على إدراك الجراح، بل يمتد إلى فهم الأسباب العميقة للانكسار وتمييز الفعل البناء عن الاستهلاكي. الفكر الحر يمكّن المجتمع من مواجهة الفوضى، وتحويل الخلاف إلى حوار منتج، والمعضلات إلى حلول مستدامة.
التعليم والثقافة والإعلام أدوات إنتاج الوعي. عندما تكون هذه المؤسسات قادرة على تطوير الفكر النقدي وتعليم الأجيال القدرة على السؤال والتحليل، يصبح المجتمع قادرًا على الصمود أمام الضغوط، وتحويل الأزمة إلى فرصة للنهوض بالقدرات الذاتية والجماعية.
الفكر الحر يعزز الإرادة العملية، ويحوّل كل فعل مدروس إلى مقاومة حضارية. من معلم يزرع الوعي في طلابه، إلى كاتب يضيء العقل الجمعي، كل خطوة معرفية وثقافية هي مساهمة في بناء صرح النهضة المستدامة.
تجارب المجتمعات العربية مثل جهود الإصلاح التعليمي في بعض دول المغرب العربي، أو مبادرات الشباب في المدن الكبرى بمصر ولبنان، أظهرت كيف يمكن للفكر الحر أن يصبح قوة مقاومة للنزيف الوطني. وعلى المستوى العالمي، المجتمعات التي اعتمدت على التعليم والثقافة والفكر النقدي استطاعت تحويل الأزمات السياسية والاقتصادية إلى فرص للنهوض وإعادة بناء مؤسسات قوية.
كما أشار عبد الوهاب المسيري في تحليله للتيارات الفكرية، فإن الأمة التي لا تُنمي الفكر الحر والفهم النقدي، ستظل أسرى الانكسارات المتكررة. وتجربة الشهيد مهدي عامل تؤكد أن المثقف ليس مجرد محلل، بل جزء من النسيج الوطني الذي يربط الإرادة بالحلم والواقع.
حتى التجارب الأوروبية الحديثة تؤكد ذلك: النهضة الاقتصادية لألمانيا بعد الحرب، وصعود اليابان من الدمار، لم يكن فقط نتيجة للإرادة الفردية، بل نتيجة لتكامل الفكر الحر والتخطيط المؤسسي والالتزام الوطني.

الحلم كمعادلة للإرادة والمستقبل

الحلم هو نقطة التقاء الإرادة والوعي، وهو القوة التي تمنح الفعل معنى ووجهة. الحلم الوطني الحقيقي ليس شعارًا أو هروبًا من الواقع، بل أفق أخلاقي يربط بين الحرية والعدالة، ويمثل أساسًا لصياغة السياسات والممارسات التي تصنع الفارق.
الأمم التي فقدت القدرة على الحلم فقدت القدرة على الصمود والنهوض. أما من يمتلكون الحلم والوعي والإرادة، فهم قادرون على تحويل الفشل إلى درس، والانكسار إلى حافز، والجراح إلى طاقة إيجابية للتغيير المستدام. الحلم يمنح كل خطوة عقلية معناها، ويوجه الفعل نحو مشاريع بعيدة المدى، ويحوّل المبادرة الفردية والجماعية إلى عمل متكامل وراسخ.
الحلم يربط المبادرات الفردية بالجهود الجماعية، ويجعل من كل مشروع إصلاحي مهما صغر أداة لبناء المستقبل. إنه القوة التي تجعل من الوطن فكرة حية، ومن الجراح المتراكمة دروسًا قيّمة، ومن الانكسارات محطة لإعادة البناء المستمر. وهكذا يصبح الحلم معادلة فعلية توحد الإرادة بالوعي، وتمنح المستقبل شكله ووجهه، وتجعل من النهوض الوطني مشروعًا مستدامًا يمكن للأجيال القادمة الاعتماد عليه.
الحلم، كما أشار المسيري وطبّقه مهدي عامل، هو القدرة على الجمع بين الطموح الواقعي والفكر النقدي والإرادة العملية، ما يجعل الأمة قادرة على مواجهة كل التحديات، وتحويل أي أزمة إلى فرصة للنهوض والتجديد.
حتى على الصعيد العالمي، نجد أن الحلم الجمعي كان القوة الدافعة وراء النهضة الصناعية في أوروبا، وصعود الولايات المتحدة كقوة اقتصادية وثقافية، حيث لم يكن الحلم مجرد أماني، بل مشروعًا مدروسًا ومخططًا بوعي وإرادة.
ما بعد الصراخ هو لحظة الحقيقة. هنا يُقاس الصبر، والإرادة، والوعي، والحلم. الطريق نحو بناء الأوطان الجريحة لا يمر عبر الصخب، بل عبر الفكر المتأمل، والإرادة الفاعلة، والعمل المستمر، والحلم الذي يمتلك أدواته الواقعية. المستقبل للأحرار والشجعان الذين يحولون الألم إلى فعل، والتحديات إلى مشروع، والجراح إلى طاقة للنهوض والتجديد.

- كاتب صحفي و باحث مهتم بقضايا التنمية و المواطنة و النزاعات الإقليمية و الدولية و آخر تطورات الصراع العربي - الصهيوني



#البشير_عبيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما بعد الصًراخ : رحلة الوعي و الإرادة في بناء الأوطان
- الدولة التونسية و تغوًل رأس المال : حين تختبر الديمقراطية اج ...
- سوريا بين الفراغ و الهشاشة : سلطة انتقالية بلا مشروع تحرري
- إنهيار الأسطورة: المشروع الصهيوني بين تفكك الداخل و إستعصاء ...
- صناعة القوًة في الظلً : حين يعيد التاريخ دروسه بين المقاومة ...
- مواطنون لا رعايا : من أجل جمهورية ديمقراطية إختماعية تونسية ...
- محور المقاومة العربية : استراتيجيات الصمود و مسارات التاثير ...
- غزة و التحولات الإقليمية..حدود القوة و إمكانات التغيير
- الأمة العربية بين الوعي و المقاومة : صراع التاريخ و الخيارات ...
- شهادة نعتزً بها و تدفعنا إلى الأمام...
- الحبكة المقدسة : الدين في السينما الغربية
- السياسة و اللحظة الحاسمة : بين الإدراك التاريخي و القرار الج ...
- انيسة عبود ..بين النعنع البرًي و صدى الروح الأدبية
- الذكرى الثانية لطوفان الأقصى : سقوط الأسطورة الصهيونية و صعو ...
- هاني بعل الكنعاني لصبحي فحماوي بين التاريخ و الأسطورة و الهو ...
- الجمهورية الممكنة..من الرعوية إلى المواطنة
- من يقاوم الهزيمة لا يخشى النهايات
- غزة في زمن الإبادة : شهادة على العجز الدولي و صمود الإنسان
- رشاد أبو شاور ..روائي المقاومة و ذاكرة فلسطين
- رفح.. العملية النوعية التي كسرت وهم المنطقة الآمنة


المزيد.....




- فيديو متداول لـ-حرق منزل الخميني في طهران خلال الاحتجاجات-.. ...
- بعروض -استثنائية-.. دبي تدخل عام 2026
- -تفجير انتحاري- يستهدف دورية للشرطة في حلب.. والسلطات السوري ...
- كواليس اجتماع ترامب–نتنياهو.. هل يمهّد لقاء فلوريدا لضربة جد ...
- في خطاب رأس السنة.. بوتين: روسيا ستنتصر في أوكرانيا
- أمم أفريقيا…منتخبا الجزائر والسودان يتأهلان لدور الـ16
- خبراء: هذا ما حصل عليه نتنياهو خلال زيارته للولايات المتحدة ...
- ماذا يخبئ نتنياهو وترامب بعد الاتفاق على فتح معبر رفح؟
- وثائق للجزيرة تكشف مخطط جنرالات الأسد للتحرك عسكريا ضد دمشق ...
- إسرائيل وعدوى الانفصال من -أرض الصومال- إلى اليمن


المزيد.....

- صفحاتٌ لا تُطوى: أفكار حُرة في السياسة والحياة / محمد حسين النجفي
- الانتخابات العراقية وإعادة إنتاج السلطة والأزمة الداخلية للح ... / علي طبله
- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - البشير عبيد - تراكم الوعي و الإرادة في بناء الوطن العربي الجريح