أن موقع العراق الجغرافي بين عدة دول تتقاطع أهدافها وتوجهاتها القومية والمذهبية بشكل كبير ما يجعل التقارب بينها يكاد يكون مستحيلاً، على الرغم من أن غالبية شعوب هذه الدول تدين بالديانة الإسلامية تصل إلى % 98 ، وتكاد تنعدم ديانات أخرى غير الديانة الإسلامية في بعضها كالسعودية والكويت، فإن الصراعات السياسية والتاريخية بين هذه الدول كانت ولا تزال تنعكس بشكل مدمر على الحالة السياسية وعدم الاستقرار في العراق، فلو ابتعدنا قليلاً عن واقع الدول القومية الحديثة المنشأ كنتيجة لانهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، نجد بأن أرض العراق ومنها كوردستان كانت مسرحاً لحروبٍ طاحنة بين الإمبراطوريتين العثمانية السنية " المذهب الحنفي " والإمبراطورية الصفوية " القزلباش ـ ذو الطاقيات الحمراء ـ على المذهب الشيعي " ويعتبر تاريخياً بأن الصفويين كانوا من غلاة الشيعة، وما قاموا به من إجراءات مصحوبة بعنف دموي كبير لتثبيت حكمهم لا ينعكس سلبياً على الشيعة الجعفرية أو الشيعة الأثني عشري، أن جذور التشيع الصفوي يرجع بالأصل إلى الشيخ صفي الدين بن إسحاق الأردبيلي ( 650 ـ 735 هـ ) الذي بدأ بنشر طريقة صوفية جديدة سرعان ما انتشرت بين العشائر التركمانية والآذرية في اذربيجان، وفي الأناضول، ومع تقادم الزمن كانت السلطة الروحية والمادية تزداد في يد أولاد وأحفاد الشيخ صفي الدين، لحين بروز الشاه إسماعيل الصفوي ليؤسس الدولة الصفوية ويدخل في حروب طاحنة مع جارتها الدولة العثمانية التي اعتبرت نفسها وريثة الخلافة وحامية الإسلام، والتاريخ يذكر لنا الطرق الملتوية وسياسة التنكيل الذي مارسه أولئك القواد العسكريين الترك داخل الحكم العباسي، الذي نتج عنه بالتالي أستلامهم مقاليد السلطة والحكم باسم الإسلام لبناء إمبراطورية واسعة الأرجاء لتتحول تدريجياً مع الزمن إلى حكم تركي مقيت يستند في حكمه إلى أبشع أساليب الاستبداد ومحصورة بالعنصر التركي، والذي فرخ لنا لاحقاً الدولة التركية الجديدة بعد سقوط وانهيار السلطنة العثمانية بعد الحرب الأولى، ومن سوء حظ العراق أن تكون جارة لهذين الدولتين العدوتين لبعضهما بحكم الاختلاف المذهبي، فإيران الصفوية ومن ثم القاجارية، وعلى الرغم من تنصيب محمد رضا خان ( شاه لاحقاً ) نفسه شاهاً لإيران بعد الحرب وتحديد شكل إيران كدولة حديثة لكنها بقيت ملتزمة بالمذهب الشيعي كمذهب رسمي للدولة، ولم ينحرف خلفه أبنه الشاه محمد رضا بهلوي عن النهج السائد في دولة إيران، وهناك مادة في الدستور الإيراني في عهد محمد رضا ينص على عدم إمكانية تطبيق حكم الإعدام لمرجع ديني شيعي يحمل درجة ـ آية الله ـ واستفاد الأمام الخميمني أيما استفادة من تلك المادة، حين كان يقبع في سجون الشاه وقد أصدرت المحكمة عليه حكماً بالإعدام، وهو لا يزال لم ينل تلك الدرجة العلمية الدينية، لكنه كان قد بعث سابقاً باطروحته للمناقشة، وحسب التقليد يجب أن تناقش المادة المقدمة من ما لا يقل عن أثنين من آيات الله للموافقة على المتقدم لبلوغ تلك الدرجة، فحين صدور حكم الإعدام على الخميني ، سارعت مدرسة قم للدراسات الإسلامية ووافقت على البحث المقدم من الأمام الخميني، وبذلك نجا من عقوبة الإعدام ونفي إلى خارج البلد بدلاً من تنفيذ الحكم، واختار الأخير العراق بلداً ليقضي بقية عمره فيه، لو لا ثورة الشعوب الإيرانية وانتصارها على أعتى حكم رجعي وعمالة في المنطقة وخلعه، ومن ناحية أخرى والتي تعتبر من مساوئ الصدف بالنسبة للعراقيين هو أن يتبوء آل سعود الحكم في مكة واليثرب والذي أعتبرها الملك فيصل الأول ملك العراق غير شرعية في بداية الأمر، وكان لا يتردد في البوح بأن تلك العائلة سطت على أملاك وأراضي عائلته الهاشمية التي تنحدر من نسل النبي محمد، وبما أن آل سعود تبنوا الوهابية وتسميتهم تلك البقعة من الجزيرة العربية بـ " المملكة العربية السعودية" كان تأثير هذه الدولة الجديدة على العراق وشعبه بالغاً من منطلق الحساسية الشديدة من قبل الوهابيين للمذهب الشيعي الجعفري، وجاء تنصيب الملك فيصل الأول ملكاً على العراق ليزيد الطين بلّة، فوقع العراق بين المثلث الشيعي الإيراني والسني الحنفي التركي " بغض النظر عن ما يطبل له الإعلام التركي، الدولة العلمانية وما شابه ذلك " والوهابي السعودي، وما ساهم في عدم إمكانية العراقيين في أيجاد التوازن بين هذه الدول القوية التي تتجاذبه هو التكوين العرقي والديني والمذهبي للشعب العراقي، فلكل من هذه الدول الثلاث مصالحها الاستراتيجية التي تحاول جاهدة تطبيقها للحفاظ على نفوذها وهيمنتها في المنطقة، وكان الشعب العراقي هو الضحية الكبرى بين تقاطع مصالح هذه الدول، فتركيا الكمالية لم تدخراً جهداً إلا وبذلته لدعم الدكتاتوريات في حكم العراق لعدم ممارسة أي نوع من أنواع الديمقراطية في العراق خوفاً من تمتع الشعب الكوردي بحقوقه أو وصول الأغلبية الشيعية إلى دست الحكم الذي تعتبره تركيا تقوية لجارتها إيران الشيعية، بغض النظر عن بعض الفترات التي كانت الدولتان حليفتين وذلك لمحاربة المد اليساري في المنطقة، وكذلك الحال بالنسبة للسعودية التي تتحرك في كل الاتجاهات وتستعمل نفوذها النفطي للحيلولة دون تمتع الشعب العراقي حتى بأبسط أنواع الديمقراطية، وهي تراهن دائماً على وجود شخصية عسكرية قوية من المربع السني تحمل أفكاراً طائفية لضمان عدم مشاركة شيعة العراق في رسم السياسات الخارجية للعراق، ولهذا أتسم حكم العراق بطابع مذهبي لصالح الأقلية السنية على الغالب دون أن تمثل تلك النخب التي حكمت العراق أبناء المذهب السني بشكل علني وصريح، ولا يقل دور إيران السلبي في العراق عن تلكم الدولتين فهي تحاول جاهدة أن تلعب دور الأخ الأكبر لشيعة العراق وجعلهم تحت وصايتها لا سيما بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، ونتيجة لسياسات هذه الدول الثلاث، ودور سوريا القومي وبدعم من مصر، دون الحساب لمكونات الشعب العراقي، ووسط هذا الخليط، وجد العراقيين أنفسهم في دوامة من الصراع والتناحر وعدم الاتفاق على نوع الحكم الذي بإمكانه الإبحار دون الرسو على شواطئ وموانئ هذه الدول.
وبعد أن كانت السياسة الطائفية في العراق تمارس بشكل هادئ في بداية تشكيل الدولة العراقية الحديثة، وبرزت لاحقاً بشكل قوي بعد الانقلاب الدموي في شباط 1963 ثم أخذت بٌعدها المتطرف بشكل غير مسبوق له في عهد حكم صدام حسين مستمداً قوته من الدعم اللامحدود من تركيا والسعودية والأردن ومصر وباقي دول الخليج ( المقال غير معني في مضمونه بدعم أمريكا والدول الأوربية لصدام فلهذا الجانب حديث آخر) دون أن تطفو إلى السطح أسماء دول إقليمية تمارس هذا النوع من السياسة بالضد من إرادة الشعب العراقي، لكن وبعد سقوط نظام صدام ومن وراءه سقوط العراق كدولة بحكم السياسات الصدامية التي ربطت مصير العراق كدولة بشخصه، بات واضحاً اليوم دور السياسات الإقليمية في التدخل السافر في الشؤون الداخلية للعراق ومنها فرض السياسة الطائفية والعنصرية، وهذا ما نلاحظه من خلال فضائيات تلك الدول التي تمارس دورها بشكل فج ومقرف مما حدا بالبعض من العراقيين المطالبة في الانسحاب من الجامعة العربية، ولا ألوم أحداً من حملة هذا الفكر والتوجه لأنه حقاً أن ما تقوم به تلك الفضائيات ومن ورائها الدول الممولة المعنية، يضعنا أمام السؤال المحير. ما العمل مع هكذا جار وأخ لا يريد لك الخير أبداً ؟
ولأن أعداء العراق ولشيعته يحاولون جاهدين وبدون كلل وملل لإعادة العراق إلى مجراه غير الطبيعي الذي صب على مدى العقود التي مضت في سدود غيرها، بالضد من مصالح العراقيين، وسوف لا يتوانى أحدهم بتقديم التنازلات على حساب أقدس المقدسات لديهم فقط لعدم تطبيق الديمقراطية في العراق الذي يعني حكم الشعب وهذا ما لا يريدونه ويرعبهم، وفي هذا درس بليغ لمن لم يدرك إلى حد هذه اللحظة ما تخبئه لنا دول الجوار وتعمل من أجله وفق حساباتها ومنافعها الذاتية على حساب استقرار بلدنا ومستقبل أجيالنا الذين لا نريد لهم العيش ثانية في ظل نظام تتناغم سياساته مع مصالح هذه البلدان والتي ستعيدنا إلى نقطة الصفر.
الحكمة التاريخية تقول لنا عندما تهب العواصف الهوجاء، تقتلع أكبر الأشجار وأقواها، والحكيم هو من ينحني قليلاً كالسنابل كي لا ينكسر ويقصم، لحين مرور تلك العواصف لينتصب من جديد واقفاً متحدياً ومستهزئاً، فالجماهير الشيعية في العراق نالت ما فيه الكفاية من الظلم والتهميش على مدى العقود الماضية ( أنا لست مع البعض ممن يقول بأن صدام وزع ظلمه على كافة فئات الشعب العراقي بالتساوي، فهذه الأقاويل غير صحيحة، والمقابر الجماعية خير دليل على صحة قولنا هذا ولأنه كانت هناك محافظات سميت بالبيضاء من قبل صدام، بعد انتفاضة آذار عام 1991 واللبيب بالإشارة يفهم ) وكما هو معروف لا توجد في السياسة عواطف وأحاسيس بل مصالح وحسابات وقرارات تتخذ حسب الإمكانيات المتوفرة، لعدم الخروج من اللعبة السياسة، فبخروج اللاعب من الساحة جرياً وراء عواطفه، ويعني هذا الخسارة الكلية، والمطلوب من الشيعة اليوم هو التكاتف والعمل ضمن برنامج موحد يهدف إلى تحقيق الديمقراطية في العراق وتثبيتها في الدستور القادم، لأنها الضمانة الوحيدة لعدم عودة الغربان ثانية إلى دست الحكم بدعم من الدول الإقليمية، ومن ثم لكل حادث حديث .