أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - الهوية بين الأصالة والدونية















المزيد.....

الهوية بين الأصالة والدونية


علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور، كاتب وأديب

(Ali Tabla)


الحوار المتمدن-العدد: 8568 - 2025 / 12 / 26 - 22:35
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


نقد هادئ لخطابات التفوق والاختيار


يولد الإنسان في عائلة لم يخترها، داخل مدينة لم ينتقها، وفي دين أو طائفة أو قومية أو طبقة اجتماعية لم يكن طرفًا في تحديدها. هذه “العناوين” ليست فطرة ولا جينات ولا قدرًا أبديًا، بل إطار اجتماعي وتاريخي يتشكّل فيه الوعي، كما يقول بيير بورديو حين يشير إلى أن ما يبدو طبيعيًا في سلوكنا وأفكارنا ليس إلا عادات ذهنية مجسدة كوّنتها ظروف حياتنا ونقلتها إلينا التربية حتى أصبحت بديهية من فرط تكرارها. هنا نقترب من مفهوم “الهوية المنسوبة” لا المختارة، أي تلك التي تُعطى للإنسان قبل أن يبدأ حتى في التفكير في معنى أن يكون له “أنا”.

غير أن المشكلة لا تكمن في الهوية ذاتها، بل في الطريقة التي تُدار بها داخل عالم غير عادل، عالم يُنتج الوصم والدونية مثلما يُنتج التعالي والتفوق. يذكّرنا إرفنغ غوفمان بأن الوصم الاجتماعي لا يظلّ في الخارج، بل يتسرّب إلى الداخل حتى يبدأ الإنسان في النظر إلى نفسه بعين الآخرين. أما فرانز فانون فيذهب إلى الأعمق حين يصف الإنسان الخاضع لهيمنة قاهرة، وكيف ينشطر وعيه بين ذاته الحقيقية وبين الذات التي يتوقعها منه الآخر الأقوى، فيبدأ بمحاكاته، بل أحيانًا في كره نفسه وانتمائه، لا لأنه حر، بل لأنه مُرهَق ومثقل بطبقات من العنف الرمزي الذي يفرض معايير “التحضّر” و“الرقي” و“الأفضلية”.

هكذا تُولَد الدونية المستبطنة: ليست مجرد شعور هشّ بالنقص، بل بناء كامل من المعاني ينظر فيه الإنسان إلى جذوره بوصفها عبئًا أو عارًا أو نقصًا ينبغي تجاوزه، فينكر لغته ولهجته وثقافته، أو يشتم قومه ودينه وبيئته، أو يتبنى تاريخًا مزيفًا لينجو من محكمة خيالية ستظل — في كل الأحوال — تطارده. في الجانب الآخر، ينشأ التعالي الزائف حين تُرفع جماعة بشرية فوق البشر جميعًا بوصفها “الأرقى” أو “الأطهر” أو “الأقرب إلى الحقيقة”، فتظهر شعارات التفوق القومي والديني مثل “خير أمة أُخرجت للناس” أو “شعب الله المختار” وغيرها من الصيغ التي تحوّل الانتماء الديني أو القومي إلى بطاقة امتياز أخلاقي على حساب بقية البشر.

ليس المقصود هنا الهجوم على نصوص دينية أو معتقدات إيمانية فردية، بل نقد الاستخدام الاجتماعي والسياسي لهذه الأفكار حين تتحول من معنى تعبّدي شخصي إلى قاعدة مفاضلة بين البشر. فكل خطاب يُعلّي جماعة على أخرى إنما يفتح بالضرورة الباب إلى الدونية في الجهة المقابلة، لأن الإنسان الذي يُقال له إنه “أقل” سيبحث إمّا عن ذوبان مهين في الجماعة الأقوى، أو عن كراهية عمياء ضدها، أو عن جلد ذاته بلا رحمة. وهكذا يصبح التعالي والدونية — في الواقع — توأمين لا ينفصلان.

ولهذا فإن بعض الخطابات الشعبوية التي تبني عداوات عرقية أو قومية — مثل الكراهية العمياء للإيرانيين أو الفرس أو أي جماعة بشرية أخرى — لا تعبّر فقط عن موقف سياسي، بل تكشف عن جروحٍ في الوعي، وعن حاجة نفسية لتعويض نقص داخلي عبر إنتاج “آخرٍ مُدان” نُحمّله كل الشرور. النقد السياسي مشروع، ونقد سياسات الأنظمة واجب، أما تحويل الشعوب إلى كتل أخلاقية صمّاء — خيرًا مطلقًا أو شرًا مطلقًا — فهو سقوط أخلاقي ومعرفي معًا.

إن الإنسان الذي يعلن عن هويته — مدينته، لغته، دينه، جذوره — لا يرتكب خطيئة بالضرورة، ما دام لا يتخذ من هذه الهوية منصة للتعالي ولا سوطًا لجلد الذات. الاعتراف بالجذور لا يعني عبادتها ولا الهروب منها؛ بل يعني مواجهة نفسك بصدق: هذا تاريخي، لكنني لست أسيره. هنا تتجلّى الأصالة بوصفها صدقًا مع الذات، لا تعصّبًا ولا انسلخًا. فالتحرّر لا يعني أن تكره جذورك، كما أن الاعتزاز لا يعني أن تحتقر غيرك.

وتشير دراسات الهوية الاجتماعية عند هنري تاجفل وجون تورنر إلى أن الإنسان يسعى دائمًا لبناء صورة إيجابية لجماعته. وإذا ارتبطت هذه الإيجابية بانتقاص الآخرين، سقطنا في فخ المقارنة المرضية التي تُنتج التفوق والدونية معًا. وهكذا يصبح العالم ساحة مغلقة: إما “نحن الأفضل”، وإما “نحن الأسوأ”، وتضيع المساحة الوسطى التي يمكن للإنسان أن يقول فيها ببساطة: نحن بشر — مثل غيرنا — لنا تاريخ، وفي تاريخنا ما يُفتخر به وما يُنتقد.

هذا كله يفرض سؤالًا أخلاقيًا صريحًا: هل نصمت عن هذه الظواهر خوفًا من الاتهام أو الهجوم؟
أم نواجهها بهدوء ومسؤولية؟
الصمت لا يحمي الوعي؛ إنه — في كثير من الأحيان — يتركه فريسة سهلة لخطابات التفوق والدونية معًا. أما المواجهة فلا تعني الشتيمة ولا التخوين، بل بناء خطاب نقدي صبور يميّز بين الإنسان — بما هو إنسان — وبين الخطابات التي تُسخّره وتختزله وتجعل من هويته قيدًا على حريته.

الأصالة التي ننحاز إليها ليست تعاليًا على الآخرين، وليست دونية أمامهم. إنها قدرة الإنسان على أن يرى جذوره بصفاء، وأن يختار وعيه بحرية، وأن يرفض تحويل الدين أو القومية أو الطبقة أو اللغة إلى مرجع أخلاقي يقيس به قيمة البشر. فلا “خير أمة” ولا “شعب مختار” يمنح أحدًا إنسانية إضافية، كما أن الانتماء إلى جماعة مضطهدة لا يمنح أحدًا قداسة مطلقة. البشر يُمتحنون في حاضرهم: في العدالة التي يقيمونها، وفي الحرية التي يدافعون عنها، وفي الكرامة التي يوزعونها على الآخرين قبل أنفسهم.

وفي النهاية — وهذا جوهر ما نريد قوله — يولد الإنسان داخل عناوين لم يخترها، لكن وعيه الحر يبدأ حين يعترف بها دون عبودية لها، ويواجه الدونية في نفسه وفي مجتمعه بلا خوف، ويرفض في الوقت ذاته كل خطاب يرفع البشر فوق البشر. لا الدونية قدر، ولا التعالي فضيلة. الوعي الذي لا يواجه الدونية… يبقى نصف حر.

•••
مراجع
Bourdieu, Pierre. Distinction: A Social Critique of the Judgement of Taste. Harvard University Press, 1984.
Bourdieu, Pierre. Language and Symbolic Power. Polity Press, 1991.
Fanon, Frantz. Black Skin, White Masks. Grove Press, 1952.
Goffman, Erving. Stigma: Notes on the Management of Spoiled Identity. Prentice-Hall, 1963.
Tajfel, Henri & Turner, John. An Integrative Theory of Intergroup Conflict. In The Social Psychology of Intergroup Relations, 1979.
Said, Edward. Culture and Imperialism. Vintage, 1993.
Bauman, Zygmunt. Identity. Polity, 2004.
Taylor, Charles. The Politics of Recognition. Princeton University Press, 1994.



#علي_طبله (هاشتاغ)       Ali_Tabla#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانتخابات العراقية وإعادة إنتاج السلطة والأزمة الداخلية للح ...
- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ...
- إعادة قراءة تشكيكية نقدية تجديدية للوثائق التأسيسية الثلاث ف ...
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ...
- الوثيقة الثالثة: تشخيصُ السيادة والدين والطبقة في عراق ما بع ...
- الوثيقة الثانية: تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
- تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
- ماذا يريد الشيوعيون؟
- الوثيقة المركزية لإعادة التأسيس الشيوعي في العراق - يا شيوعي ...
- لماذا خسر الحزب؟ وما الذي يجب فعله الآن؟
- العودة إلى الطبقة: في إعادة تأسيس الحركة الشيوعية العراقية د ...
- أوقفوا الإبادة فورًا: الشعب الفلسطيني يقرر
- الاعتراف الغربي بدولة فلسطين و”مشروع ترامب للسلام”: تحليل ما ...
- التراث في الفكر العربي الحديث: قراءة ماركسية نقدية
- من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي
- قراءة ماركسية تجديدية في صناعة الكراهية وتغييب الوطنية
- الطبقة العاملة العراقية – تحديات الوجود وأفق التغيير
- هيمنة الرأسمالية المالية في العراق
- الانتخابات والتحالفات في العراق – من الاحتلال إلى اللا-دولة
- التحولات الطبقية في العراق المعاصر: قراءة ماركسية نقدية في ض ...


المزيد.....




- الصومال ردا على اعتراف إسرائيل بـ-صومالي لاند-: -لن نقبل أبد ...
- إصابة ثلاث نساء بجروح في عمليات طعن في مترو باريس وتوقيف مشت ...
- فنزويلا تُفرج عن 99 محتجزًا شاركوا في احتجاجات ضد إعادة انتخ ...
- إسرائيل تعترف بأرض الصومال.. وعاصفة رفض عربية تهدد التوازن ف ...
- كأس الأمم الأفريقية: التعادل السلبي يحسم مباراة زامبيا وجزر ...
- تركيا تعلن نجاح أول اختبار لطقم توجيه مجنح محلي الصنع
- إنقاذ نحو 400 مهاجر قبالة سواحل جزيرة يونانية
- 2025 في غزة.. شهداء ومجاعة ونزوح وانتظار الانفراجة
- عائلة أميركية تقاضي شركتي طيران بعد إصابتها ببقّ الفراش على ...
- محاولة تسميم بقرة في المغرب.. محاكمة مواطن بالسجن لمدة سنة م ...


المزيد.....

- الانتخابات العراقية وإعادة إنتاج السلطة والأزمة الداخلية للح ... / علي طبله
- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - الهوية بين الأصالة والدونية