من المؤسف بل والمؤسي والمحزن أن يتوج الحزب الشيوعي العراقي العظيم نضاله المجيد وتاريخه المشرف وتضحياته التي عزّ مثيلها أيام الحكم المنهار (فقد كان أكثر أحزاب العراق تضحية وبذلاً)، بأن يكون موظفاً لدى الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر وبقرار من هذا الأخير، والأنكى وربما الأسوأ أن تحسب عضويته في مجلس الحكم ضمن (الكوتا) الطائفية على حساب الحصة الشيعية ولو كان أمينه العام سنياً لحسب على (الكوتا) الطائفية السنية، أي أنه فضلاً عن كونه معيناً بقرار من بريمر جزء من تركيبة طائفية ملفقة لا تليق به ولا بنضاله وتضحياته ولا بعشرات السنين التي كان فيها لاعباً رئيسياً في تقرير مصير العراق.
إنه لمن المؤسف والمؤسي والمحزن أن يكون الحزب الشيوعي العراقي بين أولئك الذين قرروا إلغاء الأيام والأعياد الوطنية العراقية، بما فيها يوم ثورة 14 تموز العظيمة، والاكتفاء بعيد واحد يختزل تاريخ العراق هو يوم سقوط بغداد أمام جحافل الغزو الأميركي، واعتباره يوماً وطنياً وعيداً وحيداً (ومجيداً) للعراقيين.
من الممكن فهم مواقف الأطراف المتعددة المعينة ضمن مجلس الحكم (وأعني فهم مواقفهم من دون قبولها) لأن معظمهم يبحثون عن الجبنة التي يفترضونها بيد المحتل الأميركي، ويأملون أن يحصلوا على قطعة منها وقد يتسنى لهم ذلك، أما موقف الحزب الشيوعي العراقي العظيم فيتعذر ليس قبوله فقط بل فهمه لأنه بالتأكيد لا يبحث عن الجبن، ويتساءل المرء هل أصيب هذا الحزب بالعمى، وهل يتجرأ على بيع تاريخه بوظيفة لدى بريمر، أم هل يعتقد أنه يستطيع أن (يؤثر) على موقف الأربعة والعشرين عضواً الآخرين في مجلس الحكم، ويلزمهم نسيان مطامحهم ومطامعهم وانتهازيتهم وعمالة بعضهم، ويجرهم إلى الموقف الوطني الخالص الذي ينقذ العراق مما هو فيه؟. إذا كان الحزب يعتقد ذلك فلا شك أنه يجهل أو يتجاهل الماركسية والتحليل الماركسي للتاريخ والأحداث ويجهل ويتجاهل عشرات السنين من الخبرة والنضال والمشاركة في الحياة العامة، وقيادة الجماهير، والنجاحات والإخفاقات التي حققها منذ استقلال العراق، والمجد الذي بناه، والثقة التي انتزعها من الشعب، والمصداقية التي حصل عليها، وكم هو مؤسف أن يسقط مثل هذه السقطة التي لا تليق به وبتاريخه ولا حتى بتاريخ حزب صغير ثانوي تأسس في العقد الأخير من هذه الأحزاب التي ظهرت كالفطر منذ سنوات أو أشهر أو منذ احتل الأميركيون العراق.
من الممكن أن نتفهم (سواء قبلنا أم لم نقبل) موقف الأحزاب الشيوعية من قرار تقسيم فلسطين، ونجد له المبرر في موقف الاتحاد السوفياتي (دولة الحزب الشقيق الأكبر) وفي افتراض قيام دولة ديموقراطية (وشبه اشتراكية) على قسم من فلسطين، يمكنها أن تحرّض على تخليص المنطقة أو تساعد على خلاصها من أنظمة رجعية سوداء عميلة للغرب، ومن الممكن أن نتفهم (سواء قبلنا أم لم نقبل) موقف الحزب الشيوعي السوري من الوحدة المصرية السورية، باعتباره طالب بوحدة مدروسة ديموقراطية تبيح التعددية ولا تقع في شباك العسف والديكتاتورية، وكذلك من الممكن أن نتفهم (سواء قبلنا أم لم نقبل) موقف الحزب الشيوعي الجزائري من قمع القوى الإسلامية التي أوشكت على استلام السلطة بطريق صناديق الانتخاب، ونغض الطرف عن دعم هذا الحزب للعسكر والقمع الذي دمر الجزائر في نهاية المطاف، لكنه من المتعذر على أي صديق أو متعاطف مع الحزب الشيوعي العراقي أن يتفهم موقفه الأخير (فكيف بتقبله أو قبوله) بوضعه نفسه جزءاً من شرعية الاحتلال الأميركي المفقودة، وذيلاً لقوى طائفية وانتهازية وبعضها عميلة، ومن غير الواضح لكل ذي عقل ومنطق أي سبب أدى لغوص الحزب في هذا الوحل الذي لا يليق به، وهذه السياسة التي تلطخ تاريخه الأبيض الناصع البياض، والذي يحق لكل شيوعي عراقي أو غير عراقي أن يفتخر بهذا التاريخ.
لم نستغرب مواقف جلال الطالباني اللعوب الذي ما زال يسعى الى توظيف الشعب الكردي كله في خدمة الأميركيين (ولا ندري لماذا)، ويعمل في النهاية ضد مصلحة هذا الشعب وأشقائه العراقيين الآخرين من مختلف القوميات، كما ليس من المستغرب أن يخطئ نصير الجادرجي ويتناسى (أو ينسى) تاريخ والده كامل الجادرجي الذي يفتخر به العراقيون ويقبل أن يكون موظفاً لا معنى له لدى الأميركيين، وأن يتناسى السيد عدنان الباجه جي (أو ينسى) تاريخه الشخصي (الليبرالي القومي) ويوظف ثمانين حولاً من عمره لدى المستعمرين الغزاة (أطال الله في عمره)، لكن من المستغرب حقاً أن يوظف المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي تاريخ الحزب وتراثه وأمجاده وضحاياه والدماء الزكية التي بذلها أعضاؤه ومناصروه مقابل لا شيء، أو لا شيء تقريباً، ولا أظن أن الحزب يستطيع تقديم أي مبرر أو التمسك بزعم أو حجة تقال، فليس أمامه إلا المزاعم التي لا تقنع أحداً (ورحم الله الرفيق سلام).
لقد كان موقفاً (تراجيدياً كوميدياً) عندما أصدر مجلس الحكم (والحزب الشيوعي العراقي عضو فيه) قراراً بإلغاء عيد (14 تموز) كعيد وطني، وعندما خرج الحزب نفسه وفي الوقت نفسه بتظاهرات في شوارع بغداد ليحتفل بذكرى (14 تموز) عيداً وطنياً عظيماً، ومفصلاً مهماً من تاريخ العراق (وعاش الزعيم عبد الكريم، الحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيم!!) لكنه هذه المرة تابع لبريمر ومع حسن النية تابع للشيخ بحر العلوم أو لجلال الطالباني (ويحي عليك وويحي منك يا رجل).
بقي القول، ما هي مواقف الماركسيين أفراداً وأحزاباً شيوعية في البلدان العربية؟ ألا يتوجب عليهم أن يقولوا كلمة ناقدة لمواقف الحزب الشقيق، وحسب التعابير الدينية أن يتبرأوا من هذه الهرطقة؟ أم أنهم يعتقدون أيضاً مع مجلس الحكم أن العدالة الإلهية هي التي أوجبت مشاركة الحزب كما أوجبت قتل أبناء صدام بالسيوف الأميركية؟
على أية حال نتمنى أن تكون هذه الزلّة مجرد ردة فعل غير متأنية نتيجة مأساة الحزب أيام النظام السابق والأذى العميق الذي سببه له وإغراء الديموقراطية الذي يتوق إليه كل منا، ولكننا كنا وما زلنا نتمنى أن يبقى الحزب على صلة بالجماهير متمسكاً بالنضال من أجل التحرير والنضال من أجل الديموقراطية، مصراً على إجراء انتخابات عامة يتولى الشعب العراقي من خلالها تقرير مصيره بعيداً عن إملاءات المحتل، ولعلها آخر الزلات.
() كاتب سوري.
السفير