أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نوري حمدان - الدولة أولاً.. والسلاح أخيراً















المزيد.....

الدولة أولاً.. والسلاح أخيراً


نوري حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 00:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لم يكن الجدل الدائر في العراق حول مسألة "حصر السلاح بيد الدولة" نقاشاً عابراً أو وليد لحظة سياسية طارئة، بل هو امتداد لسؤال عميق ظل مؤجلاً لسنوات طويلة: أي دولة يريد العراقيون؟ وأي نظام سياسي يمكن أن يستقر في ظل تعدد مراكز القوة، واختلاط السلاح بالسياسة، وتحوّل الفصائل المسلحة إلى فاعل دائم في القرار العام؟
من هذه الزاوية، يمكن قراءة المواقف الأخيرة التي صدرت عن قادة فصائل مسلحة وقوى سياسية نافذة بوصفها تعبيراً عن إدراك متأخر لحجم المأزق الذي وصل إليه النظام السياسي، أكثر من كونها مجرد استجابة ظرفية لضغوط خارجية. فالدعوة إلى حصر السلاح بيد الدولة، حين تصدر من داخل المنظومة الحاكمة نفسها، تعكس اعترافاً ضمنياً بأن استمرار ازدواج القوة لم يعد قابلاً للاستدامة، وأن كلفة بقائه باتت أعلى من كلفة تفكيكه.
في الداخل العراقي، حرصت أصوات سياسية وأمنية وقضائية على التأكيد أن هذا المسار هو "قرار عراقي بحت"، نابع من الحاجة إلى استعادة هيبة الدولة، وفرض سيادة القانون، وإنهاء مرحلة عسكرة المجتمع. وقد جرى تقديم مبادرة رئيس مجلس القضاء الأعلى بوصفها لحظة تلاقي نادرة بين السلطة القضائية والقوى السياسية المسلحة، على قاعدة أن السلاح لم يعد ضرورة وطنية، وأن الانتقال إلى العمل السياسي هو المسار الطبيعي في مرحلة ما بعد الحروب.
هذا الخطاب المحلي اكتسب زخماً لأنه جاء في توقيت حساس، حيث بات واضحاً أن استمرار وجود جماعات مسلحة خارج الضبط المؤسسي الصارم يهدد ليس فقط الاستقرار الأمني، بل بنية الدولة نفسها. فالدولة، لكي تكون دولة، لا يمكن أن تقبل بوجود قوة موازية تنافسها في قرار الحرب والسلم، أو تفرض معادلاتها الخاصة على الداخل السياسي والاجتماعي.
غير أن النقاش المحلي لم يكن موحداً أو خالياً من الشكوك. فإلى جانب الترحيب المبدئي بالدعوة إلى حصر السلاح، برزت مخاوف جدية من أن يتحول هذا الشعار إلى غطاء لإعادة تدوير الأزمة، لا لحلها. فالتجربة العراقية، منذ 2003، مليئة بالشعارات الكبيرة التي لم تُترجم إلى سياسات عامة، وبالتفاهمات السياسية التي انتهت إلى تسويات هشة حافظت على جوهر المشكلة بدل معالجتها.
من هنا، بدأ السؤال يتخذ صيغة أكثر دقة: هل المقصود بحصر السلاح تفكيك البنى المسلحة فعلاً، أم مجرد نقل السلاح من الفصائل إلى كيانات تحمل صفة رسمية لكنها تخضع عملياً لنفوذ القوى نفسها؟ وهل يعني الانتقال إلى العمل السياسي تخلياً حقيقياً عن منطق القوة، أم إضافة أداة جديدة إلى أدوات النفوذ القائمة؟
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل أن بعض الفصائل أبدت استعداداً خطابياً للتخلي عن السلاح، فيما رفضت فصائل أخرى ذلك صراحة، أو ربطته بشروط تتجاوز القرار العراقي الداخلي. هذا التباين كشف أن المشكلة ليست في الإعلان عن المبدأ، بل في القدرة على فرضه، وفي استعداد النظام السياسي لتحمل كلفة تطبيقه.
ومع اتساع النقاش الداخلي، بدأت المواقف الإقليمية والدولية تتسلل إلى المشهد، ليس بوصفها سبباً مباشراً للنقاش، بل كعامل ضغط إضافي يذكّر العراقيين بأن مسألة السلاح لم تعد شأناً داخلياً صرفاً. فالمنطقة بأكملها تمر بمرحلة إعادة ترتيب، والعراق، بحكم موقعه ودوره، يقع في قلب هذا التحول.
إقليمياً، تنظر دول عدة إلى ملف السلاح في العراق باعتباره مؤشراً على مستقبل التوازنات في المنطقة. فوجود جماعات مسلحة ذات ارتباطات عابرة للحدود يُنظر إليه بوصفه تهديداً للاستقرار الإقليمي، ومصدراً دائماً للتوتر. ومن هنا، فإن أي خطوة باتجاه حصر السلاح بيد الدولة تُقابل بترحيب حذر، مشروط بوضوح الإجراءات وصدقية التنفيذ.
هذا الترحيب لا ينطلق من حرص على الديمقراطية العراقية بقدر ما ينطلق من حسابات أمنية صرفة. فدول الإقليم تريد عراقاً مستقراً، لا يستخدم أراضيه كساحة لتصفية الصراعات، ولا تُدار قراراته الأمنية من خارج مؤسساته الرسمية. وفي الوقت نفسه، لا تثق هذه الدول بالخطابات ما لم تُرفق بخطوات ملموسة، لأنها تدرك أن السلاح الخفيف، حتى في غياب السلاح الثقيل، كافٍ لإبقاء المجتمع تحت الضغط.
أما الموقف الأميركي، فيأتي أكثر وضوحاً وحدّة. فالولايات المتحدة، التي تراقب المشهد العراقي عن كثب، لا تخفي نفاد صبرها من حالة الالتباس المزمنة بين الدولة والفصائل. ومن منظورها، فإن أي حكومة عراقية مقبلة ستكون موضع اختبار حقيقي: إما أن تكون حكومة دولة، أو حكومة تسويات مؤقتة.
الخطاب الأميركي لا يركز فقط على نزع السلاح، بل على طبيعة الدولة التي ستدير هذا الملف. فواشنطن لا تعنيها الشعارات، ولا تعترف بحلول شكلية تقوم على تغيير الأسماء أو العناوين. وهي ترى أن نقل السلاح من الفصائل إلى كيانات تسيطر عليها القوى نفسها لا يغيّر شيئاً في المعادلة، بل يعيد إنتاجها بصيغة أكثر تعقيداً.
ومن هنا، فإن الربط الأميركي بين ملف السلاح وملفات أخرى، كالعلاقات الاقتصادية والدعم الدولي والاستقرار السياسي، يعكس قناعة راسخة بأن العراق لا يمكن أن يستعيد موقعه الطبيعي ما لم يحسم مسألة احتكار الدولة للقوة. وهذا الموقف، على صرامته، يتقاطع مع هواجس عراقية داخلية، حتى وإن اختلفت دوافع الطرفين.
لكن المفارقة أن هذا الضغط الخارجي، بدل أن يضعف النقاش المحلي، أعاد تسليط الضوء على جوهر المشكلة: هل يريد العراقيون دولة حقيقية، أم نظاماً سياسياً يتعايش مع ازدواج القوة إلى ما لا نهاية؟
العودة إلى الداخل. الدولة، إذا لم تكن صاحبة القرار الوحيد في الحرب والسلم، تتحول إلى وسيط بين قوى متنافسة، لا إلى سلطة سيادية. وإذا لم تحتكر السلاح، فإن القانون يصبح خياراً، لا قاعدة، وتغدو السياسة امتداداً للقوة، لا بديلاً عنها.
إن بناء الدولة لا يبدأ بإصدار البيانات، ولا بتبادل الشكر بين المؤسسات، بل يبدأ بتفكيك البنى التي تنافسها على وظيفتها الأساسية: حماية المجتمع وإدارة العنف المشروع. فالدولة وحدها، في أي نظام حديث، هي التي تقرر متى تحارب ومتى تسالم، وهي وحدها التي تمتلك الحق في استخدام القوة، وهي وحدها التي تحاسب من يخرج عن هذا الإطار.
ما يواجهه العراق اليوم هو لحظة مفصلية. فإما أن تُستثمر هذه الدعوات لإحداث تحول حقيقي، يُعيد الاعتبار للدستور، ويضع حداً لتداخل السلاح مع السياسة، أو تتحول إلى محطة جديدة في مسلسل التأجيل. وفي الحالة الثانية، لن تكون الكلفة سياسية فقط، بل اجتماعية واقتصادية وأمنية.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يُختزل مفهوم الدولة في إدارة التوازنات بين الفصائل، لا في فرض القانون. فالدولة التي تساوم على احتكار القوة، تفرّط بأساس وجودها. والدولة التي لا تمتلك قرار الحرب والسلام، لا تستطيع حماية مواطنيها، ولا بناء مستقبل مستقر.
لهذا، فإن النقاش حول حصر السلاح ليس نقاشاً تقنياً أو إجرائياً، بل هو نقاش وجودي يتعلق بهوية النظام السياسي نفسه. وهو نقاش يجب أن يُحسم عراقياً، بإرادة عراقية، لكن بوضوح لا يقبل الالتباس: لا دولة مع سلاح خارجها، ولا سياسة مع قوة موازية، ولا استقرار من دون احتكار كامل للعنف المشروع.
في نهاية المطاف، لن يُقاس نجاح هذه المرحلة بما يُقال، بل بما يُفعل. فإما أن تكون الدولة أولاً، ويكون السلاح أخيراً، أو يبقى العراق يدور في الحلقة ذاتها، مهما تغيّرت العناوين وتبدلت الخطابات.



#نوري_حمدان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعد نكسة 2025: هل يمتلك التيار الديمقراطي العراقي شجاعة المب ...
- العراق بعد إسدال ستار التفويضات
- هل يحتاج العراق إلى مزيد من الأحزاب؟
- صراع المناصب يضع العراق أمام معادلة حاسمة
- بعثة الأمم المتحدة في العراق.. ماذا أنجزت فعليًا؟
- العلاقات الأميركية - العراقية بين اختبار السيادة وحدود الشرا ...
- اقتصادٌ مُنهك يبحث عن إدارة رشيدة: قراءة في أزمات العراق الم ...
- بين تعقيدات الداخل وضغوط الخارج.. الحكومة المقبلة على مفترق ...
- نون العراق.. حين يفتح المعرض بوابة الضوء
- المخدرات في العراق.. حين يتحوّل الخطر الصامت إلى تهديد وطني ...
- البلاد التي يعلو فيها صوت الخوف
- ماذا يراد من الكاظمي؟..
- رونگ سايد: خروج القوات الاجنبية
- رونگ سايد: گەندەڵ في ديوان العشيرة
- رونگ سايد: گەندەڵ بغداد
- رونكَ سايد: الناطق باسم المتظاهرين
- رونكَ سايد: استقالة عبدالمهدي
- رونكَ سايد: زيدان.. واستقلال القضاء
- رونكَ سايد.. برهم هل هو صالح
- رونكَ سايد: -مؤامرة-.. الفياض


المزيد.....




- -أكره ظهورها-.. شاهد أول تعليق من ترامب على أحدث الصور المنش ...
- بالتعاون مع السعودية.. شرطة سلطنة عُمان تُحبط تهريب مخدرات ل ...
- الولايات المتحدة تطارد ناقلة نفط تقترب من فنزويلا
- العثور على 12 جثة في 3 أيام قرب مدينة غواتيمالا
- هزيمة ساحقة للاشتراكيين في الانتخابات الإقليمية الإسبانية
- مصرع سائحة إيطالية في تصادم مركبين سياحيين بجنوب مصر
- اليابان تستعد لإعادة تشغيل أكبر محطة نووية في العالم
- إدارة ترمب تنفي محاولة التستر على قضية إبستين
- أحكام -قياسية- بالسجن على المئات من أعضاء عصابة في السلفادور ...
- تركيا: لا يبدو أن -قسد- لديها نية للاندماج مع دمشق


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نوري حمدان - الدولة أولاً.. والسلاح أخيراً