أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - قراءة نقدية في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي (2025–2030): نهاية توظيف الإسلام السياسي وتحولات الاستقرار المُدار















المزيد.....


قراءة نقدية في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي (2025–2030): نهاية توظيف الإسلام السياسي وتحولات الاستقرار المُدار


عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)


الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 11:48
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في نوفمبر 2025 واحدة من أهم الوثائق المرجعية التي ستحدد ملامح البيئة الدولية والإقليمية حتى نهاية العقد الحالي. فهي ليست مجرد تحديث تقني لسياسات سابقة، بل وثيقة انتقالية تعكس تحولات عميقة في رؤية الولايات المتحدة للعالم، في سياق عودة دونالد ترامب إلى السلطة، وتصاعد التنافس البنيوي مع الصين، واستمرار الحرب في أوكرانيا، واتساع بؤر الاضطراب في الشرق الأوسط وبحر الصين الجنوبي. لذلك، فإن قراءة هذه الوثيقة بعمق تظل ضرورية لفهم المسارات العمومية المقبلة، خاصة في المنطقة العربية.

تقوم الاستراتيجية الأمريكية الجديدة على ثلاثة محددات كبرى تشكل الإطار الناظم لها. أولها السعي إلى استعادة الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، بعد سنوات من التراجع النسبي وفقدان القدرة على فرض الإملاءات. ثانيها تقييد صعود الصين ومحاصرتها اقتصاديًا وتكنولوجيًا، باعتبارها التهديد الاستراتيجي الأول للقيادة الأمريكية. أما المحدد الثالث فيتمثل في إعادة هندسة الشرق الأوسط سياسيًا وأمنيًا بما يضمن التفوق الإسرائيلي واستمرار النفوذ الأمريكي بأقل كلفة ممكنة.

في هذا السياق، تؤكد الوثيقة أن الولايات المتحدة تواجه «أكثر بيئة أمنية اضطرابًا منذ الحرب العالمية الثانية»، وأن القيادة الأمريكية لم تعد خيارًا بل ضرورة وجودية. وانطلاقًا من ذلك، ترتكز الاستراتيجية على خمسة أعمدة رئيسية: التفوق العسكري والتكنولوجي، كبح الصين، منع روسيا من استعادة عمقها الإمبراطوري، إعادة هيكلة الشرق الأوسط، وحماية الداخل الأمريكي.

فعلى المستوى العسكري والتكنولوجي، تسعى واشنطن إلى إعادة بناء جيشها بعد عقدين من الحروب المكلفة، مع توطين الصناعة العسكرية داخل الولايات المتحدة، وتطوير الذكاء الاصطناعي كسلاح حاسم في حروب المستقبل، وتعزيز الردع النووي في مواجهة الصين وروسيا. وفي ما يتعلق بالصين، تنظر الوثيقة إليها باعتبارها المنافس الاستراتيجي الأول، وتدعو إلى منعها من السيطرة على التكنولوجيا المتقدمة، وتفكيك سلاسل توريدها العالمية، ودعم تحالفات آسيوية مضادة، وتعزيز الوجود البحري الأمريكي في المحيطين الهندي والهادئ.

أما روسيا، فتتعامل معها الاستراتيجية بوصفها قوة معرقِلة أكثر منها منافسًا مكافئًا، مع التركيز على دعم أوكرانيا دون انخراط مباشر، والتضييق على مصادر التمويل الروسي، ومنع موسكو من التمدد بقوة في الشرق الأوسط وأفريقيا. وفي ما يخص حماية الداخل الأمريكي، تعطي الوثيقة أولوية لمواجهة الهجرة غير النظامية، وتشديد الرقابة على الفضاء الرقمي، ومحاربة ما تسميه «التطرف الداخلي والخارجي»، مع تركيز خاص على الإسلام السياسي.

الشرق الأوسط، في هذه الاستراتيجية، لا يُقدَّم كأولوية مركزية، بل كمنطقة تحتاج إلى «إدارة دقيقة» تمنع الانفجارات الكبرى دون السعي إلى حلول جذرية. ومع ذلك، تحدد الوثيقة توجهات حاسمة، في مقدمتها ضمان التفوق الإسرائيلي بوصفه شرطًا أساسيًا لاستقرار المنطقة. إذ تنص صراحة على أن أمن إسرائيل جزء لا يتجزأ من الأمن القومي الأمريكي، وتؤكد على تفوقها العسكري النوعي دون قيود، ودمجها في مشاريع دفاعية مع دول عربية، وحمايتها من التهديدات الإقليمية وغير الحكومية، ودعم تحركاتها ضد إيران ووكلائها.

وفي ما يتعلق بإيران، تعتمد الاستراتيجية مقاربة الاحتواء لا الإسقاط. فهي لا تتحدث عن تغيير النظام، بل عن منع امتلاك السلاح النووي، وردع التمدد الإقليمي، والسيطرة على الميليشيات المرتبطة بها عبر ترتيبات إقليمية. وبعبارة دالة، ترى الوثيقة أن إيران «لا يجب أن تنتصر، ولا يجب أن تنهار».

أما دول الخليج، فيُعاد تعريف دورها باعتبارها شريكًا اقتصاديًا أكثر منها حليفًا أمنيًا كاملًا. فالمطلوب منها تأمين استقرار أسواق الطاقة، ومنع الصين من الهيمنة على الاستثمارات، والدخول في ترتيبات دفاعية مرنة، دون انجرار إلى نزاعات داخلية. واللافت أن الوثيقة توحي بتراجع الالتزام الأمريكي التقليدي بحماية الخليج مقارنة بما كان عليه قبل عقدين.

في بؤر الصراع المفتوحة، مثل ليبيا واليمن وسوريا، تتبنى الاستراتيجية منطق إدارة الصراعات لا حلها، معتبرة أن لا حلول عسكرية ولا حاجة لحلول سياسية شاملة في المدى القريب. ويعني ذلك الإبقاء على نزاعات منخفضة الكلفة، ومنع أي قوة إقليمية أو دولية، مثل روسيا أو تركيا أو إيران، من تحقيق هيمنة كاملة، مع دعم نظم محلية قادرة على حفظ حد أدنى من الاستقرار.

أما ملف غزة، وبعد حرب 2025، فتتحدث الوثيقة بوضوح عن ترتيبات ما بعد الحرب، وإعادة هيكلة الحكم المحلي، ومنع عودة حركة حماس كسلطة إدارية أو عسكرية، مع شراكة مباشرة مع مصر والأردن والسعودية، والتأكيد على إعادة إعمار غزة دون تمكين فصائل المقاومة.

في هذا السياق، يظهر الإسلام السياسي في الوثيقة بوصفه «العدو التالي». إذ تعتبر الاستراتيجية أن الحركات الإسلامية العابرة للحدود، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، تشكل تهديدًا مركبًا للأمن القومي الأمريكي ولحلفائه، خاصة تلك التي تتخذ من الديمقراطية واجهة للعمل المعادي للمصالح الأمريكية. هذه الصياغة تمنح الإدارة الأمريكية هامشًا واسعًا للتحرك، بما في ذلك قرارات تصنيف وتجفيف مالي دون الحاجة إلى العودة للكونغرس.

وتولي الوثيقة اهتمامًا خاصًا بشمال أفريقيا، في إطار التنافس مع الصين وروسيا. فمصر تُعد دولة محورية في استقرار المنطقة وحدود غزة، مع ضرورة الحفاظ على استقرار النظام دون السماح له ببناء تحالفات استراتيجية مع بكين أو موسكو. وتُستخدم ملفات الحريات كأداة ضغط، لا كسبب للقطيعة، مع الاعتماد على القاهرة كوسيط لا غنى عنه في غزة. أما ليبيا، فتُختزل في كونها ساحة تنافس مع موسكو، مع منع إقامة قواعد روسية، ودعم مسار سياسي طويل وغير حاسم. وبخصوص تونس، تركز الاستراتيجية على منع الانهيار الاقتصادي الذي قد يفتح الباب أمام النفوذ الصيني، عبر دعم محدود ومشروط.

على مستوى فلسفة التعامل مع الأنظمة في الشرق الأوسط، تبتعد الوثيقة عن خطاب “تغيير الأنظمة” أو الضغط من أجل ديمقراطية مفروضة من الخارج. تُقِرّ بأن دول المنطقة تُظهر، في تقدير واضعي الإستراتيجية، “التزامًا أكبر بمكافحة التطرّف”، وتدعو إلى تشجيع الإصلاح حين ينشأ من الداخل، لا فرضه بآليات ضغط وعقاب. جوهر العلاقة الناجحة، كما تصفه الوثيقة، يكمن في التعامل مع الدول وقادتها “كما هم”، والعمل معهم على أساس المصالح المشتركة في الاستثمار، والنمو، والذكاء الاصطناعي، والتعاون الدفاعي. هذه الصيغة تُحوِّل ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى متغير تابع، يُستدعى عندما يخدم حسابات أخرى، ويُهمَّش حين يتعارض معها.

اللافت في هذه الاستراتيجية هو إدراج الإسلام السياسي كتهديد ونقلُه من خانة "الأداة القابلة للاحتواء" إلى خانة العبء الأمني"

طيلة عقود، تعاملت واشنطن مع الإسلام السياسي وفق معادلة براغماتية، كأن يُستخدم ضد القومية العربية واليسار مثلا. أو يُستثمر في تفكيك المجتمعات لا في بنائها. أن يُسمح له بالوصول المشروط للسلطة إذا ضمن المصالح الغربية (تركيا، تونس، مصر 2012) كنماذج.

ما تغيّر الآن أن هذه الجماعات جُرّبت في الحكم وفشلت في إدارة الدولة. لم تنتج الاستقرار بل أنتجت فوضى، وانقساما مجتمعيا، وانهيار مؤسسات الدولة... وكل هذه الامور أفرزت بيئات حاضنة للعنف، حتى عندما ادّعت "الاعتدال".

الوثيقة لا تقول بوضوح إن كل إسلام سياسي إرهابي، لكنها تقول عمليًا بأن الفصل بين "الإسلام السياسي المدني" و"الجماعات العنيفة" لم يعد ذا جدوى أمنية. كما أن فشل الحكم كشف البنية الحقيقية للإسلام السياسي من خلال التجربة في مصر، تونس، السودان، وأفغانستان (ولو بصيغ مختلفة) أظهرت عدة حقائق بنيوية، وهي أن الإسلام السياسي لا يمتلك نظرية دولة. لديه خطاب تعبوي، ولا يملك برنامج حكم. يُتقن المعارضة ولا يفهم إدارة المؤسسات. يتعامل مع الدولة كغنيمة لا ككيان عام. وخرافة الفصل بين الدعوي والسياسي التي وعد بها تبيّن أنها كذبة وظيفية، لأنه عندما حكم لم يستطع الفصل بين التنظيم والدولة. واستخدم الديمقراطية كآلية وصول للسلطة وليس كنظام قيم ونظام حكم وتداول. كما أعاد إنتاج منطق "الطاعة" والشرعية الإلهية" ليُكفّر خصومه في مرحلة أولى تهيئة للغدر بهم وتصفيتهم من وراء الستار. وبهذا المعنى فالعلاقة بالعنف في فلسفة هذا التيار عضوية وأصلية وليست لا عرضية ولا وظيفية ولا ظرفية. لذلك تورّط حتى أكثرهم اعتدالا في التغطية الاخلاقية للعنف، ووفّروا له حاضنة اجتماعية. ومارسوا الابتزاز تحت شعار ضمني: "إما نحن أو الفوضى".

بناءًا على هذه الحقائق، تقرأ الوثيقة الأمريكية فشل الحركات الإسلامية ومنها حركة النهضة كمُعطى أمني، وليس كخطأ سياسي قابل للإصلاح.
والسؤال الذي يجب طرحه هو:
ولماذا الآن؟
حسمت هذه الوثيقة قرارها الآن لأن الاستراتيجية الأمريكية 2025–2030 لم تعد تتحمل اللاعبين الرماديين. فواشنطن تواجه الصين (كخصم منظّم)، وروسيا (كخصم تخريبي). وهذا أدى وسيؤدي إلى تراجع مطّرد لقدرتها على إدارة الفوضى. وفي هذا السياق يبدو الإسلام السياسي خدّاع في بنيته التكوينية، ولا يمكن الوثوق به في صراع كوني طويل قد يفتح ثغرات أمام الصين وروسيا في المجتمعات الهشة. ولذلك تنتقل واشنطن اليوم من سياسة الاحتواء والتوظيف إلى مرحلة التجفيف والتقييد والتصنيف، مثلما تفعل مع جميع عملائنا حين يتحولون إلى عبء. ولعل هذا ما توضحه الوثيقة بجلاء، حيث وردت عبارات "التركيز على التجفيف المالي" و"التحالفات الإقليمية المضادة". وهذا يفتح الباب لتصنيفات قانونية لاحقة دون الرجوع للكونغرس.

ما هو مستقبل هذه الجماعات واقعيًا؟
أولا نهاية الإسلام السياسي كقوة حكم. فلن يُسمح له مجددًا بـقيادة دولة والتحكم في مؤسسات سيادية، لعب أدوار إقليمية مستقلة. ويمكن أن يبقى في مربعات محدودة، من قبيل نشاط اجتماعي منزوع السياسة وتحت الرقابة. معارضة هامشية بلا أفق حكم. أو دفعه للالتجاء للعنف الصريح بما يُسرّع تصفيته.

هذا الوضع الجديد ستكون له نتائجه. فعلاوة على الطبيعة الخاصة للإسلام السياسي بما يحمله من تناقض حادّ بين نظرته للحكم المبنية على مفاهيم التمكين والأسلمة والاستحواذ والغنيمة، وبين معايير إدارة الدولة الحديثة وإكراهاتها، هنالك ايضا الضغط الدولي الأمني والسياسي التي تؤشر عليه الوثيقة الأمريكية. وكل هذا سيفرض على هذه الجماعات انقسامات داخلية، أجنحة ستنفضّ وتذوب، قواعد ستُصاب بالإحباط، قيادات ستساوم على البقاء بأي ثمن.

المفارقة الكبرى هي أن الإسلام السياسي خسر الجميع. خسر المجتمع لأنه عمّق الانقسام. خسر الدولة لأنه فشل في إدارتها. خسر الشرعية الأخلاقية عندما برّر العنف. وخسر الداعم الدولي الذي لم يعد يحتاجه، سيما وأن الوثيقة تقول بوضوح: الإسلام السياسي لم يعد جزءًا من الحل، ولا حتى جزءًا من المشكلة القابلة للإدارة… بل خطر يجب تحييده.
وبهذا المعنى فإن هذه الجماعات، من منظور أمريكي، ستواجه أبوابا مغلقة أمام العودة للحكم، أو حتى إعادة تدوير التجربة، بما سيفرض عليها الانكماش، التفكك، التحييد الطويل المدى، إلا إذا قامت، وهو احتمال ضعيف، بقطيعة فكرية جذرية مع منطق "الفرقة الناجية"، ووهم "التمكين"، وتديين السياسة. لكن التاريخ القريب يقول بأنها قد تضطر للتكيّف السياسي، ولا تراجع نفسها استراتيجيًا، وهذا بالضبط ما يُفسّر منسوب النفاق عندها وازدواجية خطابها. وهنا تحديدًا يكمن السبب الرئيسي لتراجعها المحتوم.

لماذا لم يعد ممكنًا التحالف مع حركة النهضة ولا الرهان عليها؟

في هذا السياق، يصبح السؤال: لماذا لم يعد ممكنًا التحالف مع حركة النهضة ولا الرهان عليها؟ سؤالًا سياسيًا - استراتيجيًا، لا موقفًا إيديولوجيًا

أولًا: التحوّل في الاستراتيجية الأمريكية من الاحتواء إلى الإقصاء الوظيفي. بحيث تُظهر الاستراتيجية الأمريكية الجديدة أن واشنطن لم تعد تتعامل مع الإسلام السياسي بوصفه أداة قابلة للاحتواء أو التوظيف، بل باعتباره عبئًا أمنيًا غير قابل للإدارة.
طيلة العقود الماضية، تعاملت الولايات المتحدة مع حركات الإسلام السياسي وفق منطق براغماتي واضح: السماح لها بالعمل، بل وبالوصول المشروط إلى الحكم، ما دامت تؤدي وظائف محددة، أهمها تفكيك البنى السياسي القومية واليسارية، واحتواء المجتمعات من الداخل، ومنع تشكّل قوى سياسية مستقلة معادية للنفوذ الغربي.

غير أن التجربة العملية، كما تعكسها حالات مصر وتونس والسودان وغزة وأفغانستان، أظهرت أن هذه الحركات فشلت في إدارة الدولة ومؤسساتها، ولم تُنتج استقرارًا سياسيًا أو اقتصاديًا، بل وأفرزت، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بيئات حاضنة للتطرّف والعنف. لذلك، لم تعد الاستراتيجية الأمريكية تُميّز، أمنيًا، بين "إسلام سياسي معتدل" و"جماعات عنيفة"، معتبرة أن هذا الفصل لم يعد ذا جدوى في بيئة دولية تتسم بحدة الصراع وطول أمده.

ثانيا: فشل تجربة الحكم وانكشاف البنية الارهابية لحركة النهضة

لا يمكن فهم سقوط الرهان على حركة النهضة دون العودة إلى تجربتها في الحكم. فقد كشفت هذه التجربة عن ثلاث إشكاليات بنيوية:

غياب نظرية الدولة:
أظهرت النهضة، كغيرها من حركات الإسلام السياسي، امتلاكها خطابًا تعبويًا قويًا، لكنها افتقرت إلى تصور متماسك للدولة الحديثة، وللعلاقة بين السلطة والمؤسسات، وبين الدين والمجال العام. فالدولة لم تُفهم باعتبارها كيانًا عامًا محايدًا، بل باعتبارها مجالًا للتمكين التنظيمي.

الازدواجية بين الدعوي والسياسي:
رغم الخطاب الرسمي حول "الفصل بين الدعوي والسياسي"، أثبتت الممارسة العملية استحالة هذا الفصل داخل بنية الحركة. فقد استُخدمت الديمقراطية كآلية للوصول إلى السلطة، لا كنظام قيم ملزم، وأُعيد إنتاج منطق الطاعة والشرعية المتعالية داخل مؤسسات الدولة نفسها.

العلاقة الإشكالية بالعنف:
حتى في أكثر صيغها "اعتدالًا"، وفّرت النهضة غطاءً أخلاقيًا وسياسيًا لخطابات عنيفة، وساهمت في خلق مناخ استقطابي حاد، قائم على معادلة "نحن أو الفوضى"، وهو ما اعتبرته الوثيقة الأمريكية مؤشر خطر أمني لا خطأ سياسيًا عابرًا.

ثالثًا: تونس في الرؤية الأمريكية الجديدة: الدولة هي الشريك الوحيد وليس الأحزاب.

فلسفة الوثيقة الامريكية الجديدة، مُضاف إليها تصنيف تونس كحليف رئيسي للولايات المتحدة من خارج الناتو يُغيّر قواعد اللعبة بالكامل. فالدولة التونسية هي الشريك الاستراتيجي، والاستقرار المُدار أولوية على التعددية الشكلية، ومكافحة التطرف العابر للحدود تتقدّم على احتواء الإسلام السياسي.

وبذلك، لم تعد واشنطن تنظر إلى حركة النهضة باعتبارها "نموذجًا ديمقراطيًا" أو رصيدًا سياسيًا محتملًا، بل كفاعل إشكالي يجب ضبطه ومنع تحوّله إلى قناة اختراق أو مصدر اضطراب.

رابعًا: سقوط الرهانات الخارجية لحركة النهضة

اعتمدت النهضة منذ 2003 على ثلاث شبكات دعم رئيسية، تآكلت جميعها:
1. الرهان التركي
تشهد تركيا اليوم انكفاءً واضحًا عن دعم الحركات الإخوانية، بفعل أزماتها الداخلية وحاجتها لإعادة التموضع داخل الناتو. ولم تعد أنقرة مستعدة لتحمّل كلفة حماية أذرع سياسية خاسرة في شمال أفريقيا.

2. الرهان القطري
أعادت قطر تموضعها كوسيط دولي لا كراعٍ أيديولوجي، ملتزمة بخطوط أمريكية صارمة. قد تستمر في دعم إنساني محدود، لكن الرهان السياسي على النهضة انتهى عمليًا.

3. الجمعيات المموَّلة تحت غطاء الديمقراطية
تشير الاستراتيجية الأمريكية بوضوح إلى خطورة "المنظمات التي تتخذ الديمقراطية واجهة للعمل المعادي للمصالح الأمريكية". وهو توصيف ينطبق على شبكات تمويل غير شفافة، لطالما مثّلت إحدى أدوات النهضة. في السياق الجديد، تتحول هذه الشبكات من رافعة دعم إلى مصدر مساءلة وتجفيف.

خامسًا: الداخل التونسي واستحالة إعادة التجربة

داخليًا، لم تعد شروط إعادة إنتاج تجربة النهضة متوفرة بعد تآكل رصيدها الشعبي بفعل الفشل الاقتصادي والسياسي. وسقوط خطاب المظلومية بعد عقد من الحكم. وتحوّل الدولة التونسية إلى المقاربة الأمنية - القانونية في تعريف التهديدات. وهذا المسار ينسجم تمامًا مع المزاج الدولي العام.

سادسًا: سيناريوهات المستقبل دون وهم العودة

في ضوء ما سبق، لا يلوح في الأفق سيناريو واقعي لعودة النهضة كقوة حكم. فالمتاح إلى حدّ الآن يقتصر على انكماش تنظيمي بطيء، أو تفكك داخلي، أو تحوّل إلى معارضة فوضوية تُسرّع عملية التصنيف والتجفيف.

أما سيناريو "العودة القوية"، فيظل غائبًا لافتقاده كل شروطه: لا دعم دولي، ولا حماية إقليمية، ولا قبول شعبي، ولا هامش أمريكي للمغامرة.

بناء على ما تقدّم من معطيات في هذه الورقة، لم يعد رفض التحالف مع حركة النهضة، أو الرهان عليها موقفا إيديولوجيا، بل بات مرتبطا بالتحوّل الجاري في البيئة الدولية من ناحية تعريف "الفاعلين الليبيراليين المقبولين" داخل منظومة الاستقرار المُدار أمريكيا. فالنهضة لم تستغل فرصة انتصارها لتُجرِي مراجعة فكرية جذرية تُخرجها من دائرة الاستهداف الشعبي والدولي، واكتفت بتكيّفات تكتيكية في عالم يسير في اتجاه الاندماج كل ساعة. لذلك، لم يعد السؤال المطروح: هل تعود النهضة؟
بل: كيف، ومتى، وبأي كلفة سيتم إخراجها النهائي من المعادلة السياسية؟

خاتمة: نحو نقاش عمومي تونسي جديد خارج أسر الإسلام السياسي

إن استحالة الرهان على حركة النهضة، أو إدماجها مجددًا في أي تسوية سياسية مستقبلية، لا تعني الدعوة إلى الإقصاء الأيديولوجي ولا إلى إعادة إنتاج منطق الاستثناء الأمني، بل تعكس ضرورة تاريخية لإعادة ترتيب المجال العمومي التونسي على أسس جديدة، أكثر واقعية، وأكثر التصاقًا بتحولات العالم وإكراهاته. فلقد أثبتت تجربة العقد الماضي أن حضور حركة النهضة داخل المشهد السياسي لم يكن عامل توازن أو إثراء للتعددية، بل تحوّل تدريجيًا إلى عنصر تعطيل مزدوج: عطّل إعادة بناء الدولة على بمعايير الشفافية والشراكة وحياد الإدارة، وأربك مسار الانتقال الديمقراطي، وعمّق الاستقطاب داخل المجتمع، من دون أن يقدّم بديلًا اقتصاديًا أو اجتماعيًا قابلًا للحياة. ومن هذا المنظور، فإن استثناءها من النقاش العمومي المقبل لا يُقرأ كعقوبة سياسية، بل كشرط وظيفي لفتح أفق جديد للنقاش الوطني.

إن تونس اليوم في حاجة إلى نقاش عمومي جماعي، صريح ومسؤول، يضم القوى الاجتماعية والسياسية والمدنية التي تقبل بمرجعيات الدولة الوطنية، وبالديمقراطية بوصفها نظام قيم لا مجرد آلية انتخابية، وبالعدالة الاجتماعية كأفق وطني شعبي. نقاشٌ يتجاوز ثنائيات الماضي، ولا يُختزل في صراع الهويات، بل ينصرف إلى الأسئلة الجوهرية: أي نموذج تنموي ممكن في عالم منقسم؟ أي دور للدولة في حماية الفئات الهشة؟ وكيف يمكن التوفيق بين السيادة الوطنية ومتطلبات الاندماج في نظام دولي شديد التنافسية؟

إن بناء ديمقراطية اجتماعية حقيقية في تونس لن يكون ممكنًا دون القطع مع منطق التوظيف الأيديولوجي للدين، ودون تحرير المجال السياسي من الفاعلين الذين أثبتوا عجزهم البنيوي عن الاندماج في منطق الدولة. فالديمقراطية، في سياق عالمي مضطرب هي مشروع تاريخي إجباري يتطلب الوضوح، والشجاعة الفكرية، وإلغاء فكرة العنف السياسي. والحقيقة أن رهانا كهذا لا يكمن في إعادة تدوير الفاعلين أنفسهم، بل في إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وفتح مسار تأسيسي جديد، تكون فيه الديمقراطية الاجتماعية أداة للتماسك الوطني، وأداة للقطع مع "الديمقراطية المغشوشة" التي أثمرت الانهيار الاقتصادي وحكم المافيا والاغتيالات السياسية. وركيزة عملية تُتيح لتونس أن تعيد تموقعها في عالم لم يعد ينتظر المترددين، ولا يمنح فرصًا لمن أضاع البوصلة.
~~~~~~~~~~



#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)       Boughanmi_Ezdine#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وثيقة -الوصاية الجزائرية المزعومة- كيف نفهمها؟
- مأزق الرّمز في ذاكرة الشعوب، إضاءة على رسالة السيد منذ الزنا ...
- الانقسام داخل الفضاء العام في تونس: هل هو انعكاس لاختلاف سيا ...
- التوانسة فرّوا من حركة النهضة، وليس من الديمقراطية
- ملاحظات حول مسيرة 17 ديسمبر 2025
- لن يُهزم الاستبداد من داخل الوصاية والتحالفات السامّة
- خرافة الأيام الأخيرة: أو صناعة الوهم
- حول أزمة الاتحاد العام التونسي للشغل
- قصة من تاريخ تونس، أو درس في هندسة السلطة
- توازن الرهانات الخاطئة: بين السلطة والاتحاد والمعارضة، لعبة ...
- المشترك الوطني ودوامة الفشل الديمقراطي: الجزء (الثالث)
- من المحاصصة إلى الشعبوية: مسار تآكل الشرعية الديمقراطية في ت ...
- من المحاصصة إلى الشعبوية: مسار تآكل الشرعية الديمقراطية في ت ...
- العقلانية كشرط للسيادة: تونس بين صخب الشعارات ومتطلبات الدبل ...
- تصنيع -الحقيقة- واستراتيجية إعادة تشكيل الوعي
- بين السلطة والاتحاد: هشاشة الداخل ومساحات النفاذ الأجنبي
- السيادة الوطنية
- عوامل سقوط النظام
- سوريا ليست تونس: نقد القياس السياسي وبيان شروط سقوط الأنظمة.
- المسافة بين التجربتين: في بطلان قياس تونس على سوريا.


المزيد.....




- شاهد.. نيكي ميناج تشيد بترامب بظهور مفاجئ كضيفة شرف في مؤتمر ...
- مراسل CNN يفصل ما نعرفه للآن عن مقتل جنرال روسي بارز بموسكو. ...
- سرّ تحضير المسقعة اليونانية بالباذنجان.. أشهى ما حضّرته هذه ...
- مئات ينضمون إلى حملة تنظيف سنوية لنهاية العام في معابد كيوتو ...
- رسائل واشنطن وسلاح الفصائل: لحظة سياسية حساسة في بغداد
- الرقم 79432 يربح 4 ملايين يورو في يانصيب عيد الميلاد الإسبان ...
- تايلاند وكمبوديا تستعدان لاستئناف محادثات وقف إطلاق النار
- وثائقي -ردع العدوان- وأحمد الشرع: سرد أحداث معركة أم بناء شر ...
- وزيرا الخارجية والدفاع التركيان في دمشق.. واتفاق 10 آذار مع ...
- تدربا على أسلحة في الريف.. الشرطة تكشف دوافع مهاجمي سيدني


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - قراءة نقدية في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي (2025–2030): نهاية توظيف الإسلام السياسي وتحولات الاستقرار المُدار