أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - مأزق الرّمز في ذاكرة الشعوب، إضاءة على رسالة السيد منذ الزنايدي الأخيرة














المزيد.....

مأزق الرّمز في ذاكرة الشعوب، إضاءة على رسالة السيد منذ الزنايدي الأخيرة


عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)


الحوار المتمدن-العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 00:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


من البداية أشير إلى أن إحالة الرسالة على معنى "الرّمز في الذاكرة" لا تعني أن لي موقف سلبي من شخص منذر الزنايدي، ولا شكّ في كفاءته الإدارية، ولا حتى في صدقية نواياه المعلنة اليوم. الإشكال أعمق وأخطر. إنّه إشكال الشرعية الرمزية في سياق ثوري لم يُحسم بعد، وذاكرة جماعية لم تندمل جراحها.

الثورات، حين تندلع، لا تعيد ترتيب المشهد السياسي وفق منطق الخبرة أو الجدارة التقنية، بل وفق منطق سؤال آخر صادم وأكثر جذرية، ألا وهو: "من يملك الحق في تمثيل المستقبل؟". وهذا الحق لا يُستمدّ من طول الخدمة في الدولة، ولا من حسن إدارة الملفات، بل من القطيعة الرّمزية مع النظام الذي ثار عليه الناس. ومنذر الزنايدي، هذا الرجل النظيف، لم يكن شاهدًا على دولة الريع، ولا موظفًا محايدًا داخلها، بل كان أحد أركانها التنفيذية. صعد في سلمها، حكم باسمها، واستمدّ مكانته من منطقها. والثورة، حين اندلعت، لم تُسقط أسماء بعينها بقدر ما أسقطت شرعية نمط حكم كامل. من شارك في إدارة ذلك النمط، حتى دون فساد شخصي أو استبداد مباشر، خرج موضوعيًا من دائرة من يحقّ لهم أن يكونوا عنوان القطيعة.
وهنا يجب التفريق، فلسفيًا وسياسيًا، بين أمرين:
المشاركة في التغيير
وقيادة التغيير
يمكن لمنذر الزنايدي أن يكون جزءًا من نقاش وطني، أو شاهد خبرة، أو فاعلًا داعمًا لمسار إنقاذ البلاد. لكنّ تحوّله إلى عنوان للتغيير يحمل خللًا رمزيًا قد لا تُفلح البلاغة في إصلاحه ولا النوايا الحسنة. ذلك أن الثورات لها منطقها الخاص، وبحكم طبيعتها فهي وقحة وسليطة اللّسان وحتى وهي مطعونة ومفروشة أرضًا، تظلّ قلقة من أن يتمّ إذلالها مرّتين. ولذلك فهي ليست كائنًا عقلانيا قابلا للاحتواء إلى درجة أنه مستعدّ لتفضيل "التوبة المتأخرة النافعة" على "المغامرة الشرعية المُضرّة". ومن داخل هذا المنطق العنيد تُكتسب شرعية القيادة من زمن المخاطرة لا من زمن إعادة التموضع.

مأزق عناد الثورات يستند إلى حقيقة أنّ الذاكرة الشعبية لا تقرأ النّصوص، بل على الارجح تقرأ الوجوه. وفي المخيال الجماعي التونسي، صورة منذر الزنايدي مثقلة، لا بذنوب شخصية، بل بأوزار مرحلة كاملة، اوزار دولة مغلقة، إدارة فوقية، حكم لا يسمع، ومنظومة امتيازات قامت الثورة ضدها. والثورات لا تنفجر لأن البرامج كانت سيئة، بل لأن الكرامة أُهينت. ومن كان في قمة الدولة زمن الإهانة، لا يمكنه أن يصبح لاحقًا المعبّر عن غضب المهانين.

أما مسألة العمر، فهي بالتأكيد ليست بيولوجية، بل تاريخية. خمسة وسبعون عامًا تعني حمل زمن سياسي كامل في الجسد والخطاب والحدس. تعني الانتماء إلى جيل تشكّل داخل منطق الدولة العمودية، حيث القرار من فوق، والشعب موضوع إدارة خاضع وممنوع من الإفصاح عن هويته كصانع تاريخ. ثم أن الثورة، بطبيعتها، طفلة شابة تبحث عن وجوه مثلها لم تُستهلَك رمزيًا، لا لأن الشباب أصفى منّا أخلاقيًا، بل لأنهم لم يكونوا جزءًا من منظومة الإهانة.

ثم تأتي الرسالة على الشعار المركزي: “التغيير ضمن الاستقرار”. هذا الشعار، في تاريخ السياسة، لم يكن بريئًا ولو مرّة واحدة. لقد رفعته دومًا المنظومات التي تريد تغيير السقف دون المساس بالأساس. هو في الحقيقة شعار الإدارة التي ترفض التغيي ، وليس شعار الثورة القائمة من أجل التغيير. وهو شعار أقرب للدولة الخائفة، منه للمجتمع الغاضب. وقبل هذا وبعده، الثورات لا تبدأ بالاستقرار، بل تُنتج استقرارًا جديدًا بعد الصِّدام. وحين يرفعه رجل دولة قديم، يُقرأ، شئنا أم أبينا، كرسالة طمأنة للنظام أكثر مما هو وعد للشعب.

المُحرج من كل ما تقدّم، هو أنّ قبول عودة رجال النظام القديم في موقع "قادة التغيير" يحمل دلالات رمزية لا تُطاق، من ذلك أن الثورة كانت خطأ، أن القطيعة لم تكن ضرورية، أن الدم الذي سُفك كان اندفاعًا عاطفيًا وليس عربون حرية وضرورة تاريخية...
وهذا بالضبط ما لا يقبله شعب، حتى وهو ناقم على نتائج ثورته، لأن الشعوب قد تندم على دخولها في طريق مجهول، لكنها لا تعترف بأن كرامتها كانت وهمًا.

هنا تتكشّف مسؤولية حركة النهضة التاريخية، بوصفها فاعلًا مخرّبًا للمعنى، معنى الثورة ومعنى الدولة. عبثها بالدولة، تواطؤها مع منظومات الفساد، تحويلها الثورة إلى غنيمة حزبية، وتفكيكها الثقة بين الشعب والسياسة، هو ما فتح الباب أمام جرأة منظومة ما قبل الثورة على الحلم مجددًا بالحكم. النهضة لم تخن الثورة فقط، بل شوّهت صورتها إلى الحد الذي جعل الاستبداد يبدو، في أعين البعض، أقلّ سوءًا من الديمقراطية.

والمأساة ليست أبدا في طموح رجل في الخامسة والسبعين، بل في فراغ أجيال كاملة من الرموز القادرة على حمل المعنى الثوري دون ابتذال أو تلاعب.

ولكي أختم، أُؤكّد أن هذه الورقة ليست إدانة شخص، بقدر ما هي تفاعل مع رسالة وتشخيص لومضة في عمر وطن.
فالسيد منذر الزنايدي يمكن أن يكون جزءًا من الحوار الوطني، لكنه لا يمكن أن يكون عنوان المرحلة.
ليس لأنّه سيّئ، بل لأنّه يمثّل ما ثارت عليه البلاد. أقصد بأن المشكلة ليست في شخصه، بل في الرّمز الذي يحمله، والذاكرة التي يستدعيها. وتلك، في منطق الثورات، مسألة لا تُحلّ بالنوايا ولا بالكلمات، بل بالتاريخ نفسه.



#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)       Boughanmi_Ezdine#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانقسام داخل الفضاء العام في تونس: هل هو انعكاس لاختلاف سيا ...
- التوانسة فرّوا من حركة النهضة، وليس من الديمقراطية
- ملاحظات حول مسيرة 17 ديسمبر 2025
- لن يُهزم الاستبداد من داخل الوصاية والتحالفات السامّة
- خرافة الأيام الأخيرة: أو صناعة الوهم
- حول أزمة الاتحاد العام التونسي للشغل
- قصة من تاريخ تونس، أو درس في هندسة السلطة
- توازن الرهانات الخاطئة: بين السلطة والاتحاد والمعارضة، لعبة ...
- المشترك الوطني ودوامة الفشل الديمقراطي: الجزء (الثالث)
- من المحاصصة إلى الشعبوية: مسار تآكل الشرعية الديمقراطية في ت ...
- من المحاصصة إلى الشعبوية: مسار تآكل الشرعية الديمقراطية في ت ...
- العقلانية كشرط للسيادة: تونس بين صخب الشعارات ومتطلبات الدبل ...
- تصنيع -الحقيقة- واستراتيجية إعادة تشكيل الوعي
- بين السلطة والاتحاد: هشاشة الداخل ومساحات النفاذ الأجنبي
- السيادة الوطنية
- عوامل سقوط النظام
- سوريا ليست تونس: نقد القياس السياسي وبيان شروط سقوط الأنظمة.
- المسافة بين التجربتين: في بطلان قياس تونس على سوريا.
- التونسيون ليسوا ضد الديمقراطية، بل ضد من يختزلها في تجربة ال ...
- بين خطاب -التاسعة- وواقع العولمة: هل كلّ ناشط في المجتمع الم ...


المزيد.....




- البرادعي: صراعات عالمنا العربي كانت بين الأنظمة والآن الكارث ...
- خارجية سوريا تعقب ببيان عن جهود محاربة داعش وتعزي ضحايا الهج ...
- سوريا.. شاهد ما قاله أحمد الشرع بفيديو فعالية -حلب ست الكل- ...
- أستراليا تدرس حظر هتافات -الانتفاضة- بعد حادثة إطلاق النار ف ...
- واشنطن تحتجز ناقلة نفط ثانية قبالة سواحل فنزويلا وكراكاس تند ...
- جنوب أفريقيا: مسلحون يطلقون النار ويقتلون تسعة أشخاص قرب جوه ...
- ماذا تخبرنا إستراتيجية الأمن القومي الأميركية عن سوريا؟
- نصف مليون نازح في كمبوديا جراء الاشتباكات الحدودية مع تايلند ...
- ناشونال إنترست: أميركا سرقت مسيّرة -شاهد- الإيرانية وتستنسخه ...
- كوريا الشمالية: يجب وقف طموحات اليابان النووية -بأي ثمن-


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - مأزق الرّمز في ذاكرة الشعوب، إضاءة على رسالة السيد منذ الزنايدي الأخيرة