محمد بن سعيد الفطيسي
الحوار المتمدن-العدد: 1847 - 2007 / 3 / 7 - 11:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن مـا يحدث في العالم اليوم من تحولات سياسية على الصعيدين الاستراتيجي" العملي " والذي يتجسد في الشكل الخارجي لجل المواقف والخطط والتوجهات السياسية والاقتصادية والثقافية الدولية المعمول بها من أجل تشكيل أو تغيير الواقع الراهن للخارطة الدولية , أكان ذلك في مواقع الصراع الدولية الحساسة كمنطقة الشرق الأوسط على سبيل المثال , أو في أي منطقة أخرى من المناطق ذات الصلة في العالم , أو " النظري" وذلك من خلال العديد من التحولات الجذرية التي طرأت على أغلب النظريات السياسية الحديثة القائمة على صياغة مفاهيم جديدة من أجل تعزيز عملية السلام والتقارب بين الأمم والشعوب , قد بدأت تأخذ منحنى جديدا في الشكل الخارجي والمضمون الداخلي , بحيث إننا نستطيع أن نقول : إن السياسة الخارجية الدولية الحديثة , وخلال القرن الماضي وبداية القرن الحادي والعشرين على وجه التحديد في بنائها الإنساني والأخلاقي , قد بدأت بالتشكل من جديد وذلك وفق بعض العوامل والمعايير الايديوبوليتيكية , وان كانت هذه المعايير ليست بالحديثة.
ومن ابرز تلك المعايير والتوجهات الايديوبوليتيكية التي بدأت بالظهور على السطح , ظاهرة التدخل الإنساني بدافع الحصول على بعض المصالح والأطماع الإستراتيجية ـ وبمعنى آخر ـ هو تغير البناء الأخلاقي لمفهوم التدخل ليأخذ معنى غير إنساني , وحتى إن كانت هذه الظاهرة هي ظاهرة طبيعية في بعض العلاقات السياسية , ولكن المقصود هنا بأن هذه الظاهرة قد بدأت تأخذ منحنى الإفراط وسوء استخدامها قد غلب على طابعها الأصلي المقصود من ورائه , ولا زالت على ذلك النهج والاستمرارية إلى يومنا هذا , وعلى رأس تلك العوامل المؤثرة والتي سنتناولها من خلال هذا الطرح , هو معيار ربط التدخل الإنساني في السياسة الخارجية بالمصالح القومية بالدرجة الأولى ودون النظر إلى أي اعتبارات أخلاقية او إنسانية أخرى لذلك التدخل , وهو ما يطلق عليه في المصطلح السياسي " بالاستبدادية الأخلاقية" .
وبذلك فإن المجتمع الدولي بشكل عام , والدول الكبرى والتي يفترض أن تكون الراعي الرسمي لإحياء عملية السلام في العالم , وتوطيد الأمن وترسيخ الاستقرار ونشر مفاهيم العدالة والديمقراطية والحرية بوجه خاص , وذلك لكونها دول مؤهلة لاعتبارات القوة الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية , قد بدأت بالابتعاد عن نهج المدارس الإنسانية الأخلاقية في السياسة الدولية , وعلى وجه التحديد من خلال ربط المصالح القومية والأطماع الاقتصادية لتلك الدول بأسلوب ونوعية المساهمة في تغيير ذلك الواقع الدولي السياسي او الاقتصادي لبعض الدول والشعوب , واشتراط الحصول على بعض المنافع من اجل الدخول في عملية رعاية السلام والأمن الدوليين , وهي بذلك تجسد أسلوبا غير حضاري أو أخلاقي يقوم على تضارب المصالح مع القيم الإنسانية السياسية في مفاهيم العمل الدولي .
ورغم توفر العديد من الأمثلة والقرائن السياسية على ارض الواقع على ذلك الانسياق المتواصل والمفرط نحو تلك التحولات الحديثة على صعيد المدرسة السياسية اليوم ومن خلال هذا المنظور, فإننا سنحاول ضرب مثالين بسيطين على ذلك للاستدلال لا أكثر , وأولهما أسلوب تعامل الدول الأوروبية مع الواقع الفلسطيني الحديث , وعلى وجه التحديد من خلال الابتزاز الذي اعتمدته تلك الدول لارضاخ الحكومة الفلسطينية للاعتراف بالدولة الإسرائيلية في فترة معينة , وذلك من خلال سياسة التجويع والتركيع وقطع المعونات المادية عن الشعب الفلسطيني , وليس ذلك إلا لكون ذلك الشعب قد اختار منظمة حماس لتشكيل حكومته الوطنية , رغم أن تلك الانتخابات التي اختيرت من خلالها حماس قد كانت وبشهادة تلك الدول نفسها على أعلي مستويات الديموقراطية والمصداقية , إلا أن بعض تلك التوجهات والأطماع السياسية الامبريالية الاستعمارية قد وقفت حائلا دون التعامل الدولي مع ذلك الواقع من خلال المنظور الإنساني المجرد.
وعلى مستوى آخر ( يلخص مثال مبيعات الأسلحة في العالم مشكلة شائكة كثيرا ما يتعين على صانعي القرار السياسي أن يشتبكوا معها : فما السبيل إلى اختيار ما بين المصالح المتضاربة , وتحقيق التوازن بين تلك المصالح , حيث يبقى تحقيق التوازن بين المصالح بطبيعة الحال أمرا صعبا على الدوام , حتى حين لا تكون للقضايا أي علاقة بالأخلاق ) , فكيف إذا أخذنا ذلك من اعتبارات أخلاقية وإنسانية محضة ؟ فحينها نجد أن العديد من تلك الدول المتواجدة إنسانيا في مناطق الصراع الدولي في العالم , والقائمة على تحقيق التوازن والاستقرار والسلام هي نفسها الدول الكبرى التي تقوم ببيع تلك الأسلحة وتسوقها من خلال منظماتها السرية المنتشرة , وأذرعها السرية الخارجية , وهي بذلك تكيل بمكيالين , ففي حين تقوم بدعوى سعيها لتحقيق الديموقراطية والعدالة وتوفير الرعاية الإنسانية كما تدعي , تقوم كذلك وفي نفس الوقت بتسويق تلك الأسلحة لإثارة الفتن والخلافات الداخلية في تلك الدول , وذلك بهدف إطالة أمد بقائها لا أكثر.
وعليه فإن تلك الصورة المؤلمة لمضمون وشكل السياسة الدولية الراهنة , وخصوصا القائمة على تلك الرؤية الاستبدادية الانتهازية لحريات الشعوب ومقدراتها وسيادتها , قد كلفت شعوب المنطقة بشكل عام والشعب الفلسطيني بشكل خاص خسائر لا يمكن أن تعوضها السنوات القادمة , او الملايين التي أفرجت عنها الحكومة الإسرائيلية او تلك الدول الكبرى التي لم يكن لها من الأساس أي أحقية قانونية او سياسية او أخلاقية لاحتجازها , وعلى أساس ذلك التعامل الشاذ سياسيا , والمدفوع بعوامل خارجية لا أساس إنسانيا لها , ولا تدفعها الرغبة في التغيير إلى الأفضل , بل هي تسير وفق ضغوطات خارجية لا يفترض أن تؤثر على العلاقات الإنسانية بين الدول والشعوب , كتأثير منظمات الضغط اليهودية , والقوة الاميريكية الرافضة لأي حكومة لا تقبل بإسرائيل كشريك في عملية السلام , أو ترفض الاعتراف بحكومة الاحتلال الإسرائيلي كدولة مجاورة , أو المصالح الاقتصادية وخلافه على تلك القرارات الإنسانية , وقد شكل الدافع الرئيسي لذلك النوع من التصرف الانتهازي , وكان لسان حالها يقول للشعب الفلسطيني :- إما الموت جوعا وإما الاعتراف بإسرائيل كدولة.
وهكذا تتحول السياسة الهادفة إلى تحسين العالم , إلى سياسة قائمة على اعتبارات لا إنسانية أو لا أخلاقية في حال استمدت رؤيتها ومضمون تحركها من تلك الدوافع والاعتبارات , وتتكشف من خلال ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين , بل بفرض منطق الضغط لتسويغ تلك المعطيات , ليتجاوزها إلى تشويه المصطلحات وقلب المفاهيم وتشويه الصور الحضارية , وبذلك يتم تحويل السياسة إلى لعبة قذرة تتقاذفها المصالح والأطماع الدولية , وتجرها خطوط الطول ودوائر العرض السياسي والجغرافي الزمني إلى عالم لا يعترف سوى بالقوة كأساس لتشكيل الواقع الراهن , وعليه ومن خلال إدخال تلك الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية إلى عالم شديد الشبه بعالم الأعمال سيكون من الصعب الوثوق من جديد في تلك القيم والاعتبارات الأيديولوجية الإنسانية , وذلك ( حيث لا يحول احترام قدسية العقد دون انقلابات الأقدار الأكثر إثارة للقلق ).
وقد انقسمت الآراء حول مفهوم التدخل الإنساني والمساهمة الدولية في التعمير وإحياء عملية السلام وربطها بالمصالح السياسية , ما بين مؤيد للمضمون القائم على النية السليمة دون النظر إلى شكل ذلك التدخل , ورافض لها من خلال ذلك التوجه القائم على تلك المصالح والاعتبارات المادية كأساس لذلك التدخل الإنساني , وبالتالي فإن نظرة المجتمع الدولي نفسه إلى ذلك النوع من التدخلات والتحولات الحديثة من وجهة النظر المجردة للدولة , شكلت واقعا صعبا يواجه مبدأ ذلك التدخل الإنساني من الأساس , وخصوصا إذا ما تم اعتبارها نوعا من الانتهاك الأخلاقي لسيادة الشعوب على مقدراتها , وبالتالي فهو انتهاك صارخ لإنسانية السياسة الدولية والمدرسة الأخلاقية العالمية للسياسة , وهو ما أثر كثيرا في علاقة المجتمع الدولي مع بعضه , ونقصد هنا على وجه الخصوص ما بين الدول الفقيرة والنامية والدول الغنية , مما زاد من عوامل الانسياق نحو الدبلوماسية القائمة على الإكراه , وانزلاق العالم إلى الحروب , وساهم في زيادة الإرهاب والعنف والكراهية .
وعليه فإنه لابد من النظر من جديد في تلك القيم والاعتبارات كمسوغات للتدخل الإنساني في دول العالم , وأنه قد حان الوقت لبناء سياسة دولية عالمية حديثة على أسس أخلاقية وإنسانية تراعي حقوق وتطلعات الدول الفقيرة والشعوب المضطهدة , وخصوصا في ظل الفوضى الدولية المستشرية , وانتشار ظاهرة الإرهاب والعنف التي كان السبب الرئيسي في وجودها ذلك الشرخ العميق ما بين تلك المسوغات الأخلاقية والدوافع والأطماع الامبريالية التوسعية العالمية , والابتعاد عن سياسة الكيل بمكيالين من أجل تحقيق تلك الأهداف الإنسانية العالمية , وان لا تكون تلك الأهداف الأخلاقية الدولية ذرائع لتدخل الدول الكبرى في مقدرات الشعوب الفقيرة , وألا تربط العوامل الإنسانية كالمساعدات الاقتصادية والتدخلات الإنسانية وغيرها بشروط اقتصادية ومصالح دولية وإلا تحول العالم إلى غابة تتسيدها القوة ويأكل القوي فيها الضعيف .
#محمد_بن_سعيد_الفطيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟