|
الخليفة المنتظر
نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1838 - 2007 / 2 / 26 - 11:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يحفل خطاب جماعات الإسلام السياسي بهمروجة دولة الخلافة الإسلامية، وبالتبشير بمجيء الخليفة "أبو عمامة وشروال" الذي سينقذ المسلمين من دياجير الجهل، وأنفاق الدجل، ومتاهات الانحطاط الهائمين فيها من زمن غابر سحيق. وعندها سيقيم العدل ويخلصهم مما علق بهم من أدران وأمراض سياسية واجتماعية مستفحلة كأداء. ولعل أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو لماذا لم تفلح الخلافة الإسلامية السابقة في أوج عزها ومجدها بتحقيق المطلوب منها وتحولت إلى ساحة لحروب مفتوحة وصراعات لا تنتهي، وصارت قصور معظم الخلفاء، بعد أن عجت بالجواري والغلمان، ككباريهات للبذخ والترف والليالي الحالمة الساخنة الحمراء أين منها ألف ليلة وليلة، ومركزاًِ، بآن، لحبك الدسائس والمؤامرات ضد الأشقاء وأبناء العمومة والأخوال. واستأثرت سلالات"منزّلة" مقدسة عصماء من السماء، بالحكم لعهود طوال وقبضت عليه بالنواجذ والأسنان والعسس والمخابرات ؟ ولماذا تحولت صراعات الخلفاء، التي لم تنته يوماً، إلى كوارث سياسية كبرى تعيش هذه الشعوب المنكوبة تداعياتها المؤلمة حتى اليوم؟
ولماذا يحاولون الإيحاء أن دولتهم العتيدة وردية بيضاء حيث "ستسير الذئبة مع الشاة"، ولا تناقض فيها ولا صراعات ولا مشاكل ولا أزمات؟ ولماذا لم تورّث،هذه الشعوب تقاليداً سلطوية وأنماطاً سياسية راسخة يحتذى بها تكون دليل عمل، وبوصلة وإنقاذا حقيقياً لهذه الشعوب؟ لا أن تصبح يافطة الخلافة خطاباً دعوياً فضفاضاً غايته الوصول إلى القصور وكراسي الحكم. وما الفائدة من إعادة إحياء تلك الخلافة طالما أنها لم تفلح سابقاً في بناء دول وحضارات وفلسفات وفنون وأفكار، بل كانت إنتاجاً لحروب وصراعات ونزاعات دموية نعيش تداعياتها حتى يومنا هذا بكل أسف وخزي وعار؟ ومن هو هذا الخليفة المنتظر الذي سيقود أمة المليار المنقسمة على ذاتها، إلى بر الأمان ويقيم لهم دولة الخلافة الإفلاطونية التي تسير على دقات الساعة؟ هل هو مثلاً واحد من هؤلاء الدعاة الذين تمتلئ بهم الشاشات والفضائيات؟ أم أحد وعاظ السلاطين الكبار الذين صاروا رموزاً دولية، لا يشق لها غبار، في الدجل والنفاق وممالأة ولاة الأمر والسكوت عن الحق كالشياطين الخرساء؟ أم هو أحد حكام "الأعراب" الذين نراهم ونسمع يومياً عن مآثرهم وإنجازاتهم وما يقدمونه للبشرية من نماذج ناصعة بيضاء ترفع الرأس؟ أم هو أحد قادة الجماعات والفصائل الإرهابية السرية الذين يزرعون الموت والهلع والدمار في كل مكان؟ أم واحد من نجوم التأسلم السياسي الذي لا يقيم وزناً ولا اعتبار لا للمواطنة، ولا لوحدة الأوطان، ويهدد ويتوعد، ويرغي ويزبد، ذات اليمين وذات الشمال؟
وما هي الآلية التي سيتم بها اختيار هذا الخليفة المنتظر؟ هل هي بالشورى، أم بالإجماع واتفاق "جمهرة"العلماء، أم بالاقتراع الحر والانتخابات والمباشرة، أم باستفتاءات 99.99% أم بالتزكية من السي آي أيه ودوائر الاستخبارات العالمية؟ أم في أحد "السقائف" العصرية المزدهرة، وما أكثرها اليوم من طنجة إلى جاكرتا؟ إنها تساؤلات بسيطة في خضم هذه الفورة "الخلافوية" التي ينوون بعثها من مدفنها والتلاعب، مرة أخرى، بمصائر ومستقبل الناس، ويتاجرون من خلالها بدمائهم الرخيصة؟ أم أن رفع الشعارات البراقة الجوفاء من أي مضمون والتي تدغدغ مشاعر العامة والدهماء، قمين، وكاف لتمرير كافة الأحابيل والألاعيب والخرابيط والترهات الوهمية والخزعبلات؟
والقول بأن الإسلام دين ودولة قول لا يمكن أخذه على محمل الجد والاهتمام، البتة، طالما أنه لا دليل مادياً على صحة هذا الزعم والادعاء. فهذه "الدولة" الدينية المزعومة، لم تقدم لا حالياً، ولا سالفاً، نماذج ملموسة حية ودامغة يمكن الارتكاز العقائدي والسياسي والتنظيمي عليها، كما لم تبن مجتمعات محصنة من الفقر والجهل والمخاطر والاستبداد. بل كانت نظماً أبوية بامتياز ترسخ الدكتاتورية، والتفرد، والطغيان أكثر من أي شيء آخر، وأشعلت من الحروب والفتن والانقسامات مما لا يمكن أن يحل بعمر الزمان، وما الفشل الذريع، والمريع لمؤتمر التقريب بين المذاهب الذي عقد مؤخراً، إلا دليل ساحق ماحق على استفحال الأزمة، ولا جدوى من التفكير بحلها، إلا عبر حصر الدين بدور العبادة، وهو المكان الأمثل لها، وعدم خروجه من محرابها نهائياً. كما أن الدول العربية و"الإسلامية" بمجملها، والتي "تحتفي" بالشريعة، وتجمّلها، وتقدمها على سواها من القوانين الإنسانية العظيمة العصرية، وتستمد قوانينها منها، نراها تقبع في الذيل وفي القاع في مجمل النشاط البشري العام، وتتخلف، بقرون ضوئية، عن دول لم تر النور إلاَ حديثاً جداً. ولا داعي للتذكير بما ينتشر فيها من أورام قاتلة، وأوبئة مستشرية، وآفات اجتماعية ونفسية وسلوكية خطيرة وفتاكة.
وتعكس فكرة الخليفة المنتظر، والانتظار بشكل عام، المهانة والتردي والعجز العام، وتلك الروح البدائية التي يحفل بها الشرق المسحور بالأباطيل والشعوذات، والتي تعتمد على الفرد الإله الأسطورة، وليس على الإرادة والمشاركة الحرة الجمعية العامة القادرة، وذلك من خلال تضافر جهود كل الأفراد، وصقل مواهبهم وإمكانياتهم العقلية والبشرية على صنع المعجزات وبناء الحضارات، والرفع من شأن وإعلاء قيمة الإنسان عبر العمل الخلاق وليس التشبث بالأوهام، الإنسان الذي لم يكن، وليس له، أية قيمة أو اعتبار في أي من دولة الخلافات، وقلما لمسنا أي وجود له في تعاقب الخلافات، وهو، دائماً، وأبداً، موضوع للجز، والرجم، وبتر الأطراف من خلاف، وتقطيع الأوصال، وقطع الأعناق، والنظر إليه فقط، وفق ثنائية الخانع المستسلم المنساق وراء الجماعة، أو الكافر المرتد الهرطيق الزنديق. كما توحي بأن هذه الشعوب ما زالت في طور بدائي متخلف من أطوار النظام الأبوي الهيراركي الذي يقدس الزعيم، ويؤله ذاته، ويعتبره القادر على اجترار المعجزات ويسلمه مصيره وأقداره. كما تعكس بشكل جليّ ازدهار فكرة المخلص، تلك الميثولوجيا الدينية التي ازدهرت في العصور السحيقة عن اختلاق ذاك "التشخيص" الخارق الذي كان الناس يتعبدونه قبل اكتشاف وتبلور مفهوم الله الذي يعتبر مفهوماً حديثاً نسبياً بالمقاييس الزمنية، وبالقياس عما كان سائداً في حقب مديدة وطويلة خلت.
إن الفشل، والعجز، في الحقيقة، عن التصدي، وتقديم أية حلول لرزمة المشاكل الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية المزمنة القائمة هو الذي يكمن، بالضبط، وراء حيلة، ولعبة، وبهلوانيات ترويج، وترحيل الحلول إلى المجهول والهروب إلى الأمام عبر نشر فكرة المخلص المنتظر التي تتجلى بأشكال شتى. وإن الشعوب العظيمة والعريقة التي امتلكت زمام ذاتها وتخلصت من عقدة "الانتظار" المملة لهذا أو ذاك لكي يخلصها من مشاكلها، هي الوحيدة التي تهنأ اليوم برغد العيش لها ولأبنائها وأحفادها. أما المنتظرون، والدراويش والبهاليل فهم في انتظارهم لاهون، وسيبقون ينتظرون وينتظرون بدون كلل ولا ملل لآخر الزمان، بمشيئة الله، حتى يجدوا أنفسهم وجها لوجه مع العدم وتبدد الأوهام، ويغذي انتظارهم هذا جوقة وجمهرة تجار المخدرات الفكرية الذين يحقنونهم بفكرة الانتظار والوعد "الكاذب" ويغيبون هم في السبات العظيم، الغيبوبة الكبرى التي ليس منها استفاقة ولا قيام. وتقدم هذه الأفكار ومثيلاتها، خدمات جليلة لأنظمة الاستبداد التي تتبناها كإيديولوجية عقائدية تحافظ على بقائها واستمراريتها من خلالها عبر تثبيط أية عملية تغيير حقيقية، وردها إلى الكفر والخيانة، وضعها في إطار الزندقة والخروج عن فكر الجماعة، وشق عصا الطاعة عن ولاة الأمر الأبرار.
فالغياب الكلي والمطلق لمفهوم المؤسسات، التي تضمن استمرارية أي نظام سياسي أو اجتماعي و تقدم، بالتالي الخير والرفاهية لهذه الشعوب حتى الآن، هو سبب هذا المأزق الحضاري، والإنساني الكبير الذي تتخبط به هذه الشعوب، ولا تجد منه مخرجاً. وما المهدي المنتظر، والخليفة المنتظر إلا ماركات متنوعة من مخدرات دينية يسوقها ويروج لها المستفيدون، والمتعيشون من بقاء حالة الشلل العام، والانتظار في ثلاجات الزمان. إنها، بالمحصلة، وبالمآل، نوع من عبادة وتأليه الفرد حيث لا أهمية مطلقاً، للإرادة والرغبة الجماعية أمام أسطورة الفرد القوي المحرر الذي تتكئ عليه المجموعات الحالمة لإدخالها في فراديس الخلاص الوهمية، ولا حاجة مطلقاً لمجهوداتها أو لمساهماتها أو مشاركاتها في القرارات التي تتعلق بمصائرها، وما عليها سوى تسليم أمرها للغيب والوهم، وإفراغ تلك المجموعات الهائمة من أية قدرة إبداعية وعدم التعويل عليها نهائيا القدرة على التحكم بمصيرها لوحدها وهي دائما بحاجة لولي، ووصي.
الخليفة المنتظر، كما أي منتظر آخر، لا يعني شيئاً سوى العيش في العسل والوهم والأحلام، واستفحال الأزمات، وتأجيلها، وترحيلها، والتعلق بحبال الهواء.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بئس الصحوة الإسلامية
-
شكراً ... وليد بَيْك !!!
-
تلفزيون المستقبل: برنامج الاستخفاف
-
نعم للإجراءات السورية، ولا للعنصرية العربية !!!
-
حروب القبائل العربية
-
إعدام المهدي المنتظر
-
لماذا لا ينصرهم الله؟
-
أين العرب؟
-
سِجْنُ الحِجَابْ
-
المواطن السوري أولاً
-
إسرائيل البريئة!!!
-
شهداء الطغيان
-
إخوان مصر: تباشير النهايات السعيدة
-
الحجّ الوزاري ودعاء دخول الوزارة
-
لماذا يهلل المسلمون لفوز إليسون؟
-
مآتم أم أعياد؟
-
شَنْقُ رَئيس ٍعَرَبِيٍّ !!!
-
خبر عاجل: وزارة الصحة السورية تعترض على محاكمة جنبلاط!!!
-
اللّهم شماتة: انهيار المحاكم الإسلامية
-
حكومة الظلّ الوهابية المصرية
المزيد.....
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|