|
بصدد تسييس ونزع تسييس قضية اللاجئين العراقيين
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1838 - 2007 / 2 / 26 - 11:32
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
تقدر أرقام رسمية سورية عدد اللاجئين العراقيين في البلاد بقرابة 1280 ألفا، ما ينوف، إن صح، على نصف عددهم الكلي في العامين الأخيرين. كان الرقم المتداول قبل ذلك يشير إلى 700 ألف أو أزيد قليلا، وهو يبقى أعلى أو ثاني أعلى عدد للاجئين العراقيين خارج بلدهم (الأردن تنافس). الاختلاف بين الرقمين قد يجد بعض تفسيره في كون الثاني أنسب لتسويغ إجراءات تقييدية أعلنت عنها السلطات السورية في مطلع الشهر الجاري بغرض تنظيم أحوال اللاجئين العراقيين. أما ما قد يسوغ الإجراءات ذاتها فربما يكون مزيجا من تدارك ارتفاعات حادة في أسعار السلع الاستهلاكية والعقارات والإيجارات منذ عام من جهة، وتبادل رسائل سياسية مع الطرفين العراقي والأميركي من جهة. في هذا السياق، الزميل فالح عبد الجبار محق في الكلام على تسييس قضية اللاجئين من قبل أطراف عربية ("الحياة"، 18/2/2007)، وإن كان مثل هذا الكلام من طبائع مئتي دولة أخرى في العالم أيضا، وإن كان قد أضحى لازمة خطابية تتدنى شرعيتها كل يوم في نصوص ناشطين ومثقفين عراقيين، وإن كان هو بالذات كلاما مسيسا يقول شيئا ويصمت عن أشياء. على أن المرء يحار أمام كلام السوسيولوجي العراقي على "صمت عربي مطبق" حيال موضوع اللاجئين العراقيين. يحار ويرتبك. إذ هو (المرء) يفترض أن استقبال اللاجئين العراقيين وعيشهم في البلدان العربية المجاورة (قلة ضئيلة من لجؤوا إلى إيران وتركيا) يغني عن رفع الصوت في شأنهم. وحتى لو أخذ المرء ما قيل عن "الصمت المطلق" على محمل اللوازم التي تقيد في تعريف المتكلم وتتيح الإطلال على تفضيلاته الإيديولوجية وانحيازاته الثقافية والسياسية، دون أن تنفع في معرفة الموضوع المتناول؛ حتى لو فعل ذلك فإنه سيتحفظ على توسل هذه المطالب الذاتية شؤونا تعود بالضرر على القضية التي يدافع عنها الكاتب. أي ضرر؟ قد لا تخطر ببال الأستاذ عبد الجبار أن هناك أصواتا صادحة تخوض في شأن اللاجئين العراقيين في سورية. تقول: إنهم عبء على البلد، وتحملهم مسؤولية موجة ارتفاع الأسعار، وتنفخ في حوادث وشجارات جرت في بعض مناطق سكناهم. ليست هذه الأصوات رسمية، فهنا ليس ثمة غير خطاب "الأخوة القومية" و"واجب الضيافة تجاه الأشقاء" الذي بات بدوره لازمة خطابية تعرف هوية الحكم السوري دون أن تضيء الشأن المعني (وراء الأخوة والضيافة ثمة خمسة مليارات دولار انضافت إلى رصيد العملات الأجنبية في البلاد، يعتقد أن مصدرها لاجئون عراقيون). وليست كذلك أصواتا معارضة، فالمعارضون السوريون يتحرجون لأسباب إيديولوجية، إن لم يكن لأسباب إنسانية، من رفع التذمر من اللجوء العراقي إلى مستوى قضية عامة. الأصوات هذه لأفراد ومجموعات، تتخذ من ثلب "الغريب" توكيدا لوطنيتها، وتجد في ساحة الانترنت الرحبة مراحا تبث فيه عداءها لهؤلاء "الغرباء" الذين يزاحموننا في بلدنا "نحن". ترى، كيف للأصوات العقلانية والإنسانية في سورية أن ترد على هذه الأصوات الشوفينية حين تلقى هذه رفدا من كلام مثقفين عراقيين مرموقين؟ وكيف يمكن الاحتجاج على تسييس قضية اللاجئين العراقيين إن كان نقد التسييس منخرطا في تسييس منهجي لا يقتضي إثباته أدنى جهد؟ هذا دون أن نقول شيئا عن أن قضية اللاجئين سياسية بطبيعتها، حتى حين يتعلق الأمر بأفراد، فما بالك حين يتصل بمئات الألوف! يفهم المرء بسهولة المرارات المعتقة وراء كلام الأستاذ عبد الجبار عن "صمت عربي مطبق"، وعن كون اهتمام الثقافة السياسية العربية منصبا على "شتم الخصوم، لا إنقاذ البشر، وإعفاء النفس من المسؤولية لا إثقالها بمسؤولية واجب ما".. إلخ. لكن يبدو لنا أن التلبث عند هذا التعريض الطقسي بعرب لا ملامح لهم، بات "عقبة معرفية" تحول دون تكون صورة واضحة عن مشكلات عراق اليوم. انتهى صدام ونظامه وعروبته، ولم تعد المثابرة على خوض الحرب السابقة (على دأبٍ يُنسب للجنرالات من قادة الحروب) بعد سنوات أربعة من احتلال الأميركيين للعراق يفيد في غير تصفيح غفلتنا عن الحرب الجارية. ولم يعد لنقد العرب الذي انقلب طقسا هجائيا انفصل عن أصله، ككل طقس، المعنى ذاته بعد انطواء العهد البعثي. وإذ يستمر الطقس هذا فلأنه اكتسب وظائف مختلفة تماما اليوم: تعريف القائمين به كما قلنا، وتجهيل الفاعلين الحقيقيين في عراق اليوم. وجوهر "العقبة المعرفية" المومأ إليها هو رفع أحوال وجدانية، شعورية، مفهومة بحد ذاتها، إلى مرتبة أحكام عقلية. التزام المثقفين هو فيما نرى نقيض ذلك تماما: الفصل بين أحوال الشعور الساخطة أو المستبشرة، وبين معرفة متجردة للواقع، حيث لا ضحك ولا بكاء (سبينوزا)، بل تفكّر ومعرفة فقط. ومن شأن الاضطلاع بهذا الالتزام أن يوفر علينا كثيرا من الكتابة والكلام الكئيب الذي لا يكف عن الندب والنواح (بعد أن أفرط ذات يوم في الاحتفاء بانتصارات موهومة)، ويمعن في النيل من عرب مجردين على ما فعلوه أو لم يفعلوه. يقترح الكاتب العراقي أن تشجع الأمم المتحدة هجرة مؤقتة للاجئين إلى كردستان العراق "شريطة توفير موارد كافية لتغطية حاجات النازحين". يقترح كذلك "فتح باب الهجرة المؤقتة إلى أوربا وأميركا". هنا أيضا يبدو أنه ضغطت عليه نوازع شعورية فانضغط بها، فتحول معقول قوله إلى إيديولوجية. هل من الجدية في شيء الكلام على هجرة مئات الألوف "مؤقتا" إلى أميركا وأوربا، بالخصوص بعد أن علمنا من الكاتب أن 70% من المهاجرين لا يعودون إلى بلادهم؟ وأين المشكلة، أصلا، التي يفترض أن تكون "الهجرة المؤقتة" حلا لها؟ ليس اللجوء بحد ذاته ما دام مليون ونصف مليون عراقي مقيمون، بقليل من الصعوبات، في كل من سوريا والأردن. المشكلة في تلبية الحاجات الصحية والتعليمية والمادية لهؤلاء اللاجئين، ومعالجتها أيسر بالتأكيد في بلدان الاستقبال. وكان أدنى إلى الواقعية والمعقولية التركيز على فكرة وكالة غوث خاص ذات ميزانية كافية لمخاطبة هذه الحاجات. أما عن الهجرة إلى كردستان العراق فهي الحل الأكثر اقتصادا ومعقولية ضمن منطق الوطنية العراقية. لكن فوارق ثقافية ولغوية، وذكريات قريبة، وغربة نفسية لما تذلل، تحول دون ذلك. المسألة ليست في "توفير موارد كافية لتغطية حاجاتهم" هناك. بل في أن للحال التي دفعتهم لهجران وطنهم وجه آخر يحول دون لجوئهم لقسم آمن منه. فإذا كان اللاجئون قد توجهوا إلى سوريا والأردن أساسا، فلأن الوطنية العراقية في أزمة كيانية عميقة، ولأنهم يجدون البلدين قريبين منهم في الثقافة واللغة ونمط الحياة وكلفة المعيشة. هذه عروبة معاشة، تفيض على إيديولوجيات البعثين العراقي والسوري، بقدر ما تتمرد على لوازم طقسية لوّامة، تستقي منها أقلام عراقيين (وسوريين)، ولا تعدو أن تكون استمرارا للذهنية البعثية تحت رايات أخرى.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بصدد السلطة السياسية والسلطة الدينية والاستقلال الاجتماعي وا
...
-
صناعة الطوائف، أو الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية
-
في دلالة انفصال -العمل السياسي- عن السياسة العملية في بلدانن
...
-
تحييد لبنان إقليميا وحياد الدولة اللبناني الطائفي
-
في أصول تطييف السياسة وصناعة الطوائف
-
أميركا الشرق أوسطية: هيمنة بلا هيمنة!
-
رُبّ سيرة أنقذت من حيرة! -هويات متعددة وحيرة واحدة- لحسام عي
...
-
في سورية، استقرارٌ يستبطن حصارا و..يستدعيه
-
حول الطائفية: ورقة نقاش ومقدمة ملف
-
عن حال القانون تحت ظلال الطغيان
-
بيروتُ سوريٍ ملتبس!
-
إهدار المعنى القرباني لإعدام صدام
-
اللهُمَّ أعزَّ الحرية بأحد الدالَيْن: الدين أو الدولة!
-
عمقان لإسرائيل وضحالات متعددة لنا
-
المعارضة الديمقراطية السورية في أزمة!
-
معضلة حزب الله ومحنة لبنان
-
حنين إلى الوطنية القبلية في حمى الدكتاتور
-
في أصل السخط العربي وفصله
-
تعاقب أطوار ثلاث للسياسة والثقافة العربية...
-
كل التلفزيون للسلطة، ولا سلطة للتلفزيون!
المزيد.....
-
-حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو
...
-
الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال
...
-
مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م
...
-
مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
-
هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
-
مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
-
بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل
...
-
-التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات
...
-
القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو)
...
المزيد.....
-
الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية
/ نجم الدين فارس
-
ايزيدية شنكال-سنجار
/ ممتاز حسين سليمان خلو
-
في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية
/ عبد الحسين شعبان
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية
/ سعيد العليمى
-
كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق
/ كاظم حبيب
-
التطبيع يسري في دمك
/ د. عادل سمارة
-
كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
/ تاج السر عثمان
-
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و
...
/ المنصور جعفر
-
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي
...
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|