|
|
لأننا فلسطينيون: نكتب من جهة القلب، ونحمل من جهة الذاكرة حزناً لا يُفسَّر
حسن العاصي
باحث وكاتب
(Hassan Assi)
الحوار المتمدن-العدد: 8534 - 2025 / 11 / 22 - 20:13
المحور:
الادب والفن
نحن الذين وُلدنا وفي أعناقنا غيابٌ لم نختره، وفي وجوهنا ملامح من فقدٍ لم نصنعه. لا أحد يعرف كيف يبدأ الحزن في الروح الفلسطينية، ولا كيف يستقر فيها دون أن يطرق بابًا أو يطلب إذنًا، لأنه ببساطة لم يغادرنا يومًا. الحزن عند الفلسطيني ليس طارئًا، بل هو جزء من تكوينه، يسكنه منذ اللحظة الأولى، يتوارثه كما يتوارث الأرض والذاكرة، ويكبر معه كما تكبر المنافي والمقابر. نحن الذين نحمل في داخلنا أسماءً لم نعد نسمعها، وأحاديثَ لم تكتمل، وصورًا باهتةً لأحبةٍ غابوا تحت التراب أو تفرّقوا في المنافي، ونظل نكتب عنهم لأن الكتابة هي الوسيلة الوحيدة للبقاء. الغربة عند الفلسطيني ليست فقط عن المكان، بل عن الزمن الذي كان فيه البيت عامرًا بالضحكات، وعن الوطن الذي صار حلمًا بعيدًا، وعن الأهل الذين صاروا ذكرى. إنه حزنٌ لا يفسَّر لأنه لا يحتاج إلى تفسير، حزنٌ يرافق الفلسطيني في كل صباح، في كل عيد، في كل أغنية، في كل شارع يشبه شارعًا قديمًا لم يعد موجودًا. هو حزنٌ يشبه الغيمة التي لا تمطر، لكنه يظل حاضرًا، يحجب الشمس، ويذكّرنا أننا أبناء غيابٍ طويل، أبناء وطنٍ لم يكتمل، أبناء ذاكرةٍ لا تنطفئ.
ذاكرة تتنفس في صمت لا أحد يعرف كيف يبدأ الحزن، ولا كيف يستقر في الروح دون أن يطرق بابًا أو يطلب إذنًا. إنه لا يأتي بصوتٍ عالٍ، بل يتسلّل كنسمةٍ باردة في ظهيرةٍ صيفية، يرافقنا حين نكون وحدنا، ويزداد وضوحًا كلما حاولنا أن نبدو بخير أمام الآخرين. الحزن لا يعلن حضوره، بل يختبئ في تفاصيل صغيرة: في ارتجاف اليد حين نكتب، في نظرةٍ طويلة إلى نافذةٍ مغلقة، في تنهيدةٍ لا يسمعها أحد. غربتنا ليست فقط عن المكان، بل عن الزمن الذي كان فيه صوت أمهاتنا يوقظنا برفق، وضحكات آبائنا تملأ البيت دفئًا، ووجوه الأحبة تتزاحم حول مائدةٍ صغيرة لا تحمل الكثير، لكنها كانت تكفي لتشبع القلب. الآن، كل شيء تفرّق؛ منهم من رحل إلى بلادٍ لا نعرفها، ومنهم من غاب تحت التراب، ومنهم من صار غريبًا رغم قربه. نحمل في داخلنا أسماءً لم نعد نسمعها، وأحاديثَ لم تكتمل، وصورًا باهتةً لأشخاصٍ كانوا يملؤون حياتنا دفئًا، ثم اختفوا كأنهم حلمٌ لم يُكتب له أن يكتمل. نشتاق إلى بيتٍ لم يعد موجودًا، إلى رائحةٍ لا تُصنع في المنافي، إلى لهجةٍ لا تُفهم هنا، إلى تفاصيلَ صغيرةٍ كانت تصنع يومنا، ثم اختفت فجأة دون وداع. كلما مررنا بشارعٍ يشبه شارعنا القديم، أو سمعنا أغنيةً كانت تُشغل في المساء، يعود الحزن كأنه لم يغادر، يضع يده على كتفنا، ويقول لنا: "أنا هنا، لم أنسَ أحدًا". نحاول أن نشرح هذا الحزن، لكن الكلمات تخوننا. كيف نشرح وجع الغربة حين لا يكون المكان هو المشكلة، بل غياب من كانوا يجعلون المكان حيًّا؟ كيف نفسر شعور أننا نعيش في عالمٍ لا يعرفنا، بينما نحن ممتلئون بذكرياتٍ لا يعرفها أحد؟ ليس كل حزنٍ يُقال، وليس كل وجعٍ يُشرح. ثمة حزنٌ يسكننا، لا يعرف طريقًا إلى الكلمات، ولا يطلب تفسيرًا. هو ليس ناتجًا عن حدثٍ بعينه، ولا مرتبطًا بزمنٍ محدد. إنه كائنٌ يتنفس داخلنا، يرافقنا في الصباحات الهادئة، وفي الليالي التي يطول فيها الصمت أكثر من اللازم. حزننا لا يصرخ، بل يهمس. لا ينهار، بل يتكئ على جدار القلب بصمتٍ عميق. أحيانًا نراه في انعكاس وجوهنا على زجاج النافذة، وأحيانًا نسمعه في صوت الأغاني التي لا نختارها، لكنها تختارنا. هو حزنٌ لا يُفسر لأنه لا يطلب تفسيرًا، ولا يرضى أن يُختزل في جملة أو تحليل. إنه يشبه الغيمة التي لا تمطر، لكنها تحجب الشمس. يشبه الطرقات التي نعرفها جيدًا، لكننا لا نعود منها كما كنا. يشبه الذاكرة حين تتسلل فجأة، وتضع يدها على كتفنا، دون أن تقول شيئًا. ربما هو حزنٌ قديم، ورثناه من أماكن لم نزُرها، ومن وجوهٍ لم نلتقِ بها، ومن أحلامٍ لم تتحقق لكنها بقيت معلّقة في سقف الروح. وربما هو حزنٌ جديد، يولد كلما شعرنا أننا لا ننتمي، أو أننا ننتمي أكثر مما ينبغي. لا نطلب من أحد أن يفهمه، ولا نطلب من أنفسنا أن نشرحه. يكفينا أنه يعلّمنا الصبر، ويمنحنا قدرةً على الإصغاء لما لا يُقال. يكفينا أنه يجعلنا نكتب، ويجعلنا نبحث عن الجمال في التفاصيل الصغيرة، وعن المعنى في الأشياء التي يتجاوزها الآخرون.
ذاكرة لا تنام ليس حزننا عابرًا، ولا طارئًا، ولا ابن لحظةٍ انكسرت فيها الأشياء. إنه مقيمٌ في داخلنا، كضيفٍ لا يُغادر، كظلٍّ لا يزول، كصوتٍ خافتٍ يهمس لنا حين ينام الجميع. هو ليس دمعةً تسقط، ولا تنهيدةً تُطلق، بل هو ذلك الثقل الذي لا يُرى، ذلك الانحناء الخفيف في ظهرنا حين نُحاول أن نبدو بخير. حزننا لا يُفسر، لأنه لا يملك بدايةً ولا نهاية. هو ليس نتيجة، بل حالة. كأننا وُلدنا به، أو كأننا التقطناه من طريقٍ مهجور، حين كنا نبحث عن شيءٍ يشبهنا، فوجدناه ينتظرنا بصمت. أحيانًا، نُحاول أن نُسميه: هل هو حنين؟ هل هو فقد؟ هل هو خيبة؟ لكنّه يرفض كل الأسماء، ويُصرّ أن يبقى مجهولًا، كأنّ الحزن الحقيقي لا يُعرّف، بل يُعاش. نراه في انعكاس وجوهنا حين لا أحد ينظر، في ارتباك أيدينا حين نكتب شيئًا لا يكتمل، في ارتجاف صوتنا حين نُحاول أن نشرح ما لا يُشرح. هو ليس حزنًا على شخصٍ أو مكان، بل هو حزنٌ على كل ما لم يحدث، على كل ما كان يجب أن يكون، ولم يكن. على الأحلام التي لم تُولد، وعلى الكلمات التي لم تُقال، وعلى الحب الذي مرّ بنا، ولم يتوقف. يشبه الغروب حين يتأخر، يشبه الطرقات التي لا تؤدي إلى أحد، يشبه الأغاني التي تُبكينا دون أن نفهم لماذا. نُحاول أن نُخفيه، نُخبّئه خلف ابتسامةٍ متعبة، نُربّت عليه كطفلٍ لا يُريد أن ينام، لكنّه يُصرّ أن يبقى مستيقظًا، أن يُرافقنا في كل لحظة، أن يُذكّرنا بأننا هشّون، وأننا، رغم كل شيء، ما زلنا نبحث عن دفءٍ لا نعرفه. حزننا لا يُفسر، لأنه ليس ضعفًا، بل هو شكلٌ آخر من أشكال البقاء. هو ذلك الجزء منا الذي لا يُساوم، الذي لا يُجامل، الذي لا ينسى. لا يُفسر لأنه شكلٌ آخر من أشكال القوة. الجزء الذي لا يتنازل. هذا الحزن لا يُفسر، لأنه ليس لحظة، بل حياة. هو ذلك الانكسار الصامت حين نُحدّق في صورٍ قديمة، هو ذلك الثقل في صدرنا حين نسمع أسماءنا ولا يردّها صوتٌ نعرفه، هو ذلك الفراغ الذي لا يملؤه شيء، مهما ازدحمت الأيام. نحن لا نبكي كثيرًا، لكننا نحزن بصمتٍ عميق، كأننا نُحاور الغياب، ونُصادق الوحدة، ونُربّي الحنين كطفلٍ لا يكبر. وهكذا نعيش، لا نطلب تفسيرًا، ولا نبحث عن عزاء، يكفينا أننا نكتب، لعل الكتابة هي الطريقة الوحيدة التي نُبقي بها من أحببناهم أحياء في قلوبنا.
ظلّ لا يُقال ثمة ظلّ يتبعنا، لا يشبه ظلال الأشياء حين تسقطها الشمس، بل يشبه وجوه من غابوا دون وداع. ظلّ لا يُقال، لأنه ليس حكاية تُروى، بل وجعٌ يسكن بين الضلوع، يتنفس في صمت، ويكبر كلما تذكرنا أننا لم نعد نملك بيتًا نعود إليه، ولا صوتًا ينادينا بأسمائنا كما كانت تفعل أمهاتنا. نحمل غربتنا كأنها حقيبة مثقوبة، تسقط منها الذكريات واحدةً تلو الأخرى، ولا نملك أن نلتقطها. كل الذين أحببناهم تفرّقوا: من مات، ومن رحل، ومن صار غريبًا رغم أنه كان الأقرب. لم يبقَ لنا سوى صورٍ باهتة، وأحاديثَ مبتورة، وأسماءٍ لا يردّ عليها أحد. نجلس في الليل، لا لنرتاح، بل لنُصغي إلى ذلك الظلّ، يهمس لنا بما لا يُقال، يذكّرنا بأننا وحدنا، وأننا، مهما كتبنا، لن نستعيد من فقدناهم. الحنين لا يُشفى، والفقد لا يُعوّض، والغربة ليست في المكان، بل في القلب الذي لم يعد يعرف أين ينتمي. هذا الظلّ لا يُقال، لأنه لا يُفهم. هو ذلك الانكسار الذي لا يُرى، ذلك الحزن الذي لا يبكي، ذلك الغياب الذي لا يملّ من الحضور. يشبه صدى خطواتٍ في ممرّ طويل، لا يصل إلى باب، ولا يختفي مهما حاولنا أن نغلق الأبواب.
ما تبقّى منّا لم نعد كما كنا، ولا كما ظنّوا أننا سنبقى. كلّ ما كان يومًا جزءًا منا، تسرّب بصمتٍ في طرقات الغياب. نحملنا الآن كغرباء عن أنفسنا، كمن يجرّ ظلّه في مدينة لا يعرفها، كمن يبتسم للناس كي لا يسألوننا عمّا يؤلمنا. ما تبقّى منا ليس سوى فتات ذاكرة، صورٌ قديمةٌ لأحبّةٍ رحلوا، أحاديثٌ مبتورةٌ لم تكتمل، وأسماءٌ لا يردّ عليها أحد. نجلس في الليل، لا لنرتاح، بل لنُحصي من فقدناهم، من مات، ومن تفرّق، ومن صار غريبًا رغم أنه كان الأقرب. نحن نَحنّ إلى بيتٍ لم يعد موجودًا، إلى رائحة خبزٍ كانت توقظنا، إلى صوت أمهاتنا وهنّ يناديننا، إلى ضحكات آبائنا التي كانت تملأ المساء دفئًا. كلّ ذلك صار بعيدًا، كأننا كنا هناك في حياةٍ أخرى، ثم استيقظنا فجأة في منفى لا يشبهنا. ما تبقّى منا هو الحنين، ذلك الذي لا يُشفى، ذلك الذي لا يُقال، ذلك الذي يجعلنا نكتب كي لا ننسى، كي لا نذوب في هذا الزحام الذي لا يعرفنا. نحن لسنا بخير، لكننا نُجيد التماسك، نُجيد الصمت، ونُجيد أن نبدو قويّين، رغم أننا، في داخلنا، نحمل ما تبقّى منا فقط. يشبهنا هذا الحنين حين يوقظنا في منتصف الليل، يفتح دفاتر الصور القديمة، ويعيد إلينا أصواتًا كنا نظنها ماتت. نُحاول أن نُخفيه، لكنّه يطلّ من أعيننا، من ارتجاف أصابعنا، من الكلمات التي نكتبها كي لا ننهار.
حين صار البيت صورة لم يعد البيت مكانًا نعود إليه، بل صار صورةً معلّقة في ذاكرة لا تهدأ. صورةٌ باهتة التقطناها قبل أن يغادر الجميع: أمهاتنا واقفات عند الأبواب، آباؤنا يقرأون بصمت، إخوتنا يتزاحمون حول المائدة، وضحكاتٌ كانت تملأ الزوايا. كل شيء كان حيًّا، دافئًا، بسيطًا. والآن، لا شيء سوى فراغٍ لا يُملأ، وصمتٍ لا يُكسر، وحنينٍ لا يُشفى. نمرّ على تلك الصورة أحيانًا، لا لنتذكّر، بل لنتأكد أننا كنا هناك فعلًا. أننا كنا جزءًا من حياةٍ لم تعد لنا. البيت الذي كان يحمينا من العالم، صار الآن مجرد إطارٍ خشبيٍّ على جدارٍ بارد. لا رائحة فيه، لا أصوات، لا دفء. فقط ملامح من أحببناهم، بعضهم مات، بعضهم رحل، وبعضهم تفرّق كأننا لم نكن يومًا عائلة. الغربة ليست في المدن التي لا تعرفنا، بل في البيت الذي لم يعد موجودًا. في التفاصيل التي ضاعت، في الأحاديث التي لم تكتمل، في الأبواب التي أُغلقت دون وداع. حين صار البيت صورة، صار الحنين وجعنا اليومي، وصار الحزن طريقتنا الوحيدة للبقاء. يشبه البيت الآن كتابًا أغلق فجأة قبل أن نكمل قراءته، أو أغنية توقفت عند منتصف اللحن. كلما حاولنا أن نعيد فتحه، نكتشف أن الصفحات فارغة، وأن الأصوات التي كانت تملأه صارت صدى بعيدًا لا يجيب.
وجوه لا تعود، وأماكن لا تُشفى كلما مرّ بنا الوقت، ندرك أننا لا نعيش في الحاضر، بل في بقايا زمنٍ مضى. وجوهٌ كانت تملأ حياتنا دفئًا، صارت الآن صورًا باهتة في ذاكرة لا ترحم. نُحدّق فيها، لا لنتذكّر، بل لنتأكد أننا كنا هناك فعلًا، أننا كنا يومًا جزءًا من حياةٍ لم تعد لنا. منهم من غاب تحت التراب، ومنهم من غاب في الغياب، ومنهم من غاب في نفسه حتى صار لا يشبه من عرفناه. أما الأماكن، فهي لم تعد كما كانت. البيت الذي كان يضحك، صار جدارًا صامتًا. الشارع الذي كنا نركض فيه، صار ممرًا غريبًا لا يعرفنا. المقهى الذي شهد أولى خيباتنا، أغلق أبوابه، وكأنّه تعب من الانتظار. كل شيء تغيّر، لكننا ما زلنا نبحث فيه عن أنفسنا، عن صوتٍ مألوف، عن رائحةٍ قديمة، عن لحظةٍ لم تُكمل دورتها. الوجوه لا تعود مهما توسّلنا للذاكرة أن تُعيدها، والأماكن لا تُشفى لأنها لا تنسى من مرّ بها ولا من ترك فيها شيئًا من روحه. نحملنا الآن كمن يحمل أطلالًا، كمن يعيش في متحفٍ داخليٍّ لا يزوره أحد. وكلما حاولنا أن نبدو بخير، ينهض الحنين من داخلنا، يضع يده على قلوبنا، ويقول لنا: "ما زلتم هناك، حيث الوجوه لا تعود، والأماكن لا تُشفى." يشبه هذا الحنين موجًا يتراجع ليعود أقوى، يضربنا كلما حاولنا أن نثبت أننا تجاوزنا. نُخفيه خلف ابتساماتٍ متعبة، لكنّه يطلّ من أعيننا، من ارتجاف أصابعنا، من الكلمات التي نكتبها كي لا ننهار.
خرائط القلب الممزقة لم نعد نعرف الطريق إلى أنفسنا. كل الطرق التي كانت تؤدي إلينا، تكسّرت تحت وطأة الغياب، وتاهت في زحام الفقد. قلوبنا لم تعد كما كانت، صارت أشبه بخريطة قديمة، باهتة، ممزقة الأطراف، لا تُرشد أحدًا، ولا تحتفظ بوجهةٍ واضحة. كلّ نبضة فيها تحمل اسمًا غاب، وكلّ زاوية فيها تئنّ من ذكرى لم تُكتمل. نُحاول أن نُعيد ترتيب هذه الخرائط، أن نرمّم ما تبقّى منها، لكنّ الأماكن التي كانت تسكننا لم تعد موجودة، والوجوه التي كانت تضيء أيامنا، صارت ظلالًا لا تُجيب. نكتب أسماءهم على جدران القلب، لكنّ الحروف تتلاشى، كأنّهم لم يكونوا يومًا هنا، كأنّنا كنا نحلم بهم، ثم استيقظنا في منفى لا يشبهنا. كلّ خريطة في داخلنا تشير إلى بيتٍ لم يعد لنا، إلى حضنٍ لم نعد نجد فيه دفئنا، إلى صوتٍ كان يردّ على ندائنا، ثم سكت إلى الأبد. نحن لا نبحث عن طريقٍ جديد، بل نبحث عن أنفسنا في الطرق القديمة، في الأزقة التي كانت تحفظ أسماءنا، في الأماكن التي كانت تعرفنا قبل أن نضيع. خرائط القلب الممزقة لا تُصلحها الكتابة، لكنها تمنحنا سببًا للبقاء، لنكتب، لا كي نُشفى، بل كي لا ننسى. كي نظلّ نبحث، ولو في الفراغ، عن شيءٍ يشبهنا… عن قلبٍ لا يزال يعرف كيف يحب، رغم كل ما تمزّق. يشبه هذا القلب مدينة بلا أبواب، كلما حاولنا الدخول إليها، وجدناها مغلقة بالصمت، محاطة بأسوار من الحنين، لا تفتح إلا في الأحلام.
لا أحد ينتظرنا هناك كلما فكّرنا في العودة، تذكّرنا أن لا أحد ينتظرنا هناك. البيت الذي كان يضجّ بالأصوات، صار صامتًا كأنّه لم يعرفنا يومًا. الشارع الذي كنا نركض فيه صغارًا، صار غريبًا، لا يردّ السلام، ولا يعرف وقع خطواتنا. حتى الباب الذي كنا نفتحه دون أن نطرق، صار مغلقًا، لا يفتح إلا للذكريات. أولئك الذين كانوا يملؤون المكان دفئًا، رحلوا. منهم من غاب إلى الأبد، ومنهم من تفرّق في جهات الأرض، ومنهم من صار أشخاصًا آخرين، لا يشبهون من أحببناهم. لم يبقَ لنا هناك سوى رائحةٍ قديمةٍ في الجدران، وصورةٍ معلّقةٍ على الحائط، وكرسيٍّ فارغٍ لا يجلس عليه أحد. نفكّر أحيانًا أن نعود، لكننا نخاف أن نجد المكان كما هو، ونخاف أكثر أن نجده قد تغيّر، أن يكون قد نسي وجوهنا، أن تكون الأزقة قد محَت أسماءنا من جدرانها. لا أحد ينتظرنا هناك، ولا أحد يسأل عنا، ولا أحد يفتح لنا الباب حين نقترب. وكلما اقتربنا من فكرة العودة، نبتعد أكثر، لأننا لا نحتمل أن نعود غرباء إلى المكان الذي كان يومًا كلّ عالمنا. الغربة ليست فقط في المدن البعيدة، بل في الأماكن التي كانت تعرفنا، ثم نسيتنا. وفي الوجوه التي كانت تحبّنا، ثم غابت. وفي البيت الذي صار صورة، وفي الطريق الذي لا يردّ على خطانا. لا أحد ينتظرنا هناك… ولا أحد يعرف كم يؤلمنا ذلك. يشبه هذا الإحساس بابًا صدئًا لا يُفتح مهما طرقناه، أو نافذةً مغلقة خلفها ضوءٌ لا يصل إلينا. كلما اقتربنا، ابتعد أكثر، كأنّ المكان نفسه يخاف أن يرانا كما صرنا.
البيت الذي لا يعرفنا بعد الآن عدنا ذات مساءٍ إلى الحيّ الذي كنا نظنه يعرفنا، إلى البيت الذي كنا نظنه ينتظرنا. وقفنا أمام الباب كما كنا نفعل صغارًا، لكن شيئًا في الجدار كان غريبًا، كأنّه لم يرنا من قبل. لم يفتح الباب، ولم تخرج أمهاتنا لتسألننا إن كنا جائعين، ولم نسمع صوت آبائنا يطلب منا أن نهدأ قليلاً. كل شيء كان صامتًا، حتى الهواء بدا متردّدًا في التنفس. البيت تغيّر، أو ربما نحن الذين تغيّرنا. النافذة التي كنا نطلّ منها على العالم، أُغلقت. الكرسي الذي كنا نجلس عليه لنكتب، اختفى. رائحة القهوة، صوت المذياع، ضحكات إخوتنا، كلّها غابت. كأنّ البيت نسي من كنا، أو كأنّه لم يكن لنا يومًا. نُحدّق في الجدران، نبحث عن أثرٍ لنا، عن خربشةٍ على الحائط، عن كتابٍ تركناه ذات مساءٍ ولم نعد إليه. لكنّ الجدران صارت باردة، لا تردّ السلام، ولا تعترف بنا. نشعر أننا غرباء في المكان الذي كان أكثر الأماكن أمانًا. نشعر أننا زوّار في ذاكرةٍ كانت لنا، ثم تخلّت عنا. البيت لا يعرفنا بعد الآن، ولا نحن نعرف كيف نكون فيه. كلّ ما تبقّى هو صورةٌ قديمة، وألمٌ جديد، وغربةٌ لا تُشفى. يشبه هذا البيت الآن قفصًا فارغًا، بلا أصوات ولا دفء، كأنّ الحياة التي كانت فيه انسحبت إلى الأبد.
كل ما تبقّى منّا لم يبقَ منّا سوى ما لا يُقال. بعض الصور التي لم تُحرقها السنوات، أحاديث مبتورة في ذاكرة متعبة، وأماكن كانت تعرفنا، ثم نسيتنا. كنا نضحك، نخطط، نكتب أحلامنا على جدران البيت، كنا نؤمن أن الغد لنا، وأننا سنبقى مهما تغيّر العالم. لكن العالم لم ينتظرنا، والأيام مضت كأنها تُعاقبنا على ثقتنا الزائدة. كل ما تبقّى منّا هو ما لم نُكمله، رسائل لم تُرسل، أمنيات لم تتحقق، وأسماء نُردّدها في داخلنا كي لا تختفي. نُحدّق في وجوههم في الصور، نُحاول أن نستعيد صوتهم، ضحكتهم، تفاصيلهم الصغيرة التي كانت تصنع يومنا. لكنّ الصور لا تتكلم، والذاكرة تُرهقنا، والحنين لا يرحم. منهم من مات، ومنهم من رحل، ومنهم من صار غريبًا رغم أنه كان الأقرب. وحدنا نُعيد ترتيب الفقد، نُربّي الحنين كمن يُربّي وجعًا لا يُشفى. كل ما تبقّى منّا هو نحن، نحن الذين نكتب كي لا ننسى، نحن الذين نُقاوم كي لا ننهار، نحن الذين نُحبّهم رغم الغياب، ونُحبّهم أكثر لأنهم غابوا. هذا ما تبقّى منّا… وجعٌ لا يُقال، وحنينٌ لا يُشفى، وظلٌّ لا يغادر. يشبهنا هذا الحنين حين يوقظنا في منتصف الليل، يفتح دفاتر الصور القديمة، ويعيد إلينا أصواتًا كنا نظنها ماتت. نُحاول أن نُخفيه، لكنّه يطلّ من أعيننا، من ارتجاف أصابعنا، من الكلمات التي نكتبها كي لا ننهار.
ما زلنا نبحث عن ملامحنا في الصور القديمة نُقلّب الصور كما لو أننا نُنقّب في أطلال أنفسنا. نُحدّق طويلًا في الوجوه التي كانت تحيط بنا، في ابتسامةٍ كنا نظنها حقيقية، في نظرةٍ كانت تحمل شيئًا من الأمل، أو شيئًا منّا. نبحث عن وجوهنا بين تلك الوجوه، لكننا لا نجدها. كأننا كنا هناك أجسادًا فقط، حاضرين في الصورة، غائبين عن اللحظة. في كل صورة، ثمة شيء ناقص. ربما هو الصوت الذي لم يُسجّل، أو الشعور الذي لم يُحفظ، أو الحزن الذي كان يختبئ خلف ابتسامةٍ مصطنعة. نُحاول أن نستعيد ملامحنا كما كانت، لكنّ الزمن غيّرنا، والغربة مزّقتنا، والفقد شطب أجزاءً منا لا تُرمّم. نُحدّق في صورةٍ قديمة لأمهاتنا، نُراقب أيديهنّ وهنّ يمسكن بنا، كأنهنّ كنّ يحاولن أن يُبقين قلوبنا في مكانها. نُحدّق في آبائنا، في وقفاتهم الصامتة، في عيونهم التي كانت تقول كل شيء دون أن تنطق. نُحدّق في أنفسنا، ولا نجدنا. ما زلنا نبحث عن وجوهنا في الصور القديمة، لعلّنا نُعيد ترتيب ما تبقّى منا، لعلّنا نُقنع أنفسنا أننا كنا يومًا أشخاصًا يعرفون من هم، قبل أن تُبعثرنا المنافي، وتُطفئنا الخيبات، وتُعلّقنا في ذاكرة لا تُشفى. كل صورة هي مرآةٌ لا تعكسنا، كل لحظةٍ محفوظة على ورق، تُذكّرنا بأننا كنا هناك، لكننا لم نكن حقًا. وما زلنا نبحث، لا عن وجوهنا فقط، بل عن أنفسنا التي ضاعت في التفاصيل، ولم تعد. يشبه هذا البحث محاولة الإمساك بظلٍّ في ضوءٍ متكسّر، أو جمع شظايا مرآةٍ تحطّمت منذ زمن بعيد. كلما اقتربنا من ملامحنا، ابتعدت أكثر، كأنّها تخاف أن نراها كما صرنا.
نكتب كي لا نموت من الحنين نكتب لأننا لا نملك وسيلة أخرى للبقاء، لأن الكلمات هي الجسر الأخير بيننا وبين ما فقدناه. نكتب كي لا يبتلعنا الصمت، كي لا نذوب في فراغٍ لا يرحم، كي نُمسك بخيطٍ رفيع يربطنا بما كان لنا يومًا. كل حرفٍ نكتبه هو محاولة لإنقاذ ما تبقّى منّا، محاولة لإعادة الحياة إلى أصواتٍ خفتت، إلى وجوهٍ غابت، إلى أماكنٍ لم تعد تعرفنا. الحنين ليس زائرًا عابرًا، بل موجة تتسلّل من تحت الأبواب، تجلس بجانبنا في الليل، وتفتح دفاتر الأيام التي مضت. يوقظنا حين نظن أننا تجاوزنا، يذكّرنا أن الغياب ليس مجرد مسافة، بل كرسي فارغ في زاوية الذاكرة، ظلّ لا يغادر مهما أطفأنا الضوء. نكتب لأننا لا نستطيع أن نصرخ، لأننا لا نجد من يسمعنا حين نبكي بصمت، لأن الكتابة هي نافذة نفتحها حين تُغلق كل الأبواب. نكتب كي نُربّي حزننا، كي نُهدهده حين يشتدّ، كي نُقنعه أننا ما زلنا هنا، رغم كل ما فُقد. نكتب لأننا نخاف أن يسرقنا النسيان، أن نمحو وجوههم من ذاكرتنا، أن نصير غرباء عن أنفسنا. نكتب لأننا نريد أن نُبقيهم أحياء في السطور، أن نُبقي أصواتهم حيّة في الكلمات، أن نُقاوم فكرة أن كل شيء انتهى. نكتب لا لنروي قصة، بل لنُبقي ما كان حيًّا فينا، لنُعيد ترتيب الخراب، لنُرمّم ما تهدّم في القلب. نكتب لأننا، في كل مرة نكتب، نعيد بناء أنفسنا من الرماد، ونقنع قلوبنا أننا ما زلنا هنا، رغم كل ما فُقد. نكتب لأننا نؤمن أن الحروف يمكن أن تكون أجنحة، وأن الورق يمكن أن يكون وطنًا حين لا يبقى لنا وطن. نكتب كي لا نموت من الحنين… وأحيانًا، نكتب لأننا متنا بالفعل، لكننا لا نريد لأحد أن يعرف.
#حسن_العاصي (هاشتاغ)
Hassan_Assi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفساد في البعثات الفلسطينية: الملفات المسكوت عنها
-
فلسطين في المغرب: لاجئة في القلب، مقيمة في الوعي والضمير
-
الدبلوماسية الفلسطينية من رياض المالكي إلى فارسين شاهين: الو
...
-
قمة بلا ضمير: حين يُغسل الدم الفلسطيني بالتصفيق.. ويُكتب مصي
...
-
نوبل للسلام: بين الضحية والسردية الغربية
-
محرقة القرن: غزة جرح في ضمير العالم.. الدم الذي لا يُرى
-
الناجون في غزة: حين تصبح النجاة شكلاً آخر للموت
-
إعلان انطلاق مجلة تفكيك للدراسات الأنثروبولوجية والثقافية وق
...
-
الاستعمار الاستيطاني والصراع غير المتكافئ: فلسطين نموذجاً
-
أزمة الهويات الأوروبية
-
بين الاعترافات العالمية والواقع المحلي: السلطة الفلسطينية في
...
-
صدور كتاب خرائط اليرموك في قلبي: حين تتحول الذاكرة إلى خريطة
...
-
بين الحياد والانحياز: قراءة في التصويت الأممي.. فلسطين في مر
...
-
خرائط الحيرة الفلسطينية: أربع مفترقات وطنية.. قراءة في أزمة
...
-
إسرائيل تضرب في قلب الخليج... والأنظمة تُراكم التنديد.. تحول
...
-
مخيم اليرموك ذاكرة لا تُغادر… حين كانت الأزقة تحفظ أسماءنا
-
السلطة الفلسطينية في مأزق الوظيفة: دعوة لحلها واستعادة المشر
...
-
الخطاب الإعلامي العربي: كيف يُعاد تشكيل فلسطين في زمن التطبي
...
-
سلام بلا أرض، وشرعية بلا سيادة: فشل الاعتدال الفلسطيني
-
نقد من الداخل أم تطبيع من الخارج؟ قراءة في لقاءات المثقفين ا
...
المزيد.....
-
مهرجان الدوحة السينمائي ينطلق بتكريم جمال سليمان ورسائل هند
...
-
200 شخصية سينمائية أجنبية تحضر فعاليات مهرجان فجر الدولي
-
كتابة الذات وشعرية النثر في تجربة أمجد ناصر
-
الكلمة بين الإنسان والآلة
-
الفنان الأمريكي الراحل تشادويك بوسمان ينال نجمة على ممشى الم
...
-
مصر.. الأفلام الفائزة بجوائز مهرجان -القاهرة السينمائي- الـ4
...
-
فولتير: الفيلسوف الساخر الذي فضح الاستبداد
-
دموع هند رجب تُضيء مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ46
-
توقيع الكتاب تسوّل فاضح!
-
فيثاغورس… حين يصغي العقل إلى الموسيقى السرّية للكون
المزيد.....
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|