أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - رسالةٌ وصلت متأخرة














المزيد.....

رسالةٌ وصلت متأخرة


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8534 - 2025 / 11 / 22 - 18:52
المحور: الادب والفن
    


ساعي بريد… وحبٌّ ضاع عند أول منعطف

كانت ظهيرة ربيعية هادئة في حديقة الزوراء. الأشجار تلوّح بأغصانها للهواء، والأطفال يتراكضون في مساراتٍ متشابكة بين العائلات.
جلست هالة على مقعد خشبي قريب من نافورة صغيرة، تتأمل حركة الماء الصاعدة والهابطة كأنها تبحث عن شيءٍ ضائع داخلها منذ زمن.
رفعت رأسها بلا قصد، فرأت رجلًا يمشي غير بعيد، ممسكًا بيد طفل صغير، تسير خلفه امرأة تحمل رضيعًا.
لم يأخذ الأمر أكثر من ثانية… حتى تعرّفت على ملامحه.
تجمّد الزمن.
توقّف الهواء.
وتسارعت نبضات قلبها كأنها تعود عشر سنوات إلى الوراء.
همست:
"سالم…؟"
التفت.
وقف في مكانه كمن صُدم بذكريات لم يتهيأ لها.
حدّق فيها طويلًا… حتى اغرورقت عيناه بدهشة لا تخطئها هالة.
اقترب منها بخطوات مرتبكة.
زوجته بقيت على بُعد مسافة، منشغلة بالرضيع، لا تسمع شيئًا.
سالم (بحيرة):
"هالة؟ معقولة…؟"
هالة (بابتسامة حزينة):
"الدنيا صغيرة… بس الوجع بيها يكبر."
جلس نصف جلوس، كأنه لا يعرف أين يضع نفسه.
نظر إلى الطفل بيده، ثم إليها، ثم إلى الزوجة التي بدأت تقترب ولكن ببطء.
هالة:
"إبنَك…؟"
سالم:
"إي… وهذا أخوه ويا أمّه."
سكت لحظة… ثم قالت بصوتٍ خافت:
"ما توقعت نشوف بعض بهالطريقة."
سالم:
"ولا آني… والله."
اقتربت الزوجة أكثر.
رآها سالم من طرف عينه، فعرف أنه يجب أن ينهي الحديث فورًا.
هالة (بكسرٍ في الصوت):
"لو جان الزمن بيه رحمة… جان غير شي صار بيناتنا."
خفض سالم رأسه.
كلمتها أعادت إليه كل الحكاية دفعة واحدة… الباب الأزرق… الرسائل… النظرات… منع الجيرة… الصمت الطويل.
سالم:
"الوقت سبقنا… ورسم طريق ما نكدر نرجع عنه."
اقتربت الزوجة أكثر الخطوات الأخيرة.
التفت إليها سالم ثم عاد بنظره إلى هالة وقال بسرعة، قبل أن يصل أحد:
"الله يسهّل عليج ان شاء الله."
أجابته وهي تحبس دمعتها:
"الله يحفظكم… ويضيّع عنكم كل وجع."
ثم استدار.
وصلت الزوجة بالضبط بعد ثانية واحدة.

نظرت الزوجة إلى هالة من بعيد — امرأةٌ تقف وحدها، تمسح دمعة وتسند يدها على المصطبة.
قالت بقلق:
"سالم… من هاي البنية؟"
أخذ نفسًا قصيرًا، ثم قال بصوتٍ حاول أن يجعله عاديًا:
"معرفة قديمة… جانت وحدة من البيوت اللي أجيب إلهم رسائل قبل سنين."
تحدّق فيه، مستغربة ارتباكه:
"إي بس… تحسّفت، كأنه صار شي."
ابتسم ابتسامة صغيرة متعبة:
"لا. بس الذكريات مرات تجي بلا سبب."
لم تُطِل السؤال.
سارت بجانبه، وهو يمسك بيد الطفل بخطوات ثقيلة…
خطوات رجل يترك خلفه صفحة لم تُغلق تمامًا.
أما هالة، فبقيت جالسة على المصطبة، تحاول حبس دموعها.
وحين غاب سالم بين الأشجار، أسندت رأسها إلى الوراء، وأغمضت عينيها.
"يمكن الرسالة جانت لازم توصل…
بس الزمن ما يحب الرسائل المتأخّرة."

قبل عشر سنوات، كان سالم يعمل ساعي بريد في أحد أحياء بغداد القديمة.
يمشي بين الأزقة بحقيبته الجلدية، يعرف الوجوه والأبواب والمشاعر المتعبة خلف كل شباك.
في صباحٍ عادي، وقف أمام بابٍ خشبيٍّ أزرق.
طرق.
فُتح الباب…
وظهرت هالة للمرة الأولى.
كانت شابة في أوائل العشرينيات، لها نظرة هادئة تُسكت ضجيج العالم كله.
ناولها الرسالة وهو يحاول أن يخفي ارتباكه:
"هاي الرسالة إلكم."
هالة:
"تسلم… ممنونة."
كانت ابتسامة قصيرة… لكنها أصابت قلبه إصابة لا تُشفى.
تكرار… واشتباك قلوب
صار سالم ينتظر رسائل بيتهم كما ينتظر المطر.
كل مرة يطرق الباب، تخرج هالة…
تبتسم، فيرتبك…
تسأل، فيتلعثم…
وتطول اللحظة أكثر مما تسمح به العادات.
هالة (مازحة):
"هواي صايرة رسائل… شنو جماعتنا مشهورين؟"
سالم (يضحك بخجل):
"يمكن… وإلا آني دا أسوي روحي أجي بس حتى أشوفچ."
ضحكت.
وحدث ما يحدث دائمًا:
الكلمات قصار…
القلوب طِوال…
والحب ينبت بصمت.

ذات يوم، فتح الباب شخص آخر.
الأخ الأكبر.
عيناه تقدحان غضبًا.
الأخ:
"إنت! تعال يمّي."
تقدّم سالم بخوف لا يعرف سببه.
الأخ:
"شنو السوالف هاي يم بابنا؟ ها؟"
سالم:
"آني بس…"
الأخ (مقاطعًا):
"بس ماكو. بعد ما أشوفك يم بيتنا ولا يم الحي كلّه. هاذي سوالف ما تمشي عدنه."
سالم:
"ما دا أسيء… ولا طلع منّي غلط."
الأخ:
"أحچي مرة وحدة: ابتعد. هسة… وألا....."
لم يكن أمام سالم إلا أن ينصرف.
أما هالة، فأصبحت سجينة البيت…
سجينة الخوف…
وسجينة «ماذا يقول الناس».

الزمن دار…
سالم تزوّج…
هالة بقيت على الهامش…
حتى جمعتهما حديقة واحدة بلا موعد.
لقاءٌ قصير، كُتب عليه أن يكون الأخير.
ومشهدٌ حزين، يُطفئ آخر شمعة في حكاية حبّ لم يكتمل.
خرجت هالة من الحديقة تجرّ ظلّها خلفها، وتهمس:
"مو كل رسالة توصل…
وأحيانًا الرسالة اللي توصل متأخر…
تكون أسوأ من اللي ما وصلت."



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جراخ الازقة
- ذكرياتٌ من طُشّارِ العُمر
- بين السماء والأرض
- ذكريات راحلة
- مقهى عند شطّ العرب
- راديو أم خزعل
- جبار البنّاي… آخر حراس الطين
- عدسة مكسورة
- الكشك الأخير
- باب الدفترجي
- عود علّي
- ديوان تراتيل الفقد / ٣
- ديوان تراتيل الفقد / ٢
- ديوان تراتيل الفقد / ١
- المقهى الأخير
- حِذاءُ كريم
- بائعة الساعات
- سجّان بلا مفاتيح
- صوت الطاحونة القديمة
- دعاء الكروان عند باب الغياب


المزيد.....




- مهرجان الدوحة السينمائي ينطلق بتكريم جمال سليمان ورسائل هند ...
- 200 شخصية سينمائية أجنبية تحضر فعاليات مهرجان فجر الدولي
- كتابة الذات وشعرية النثر في تجربة أمجد ناصر
- الكلمة بين الإنسان والآلة
- الفنان الأمريكي الراحل تشادويك بوسمان ينال نجمة على ممشى الم ...
- مصر.. الأفلام الفائزة بجوائز مهرجان -القاهرة السينمائي- الـ4 ...
- فولتير: الفيلسوف الساخر الذي فضح الاستبداد
- دموع هند رجب تُضيء مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ46
- توقيع الكتاب تسوّل فاضح!
- فيثاغورس… حين يصغي العقل إلى الموسيقى السرّية للكون


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - رسالةٌ وصلت متأخرة