|
قراءة مقارنة في كتاب الجنسانية في الاسلام لعبد الوهاب بوحديبة
عبد الكريم وشاشا
الحوار المتمدن-العدد: 1833 - 2007 / 2 / 21 - 08:47
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
صدر للباحث التونسي عبد الوهاب بوحديبة دراسة وازنة باللغة الفرنسية تحت عنوان Sexualité en Islam.. سنة 1975 وعرف الكتاب ترجمات بلغات عديدة، وقد قامت هالة العورى بتعريبه من النص المترجم باللغة الانجليزية (القاهرة سنة 1987 )وأشارت إشارة تكاد تكون عابرة إلى ذلك في مقدمة ترجمتها(صفحة 12). واقترحت بأن تعنون ترجمتها ب" الإسلام والجنس"
الإسلام والجنس: كلمتان متجاورتان، كلمة الإسلام التي تعني إحدى الديانات السماوية التوحيدية الكبرى في التاريخ البشري، والتي جاءت بعد اليهودية والمسيحية، وهي مجموعة من التعاليم والقواعد والضوابط تقدم نمطا، ونظام حياة، من خلال مدونة هائلة من التشريعات الإلزامية المترابطة، أما الكلمة الثانية الجنس ، علاقة خاصة جدا، استجابات جسدية ووجدانية، تجمع في الغالب بين ذكر وأنثى، وتلزم مجموعة من الشروط عضوية ونفسية وثقافية واجتماعية، بدونها لا يمكن إنجاحها كما أنها تؤدي أدوارا مهمة وخطيرة في الأنساق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية...
يمكن القول من خلال ذلك، ومن خلال التقديم الذي دبجته المترجمة، أن العلاقة بين الإسلام والجنس ليست علاقة تجاور ندي كقولنا مثلا: الإسلام والغرب.. أو الإسلام والمسيحية..الخ حيث يقف عالمان متقابلان متضادان وجها لوجه على قامة واحدة أمام مرآة الزمان المتماوجة، بل هي علاقة داخلية، تضمينية يتبوأ الجنس فيها مكانته داخل منظومة تشميلية شمولية، من التعاليم المقدسة والشرائع والقوانين اللاهوتية التي هي الإســـلام. والمترجمة واعية كل الوعي – من خلال مقدمتها – بالتدني الذي وصلته مكانة المرأة العربية، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا..وحضاريا وأن الذي أصــابها هو النكوص بها إلى ما قبل الإسلام ... والخطير لدى هالة المترجمة أن الممارسات الاجتماعية المغلوطة التحقيرية، انصهرت في نسق واحد، هي والإسلام سواء، وقدمت الخطيئة الأولى كحجرة مركزية في المعتقدات الشعبية الرائجة حول المرأة، فحواء هي أس البلايا وتتحمل المسؤولية الأولى عن الغواية والعذاب الأرضي الذي حاق بالجنس البشري.. ففي حين نجد - تؤكد جازمة المترجمة - أن القرآن يحمل المسؤولية لآدم، تم تستدير المترجمة في نفس الفقرة لتلقي بالمسؤولية على الشيطان الذي أوقع حواء والتي بدورها أوقعت آدم في الإثم ...
طالما اشتكت المترجمة هالة العورى بإصابة الرؤية العربية بطابع الجزئية والسطحية في كافة نواحي الحياة...ولكن عندما نعتبر أن تاريخنا الحضاري والمعرفي والثقافي ابتدأ وانتهى مع الإسلام.. وفيه تجلت حقيقتنا، مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فما قبل الإسلام جاهلية وإظلام مطبق وما بعد الإسلام هو تدين أهل الحرفة وزيغ وأهواء.... فالإسلام هو الفطرة، المبتدأ والمنتهى...
ألا يمكن اعتبار هذه النظرة في حد ذاتها جزء من التجزيئية والسطحية و تتحمل بعض المسؤولية عن حالة التردي والنكوص، وهي التي ساهمت بشكل كبير في إغلاق النوافذ والأبواب كلها وفي ترسيخ جدران الانحطاط وسيادة الفكر الخرافي والأسطوري والغيبي.... هي الغذاء الأساسي، منه تقتات ذهنية التحريم التي اتسعت اليوم أكثر مما مضى وشرعت في ابتلاع كل قيمنا التنويرية، هي المسؤولة عن اشتداد النظام الثقافي الارتوذوكسي.. والارتفاع المتزايد لغبار الحقبة الفكتورية الخانقة
وقارنت المترجمة كتاب بوحديبة بكتاب " خواطر مسلم في المسألة الجنسية " لصاحبه محمد جلال كشك، وهي مقارنة تبدو لنا خاطئة وفارقة، وفيها إسقاطات تعسفية على المنهج والمفاهيم التي ميزت كتاب بوحديبة عن كتاب كشك...(بالرغم من أن كتاب كشك صودر وقدم للمحاكمة وبرأته الأزهر )
والحقيقة أن التنبيه الذي أطلقته دار النشر سراس على الغلاف الأخير للترجمة المميزة التي أنجزها الأستاذ محمد علي مقلد وراجعها المؤلف نفسه، تحت عنوان دقيق وأمين " الجنسانية في الإسلام " عن إحدى الترجمات التي ظهرت في إحدى العواصم العربية ويعني بها تلميحا ترجمة هالة العورى، تنطوي على اختلالات عديدة وثغرات تنم عن تسرع كبير، ونحن نضيف أن فيها إسقاطات ذاتية كثيرة شوهت النص الأصلي، وعدم استيعاب لترسانة المفاهيم ودلالاتها وفتوحاتها المبينة إيبستيمولوجيا التي قام باستخدامها الباحث بوحديبة...
نفس الشيء ينطبق على" المراجع " الذي اقترح عنوان: " الشبقية في ثقافة العرب المسلمين" والذي نحيله على كم كبير من الإصدارات والدراسات حول المرأة والجنسوية والجنسانية على الرابط التالي: http://www.bustanbooks.com/arabic/gender/index.htm
مفهوم الجنسانية، مفهوم راسخ ورائج يحتل مكانته الآن على صعيد علم الاجتماع وجسوره الممتدة من وإلى علم النفس والفلسفة والحفريات المعرفية، لا يمكن بحال من الأحوال الالتفاف عليه أو تجاوزه بدواعي التغريب والاستشراق الواهية الضيقة التي لم تعد تجدي علما غير حصاد الهشيم
وفي نظري أن اللحظات المنهجية التي توسلها الباحث عبد الوهاب بوحديبة (ترجمة محمد علي مقلد التي نفضلها صراحة) لتفكيك الجنسانية، ودراسة مواقعها، تكتسي أهمية قصوى ومدخل أساسي لقراءة "برنامجه الطموح" قراءة منتجة ومدركة للأنظمة التوليفية سواء في لحظات " الفصل" على كل المستويات النفسية والسيميائية والثقافية والاجتماعية... وسواء في لحظات "الوصل" كلية، ك"ظاهرة تمتد بعيدا في الزمان وفي المكان وتتعدد عواملها".
لذلك قسم الباحث الدراسة إلى قسمين كبيرين : القسم الأول تحت عنوان عريض: النظرة الإسلامية إلى الجنسانية ويحمل ثمانية فصول مبوبة كالآتي:
الفصل الأول: القرآن أمام المسألة الجنسية. الفصل الثاني : المحرمات الإسلامية في الجنسانية. الفصل الثالث: المؤنث الأبدي والإسلامي الفصل الرابع: بين تخوم الجنسين. الفصل الخامس: طهارة مفقودة فطهارة مستعادة. الفصل السادس : ممارسات مع عالم الملكوت. الفصل السابع: الغبطة الجنسية المتصلة. الفصل الثامن: الجنسانية والقداسة
تناول فيها محددات الجنسانية في الوعي الإسلامي ووظائفها في الماضي و في الحاضر، تناولا جدوليا، غير خطي؛ ينطلق من القرآن ثم السنة والفقه و يعتمد على المباحث الغرامية (نوادر الإشراق في مكارم الأخلاق، طوق الحمامة، غالية المواعظ..ألف ليلة وليلة...) تلك المؤلفات العديدة في التراث العربي التي أسست لعلم إيروتيكي عربي معمق ومرهف (علم الحب) تمت بلورته عبر العصور وكما لاحظت الباحثة منى فياض أصبح لمن يرغب في اقتناء هذه الكتب عليه أن يتوجه إلى المكتبات الغربية !!
أما القسم الثاني: الممارسات الجنسية في الإسلام موزع على:
الفصل التاسع: الجنسانية وطابعها الاجتماعي. الفصل العاشر: تنويعات حول الباه، بغض النساء، التصوف، المجون. الفصل الحادي عشر: الباه. الفصل الثاني عشر: نماذج من السلوكات اليومية: الحمام – الختان – البغاء – الفولكلور بين التزمت والفاحشة. الفصل الثالث عشر: في مملكة الأمهات. وأخيرا الخاتمة: أزمة الجنسانية وأزمة الإيمان. قام فيها الباحث بكشف التجليات المعاشة وإعادة القراءة للإيروس على قاعدة مادية قاهرة، غير متوازنة، فلذة الجنس بتعبير أدق لميشيل فوكو غير معزولة عن لذة السلطة.
وعلى طول الدراسة (200 صفحة من الحجم المتوسط) امتدت حقول حفرية قام الباحث التونسي بوحديبة راصدا فيها بيقظة متمرسة كل الإشارات والعلامات والرموز في ذاكرتنا الموشومة وعلى جسدنا "العربي- الإسلامي" الجريح... سلوكات العشق وسلوكات القداسة.. المتعة والإيمان.. أو ما اشتهر بالمدنس والمقدس وجدليتهما المختلة والعاصفة داخل مجتمعاتنا العربية.. فالإسلام (النظري) قد برأ الجنسانية من الإثم ومنحها تدفقا لذيذا وساميا بل هي حوار مع الله وحوار بين الجنسين..
لكنه يعتبر بإقرار بأن الأصولية ملازمة للثقافة العربية الإسلامية، حنين متواصل لنظام مطلق، فالجديد دائما يتماهى مع القديم.. كلاهما تابعان للمكتوب السماوي، لذلك فالتاريخ عند الشخصية الإسلامية التقليدانية يمشي بالمقلوب؛ كلما توغلنا في الزمان كلما انحدرنا مبتعدين باطراد عن النموذج.. عن السلف الصالح والفئة الناجية. وكانت هواجس البحث والتقصي تتكاثف حول سؤال رئيسي مقلق، غير عابئ بالعديد من المسوغات المزيفة التي تخترقه:
هل تحققت ولو مرة واحدة تلك الشخصية النموذجية المتناسقة المتوازنة بين العشقي والإيماني، خارج الأطر النظرية للمدونة الأرتذوكسية الإسلامية ؟؟؟ إنها مثال يلوح في الأفق أكثر مما هي واقع تحقق.. تلك هي الترسيمات الأساسية لنظام الثقافة العربية الإسلامية، وشروط لازمة لفهم وإبراز أزمة الحب والإيمان، وتلك "الوعكة الفيزيولوجية الجماعية" التي انتابت النساء من خلال زليخة (الكيدية ربيبة الشيطان والحية) أمام جمال يوسف الخارق الإيروتيكي...
*****************************************
في بداية القسم الأول يقترح علينا المؤلف الخطاطة التالية: 1) دراسة تاريخية ومقارنة. 2) تأسيس أركيولوجيا (علم الأثريات) للنظرات الإسلامية إلى العالم.. هنا نرتطم بالمفارقة المنهجية الأولى: فالسنة والفقه هما تفسير متواصل للمطلق، فالسنة لا تخضع ولا تؤمن بالتاريخانية لذلك ينبهنا الباحث بوجوب التعامل مع السنة ككتلة واحدة مركبة من إسهامات أجيال مختلفة..
كذلك لا بد من الإشارة إلى مفهوم (رؤية للعالم)، يورد عبر الكتاب مرات بالنظرة أو النظرات الإسلامية إلى العالم.. ومرات بالرؤية للعالم فلابد من الاحتراس والاحتراز وتدقيق المفهوم وسياقات الاشتغال.... في بداية الحديث عن المسألة الجنسية في القرآن استحضر الباحث "من كل زوجين اثنين" وموقعها الأساسي في السردية القرآنية -(لا يكف الباحث عن تنبيهنا بأن السردية القرآنية تختلف عن السردية التوراتية لكن لا يمكننا أن نغفل التقاطعات والتوليدات التناصية التي شكلت الوعي القريشي ثم الإسلامي بعد ذلك)-آية الآيات ودليل على القدرة الإلهية، هي المعجزة الدائمة المتجددة لمشيئة ربانية شاملة جبرية ومطلقة..
رحلة الإنسان من الطين، النطفة، العلقة، المضغة، العظام واللحم إلى الاستواء والخلق المكتمل (سورة المؤمنون) و الأكثر من ذلك شكلت هذه الرحلة المنوية التي قدمها مثلا راغب باشا أساس المعرفة الإسلامية حول أصول حياة الإنسان بل دخلت مؤخرا في الخطاب الاسلاموي الاستعراضي كإعجاز علمي في القرآن.. هي تجاوز للعزلة وتنوع الواحد وحول المتعدد ومبدأ أول في عملية الخلق.. وتشكل الأقطاب التالية: الدم – الحليب – المني تماثلات لعوالم سحرية ودليلا على طبيعة النكاح التقديسية
تعكس الأسطورة الأولى –خطيئة آدم وحواء- أول زوجين، شبكة من المعاني والدلالات وبداية لتأويلات أهمها: - أولية الرجل وتراتبيته على المرأة مسألة مطلقة في الجنسانية الإسلامية (الضلع الأعوج) - الدخول في الحياة الاجتماعية ترافق مع الشعور بالحشمة وضرورة الرداء والزاميته. - العري- الفضيحة- العورة- العصيان.أضلاع رباعية لتقابلات وتجاذبات التباسية في قلب الاستعراض الإسلامي عن المرأة. وتعتبر حكاية زليخة الغواية ويوسف الجميل من الخطوط الرئيسية في المؤنث الأبدي والإسلامي (الفصل الثالث) تحكي صراع الحب والنبوة صراعا ملحميا، وقد قدمت تأويلات وصياغات عديدة لهذه الجدلية، داخل الموروث الشعبي الإسلامي.. لكن التصوير الفني والسيكولوجي وتنامي الحدث بكل عناصره دراماتيكيا في الحكاية القرآنية يبقى مؤثرا ومميزا.. ففي الذروة وأزمة السرد الإغوائي " ولقد همت به وهم بها" وبتفسير ابن عباس: " فك سرواله متخذا وضع الخائنين" والرازي:"اتخذ موقعا بين فخذي زليخة وبدأ ينزع عنها ثيابها" ...فضل الباحث المنعرج الفرويدي لنزع فتيل قنبلة الرغبة المشتعلة داخل جسد يوسف، وذلك بظهور صورة "الأب يعقوب" حاجزا وعقدة أبوية لا يمكن تخطيها، مثلت نهاية الإغواء، بها تنبه يوسف وتحققت المعجزة ف" مبدأ الحقيقة يهزم مبدأ الرغبة" .. أما زليخة فتسقط في الارتباك والتشوش، ومن خلالها وعبر نساء المدينة ومنهن إلى جنس النساء (المؤذيات بعذوبة) يمرر الخطاب القرآني عبارته – رسالته: " كيدكن عظيم" (عبر هذا الفصل الممتع قدم الباحث بورتريه لزليخة: صاحبة المكائد، الخادعة، الكاذبة، ولكن، الحادة الذكاء والمكر ! ...الأذى الحيلة والمكر، الخبث وتعمد الأذى، إن الكيد هو كل هذا معا)
*****************************************
في فصل "بين تخوم الجنسين" الذي نعتبره من الفصول المدوية والإرباكية بالمعاني الإيجابية، ربما لتلك الأحاسيس التي ستنتاب القارئ (العربي/ المسلم) وهو يلج ويقف على تلك التخوم المشوشة والمتناقضة وأكثرها تواطؤا ومخاتلة وازدواجية ... فبعد أن يؤكد الباحث أن العالم الإسلامي يقوم على "ثنائية الذكر والأنثى" ويعتبرها ثنائية تكاملية متجانسة خلاقة ومنجبة... وكل اختلال وتحريف لهذه الثنائية هو خرق لنظام الحياة وهندسة الكون والناموس الإلهي.. واعتداء على الحدود التي رسمها الله؛ بهذا المستوى إذن فالإسلام(النظري-- نؤكدها مرة أخرى) يعادي بحدة كل الأشكال الأخرى من تحقيق الرغبة الجنسية الخارجة عن إطار الثنائية المرسومة الشرعية منها ما يسمى ب"الرجل المخنث" و "المرأة المسترجلة" وأنواع الشذوذ الذكري والأنثوي... فكل هذه " الانحرافات" هي تمرد على نظام الخلق الإلهي.. وينطبق نفس الشيء على "زنا المحارم" هو خرق لسنة الحياة...
ثم يستفيض الباحث في استعراض التفريعات الجنسية وفصلها وتمييزها من خلال مدونة سوسيوثقافية تتناول ملابس وأزياء كلا الجنسين، برموزها ووظائفها، كلها تتجه نحو تأكيد الفصل بين جنس الذكر وجنس الأنثى وتمييز كل جنس عن الآخر، واعتمد في ذلك على مصنفات عبر جينالوجيا الأخلاق الإسلامية( البخاري، العيني، زيات، شمس الدين الأنصاري... نوادر الإشراق في مكارم الأخلاق..)
في هذه العملية التقابلية تم استلهام مقولة سارترية " كائنا- نظرا" في كتاب سارتر الكائن والعدم، ظهور الآخر في النظر وعبر النظر، كيف يرى المرء وكيف يُرى هي جزء عضوي من عملية انخراط المسلم في البنية الاجتماعية حسب الهندسة التالية:
+ ما يمكن أن يراه الرجل من المرأة + ما يمكن أن تراه المرأة من الرجل + ما يمكن أن يراه الرجل من الرجل + ما يمكن أن تراه المرأة من المرأة
هذه معالم أساسية لميثيولوجية قادرة على الجمع والربط بين النظر والجنس وبمعنى أثير للرازي أن النظر والتلصص أمر مثير للشهوة قوي، وإغواؤه لا يقاوم (= الوهم والحقيقة) وهي تعبر عن تحديد الكيان والدور عبر قانون الفصل القاسي بين الجنسين. أمام ظاهرة "التخنث الحقيقي" وقف الفقهاء أنفسهم حسب الباحث مرتبكين.. فما هو المخنث؟ ما هي هويته؟ في فصل قاس وحاد بين ثنائية تؤطر الوجود وتحده.. ثم ما هي أدواره ومواقعه في الأنساق ؟ في الإرث، الحجاب، الصلاة، الزواج؟ الموت؟؟....
غموض وتشوش، وسنضيف تواطؤ ومخاتلة، والحادثة التالية تكشف ذلك بوضوح (أوردها الباحث نفسه ولكن بدون تعليق): "مخنث" اسمه نادرة - ويقدم في القصة على أنه مخنث المدينة – حضر مجلسا رسوليا في بيت أم سلمى، إحدى نساء النبي، وقد وعد قائلا: " إن فتح الله عليكم الطائف غدا فإني أدلكم على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان لها ثغر كالأقحوان إذا مشت تثنت وإذا تكلمت تغنت بين رجليها كالإناء المكفوء" وتفيد نهاية الحكاية وهذا ما يجب في رأيي أن نتوقف عنده كثيرا، أن " المخنث" هذا "تزوجت" واحدا من الصحابة.... !!!
في النسق الاجتماعي العربي - الإسلامي يتم تعليق "المخنث"(التعليق بمفهوم دريدا كحالة اليهودي التائه) عليه أن يصلي محجبا فلا هو في صفوف الرجال ولا هو في صفوف النساء.. لا يجوز له لباس الحرير و لا المجوهرات، خلال مواسم الحج لا يجوز له أن يلبس ثيابا ضيقة أو أن يخلع الحجاب لا أمام الرجال ولا أمام النساء، لا يجوز أن يختن على يد رجل ولا على يد امرأة !! إذن ماذا يفعل ؟؟ يشترى له وعلى نفقته أو على صاحب بيت المال، عبد يقوم بعملية الختان، وإذا توفاه الله قبل التأكد من جنسه فلا يغسل !!! مجرد عملية تيمن عليه ويغطي قبره بحجاب وقت دفنه(حتى وهو ميت يتم إقصاؤه)... أما في الإرث فله الحصة الصغرى، وإذا مات والده عن صبي غيره، يرث هذا الصبي حسب الإمام الشافعي حصتين ولا يرث هو سوى حصة واحدة.....................
*****************************************
في الفصل الخامس نصل إلى إضاءة قوية لفهم المعنى العميق للجنسانية داخل البنية الاجتماعية الإسلامية، وهي الطهارة، ما أطلق عليه الباحث بفن إبعاد النجاسة. فحياة المسلم ما هي إلا تعاقبات من حالات الطهارة المكتسبة ثم المفقودة وحالات النجاسة المزالة ثم المستعادة...فالطهارة أو التطهر طبيعة ماورائية هي التسامي بالجسد والقضاء على قذارته، خلال عمليات من التبادل والإعارة والرفض..فالتطهر وسواس، فعل احتفالي يعيد للإنسان كيانه الأصلي، ماهية سحرية، لضبط الجسد وترويض النفس الأمارة دوما بشياطين وأبالسة السوء.. الطهارة إذن في السياق الإسلامي نظرة أخلاقية ورسالة نيقوماخية.. وكل خارج عن السياق الإسلامي أي غير المسلم هو بالضرورة عاجز عن التطهر وسجين عبودية الجسد !! والعجيب في هذا السياق التطهري هو التناقض التالي الذي ينطلق من القذف، هذه الظاهرة الفيزيولوجية والمادية التي تصنع الدنس وليس الزنا، بعبارة أوضحها الباحث أن عدم القذف في حالة الزنا لا يؤدي إلى الدنس.. ففي المسألة التي طرحها الفقه في معرض بقاء الصوم قائما عند من يمارس النكاح وسط النهار مع غلام أو امرأة غريبة، الجواب بالإجماع: هو أن الصوم يبقى قائما طالما لم تحصل الرعشة الجنسية مما يعني أن الخطيئة، هي الرعشة أو القذف أما ممارسة الجنس مع غلام أو مع امرأة غريبة (لماذا غريبة؟) فقد تم هضم كل شيء بمرونة وسهولة تثير الإعجاب من هذا العقل الفقهي الراسخ في المتناقضات والمفارقات... ويشكل كتاب " الفتاوى الهندية" مركزي في ثقافة "الاستبراء" (شبه إجماع سني وشيعي) الذي يرصد الجسد كرقابة ذاتية مصحوبة بالوسواس والقلق، طهارة طقوسية يجسدها هذا القول: " علمنا رسول الله كل شيء حتى الخراءة" .. هي نتيجة جدلية بين النفسي والبيولوجي وحوار مع المقدس، وبتعبير الغزالي " سكينة النفس والسيطرة على الجسد ". هي علاقة بين قوتين، قوة الجنس وقوة المقدس
فالإسلام في هذا الإطار هو تحمل أعباء الحياة الإنباتية، فن معيشة الجسدانية وذلك بإعادة قدسنة الجسد بشكل مستمر، وكتاب إحياء علوم الدين للغزالي يتحدث عن الحالة الطبيعية والحقيقية للأشياء، مصالحة الإنسان مع الذات في مواجهة الجنسانية المدنسة بقوى: الهذيان والجنون والنشوة.
في الفصل السادس، ممارسات مع عالم الملكوت انطلق الباحث من " الأمانة" المعروضة على الإنسان في القرآن، التي تخوفت منها الجبال والسماوات، معتبرا أنها تحمل إيحاءات ومعاني جنسية، فعلى لسان القرطبي جملة تؤكد هذا التأويل: " أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه وقال هذه أمانة استودعتكها.. فالفرج أمانة.." فخطاطة الخليقة التي يختطها اللاهوت الإسلامي مصنفة إلى كل من الملائكة – الشياطين – الجن – الإنس، بمعنى إلى هلنسة تسام وهلسنة انحطاط، فإبليس هو التعبير عن جوهر الإنسان؛ إنه صورته المقلوبة وكل خطيئة بشرية هي تبرير له (هناك قصيدة للشاعر المغربي عبد الله زريقة تعبر بمعنى من المعاني عن تماهي وتداخل هذه التخوم بعنوان إبلينسان..) ولباس الأفعى اللاصق أبدا بالشيطان/ إبليس هو مبدأ عام من مبادئ الشر ويمكن تعزيز ذلك من خلال هذه التقابلات الثلاث: الخسيس/ الأفعى/ العقرب، ناهيك عن المعاني الجنسية الواضحة التي تحملها شخصية إبليس... ولمواجهة الإبليسية والانتصار عليها وإبطال خططها الجهنمية وخستها نعثر على إستراتيجيتين داخل المتن الثقافي الإسلامي: إستراتيجية مواجهة مباشرة طفولية وساذجة نوعا ما يمثلها عمر بن الخطاب الذي أراد " قتل الشيطان" في مقابل إستراتيجية تفكيك آلية الإغواء المعتمدة على الحوار أساسا، إقامة حوارات ومقابلات وسجالات لا تنتهي مع الشيطان، بدءا من محمد مرورا برسالة الغفران للمعري، وعجائب الخلق للقزويني وأخيرا مسرحية لتوفيق الحكيم "مقابلة مع الشيطان". والجدير بالذكر أن الشيطان غالبا ما يتحلى بالشفافية والصدق والصراحة أثناء لحظات الحوار معه..
ينتقل بعدها الباحث ليبرز الاختلاف ما بين الصورة الإسلامية عن الشيطان والصورة التي رسمتها المسيحية عنه... فالشيطانوت المسيحي يمثل كل أشكال الإفراط الجنسي، والآثام والخطايا والرذائل، ويتمتع بمخيلة واسعة من المكر والحيل، بها يحقق دائما انتصارات كبيرة ماحقة على الإنسان، لهذا تتملكنا الدهشة دائما من الاختراق الحاد للصلوات الليلية التبركية ومحافل السحر على "المخيال" والثقافة المسيحية (لاشك أن أبرز مثال فلكلوري ولج الأدب من بابه الواسع هو الدكتور فاوست الذي باع روحه للشيطان بميثاق من أجل القوة والحب والجاه والمال..) لكن الباحث يعتبر أن الخطوة التي يخطوها اللاهوت الإسلامي وتميزه بذلك عن اللاهوت المسيحي هي إمكانية الزواج مع الجني أي كل ما يدخل ضمن الهلسنة البصرية الإسلامية.. ويرى أن تلك المصنفات الهائلة داخل الموروث الإسلامي تشكل أحد أكثر الفصول جاذبية لإعادة القراءة وللدراسة (أورد الباحث في الهامش 23 بعضا منها كمفاتيح الغيب للرازي.. وآكام المرجان في أحكام الجان.. والمستظرف..). فالإيمان بهذه المخلوقات مبدأ مهم للعقل الإسلامي، بل الأكثر من ذلك فالعقل الفقهي يثبت بمنطقه المشروعية الكاملة لعلاقات الحب والزواج مع الجني ( أنظر مثلا الأشباه والنظائر..) بل المدهش أورد الباحث دعاء "لفقيه محدث" في كتاب له لتلقينه الناس منه: " اللهم أرزقني بجنية أتزوج بها فتصاحبني حيث كنت.." بهذا المنطق الخرافي يتم ربط الأحلام والاستيهامات بأساطير وخرافات إبليس والجن ثم استعادة الغرائز والميول العميقة بعد دمجها و"عقلنتها" ونزع الصفة الدرامية عنها وبهذه الظلال "الجنية والإبليسية" يحقق الإنسان ذاته ويحرر نفسه.. هي تعبيرات عن صراعات معتملة داخلية مكبوتة غالبا تدميرية ومنفرة رغم ذلك تشكل في رأي الباحث قيم علاجية تحريرية من المتاعب وحالات القلق...
*****************************************
في الفصل السابع، الغبطة الجنسية المتصلة، تتبوأ الجنة في المخيال الإسلامي المكان الحلمي للمتعة الجنسية، والموروث الإسلامي زاخر "بالأخرويات": الاندماج المزدوج بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة (أكثر من ثلاثمائة آية قرآنية ومئات الأحاديث الشريفة في السنة تتناول هذه المسألة) وحولها وضعت كتابات وفيرة، تم فيها تضخيم وإغناء "علم الأخرويات" بتفاصيل جديدة إضافة إلى تلونه بالتقاليد المحلية وحتى الفولكلورية.
وقد استحضر الباحث في إطار الصور والتمثلات الدينامية المنقولة عبر التقاليد الشعبية كتابان يعتبرهما وثيقتين نادرتين للرمزية والعجائبية: كتاب "دقائق الأخبار الكبير في ذكر الجنة والنار" للإمام عبد الرحمن القاضي وكتاب "الدر الحسان في البعث ونعائم الجنان" للشيخ جلال الدين السيوطي. هناك نقرأ عن نشأة الكون الماورائي، وعن النار، ووصف عجائبي للجنة.. فالجنة مكان نأكل فيه دونما قلق من عواقب الهضم والتغوط، لأن سكان الجنان حسب السيوطي ليس لهم أدبار، إنما يرشحون الأكل مسكا..أما المتعة أو الرعشة الجنسية فتدوم ثمانين عاما.. وحكاية الرقم السبعون التي تتكرر، الألوان والبدلات، الأسرة والحوريات اللواتي ينبعثن من دماء بكاراتهن عذراوات عند كل افتضاض.. أما الانتصاب فهو أبدي...
بعد أن يعرض الباحث وصفا مسهبا خلابا عن "نمط العيش" في الجنة أورده الشيخ القوي الشكيمة جلال الدين السيوطي، يستنتج بأن المساهمة الملحوظة التي وفرها البحث التاريخي أكدت التماثل الحاصل بين التقاليد الإسلامية وبعض التقاليد المسيحية، كإجراء مقارنة بين علم الأخرويات الإسلامي وأناشيد الكاهن "أفرام"؛ وكذلك القرابة بين الرؤى القرآنية ورؤى القديس يوحنا، إلا أنه يؤكد على الطبيعة السيكولوجية واللاهوتية التي تملكها وتتميز بها النظرة الإسلامية عكس النظرة المسيحية ذات الطبيعة "التاريخية"، وكلاهما مجرد "نظام للتصور".. ففي التصور المسيحي لا يعقل أن يكون للجسد حضور في الحياة الآخرة، فهو مصدر الخطيئة الأصلية، وملذاته هي هموم دنيوية، عكس الحضور الطاغي للجسد الإسلامي، فبحضوره هذا تتحقق الذات في إطار الحب وفق نظام تصوره، حب شامل، اتحاد واتفاق مع العالم، مصالحة مع المادة، من هنا يمكن لنا فهم ذلك الإسراف المادي الذي يميز جنة الإسلام، وليمة لجميع الحواس... وكل معاني التمتع الفردوسي، حلمية متيقظة، ولذة معلقة.. فإشباع اللذة بشكل مطلق يعني العودة إلى المتخيل وبكل اختصار تكامل الجنسي والمقدسي.. وببليغ قول ل(باشلار): " فالأسرار الكبرى المعلقة بكائننا تخفى علينا، فهي موجودة في سر أعماقنا".
***************************************** يواصل الباحث بوحديبة حفرياته في الفصل الثامن: الجنسانية والقداسة مذكرا بموقع الأولى داخل نظام التصور الإسلامي ككيان أساسي، اجتماعيا وحلميا، فالسنة تحث وتسجل بوضوح على أن " النكاح مرغوب فيه"، فهو لذة وواجب، حتى الزهد كما يقول القضاة : "لا يمنع من قضاء المراد". وفي معرض تقنينهم للمهلة المعطاة شرعيا لممارسة العلاقات الجنسية بين الزوجين قد حددوا المدة بأربعة أشهر، لا يمكن بعدها تمديدها أكثر من ذلك..كما أنهم قاموا باستنباط أحكام على المرأة الممتنعة عن فراش زوجها وحذروا من اللعنات المنصبة عليها من الملائكة.. ثم أن كل اعتداء على الأعضاء الجنسية، هو اعتداء على الحياة نفسها؛ ناهيك على أن الإسلام ينظر نظرة بغضاء سلبية إلى الطلاق وفي نفس الوقت يسهل الزواج ويشرع الباب واسعا لمساعدة الآخرين في تزويجهم فهو يرى أن الجماع من النعم التي ينبغي أن يتمتع بها كل واحد وواحدة.. حتى الشيخوخة يتمناها المسلم مثل ما تمناها يعقوب: "خضراء ولذيذة".. في المقابل إدانة كاملة ومطلقة للعزوبية: " شراركم عزابكم وأراذل أمواتكم عزابكم".
لمؤسسة الزواج تأثير شديد في المجتمع الإسلامي أو ما أطلق عليه بوحديبة بنظرية التصور الإسلامي للنكاح: تعريف سوسيولوجي للزوجين أي رباط شريكين في أطر وأدوار متدرجة على وحدة نوعية قائمة في قلب مجتمع حقيقي.. ففي النكاح ينخرط الفرد في الجماعة وتحتضن الجماعة الفرد، فالجنسانية بهذا المعنى (النظري دائما وأبدا) التزام تاريخي وشخصي وهي في الوقت ذاته طقس مقدس، هي استعادة للآخر وعلامة للكمال البشري، فالرجل الوحيد كائن عاجز وكذلك المرأة.. لأن شخصية الإنسان لا تكتمل إلا في حميمية العلاقات بين الجنسين.. إنها صلاة حقيقية، فالجنسانية البهيجة والحب في غمرة الفرح هما طريقة لشكر الله، بالعكس من ذلك يرى الباحث أن الجسدية في المسيحية مقرونة بالفسق والنجاسة والانحلال والسحر والبغضاء والعداوة والحسد والحقد والنزاعات والغيرة والسكر...ومن أجل الروح القدس تقدم الكنيسة الجسد المسيحي تضحية وقربانا للملكوت الرباني، لكن نقاشا واسعا ودمويا أعيد حول هذه المسألة داخل الكنائس المسيحية تجلى بوضوح في الإصلاحات المذهبية الكبرى مما أعطى ديناميكية مفتوحة على أفق تاريخي جديد .
***************************************** بعدها يتم الانتقال بنا إلى القسم الثاني من هذه الرحلة الممتعة: الممارسات الجنسية في الإسلام، فيها يقترح علينا الباحث الهبوط على أرض الحياة اليومية العملية والوقوف على الجدلية الثلاثية: الجنسي والقدسي والجماعي. ففي هذا المستوى من التحليل يعترف الإسلام بكل توترات الجنسانية وصراعاتها، فتناقضاتها هي جزء من تناقضاته. في هذا الصدد يتعرض للمفارقة التي تخترق الإسلام كدين الوحدة اللاهوتية، هو نفسه ذلك المتعدد المتباين باختلافات وفروقات بحجم كبير في السلوك والمواقف لدى الشعوب والمجتمعات الإسلامية من هنود وإيران وماليزيا وعرب وملونين وسود...(وهذه مسألة تتغافلها خطابات كثيرة متسرعة في الغالب) ضرورة التنبه إليها وذلك للوصول إلى الدينامية العميقة والجدلية لهذه المجتمعات الإسلامية.
ضمن هذا القسم في الفصل التاسع: الجنسانية وطابعها الاجتماعي، تعرض الباحث إلى بعض العوامل التي تضفي على المجتمعات العربية الإسلامية ملمحا تاريخيا خاصا كالتسري، بمعني العلاقات الجنسية بن السادة والإماء. فالقوانين الفقهية تعتبرها "تقاليد حرة" وهي ناجمة عن شروط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية (المدينة العباسية والأموية..) فالتسري لم يؤثر إلا في المدينة بشكل عام والطبقات الميسورة بشكل خاص، بينما الريف حافظ على معايير خاصة به وسلوك مختلف، فالريف يجهل هذه " التأنقات الحضارية".. كما بين أن تحقيق التناسق بين الشهواني الجسدي والروحي كان من الصعوبة بمكان، بحيث أن العقيدة الإسلامية أصابها توتر خلاق.. لأن شروط الحياة العملية تفرض بقوة الأشياء انحرافات وفجوات بين النظرة القرآنية والنظرة إلى الجنسانية، ويقر بأن التوازن القرآني أمر نادر ما تم بلوغه ( الحياة العربية والأدب كذلك مليئة بنماذج مجنون ليلى: الحب المستحيل- الحب البدوي- وأيضا دون جوان المغرور الضجر النرجسي المتقزز.. علاقات سادية مازوشية يختلط فيها الإذلال والصدق والكآبة والاستعباد.. والوفاء الغبي بتعبير ساخر للروائي الأمريكي ميلر..). وأبرز الدور الذي يلعبه الإرث وخاصة في المجتمعات الرعوية، ما سمته Germaine Tillion بالزواج اللحمي: فالثروات تنتقل في الوقت الذي تنتقل فيه النساء.. ويرى الباحث عن حق أن الإسلام عندما حدد حصة الأنثى من الميراث بنصف حصة الذكر أدى إلى خطر هائل وظلم فادح للمرأة، وللتأكد من هذه المسألة يكفي النظر إلى التعقد الكبير في قوانين الإرث الإسلامي وخاصة علم الفرائض، فالمقصود من ذلك هو عدم انتقال الميراث خارج الإطار العائلي، فتناول ظاهرة الزواج "التفضيلي"، الذي يجعل مثلا ابن العم أحق من غيره في الزواج من ابنة عمه، فهذا الزواج يغلق الجماعة العائلية وفيه تعاني المرأة عزلا اجتماعيا حقيقيا وتمييزا سافرا . هي إذن ثلاثة عوامل بالأساس لعبت دورها التمييزي ضد المرأة: - التسري ما سماه الباحث بالزوجة المضادة أي ما وراء الزوجة. - اختلاف حياة المدينة ونمط الريف - الأساس الاقتصادي المتعلق بالزواج اللحمي. تشكل استعبادا مقنعا للمرأة العربية بينما الرجل فهو مزهو بمؤسسة الزواج.
ففي نهاية التحليل نرى بان أوضح خصوصية تتميز بها الحضارة العربية الإسلامية هو أن الجماعي(=التاريخي والواقعي) يستخدم لاغتصاب الجنسي والقدسي، تبعا للحاجات الجماعية الحيوية ويتشظى فيما يبدو موحدا في الوحي (النظري) إذن فالحقيقة التي قدمها الوحي تختلف عن الحقيقة التاريخية (العودة إلى مفارقة محمد عبده)..
*****************************************
وفي الفصل العاشر: تنويعات حول الباه، بغض النساء، التصوف، المجون. ثلاثة أشكال السلوك، وهي ليست سوى طرق لمخادعة روح الإسلام، فحسب الباحث دائما، أن اعتناق الإسلام وكره وبغض النساء ومقتهن أمران متناقضان ولا يتطابقان أبدا. مع ذلك يحذر الباحث من أن واقع مجتمعات البلاد العربية والإسلامية تكتسحها موجات حادة من احتقار النزعة الأنثوية، فهذا التناقض الحاصل بين النظرية والواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي هو ما يفسر التنويعات العديدة التي تتناول المرأة والجنسانية، وأن عملية إفراغ المرأة من كيانها الإنساني هو في العمق خوف وقلق أمام القوى النجابية الكامنة فيها.. فالهروب أمام المرأة كالهروب فيها تماما يتخذ أشكال كراهية مباشرة مثل التصوف والزهد والطرقية ووجوه أخرى مراوغة، كاعتبارها موضوعا للمتعة المجون والفسق.. كلها تنويعات واحدة على الجنسانية..سلوكات تنم عن تسلط الشعور، ثم أن تاريخ الحضارة العربية الإسلامية يزخر بتصريحات معادية للنساء ضمنها أقوال لعمر وعلي: شر لا بد منه، الفتنة وحبائل الشيطان... فحديث ملفق ( وما أكثره) يكون أكثر دلالة اجتماعيا بالطبع من حديث صحيح.. فترات عديدة من الدورات الجنسانية المقموعة، حينها يتطور التقشف بينما يسود الفسق في الممارسات الموسمية الجماعية واللواط في أوساط الطلبة والجمعيات الدينية وربما اغتصاب الأطفال في الكتاتيب القرآنية... يمكننا أن نستخلص مع الباحث بأن المرأة لعبت دورا في تطور الصوفية، فالعفة والكتمان شرطان ضروريان للانتقال إلى الصوفية، استلهاما لحديث شريف: "من عشق فظفر فعف فمات، مات شهيدا".
لكن الباحث سيتناول نموذجا استثنائيا في تاريخ التصوف: "ابن عربي الأندلسي" إنه الإنسان الذي عاش بطريقة مكثفة: " أدين بدين الحب أنَى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني" إنه التسامي الذي تظهر فيه المرأة ويتجلى فيه الحب، ثم هذه الثنائيات التكثيفية: الحب والإيمان، الحساسية والروحانية. ولبلوغ جوهر الصوفية (= تسامي الجنسانية) انطلق ابن عربي من الحب المدنس، فعبر الحب الجسدي تتم الوحدة الأساسية بين الجسد والروح، حينذاك يصبح ممكنا البحث عن الله (وقد عرج الباحث باقتضاب عن تجربة الحلاج المميزة وعمر بن الفارض). فالصوفية في هذه التجارب هي انتقال من الإيروس إلى المحبوب، تواصلية بين الجسدي والروحي، فتحرر الجسد وفي الجسد، أمران متلازمان، يتمان عبره وعلى قنطرته الإيروسية، هذا عكس الحب العذري البدوي بكل تمثلاته: إيديولوجيته، وموضوعاته، دوافعه، نماذجه وصوره، هو عبادة مجانية وفروسية للمرأة (مراوحة في الحب) عزوف عن الجسد وتسام ينطوي على ذاته.
*****************************************
ينتقل الباحث إلى الفسق العربي الذي تمتد جذوره إلى أكثر التقاليد القرآنية أصالة، فالإسلام الأصلي نفسه وقف مترددا إزاء استقلالية الرغبة؛ كاستئجار امرأة مقابل أجر معين أو تعريفة، بهدف المتعة الجنسية مصداقا للآية 37 من سورة النساء: ( وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما). إنه فن التمتع وفن التكاثر، أن يعيش المرء الحياة الآخرة (الجنة بطبيعة الحال) بصورة مسبقة، هذه الفنون لها أصولها وتقاليدها الشريفة، أسست للعلم المرهف الإيروتيكي (مباحث الشبق)، أو بمصطلح سارت به الركبان: المجون .. الذي يقع في قلب الأخلاق والتقاليد الإسلامية لا على هامشها، فالجذر اللغوي: "مجن" حسب "لسان العرب" يعني الصلابة واللامبالاة وقلة الاستحياء، وخلط الهزل بالجد وارتكاب المقابح المروية والفضائح المخزية، وبعبارة الباحث، فن تناول الأشياء الأكثر فسقا والتحدث عنها بطريقة مسلية بحيث تعتبر مقاربتها فجورا وفحشا (الحلمية المعاشة بصورة جماعية، وهو التحرر بالكلام).
وللاستدلال استعرض الباحث مثل مأخوذ من أحد كبار الفقهاء. ففي شرح "لامية العجم" للطغرائي للشيخ صلاح الدين الصفدي (كتاب الغيث في شروح لامية العجم)، حشر الشيخ الجليل صفحات كاملة من النصوص المكثفة تشكل مختارات حقيقية إيروتيكية، جعلت الناشرين بعد ذلك يخجلون، وكادوا يحجمون عن نشرها، منها نص فاضح يعارض سورة الزلزلة.
وقد استعرض "معجم الأدباء" و"الأغاني" و"مروج الذهب" ازدواجية سلوك بعض الفئات الاجتماعية التي لها مكانة وتأثير في المجتمع العربي الإسلامي كالقضاة وبعض الرجال "الأتقياء" المشهورين الذين لا يمكن إلا أن نراهم نهارا ملفوفين بالتزمت وأبهة التوقر، لكن ما أن يسدل الليل أستاره حتى تسقط أقنعة التحفظ و "حشمة المشايخ الكبار" في صخب التهتك والمجون أو بتعبير ابن المعتز "الجنات العابرة": "فلكل فئة مجونها"، وقد يتم أحيانا دمج الإيمان مع المجون، ويرى الباحث أن عبرة: "التربية عن طريق الدعابة" يمكن استخلاصها من المجون. بعدها ننتقل إلى فتنة "ألف ليلة وليلة" كموسوعة في قضايا الجنس، تتناول مختلف ألوان الممارسات الجنسية وأنواعها: تعدد الزوجات، والشذوذ الجنسي، اللواط، السحاق، المازوشية، السادية، ممارسة الجنس مع الحيوان، مع الأموات ثم العجز، البرودة، التلصص، النرجسية...الخ ف Enver Dehoi يسجل بأن: قبل السورياليين بكثير، كانت شهرزاد قد دعتنا إلى الحب المجنون، حيث نتخلى عن كل شيء: التجارة، والمملكة والثروة والأقارب لتحقيق الحب. فمن كره النساء إلى الأنثوية العنيدة، تطور (ألف ليلة وليلة) منطقا مهما في التحليل، فتجارب الحب التعيسة لم تؤد إلى التعاسة فحسب، بل أيضا إلى الرعب والدموية والجور.. لكن وسط هذه اللزوجة الخاثرة تنبجس شهرزاد لتنشد نشيدها الأخير والأثير: " وجد الحب قبل كل وجود وسيظل بعد كل فناء، فهو أقصر طريق إلى الحقيقة وروعته تفوق كل كلام وهو الرفيق الخالد في ظلمة القبر"
*****************************************
في الفصل الحادي عشر، مبحث عن الباه، نعثر على معاني عديدة لكلمة باه منها: تفطن له وانتبه من اليقظة والوعي. ثم باه المرأة: جامعها وضاجعها، والباء والباءة: رجع إليه وتبوأ، وأيضا: انتصب واستقر وسكن إليه ولإدراك الباه العربي في شروطه الاجتماعية والثقافية، يعني معرفة أسرار الجنس والجنسانية والمجانسة، بعبارة قوية: علم النكاح، أصول الجماع، أنواعه وطرقه وقواعده، باستثناء ما هو فقهي فيه..
وقد استعرض الباحث بعض المساهمين ومساهمتهم في هذه المدونة الإيروتيكية الهائلة التي تعرض جزء كبير منها للضياع والتلف منها ولا شك: "مفاخرة الجواري والغلمان" للجاحظ (جمال المرأة وقوامها، فقد لعب السحاقي واللواطي في إطار منافستهما للمرأة دورا خطيرا في ثابت ومتحول وتطور هذا الذوق: العباسيون مثلا فضلوا المرأة المتحررة ذات المشية الرجولية والشعر القصير، من هنا أتت يرى المؤلف جمالية نتف شعر العانة...) "جوامع اللذة" لابن نصر، الفصل العاشر في كتاب " نزهة الأصحاب في معاشرة الأحباب" للسموأل المغربي اليهودي. أما كتاب " الباهية والتراكيب السلطانية" لنصير الدين الفاسي فأجزاء كبيرة منه تحتوي على فرع الصيدلة والطب والثياب ارتباطا بالإيروتيكية وفي خدمة القيم الحلمية الجماعية، فالملابس مهيأة لإخفاء مفاتن الجسد أو لإبرازها. فشهاب أحمد بن يوسف التيفاشي أحد المساهمين بكتاب" نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب" يقدم تقنية إيروتيكية ملفتة تشكل خبرة بحد ذاتها وهي : كيف يمكن أن تعرف من امرأة وهي محجبة أنها مستعدة لممارسة الجنس حتى لو لم تكن ظواهر الأمور تدل على ذلك وكذلك عن أنواع الحب الممنوعة وعن الغلمان والخنثى...
أما كتاب "الألفية" فأمره عجيب وغريب بتعبير شهرزاد، لأنه سابق لعصره؛ فهو عبارة عن مذكرات امرأة هندوسية تزوجت من ألف رجل، واكتسبت بفضل ذلك تجربة جنسية لا مثيل لها، والجدير بالملاحظة أن الكتاب زين وهذا ما كان ينذر حدوثه في حينه بصور بورنوغرافية.
ثم الكتاب الذي أطبقت شهرته الآفاق "رجوع الشيخ إلى صباه" يتنازعه كاتبان هما أحمد بن سليمان وكمال باشا وقد كتب بناء على طلب السلطان سليم خان.
وكتاب "تحفة العروس وروضة النفوس" لمحمد المغربي التيجاني وهناك قصيدة على شكل أرجوزة من ألفين وأربعمائة بيت "نزهة النفوس ودفتر العلم وروضة العروس في أمور النكاح وغيره" تتضمن فصل مكرس لعلم الفراسة ولنوع من جغرافية الملامح المميزة لأعضاء التناسل الذكرية وللفروج.. ثم المصنفات الشهيرة للبليغ السيوطي: "نواصر الأيك في نوادر النيك" و"الوافي بالوفيات"،"الوشاح في فوائد النكاح" و"اليواقيت الثمينة في صفات السمينة" و"معقد المحبة بين المحب ومن أحب" و"الرحمة في الطب والحكمة" أما بداية كتابه "الإيضاح في علم النكاح" يعارض فيه بالنثر المسجع أدعية صلاة الجمعة المألوفة... ثم الكتاب القنبلة للشيخ النفزاوي "الروض العاطر في نزهة الخاطر" ..... أخيرا يستنتج الباحث من قراءته لهذه المدونة أن الإسلام صهر جميع هذه الأشكال الشهوانية في غنائية الحياة: الجسدنة والروحنة في الزمن.
*****************************************
في الفصل الثاني عشر: استعراض لنماذج من السلوكات اليومية، فإنجاز الجنسانية في الإسلام خلق نمط من العيش متفرد قوامه الانتباه إلى الجسد، ورعايته بشكل تام إلى حدود الوسواس، وقبل التوقف عند المعبر والدال: الحمام – الختان – البغاء – الفولكلور الفاحش، أكد الباحث على الاعتبارات الاقتصادية والبيئية وإلى الفصل بين تعاقب مواقع المرأة وبين حركة انتقال الثروات: نوع من تقسيم الأدوار بعد شق الأنثوية العربية إلى الزوجة ( الجدي، الأمومي) وإلى الجارية التي تمثل (اللعبي والشعري والجمالي)، مستخلصا من جديد حالة انتكاس وتخلف للمرأة عن تلك التي تصورها النصوص القرآنية، مجرد موضوع لاستهلاك الأنانية الجنسية لدى الذكور المصابين بالضجر.
وعلى سبيل فهم الضرورات الجذرية للتفاعل الجدلي بين القدسي – الجنسي – والجماعي، وجب التعمق أكثر على صعيد الحياة اليومية، وتنظيم المعاش الجنسي:
الحمـــام:
تم تناول تطور وتدرج مؤسسة الحمام، من بغداد إلى قرطبة إلى استانبول، ثم الحمامات الرومانية، فالتركيز على الزمانية الخاصة بالحمام: الحمام خاتمة الفعل الجنسي وافتتاح الصلاة، سلوك يسبق ويلي الفعل الجنسي، طهارة طقوسية، تكنيك لتحقيق الأمان والطمأنينة، وإعادة النظام للذي أصيب بالاختلال؛ فكل ما يخرج من الجسد يحمل نجاسة، وتعبر هندسة الحمام عن انفتاح على شتى أشكال فنون الاغتسال. كما أنه مكان ذو قيمة رفيعة جنسيا (= مكان رحمي، يشبه الرحم) ويمكن أن يتضمن الحمام بطبوغرافيته الجحيمية جدليات: الحرارة والبرودة + النجاسة والطهارة + القساوة والرخاوة + الأنوثة والذكورة...وأيضا (المخاوف الحمامية) وهو في النهاية مكان للخلود إلى الذات و ومكان مناسب للمصالحات، خاصة للتصالح مع الطفولة، ورغم أنه يكرس بامتياز الفصل بين الجنسين (= كره النساء ونوع من الضياع الجماعي في عالم المرأة) ، فهو مملكة الأمهات، تتجلى فيه الموهبة الجماعية العربية الإسلامية.
الختــــان: هو العلاقة الفارقة على الانخراط في المجتمعات الإسلامية، أساسي ومتجذر في تقاليدها، والرمزية النموذجية التي يمثلها طقس الختان هي تخطي تدمير الجسد بهدف إيقاظ الوعي الفردي بانتمائه الجماعي القومي.فبعد المسيحية التي حلت العمادة (= الاتحاد مع المسيح) محل الختان قام الإسلام بالاستعادة الكاملة لهذه الطقوسية، تهيئة تجري في الدم والألم للدخول في مرحلة المسؤوليات، تقع في ذات السياق الذي يقع فيه السلوك الحمامي. والتضحية بالقلفة استباق للتضحية بغشاء المهبل، وبمعاني ورائية: تثمين رمزي للقضيب المنتصب وخوف كابوسي من فقدانه أي الإخصاء، فديالكتيك الإخصاء، بأضلاعه: الحب والعنف والاغتصاب، يجعل من "عقدة الإخصاء" ملازمة للتربية الإسلامية البغــــاء: تم الاعتماد في هذا المبحث على "العيني" والخطط "للمقريزي" وعلى "علي المزاهر" في الحياة اليومية للمسلمين في القرن الوسيط، وأكد على تنوع البغاء وشيوعه في الوعي الجماعي الماقبل إسلامي، والذي تميز بثلاثة أشكال أساسية من العلاقات الجنسية منها المقنعة: الاستبضاع والرهط. وصريحة: بغاء ذوات الرايات الحمر.. وبعد حين، زواج المتعة الاسم المستعار للبغاء. والذي رفضه النبي باكرا. فلكل مدينة إسلامية ماخور خاص بها يقوم بوظيفته الأساسية في قلبها: التوازن الداخلي، بمراقبة الهامشيين ومنح الانحراف كيانا (الجدلية بين الطبيعي والمرضي)، تهدئة التوترات وتخطي القلق، ويسلط إضاءة شحيحة ومشوشة على الحدود الغامضة من المسألة الجنسية، وتكتسي طبوغرافية الماخور أو بيوت الدعارة وبكلمة أدق مؤسسة البغاء أهمية بالغة وهي تنتقل من السرية إلى التقاليد إلى الاقتصاد، فأكثر من نصف البيوت المخصصة للبغاء بنيت بأموال الحبوس الوقفية، وعائداتها لصالح الأماكن المقدسة، والجدير بالإشارة أن غالبا ما تتجاور المواخير مع الزوايا والتكايا الدينية... إنه التفاعل الدائم والمتجذر والجدلي: القدسي – الجنسي - الجماعي.
الفلكلور بين التزمت والفاحشة: يذكرنا بوحديبة بالتقسيم الحاد والتميز القاسي الذي يفصل بين الجنسين في واقع المجتمعات العربية الإسلامية كملمح أساسي وهوية، نجم عنه نظرتان متعاكستان وازدواجية سوسيولوجية؛ فكتاب "الحسبة" للعقباني يحدد وينظم بصرامة وبدقة الأوقات والأماكن والأشكال التي يمكن للمرأة أن تكون فيها خارج منزلها.. فبعد الحمام والختان والبغاء وهي أنماط السلوك التعويضي يأتي الفلكلور بأشكاله الفاحشة ككتلة من صمامات الأمان في نظام اجتماعي مغلق على الأغلب. كيف ذلك؟ فالمجتمعات المتشددة أكثرها إنتاجا للفحش الشفوي الاستحواذي، به وعبره تتم السيطرة الرمزية العابرة على الإستيهامات المؤرقة، لأن بين الغريزة الجنسية واللغة روابط عميقة، والكلام الفاحش أو الفحشي يلعب دور المسهل والوسيط ليتهيج الشهواني ويتركب ويتشكل، فوظيفته إذن تعويضية وحلمية.
بالأشعار الفاحشة والمقاطع الغزلية والأمثال البذيئة (والنكت التي أغفلها الباحث) والكلام الفاحش والعطاس والضراط والتثاؤب والتجشؤ والشخصيات القرقوشية التركية الأصل (الكراكيز) التي تنعم بعضو ذكري هائل ثم هناك أولياء عرايا يدمجون الفحش بالمقدس ككرامات دينية... بكل هذا وغيره يتم استخدام اللعبي والجماعي للفحش لتهدئة الكوابيس الجماعية، باختصار إنه آلية للدفاع والابتكار أيضا في جو خانق.. لكن الفحش مثله مثل البغاء واللواط: نقص في النضج النفسي(تدميرية وخصائية) فيه يفقد المرء كل جدة وعفوية، هو واجهة خارجية تخفي بشكل سيء الأنا الحقيقية.. فأكثر الناس فحشا ربما هم أكثرهم عجزا، وهو في الأخير ليس تحريرا أصيلا من الشهواني: التشدد والفحش وحدة تواصلية يغرق فيها الحب في التفاهة من غير فرح والجنسانية من غير لذة.
*****************************************
الفصل الثالث عشر: (في مملكة الأمهات). الثنائية الاجتماعية تنبني وتنتظم وتتمأسس على صعيد الفقه أكثر منه على صعيد الأخلاق، هذه الأخيرة واقعها شديدة القساوة والصلابة والخطورة على تطور المجتمعات العربية وخاصة على سحق المرأة ونفيها، فنصيبها فادح بعد أن تم إفراغ الأنوثة من أيه قيمة (كائن ليلي أو منزلي = الأنوثة المتوارية) وفي المقابل تكديس الإيجابي كله في جهة الذكورة، من هنا ذلك التركيز والتشديد على الدور الإنجابي للمرأة – الأم – هذا الفائض من الوجود والوجدان، وتشكل العلاقة الجسدية بين الأم والطفل (وحدة سيكوجتماعية) أحد المفاتيح الأساسية لفهم الشخصية في المجتمعات العربية الإسلامية، فالأمومة بالنسبة للمرأة حماية وأمان(=الأمهات المسلحات بالأطفال) فالجمال يزول لكن الذرية تبقى، تمنحها المهابة والشرف والحضور وتموت محاطة بالرعاية والاحترام فعبادة الأمومة ملمح أساسي في المجتمعات العربية الإسلامية(=الجنة تحت أقدام الأمهات) والأمهات اللواتي يمتن أثناء الولادة يكتسبن الشهادة مثل الرجال في الجهاد؛ أما المرأة العاقر فهي في الجهة المعاكسة، عزلاء قصية هامشية وعبئ ثقيل وخادمة للزوجات الأخريات، ثم كابوس التهديد بالطلاق الذي يفاقم من حياتها المتكدرة المنسية المنبوذة...في مجتمع يتملكه الرعب من "الأرحام الفارغة"... لكن القاع واحد، فمملكة الأمهات عرضة مستمرة للإفساد المنهجي والاستلاب.. على حساب عمرها وعلى حساب صحتها وعافيتها جسديا ونفسيا تدفع الأم ثمن أمانها الذي يصبح نوعا من الوهم، فريسة دائمة للهواجس والقلق والتشوش.. على هذه الأسس لمجتمع أبوي يمارس الخصي تقوم مملكة الأمهات.
*****************************************
وأخيرا الخاتمة: أزمة الجنسانية وأزمة الإيمان: خلاصات لمواقع جنسانية مضغوطة مغلقة وكئيبة، غير غافلين عن دور الاستعمار في المضاعفة ومفاقمة الانغلاق والتحجر وهو يغتصب الشخصية الجماعية وأيضا اللغة، ويخلص الباحث عبد الوهاب بوحديبة، بأن "الأزمة الجنسية" ما هي إلا الوجه المقلوب "للأزمة الدينية" في إطار الرد المزدوج (= جنسيا ودينيا) على الاستعمار وهي من عوائق التحديث، فالأنماط تتواطأ، التقليدية مع تلك المستوردة من أوروبا، للمحافظة على أفضلية الذكورة (الامبريالية الذكورية). بعبارة أخرى فالهرب داخل الجنسانية، يشبه تماما الهرب داخل الإسلام، والتحرر المقصور على الجنس وعلى حساب التحرر الاقتصادي والاجتماعي وأمام قضايا مرعبة كالفقر والمرض والبطالة.. هو تحرير وحداثة مزيفة مخاتلة وذريعة للتملص من التحديث الحقيقي... والمرأة والشباب يدفعان أثمنة رهيبة من أجل صيانة الاجتماعي.. فالتحرر الجنسي يختلف معناه عند كلا الجنسين (الرفض عند المرأة والهروب عند الرجل) إلا أن المرأة العربية ترتقي على طريقتها وحسابها سلم الإحساس بالوجود عن طريق الوجدان والحب؛ رغم أنها وهي تكتشف أكثر بكثير من الرجل إرادة الحياة، بغنائية هوسية وجنس مجنون فضائحي يعبر عن كبث تاريخي فادح، ورغم أن التحرر يعني بالنسبة لها هو مواجهة الرقابة الاجتماعية، إلا أنها عمقيا تعبير عن التطلع إلى مملكة توكيدية إثباتية لا إلى مملكة خرافية (مملكة الأمهات الوهمية).. فتحرر المرأة هو بالذات تحرر أصيل للرجل من استلابيته، من ذكوريته، نحو ثنائية منسجمة خلاقة.. بإقرار، وبدون مواربة ولا مخاتلة، الجنسانية اليوم هي نوع من البغاء في مواجهة نظام القيم التقليدي، جفاف لا شفاء منه، حياة جنسية بلا فرح، بلا رائحة ولا لون ولا طعم، مجردة من سرها الخفي، هي نزعة حيوانية شبقية، في حد ذاتها عدائية للجنس نفسه... وقد نبه الباحث إلى النقص الفظيع في الأبحاث التجريبية والنظرية الدقيقة التي تستند إلى التحليل النفسي وعلم الاجتماع.. يوجد فرضيات فقط ويعتبر بوحديبة بحثه هذا مجرد إعادة قراءة مقترحة تهدف إلى تغذية تفكير موجه نحو الفعل ونحو الحياة.. والإنسان لن يكتشف نفسه إلا في غد هو بدوره مادة للبناء والاكتشاف والخلق.
فداخل الإرث المستلب يمكن للثورات الأكثر أصالة أن تعرف كيف تعثر في الوقت المناسب على الاستمراريات العميقة الكائنة بين الأمس واليوم والغد.
عبد الكريم وشاشا [email protected] 1- ترجمة هالة العورى بعنوان: الإسلام والجنس/ القاهرة: 1987 2- ترجمة محمد علي مقلد بعنوان: الجنسانية في الإسلام/ سراس للنشر – تونس: 2000
#عبد_الكريم_وشاشا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مخطوطات
-
حوار مع القاص المغربي محمد عزيز المصباحي بعد صدور مجموعته ال
...
-
الجنوبية
-
قالت الشجرة
-
أيتها العاصمة، ياقلبا ينبض ويتجشأ الخثارة!!
-
أبي الصياد
-
الشاعرة المغربية الأمازيغية:مريريدة نايت عتيق -هاجس روائي حو
...
-
مقدمة في المساءلة والأسئلة الراهنةالعمل الجمعوي الثقافي (بال
...
-
بيان عن نهاية البطل- القبو- لدوستويفسكي
-
ورقة جنوبية
المزيد.....
-
مسؤول عسكري بريطاني: جاهزون لقتال روسيا -الليلة- في هذه الحا
...
-
مسؤول إماراتي ينفي لـCNN أنباء عن إمكانية -تمويل مشروع تجريب
...
-
الدفاع الروسية تعلن نجاح اختبار صاروخ -أوريشنيك- وتدميره مصن
...
-
بوريسوف: الرحلات المأهولة إلى المريخ قد تبدأ خلال الـ50 عاما
...
-
على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأم
...
-
فوضى في برلمان بوليفيا: رفاق الحزب الواحد يشتبكون بالأيدي
-
بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن -فهمت
...
-
المجر تتحدى -الجنائية الدولية- والمحكمة تواجه عاصفة غضب أمري
...
-
سيارتو يتهم الولايات المتحدة بمحاولة تعريض إمدادات الطاقة في
...
-
خبراء مصريون يقرأون -رسائل صاروخ أوريشنيك-
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|