|
أتوق لطفلٍ لم يولد بعد - 1
محمد حسن عبد الحافظ
الحوار المتمدن-العدد: 1833 - 2007 / 2 / 21 - 08:05
المحور:
سيرة ذاتية
وُلدت في قرية جميلة تقع على الضفة الشرقية لنهر النيل اسمها "الواسطة" في محافظة (= ولاية) أسيوط، كان أبي قد انتقل وهو في سن السادسة والعشرين من مدينة "أبوتيج" غرب النيل إلى هذه القرية. افتتح ورشة لصناعة الملابس التقليدية الصعيدية كالتي ترونها في المسلسلات والأفلام المصرية، ثم تزوج بأمي سعاد علي جابر التي وُلدت في مدينة أسيوط. أنا أول أبنائهما، حيث ولدت فجر 14-5-1972. لكن مولدي (ازديادي بلغة أهل المغرب) سجل في 16-5-1972. لكن ذلك لم يؤثر على انتمائي العميق إلى برج الثور الذي يتسم بالصبر، والإصرار، والكتمان، والتسامح، والطيبة، والعطاء، والتفاؤل، والحزن، والعناد الشديد، ورباطة الجأش، وقوة الشخصية، والنزوع للقيادة، وتفهم الآخرين، والعشق الشديد، والغيرة الصامتة، والاعتماد على الذات، والغضب العارم إذا استبدت السُبل، والميل إلى الاستقرار والثبات، والثورة على الذات كل فترة زمنية متباعدة.
هذه بالفعل من صفاتي، لكن هذه الصفات المجردة لا تكشف حقًا عن أبعاد شخصيتي. فمثلاً يراني الآخرون قياديًا، لكني في الوقت نفسه أتسم بالطاعة لقائد أختاره بنفسي. وصحيح أني أنزع الاستقرار لكن هذا على أصعدة محددة؛ فأنا أعشق الاستقرار الأُسري، أحب البيت وأمكث فيه أيامًا طويلة بلا ملل، وأفضله عن التنزه خارجه، فالبيت مملكة أروع من كل المتنزهات، ربما كان هذا سبب اختياري لموقع شقتي في القاهرة، فشرفتها تطل على مساحة خضراء ساشعة، ومن بعيد أرى طريق القاهرة الدائري. وأبعد قليلاً تطل رؤوس الأهرامات العظيمة. لكني أتمتع أيضًا بالجمال الطبيعي كلما قادتني الصدف إليه... أحب النيل والمزارع واللون الأخضر والصباح وافتح صدري للريح. وصحيح أني أميل إلى الثبات، ولكني أيضًا أحب التغيير عبر السفر كل فترة زمنية، شرط أن يكون السفر مقترنًا بأعمال ومهام جادة.
تعلمت في قرية "الواسطة" مبادئ القراءة والكتابة قبل سن الانخراط في المدرسة. ثم عاد بنا أبي إلى مدينته "أبوتيج" قبل أن أتم الخامسة، كان معي ثلاثة من الأخوة (ناصر وعماد وأشرف). افتتح والدي ورشة أكبر (قبل أن تتسع تجارته ومشروعاته وممتلكاته بعد ذلك بسنوات)، وعشنا بدار جدي عبدالحافظ (توفي عام 1981)، ثم استقل والدي بدار كبيرة وأنا في سن الحادية عشرة، وكان معنا أخ جديد هو عصام، بينما وُلدت آية ثم أميرة في هذا البيت الجديد الذي لايزال أهلي يعيشون فيه حتى هذه اللحظة، وهو يطل على النيل ويتكون - الآن - من ست طوابق وعشر شقق.
أدركت متأخرًا لماذا رُبيت بقسوة شديدة في طفولتي، حُرمت من اللعب والاختلاط بأقراني، وكثيرًا ما عُوقبت بالضرب أو الزجر بسبب أخطاء ارتكبها إخوتي الصغار قبل أن أرتكبها أنا، ووُجِّهِتُ إلى تحمُّل مسؤوليات لم أكن أفهم معناها. ببساطة كان أبي وأمي يؤهلاني إلى أن أكون قدوة إخوتي، وأن أشاركهما رعايتهم وتربيتهم لكوني الأخ الأكبر. كانت لهذه الطريقة ميزات كثيرة، فقد عرفت التضحية والعطاء والاتزان والجدية والشجاعة والصدق وتحمل المسؤوليات الثقيلة، لكني حُرمت من حرية أن أكون طفلاً كالأطفال يخطئ ويتعلم من أخطائه.
"أبو تيج" مدينة صغيرة ساحرة تطل على النيل من الناحية الغربية بطول خمسة كيلو مترات. وهو اسم مصري قديم (1000 سنة قبل الميلاد) مأخوذ من كلمة "بوتيك"؛ أي "المخزن"، حيث كانت هذه البقعة مكانًا لصوامع الحبوب والغلال. كما كان على رأسها ملك عُرف بـ"أبو تاج".
في "أبوتيج"، حفظت ربع القرآن قبل الدخول للمدرسة، وكان لهذا أثر كبير في استقامة لغتي ولساني العربي. مثلما كان لاختلاطي بالأسر المسيحية أثر في نشأة وعيي على قيم التسامح والتنوع. التحقت بمدرسة النيل الابتدائية. وكان يومي الأول بالمدرسة تاريخيًا وطريفًا للغاية. فهي تقع بالشارع الخلفي لبيتنا (عند جدي)، فذهبت بنفسي ولم يكن معي أحد. وقفت وسط أقراني في فضاء المدرسة، وأخذت إحدى المعلمات تنادي على الأسماء التي تم توزيعها على ثلاثة فصول (حجرات)، وتوزَّع جميع الأطفال، بينما بقيت وحيدًا في فناء المدرسة، فلم أسمع اسمي كباقي التلاميذ. تقدمت المعلمة وسألتني عن اسمي فأجبتها، وأخذت تبحث في الكشوف فلم تجده، أتذكر أنها نهرتني وقالت "باين عليك غبي، ياللا روح واهات أبوك معاك". ذهبت إلى والدي وحكيت له القصة. فسألني ماذا قلت لها؟ فأجبت: قلت لها ان اسمي أحمد عبده عبدالحافظ. فضحك والدي، وفاجأني باسمي الذي لم أعرفه طوال ست سنوات، وتذكرت أن المعلمة (نوال) ظلت تنادي على اسم محمد حسن عبدالحافظ كثيرًا دون أن يرد أحد.
منذ وُلدت وعيت على أن اسم والدي عبده وأن اسمي أحمد، لكن اسمه واسمي – رسميًا- كان مختلفًا. يعود هذا إلى عادة شعبية مصرية تجرى في نهاية الأسبوع الأول من ولادة المولود، حيث يتم وضع سبع شموع تتوسط الزهور والأوراق الخضراء وتوضع في طبق كبير مملوء بالماء، كل شمعة من هذه الشموع كانت تسمى باسم من الأسماء المفضلة، ثم يتم إشعال هذه الشموع، والشمعة التي تظل موقدة يكون اسمها هو اسم المولود، وهكذا صرت "أحمد"، بينما سجلني والدي يوم ميلادي باسم "محمد" في الجهة الحكومية التي تسمى "السجل المدني". العادة نفسها جرت على والدي، وعلى ملايين من المصريين.
المعلمة التي وبختني، ظلت مقتنعة بأني ولد غبي، فتعمدت إجلاسي في نهاية الصف، وهو مكان تعارف التلاميذ على أنه مخصص للتلاميذ الضعاف دراسيًا، أو للمشاغبين. ومرت الأيام وانتبهت المعلمة إلى تفوقي والتزامي وهدوئي، حتى أجلستني في الصف المقابل لها مباشرة، ووجدت نفسي أساعدها في متابعة تحصيل زملائي للدروس، والوقوف مكانها أحيانًا لإلقاء الدرس الجديد، بل التفتيش على الواجب المدرسي، تصاعد ذلك في السنوات التالية، فقد ظلت تدرِّس لنا معظم المواد لمدة ثلاث سنوات كنت فيها بمثابة ابنها الذي تحبه وتثق به. وكنت متعلقًا بها بصورة غامضة لا أدرك الآن ملامحها جيدًا. لم تكن تلبس "أبلة نوال" غير اللون الأسود منذ أول يوم وحتى اختفت عن عالمي. وعرفت بتفكير طفل أن زوجها توفي منذ سنوات. أدركت ذلك عندما تحدث إليها زميل لها ذات يوم عارضًا عليها الزواج - ولم يكن يعبًا بطفل صغير كانت تصطحبه "نوال" أينما ذهبت - فبكت بحرقة، ورفضت عرضه. جلست صامتًا وحزينًا وأنا أتأملها وهي تبكي. وعرفت بعد سنوات أنها رفضت الزواج حرصًا على ابنها وابنتها (هاني وهويدا) من زوجها الأول والأخير.
وفي السنوات الثلاثة الأخيرة من المرحلة الابتدائية، اقتربت من الأستاذ محمد عبدالمحسن أستاذ اللغة العربية، فمنحني محبة كبيرة للثقافة العربية وآدابها، وشجعني على القراءة، وجعلني أول تلميذ في تاريخ المدرسة - التي أنشئت في الستينيات من القرن العشرين - يُكلف بأمانة المكتبة، كنت أقضي وقت الفراغ وسط مئات الكتب الجميلة، وكنت أقوم بإعارتها لزملائي، واستلامها مرة أخرى. تعلمت من الأستاذ عبدالمحسن حكمة الرجال (بينما اقتبست روح المرأة ونظرتها للعالم من خلال معلمتي الجليلة نوال) لا أنسى ذات يوم من عام 1983، عندما تنازع اثنان من زملائي على شيء (ربما كان حقيبة صغيرة). وذهبا ليشتكيا إلى الأستاذ عبدالمحسن (وكنت معه لحظتها)، كل منهما يدعي أن الحقيبة تخصه. فقال لهما: إذا كان الأمر كذلك فسأقسمها إلى نصفين، وكل منكما يأخذ نصفًا، فوافق أحدهما فرحًا (رغم أن الحقيبة ستفسد بهذه القسمة)، بينما انخرط الآخر في البكاء. حينها ابتسم الأستاذ عبدالمحسن وأعطى الحقيبة لمن أبدى حزنه على الحقيبة إذا ما مزقت إلى نصفين. فسألته، كيف أدركت أنه صاحبها يا أستاذ، فقال لي: اسمع يا أستاذ محمد (لا أنسى أنه قال لي: يا أستاذ، للمرة الأولى في حياتي)... جاءت سيدة إلى القاضي لتشتكي من جارتها التي اختطفت ابنها الرضيع، فاستدعى القاضي جارتها، فأنكرت وأقسمت أنه ابنها، وقالت أن ابن الشاكية مات منذ أيام، وتريد أن تستولي على طفلها. فقال القاضي: بما أنكما تقتسمان الشكوى والحق في الطفل، فإني أحكم بقطع الطفل بالسيف لتقتسماه بالتساوي، فصمتت السيدة التي تحوز الرضيع، بينما بكت السيدة التي جاءت لتشتكي، وقالت: لا أرجوك دعه لجارتي. حينها حكم القاضي بإعادة الطفل إلى أمه الحقيقية التي خافت عليه.
بدأت أشتري مجلات وكتب الأطفال في هذه المرحلة من عمري، وبدأت أراسل بعضها عبر البريد غير الإلكتروني (البوسطة) . كنت أرسل رسوماتي وخواطري وأعيد كتابة المعلومات والموضوعات التي اطلعت عليها في مكتبة المدرسة. وكانت تغمرني سعادة كبيرة كلما نشر لي شيء. كنت أخلو إلى نفسي كل يوم، ووجدت العالم البديل عن اللعب مع الأطفال الذي أبعدني عنه والديّ، وتنامى هذا الاتجاه حتى وصلت للصف الأول الثانوي.
أجدني - بعد أربعة وثلاثين عامًا - أتفوق على أصدقائي في التعامل مع الأطفال الصغار واللعب معهم بوصفي طفلاً مثلهم. لا أزال أحمل لغتهم وإحساسهم وابتساماتهم ودموعهم ورغباتهم. وفي هذه المرحلة من حياتي يستبد بي الشوق إلى طفل لم يولد بعد، لكن الأسطورة تقول: ابحث عن معشوقتك التي تحمله، وامنحها نفسك، واجعلها ملكة على عرش روحك، كن لها أبًا وطفلاً وعاشقًا وسكنًا وحلمًا جميلا.
#محمد_حسن_عبد_الحافظ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجامعة المفتوحة على طريق الجنوب : نقش على جذوع شجر الزيتون
-
سيرة بني هلال ودرس الاختلاف
-
الفولكلور والتنمية(مهاد نظري)
-
أفق المرأة المصرية
-
محتوى الشكل في الرواية المصرية، علاء الديب نموذجًا
-
الشعر مدينة خربانة؛ السيرة الشعبية وقضايا النوع الأدبي
-
طــريـق الــهـلالـيـة
-
الثقافة الشعبية والمجتمع المدني؛ نحو مدخل فولكلوري للتنمية
-
حرية الشفاهي ؛ حرية المكتوب
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|