|
ليبراليون متشائمون
شاكر النابلسي
الحوار المتمدن-العدد: 1831 - 2007 / 2 / 19 - 12:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
-1- الحالة العرقية منذ فجر التاسع من نيسان 2003 إلى الآن، حالة نادرة ومفجعة ومخيفة بالنسبة للعرب المعاصرين، الذين لم يروا فظائع الشعوب ونكباتها من قبل، وخاصة فظائع ونكبات الشعب العربي في الماضي. لقد قرأ هؤلاء في التاريخ، جانياً من هذه الفظائع في العصرين الأموي والعباسي وما بعدهما، ولكنهم لم يشاهدوا هذه الفظائع بأم أعينهم، كما هم يشاهدونها الآن في العراق خاصة.
-2-
لقد حسب العرب، ومنهم بعض الليبراليين المتشائمين، أن الحرية، نزهة جميلة، ورحلة سياحية، سهلة التحقيق والتمتع بها من قبل العراق وشعب العراق، الذي لم يذق طعم الحرية منذ اثني عشر قرنا ويزيد؛ أي منذ بداية العصر الأموي وحتى ما قبل التاسع من نيسان 2003 . وكان واقعاً تحت حكم عهود استبدادية وطاغية مختلفة، حتى أصبح الاستبداد من طبعه، والظلم من غذائه، والطغيان من ردائه، وسفك الدماء من شرابه. وهذه ليست خاصية قاصرة على الشعب العراقي، بقدر ما هي خاصية يمكن أن يكتسبها أي شعب آخر قضى 1250 عاماً، واقعاً من عصر لآخر، ومن حقبة لأخرى، تحت مطارق الطغيان، وسيوف الاستبداد.
-3-
لقد حسب العرب، ومنهم بعض الليبراليين المتشائمين، بأن خلع نظام طاغية كنظام صدام حسين، هو نزهة بحرية أو برية، تقوم بها أمريكا في العراق على ضفاف دجلة والفرات. وما أن ينام العراقيون ليلتهم ويصحون فجراً حتى يجدوا أن العراق قد تبدل 180 درجة، وخرج من الظلمات إلى النور، ومن عصر الخلفاء الآبدين إلى عصر الرؤساء الموظفين. متناسين أن أمريكا قد ورثت عن الأمويين والعباسيين والمغول والعثمانيين والهاشميين والبعثيين تركة ثقيلة جدا ثقل جبال همالايا. وهي الغافلة عن حجم هذه التركة، الجاهلة بتاريخها، المغشوشة بنخبها، المخدوعة بأحزابها، المتورطة بمستنقعها.
-4-
لقد حسب العرب، ومنهم بعض الليبراليين المتشائمين، أن ما جرى في العراق فجر التاسع من نيسان 2003 هو فيلم مغامرات أمريكي مُسلٍ من افلام هوليود، مُمتع المشاهدة، جميل الألوان، جيد الإخراج، حسن التمثيل. وأنهم قضوا ليلتهم يتفرجون على هذا الفيلم وهو يقزقزون اللبّ، ويأكلون الفستق، وأكياس (البوبكورن)، ويشربون الكوكاكولا. ولم يظنوا أن ما يجري في العراق، هو تحول تاريخي ضخم ونادر في تاريخ العرب القديم ولحديث، سوف تكون له آثاره البعيدة في منطقة الشرق الأوسط كله، ولن يقتصر على العراق أو على جيرانه فقط. وقد تنبهت إلى هذا بعض الأنظمة العربية، التي راحت تحارب النظام الجديد في العراق، حرباً شعواء وخرقاء في الوقت ذاته. لأن ما جرى في العراق هو قدر من أقدار التاريخ. ولا راد لقدر التاريخ.
-5-
لقد حسب العرب، ومنهم بعض الليبراليين المتشائمين، أن فداء الحرية والديمقراطية بِضعٌ. ولم يحسبوا بالدقة تكاليف الحرية والديمقراطية. وكان الحق، كل الحق معهم. فهذه أول مرة في تاريخ العرب كله، تجري عملية جراحية سياسية معقدة وصعبة لشعب عربي. فلم يخبر ولم يُجرّب العرب مثل هذه العملية الجراحية، وحساب تكلفتها البشرية، وكذلك المالية والعسكرية. فصاروا في كل يوم، وهم يشاهدون فواتير هذه العملية النادرة تتوالى تباعاً من الضحايا والأموال والسلاح، يُفجعون، ويرتعبون، وينتفضون، ويتمنون من شدة خوفهم وفزعهم، لو أن نظام الطاغية ما زال باقياً، لكان خيراً مما يرون، ويشاهدون، ويصفون، كما قال عبد الرحمن الراشد أحد الصحافيين الليبراليين المتشائمين، ومدير عام قناة "العربية"، لمراسل "الواشنطن بوست" أنطوني شديد. ولم يحصِ هؤلاء الليبراليون المتشائمون، تكاليف الحرية والديمقراطية في بلدان الغرب المختلفة، ويقارنوها بما دفعه الشعب العراقي ثمناً للحرية والديمقراطية. وهو الشعب المحظوظ جداً، الذي وجد دولة كأمريكا، تسدد عنه فواتير كثيرة من حساب تكاليف حريته وديمقراطيته. ولولا أمريكا، وأموالها، وجيشها، وقوتها السياسية، لما استطاع الشعب العراقي وحده، أن يحقق ما حققه الآن، رغم كل ما يحصل في العراق، من مشاهد يومية، وتكلفة باهظة، وضحايا كثيرة، لم نعتد عليها نحن العرب، لأننا كما قلنا لم نخض تجربة كهذه التجربة الفريدة من قبل.
-6-
لقد حسب العرب، ومنهم بعض الليبراليين المتشائمين، أن ما يجري في العراق الآن، لا يتعدى أن يكون: "قصة نجاح للقاعدة، وقصة نجاح للأنظمة الاوتوقراطية العربية التي جعلت الديموقراطية تبدو كريهة في نظر شعوبها. وأصبح في إمكانهم أن يقولوا لهم : انظروا إلى الديموقراطية التي يريد الأمريكيون جلبها اليكم، الديموقراطية لا تجلب غير المتاعب.. انسوا ما كان الأمريكيون يعدونكم به"، كما قال الصحافي الأردني الليبرالي ومدير مكتب الحياة في واشنطن سلامة نعمات لمراسل "الواشنطن بوست" أنطوني شديد. ويعلم صديقنا نعمات – ولكن المرارة أنسته - أن الديمقراطية والحرية، هما كالدواء ضد عودة الطغيان والاستبداد من جديد. وهما كأي دواء آخر له عوارض جانبية، ربما تؤدي إلى الموت في بعض الأحيان. فلا دواء بدون عوارض جانبية سلبية. كذلك هو الحال مع الديمقراطية والحرية. وهذا ما حصل في العراق. فكانت عوارض هذا الدواء، هو ما رأيناه في السنوات الماضية، وفي هذه السنة كذلك. ولكن هذا لن يستمر. ففي نهاية مرحلة أي علاج، لا بد وأن تبقى ايجابيات الدواء وتمّحي سلبياته.
-7-
بعض المثقفين الليبراليين المتشائمين، هالهم ما يحصل يومياً في العراق، وهي مشاهد تدلُّ دلالة واضحة على عظم وعمق التغيير الذي حصل، وعلى مسافة الخطوة التي خطاها العراق في التاسع من نيسان 2003. ومنهم من نفض يده من الحالة العراقية، وتبرّأ منها، ومنهم من ندم على تأييده لعملية التحرير التي تمت، ومنهم من وصف اليوم وغداً بالسواد الحالك: "كل شيء، كل شيء يبدو حالكاً"، كما قال صديقنا الكاتب الليبرالي مجدي خليل لأنطوني شديد مراسل "الواشنطن بوست". وكان بعض الأخوة الليبراليين يظنون، بأن ما حصل في العراق هو تغيير نظام سياسي، كأي تغيير يتم في العالم العربي. فقد تغيّر النظام في سوريا عدة مرات، وتغيّر في مصر، وفي اليمن، وفي ليبيا، وفي السودان، وفي الجزائر، وغيرها من البلدان العربية، فلم يحصل ما حصل في العراق. وكان هذا التغيير عبارة عن نزهة سياسية. وكان بعض الأخوة الليبراليين يريدون فاتورة متواضعة للتحرير والحرية والديمقراطية، كالفاتورة الرخيصة التي دفعتها الشعوب العربية الأخرى ثمناً للتغيير السياسي الذي تم. ولم يفطن هؤلاء، إلى أن هذه الفواتير، لم تُدفع في هذه الانقلابات والأنظمة، التي تغيرت ثمناً للحرية الحقيقية والديمقراطية الحقة، بقدر ما دُفعت هباءً ثمناً لبسطار بدلاً عن بسطار، وعصا بدلاً عن عصا، وسجن بدلاً عن سجن. وأن الجلاد والطاغية والمستبد، هو الذي تغير، وليس نظام الحكم. بل ربما كانت الأنظمة القديمة في بعض البلدان العربية، افضل من الأنظمة التي انقلبت عليها، وادعت التحريرية والطليعية والحداثة.. الخ.
-8-
لقد خرج انطوني شديد مراسل "الواشنطن بوست" من لقائه لعدة رموز عربية ليبرالية في الشرق الأوسط وأمريكا بنتيجة واحدة، وهي أن " كثيرين ممن أيدوا الاطاحة بصدام حسين رفضوا الاجابة عن السؤال، ما إذا كانوا لا زالوا يؤيدون الغزو. فقال البعض منهم، أن السؤال نفسه مستحيل، وغير عادل". ومن الملاحظ أن "الواشنطن بوست"، وهي من الصحف المعارضة لنظام الرئيس بوش، ومعارضة شديدة للحملة على العراق، وتحرير العراق بالطريقة التي تمت فيها، تعمدت أن تُسقط الاجابات الايجابية، واحتفظت بالايجابات السلبية للحالة العراقية. وقد كنت أنا واحداً ممن سُئلوا عن الحالة العراقية، من قبل هذه الصحيفة، ولكنهم أسقطوا اجابتي واجابات كثيرين غيري من الايجابيين المتفائلين.
وكانت اجابتي واضحة، وهي أن ما جرى في العراق خلال السنوات الأربع الماضية، كان يجب أن يجري. وأنه كان في الحسبان. بل إن ما جرى هو أقل مما توقعت بكثير. وأن أمام العراق مشوار طويل حتى الآن، لكي ينعم بالاستقرار. وعلينا أن نتذكر أن العراق لا تحيط بحدوده هولندا وبلجيكا وفرنسا والسويد والمانيا، وغيرها من الدولة العلمانية المتقدمة والحرة والديمقراطية. وأن العراق يقع وسط غابة من الديكتاتوريات الحزبية والعائلية والدينية والاجتماعية كذلك. وأن العراق ربما يحتاج إلى عشرات السنين لكي تستقر به الحال. ولكن يبقى العراق بلداً محظوظاً ومباركاً، في أن بعث التاريخ له دولة كأمريكا، جاءت تفتش عن أعداء لها لتقضي عليهم، فوجدت أمامها شعباً مستعبداً، فحررته بثمن غالٍ وعزيز. وأنا مؤمن ومقتنع، ايماناً عميقاً وقناعة تامة، بأن العراق سيكون النموذج المُحتذى للعرب وللشرق أوسطيين عامة، آجلاً أم عاجلاً. وسوف تبحث الشعوب الأخرى المضطهدة والمستعبدة، مستقبلاً عن فرصة كالفرصة العراقية- الأمريكية، لكي تخلصها مما هي فيه، فلا تجدها.
فالجهد الأمريكي، والمال الأمريكي، والعزم الأمريكي، ونداء التاريخ، لا يتوفروا في كل زمان ومكان.
السلام عليكم.
#شاكر_النابلسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
Happy Valentine’s Day
-
القرضاوي -الضرورة- يستنجدُ بالكُرد لإنقاذ العراق!
-
Star Academy 4
-
متى نشرب هذه الكأس؟
-
هل قاد اخفاق العَلْمانية إلى الارهاب؟
-
القُبلة الأمريكية الأخيرة للعراق
-
الارهاب وجناية المثقفين
-
مسمار جُحا
-
الفاشية الفلسطينية البازغة
-
دور الفقهاء في ذمِّ النساء
-
فتح ملفات الفساد الأردني: لماذا الآن؟
-
لماذا أصبحت بعض الشعوب ككلب ديستوفيسكي؟
-
من وصايا الماوردي للسلطان العربي
-
الأردنيون وذهبُ رغَد
-
لماذا يرفض الفقهاء الرقص مع النساء؟
-
عمرو موسى والطبّ العربي بالزعفران
-
واشتروها بثمن بخس.. دراهم معدودة!
-
شعب عظيم حقاً.. دقوا على الخشب
-
أين الدواء في روشتة بيكر- هاملتون؟
-
ثقافة الارهاب: هل هي من الإسلام أم من المتأسلمين؟
المزيد.....
-
أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل
...
-
في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري
...
-
ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
-
كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو
...
-
هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
-
خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته
...
-
عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي
...
-
الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
-
حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن
...
-
أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|