سلام إبراهيم
روائي
(Salam Ibrahim)
الحوار المتمدن-العدد: 1834 - 2007 / 2 / 22 - 03:27
المحور:
سيرة ذاتية
من تلك النقطة، ومن تحت رماد الوقت وهو ينوء بكيانه الذي أُذل كان يفكر بكيفية المحافظة على نقاء ضميره. وما الضمير إلا رمز للذات الصالحة بالمفهوم الإنساني المطلق. كنا في الغرفة الفقيرة الخانقة نفسها. الغرفة التي كان قبل اعتقاله يشب وينشد أشعاره الممنوعة:
"أسكت جزيرة الحكي
وبراسي يلعب سيل"
أشاع أن الشعر أصبح في خبر كان، وأنشغل في الدنيا والتفاصيل، مهملا، منسياً، لكنه كان يكتب القصائد ويخفيها عن الكل عدا صبحه المخلصين. في موته الشعري المعلن على الملأ تمكن الشباني من بلوغ التقية، فتخلص من ذل انقياده لكتابة وإنشاد قصيدة تمجد الطاغية. وكانت تلك سعادته القصوى التي كنا نتسارر بها في جلسات الود اليومية في بيتي أو بيته. وقتها كنت أمعن التحديق فيه.. في سلامه الداخلي وهو منتشٍ يشاهد أولئك الشعراء الطبالين يطلون من الشاشة الصغيرة يدبجون المديح الملل وصفات التأليه على الطاغية صدام الجالس في الصف الأول منشياً بسكر العظمة الموهومة.
كان ذلك قبل أن يشعل الطاغية حربه على إيران!. الحرب تلك فاتحة الخراب العراقي الشامل، فعقبها كل شيء أختلف، البشر والمكان والعلاقات والرؤية في ظل سلطة أصبحت أكثر وحشية وعنفا إزاء مواطنيها. فكيف بالأديب إذن؟!.
الصمت كان سيداً. لزمنا البيوت.. من العمل إلى البيت والتزاور يجري ليلاً. نتسمع الأخبار ونحلل ونخشى في كل لحظة طرقاً على الباب، وسعار كتّاب السلطة وشعرائها وسيل أغاني الحرب المتغنية بالعراقي الذاهب للحرب مثل عاشق يدافع من أجل محبوبته.. "وأحنه مشينا للحرب" وقتها كنا نخاف خوفا مركبا.. أن نعتقل لوشاية، أو نساق جنداً للحرب، وكنت أسعد حظاً من "علي الشباني" إذ لم أنشر وقتها سوى قصة يتيمة في صحفية "التأخي" عام 1975 رغم كتابتي ما يقارب الأربعين قصة وصلتني مهربة من العراق قبل أربع سنين، فكان رعبه معقداً وأشده كان من سوقه لكتابة قصيدة تمدح الحرب والطاغية. كنا نكتب سراً وكأننا أحرار ونقرأ لبعضنا في عمق الليالي داخل غرف مغلفة النوافذ والأبواب. وكنا نخبئ ما نكتبه لدي ولديه، متعاهدين بأن لو حدث للواحد منا شيء، فالآخر سيقوم بنشر ما لديه فيما لو قدر له البقاء. في ذلك المناخ المتوتر وعيشنا شبه المتخفي فقد كنا نتحاشى الجلوس في المقاهي عكس ما كنا نفعله في أواسط السبعينات. في ذلك المناخ الضاج بطبول الحرب ونشوة النصر باحتلال مساحات شاسعة من الأراضي الإيرانية بسهولة. أنهد قطيع مسعور من الكتبة في الشعر الفصيح والعامي، وفي النثر من قصة ورواية، فظهرت أسماء جديدة امتهنت حرفة تسويق قيم القتلة بتمجيد الحرب والنصر والدفاع عن الوطن في نصوص هزيلة، تافهة فعلا تظهر كل يوم في صحف السلطة الرسمية، الثورة والجمهورية والعراق. نصوص تتغنى بقيم الشر في الإنسان. نصوص شريرة غرضها تسميم العقل العراقي كي يقتنع بتراجيديا الذبح الذي يعاد يوميا في الأقبية السرية والذي يبدو لي الآن ومشهد القبور الجماعية عقب زوال الطاغية كان من الكثرة بحيث أضطرهم إلى إبلاغ بعض من ذوي المعدومين بين الحين والحين كما فعلوا مع أبي عام 1983
حينما صُفي أخي الرسام "كفاح إبراهيم" في المعتقل، لكنهم لم يسلموا جثته أي أنه ضاع هو الآخر في مقبرة من هذه المقابر الجماعية، وكذلك فعلوا مع العديد من الأصدقاء الحميمين، وأثنين من أولاد عمومتي، تفاصيل ذلك يجدها القارئ في روايتي "رؤيا الغائب" التي صدرت عام 1996، وفي الجبهات وسيل القتلى يتزايد مع شراسة المقاومة الإيرانية وطول الحرب. كنا نتلقى الصفعات في الشارع وعيون الشرطة السرية تلاحقنا، في العمل وزميلك يرصد كل مفردة تتفوه بها، ومن شاشة التلفاز ووجه الطاغية يطل كل يوم نصف وقت البث، والصحف تنشر قصص البطولة وعظمة الجندي العراقي الذي يموت في تلك النصوص سعيداً، منتشياً، مبتسماً، وفخوراً في لحظته الأخيرة. كنا نسير ونتنفس ونقول وكأننا داخل مكعب لكننا كنا سعداء لسبب بسيط أن كل ما كان يجري لم يمسنا بعد. لكن لم يستمر الأمر طويلاً. حدث ما يتوجب الإفصاح عن موقف، وذلك ليس له علاقة بكوننا أدبيين بل ما يحدث لأي عراقي في زمن حرب طاحنة، إذ سرعان ما دعيت لأداء خدمة الاحتياط في ربيع عام 1982. وسيق الشباني في صفوف الجيش الشعبي إلى إحدى الجبهات. هكذا أصبحنا مجرد خروفين جاهزين للذبح. وكان وقع ذلك علينا أخف وطأة من فكرة الكتابة وتمجيد ما كان يجري من حفلة ذبح العراقي المستمرة.
كان الخلاص في ما لو يلقي المرء ضميره جانباً، ويتشبث بالحياة بشكلها الغريزي، أن تكون حياً بأي ثمن متوفر لدينا. فبقصيدة تمجد الطاغية أو الحرب سيكون الشباني المثقف الموسوعي محرراً بإحدى صحف النظام معفياً من كل المهمة الجسدية على جبهات القتال، وبنص قصصي مني سأكون منتدباً في إحدى مؤسسات النظام الإعلامية. وبالمناسبة قرأت هذا اليوم 3/7/2003 رداً للشاعر "عدنان الصايغ" في موقع "إيلاف" الإلكتروني على مقالة لمحمد الحجيري نُشرت في ملحق جريدة النهار البيروتية الثقافي بعدما أستثار مشهد القبور الجماعية وعمليات التعذيب الوحشية المعروضة في القنوات العربية الفضائية ضمير الكتاب اللبنانيين وجعلهم يحللون تلك الظواهر، ويتساءلون سؤالاً مشروعاً حول الكيفية التي يتولى فيها أديب ما موقعاً "أي موقع" في مثل تلك السلطة الوحشية التي لا تتقن سوى الدجل والقتل وامتهان الإنسان وسحقه بهمجية فاقت همجية الحجاج وهولاكو. هذا السؤال الذي لا بد من أن يثار لدى كل إنسان لديه ضمير فكيف بالمثقف والكاتب والمحلل والفنان وهو يرى فظاعة القبور الجماعية التي لم يجدوا لها مثيلا حتى في صراع البوسنة والصرب والكروات. فتلك عُزيت لأسباب دينية أو عرقية، لكن في الحالة العراقية هي محض جريمة يرتكبها الطاغية ضد أبناء جلدته العراقيين. القضية هنا شكل من أشكال المرض النفسي من الذي نشاهده في أفلام الجريمة والرعب، حينما يتدله القاتل بالقتل والقتل، فكيف إذا تحول القاتل إلى حاكمٍ مطلق كما هو الحال مع "صدام حسين". في مثل هذا الوضع يصبح كل شيء شاذاً، يقول عدنان الصايغ أنه قضى كذا وقت في المعسكرات وسط الجنود، وفي الجبهات والإسطبلات ذاكراً موقعاً في أرياف السليمانية " معسكر عربد" على طريق "سليمانية ـ سيد صادق" ومن غريب الصدف أنني كنت هناك أيضا وبنفس الفترة التي ذكرها، لكن فاراً أدور مع المقاومين في الجبال البعيدة، وشظف العيش، وأعبر كمين معسكر ـ عربد ـ ليلاً مع المقاتلين فرداً فريدا متجهين إلى شاباجير، وبالعكس إلى قرة داغ. يذكر عدنان الصايغ كل ذلك مبررا سبب سحبه من تلك الوحدات العسكرية الخطيرة بمنظوره ذاكراً بأن ثمة ضجة أُثيرت في الوسط الأدبي "البعثي طبعا" في بغداد حول وجوده في تلك المواقع، فيستشهد بمقطع من قصيدة له مكتوبة بروح المنافسة بين أدباء السلطة كونه منسياً في الجبهات بينما الآخرون ينعمون بالراحة في الكراسي الوثيرة ويكتبون عن الجنود. وذلك السبب الوحيد الذي يورده "عدنان الصايغ" الذي جعلهم ينتدبونه للعمل الصحفي في حراس الوطن " مجلة الجيش العراقي التي تشرف عليها "الاستخبارات العسكرية العراقية بشكلٍ مباشر" والمواقع الأخرى في صحافة ومجلات السلطة ليقود ثورة أدبية وشعرية وثقافية من مواقعه تلك. وهذه الحكاية الملفقة قد تنطلي على العديد من الكتاب العرب، وقد تبدو غامضة لكتاب عراقيين ممن غادر باكراً، لكن بالنسبة لمن عاش ذلك الظرف بتفاصيله "مثلي" يبدو مجرد إدعاء وكذب وضحك على الذقون وركوب للموجة في معناه العميق يتساوى مع ركوب موجة السلطة والكتابة وتبوء المراكز الثقافية بظلها، والشيء الذي أثار استغرابي وما يزال هو جواب كل من التقيتُ به ممن عاش تجربة "عدنان الصايغ" وزمنه على سؤالي الصريح والمباشر:
ـ هل كنت بعثيا؟.
ـ لا.. مستقل!.
مع رجفة بصوته. للحدود التي جعلتني في يومٍ أقول ساخراً لهم في بيت الشاعر "زاهر الغافري" بمالمو السويدية:
ـ يبدو أحنه بس البعثية وما ندري!.
#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)
Salam_Ibrahim#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟