تتدوال أوساط ثقافية و صحفية و سياسية كردية واسعة في كوردستان و المهجر إشاعات كثيرة عن قوائم بأسماء عملاء مزعومين لدوائر الأمن و المخابرات الصدامية في كوردستان العراق . و وفق هذه الرواية وقع جزء من هذه القوائم بأيدي الناس بعد السقوط المدوي لحكم صدام حسين في بغداد،فيما قدمت سلطات التحالف قوائم أخرى بأسماء العلوج الكورد الى القيادات الكردية. وقد إستحوذت الأحزاب الكردية على أطنان من الوثائق الجديدة ولكننا لا نتوقع أن يجري الكشف عن مضامينها بحجة ( الحفاظ على وحدة الصف الكردي !!) . وقد يكون مصير هذه الأطنان مشابها لتلك التي جرى نقلها الى أمريكا و حرم بذلك الباحثون من غير الأمريكيين أو الحاصلين على منح بحثية من المؤسسات الغربية من الأطلاع عليها . بل لا يستبعد أن يجري التخلص من الكثير منها و بخاصة تلك التي تتضمن معلومات مهمة تشكل دليل إدانة للكثير من السياسات و ( الزعماء السياسيين ) الكرد .
و لا تقتصر الأسماء حسب هذه المزاعم على البسطاء من الكرد الذين جرى تجنيدهم من قبل دوائر الأمن و المخابرات و غيرها من مؤسسات القمع الصدامية ، بل تتضمن القوائم رؤوسا كبيرة في صفوف قيادات الأحزاب الكردية .
الغريب في الأمر أن القيادات الكردية ، التي تحولت الى نجوم تلفزيونية و تتسابق للتصريح حتى نيابة عن القوى و الدول التي تتقاطع مصالحها و سياساتها ، كأني بها دفنت رأسها في الرمال فيما يتعلق بهذا الأمر و لم تعلق بشئ لحد الآن . وقد شجع هذا الموقف من لدن المسؤولين الكرد الناس على نسج قصص و أساطير عن العلوج الكرد المزعومين وما قدموه من خدمات لحكم المقابر الجماعية و التطهير العرقي في بغداد.
وينظر الكرد بإزدراء شديد الى الذين باعوا أنفسهم و وقفوا الى جانب النظام الذي أذاق شعبهم الأمرين . وأطلقت الجماهير الكردية على الكرد الذين حملوا السلاح الى جانب الحكومة ضد الحركة القومية الكردية لقب الجحوش . ولكن توسع مدلول الكلمة لتشمل فيما بعد جميع الذين تعاونوا مع الحكومة سواء من خلال إنتمائهم للبعث و مؤسساته أو كتابة الشعر و المقالات في مدح صدام و قادسيته المشؤومة . و أصبحنا نسمع بجحوش الثقافة الكردية و جحوش الأعلام الكردي و القلم الجحش …الخ . في الحقيقة لم يكن هؤلاء سوى كتبة تقارير و مرتزقة و لم تكن لهم إسهامات تذكر في الثقافة الكردية . الثقافة الحقيقية تلفظ مثل هؤلاء و لن تحتفظ إلا بالنتاجات الخالدة المعبرة عن القيم الأنسانية . وقد أثبت المثقفون و الأكاديميون الكرد الحقيقيون الذين بقوا يرزحون سنين طويلة في ظل القمع البعثي عن روح معنوية فذة و نكران للذات يحسدون عليها . فهناك العديد من الأسماء اللامعة التي ظلت تعيش و تبدع في بغداد حتى التاسع من نيسان 2003 دون أن تكتب كلمة واحدة لصالح حكم الهمج و قائدهم الدموي .
وتعبر الروايات و القصص التي يتناقلها الكرد و غيرهم عن الكرد المتعاونين مع النظام البعثي خير تعبير عن المكانة الدونية لهؤلاء ليس بين الكرد فقط بل ولدى أولياء نعمتهم أيضا . قلما تجد كرديا لم يسمع بما نقل عن ( نائب رئيس الجمهورية لعقود من السنين !!) في أمر نقل الشيخ علاءالدين السجادي . وهذه قصة حقيقية لازال العديد من شخوصها على قيد الحياة . كان هذا الشيخ الجليل الذي أثرى المكتبة الكردية بالعديد من المؤلفات القيمة في الأدب الكردي وتاريخه فضلا عن جهوده التدريسية بقسم اللغة الكردية بجامعة بغداد يعمل في سني عمره الأخيرة إماما لجامع صغير في منطقة الميدان ببغداد ويسكن في حي الشرطة . وبعد أن نكب بفقد إبنه الوحيد على جبهات القادسية المشؤومة تدهورت صحته و حاول بعض أصدقائه مساعدته من خلال السعي لدى نائب رئيس الجمهورية في أمر نقله الى جامع قريب من بيته . وقد صدم هؤلاء عندما أخبرهم النائب بأن هذا الأمر بحاجة الى واسطة كبيرة !!. أي أن نائب رئيس الجمهورية لا يمتلك صلاحية نقل إمام جامع وبعذر مشروع من جامع الى آخر داخل مدينة بغداد.
ورواية حقيقية أخرى نقلها لي أستاذ جامعي زميل. كان هناك عدد من (وزراء الدولة الكرد!!) حشروا جميعا في ممر واحد في وزارة التخطيط والذي إتخذوا منه مقرا لوزاراتهم !!. وكانت الوزارة عبارة عن مكتب الوزير مع مدير للمكتب يكون عادة مسؤوله الحزبي أو الأمني . روى الزميل بأن أحد طلبة الدكتوراه في تأريخ العراق الحديث ذهب يوما الى مكتب أحد هؤلاء الوزراء ليستأنس برأيه بإعتباره أحد المشاركين سابقا في الحركة الوطنية الكردية . بعد أن قدم نفسه لمدير المكتب وسبب طلبه ، نظر اليه مدير المكتب مندهشا و متسائلا باللهجة العراقية الدارجة : الله يخليك أستاذ مالطيت غير هذا الزمال !!. هناك آلاف القصص و الروايات المشابهة عن الذين إرتضوا لأنفسهم ان يتحولوا الى أدوات رخيصة بأيدي العصابات البعثية ولا ارى ضرورة للأطالة في هذا الأمر .
لسوء حظ الكرد و بسبب التعقيدات الكبيرة التي تواجه قضيتهم القومية و بسبب حركات المقاومة المسلحة التي أجبروا في أغلب الأحوال الى اللجوء اليها ، كانت أسواق تجنيد المرتزقة الكرد على الدوام رائجة . هناك دائما على جانبي الحدود من يرغب في تجنيد المرتزقة. وليست هذه حالة خاصة بالكرد ، بل تعاني جميع مناطق التخوم و المناطق الواقعة بين كيانات متصارعة من هذه الحالة . وورثت الكيانات الحالية في منطقة الشرق الأدنى هذا الأرث المدمر من الأمبراطوريات التي سبقتها في السيادة على هذه المنطقة منذ أقدم العصور و جاءت التقسيمات الجديدة بعد الحرب العالمية الأولى لتعمقه و تعطيه أبعادا أكثر تدميرا . و تظهر هذه الحالة بوضوح بين الكرد بسبب التعقيدات الجيوسياسية و الأقتصادية في كوردستان و سيادة الأنظمة الأستبدادية و الدموية في بلدان المنطقة .
وقدر تعلق الأمر بالقوائم الخاصة بالعلوج المزعومين ، واجه كرد العراق حالة مشابهة أثناء إنتفاضة عام 1991 . فقد كان هناك عدد كبير ممن كانوا يسمون بالجحوش. كان الجميع يدركون بأن عددا كبيرا من الناس و بخاصة من الشباب الهاربين من جبهات القادسية المشؤومة إضطروا الى تسجيل أنفسهم في صفوف ماكانت تسمى ب(أفواج الدفاع الوطني). كما أن جمع الكرد في مجمعات قسرية تشبه معسكرات الموت الهتلرية أجبر أعدادا أخرى من الناس للأنخراط في صفوف هذه القطعان . ولم يكن هناك على العموم إعتراض على العفو عن هؤلاء. ولكن القيادات الكردية وبسبب صراعاتها العقيمة إرتكبت خطئية كبرى عندما سهلت الطريق لبعض المنتمين الى حزب البعث و لزعماء الجحوش المعروفين بالمستشارين بالتسلل الى صفوف الأحزاب الكردية بل و تسنم مناصب ومواقع في الأدارتين الكرديتين. لعله من المفيد أن نذكر بأن الموقف من البعث يختلف في كوردستان الى حد كبير عن عموم العراق. فإذا كان الحديث يتركز في عموم العراق على منع أعضاء الفرق فما فوق فإن الكرد لا يرغبون أن يروا أي شخص إنتمى لحزب البعث أو عمل في مؤسساته القمعية في أي منصب في كوردستان . يتساءلون وهم محقون : ما هو موقع الكردي من الأعراب في حزب البعث العربي الأشتراكي ؟ .
رغم كل الآلام التي سببتها هذه المواقف و رغم أننا وعلى حد قول شاعرنا الكبير عبدالله به شيو كنا نرى البعث في مانشيتات الجرائد و في مواكب القادة و بين شدات الدنانير و قتل الأسرى و إنتزاع البراءات ، إلا أن الجميع كان مجبرا تحت ستار ( الحفاظ على وحدة الصف بوجه تهديدات صدام) على كظم غيظه من الذين باعوا أنفسهم للشيطان البعثي وبدؤا يتمسحون بالمتنفذين الجدد و ينسجون قصصا عن خدماتهم للحركة الكردية من مواقعهم البعثية . وأعتبر الموقف الخاطئ من هؤلاء الأفاقين سببا لإنزواء ألاف مؤلفة من الوطنيين الكرد و الى إختيار أعداد أكبر من الكوادر المهنية و الأكاديميين و المثقفين و حملة الأقلام للمنافي .
يبدو واضحا للجميع أن الكرد يطالبون هذه المرة ، إذا صحت المزاعم بطبيعة الحال ، بمحاكمة هؤلاء العلوج و الكشف عن تفاصيل تآمرهم مع دوائر القمع البعثية . ولن يتمكن أحد مهما كانت مكانته أن يقنع الناس بالسكوت عن الأمر بحجة حماية وحدة الصف الكردي . على القيادات السياسية الكردية المسؤولة أن تعلن موقفها بصراحة في هذا الموضوع . لأن عدم الأعلان عن موقف واضح وصريح يغذي الشائعات ويجعل من الجميع موضع إتهام وهذا مالاتريده هذه القيادات بالتأكيد . عليها أن تعلن للناس أن الأمر غير صحيح إذا كانت مجرد شائعات و مزاعم أو أنها تحقق في الأمر فيما إذا كانت هناك وثائق يجب التأكد من صدقيتها قبل إلقاء التهم جزافا أو تعلن نتائج تحقيقاتها فيما إذا كانت قد شكلت لجانا للتدقيق في الأمر .