عامر عبد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8499 - 2025 / 10 / 18 - 12:56
المحور:
الادارة و الاقتصاد
الذهب عند 4300 دولار... والدينار في مرمى التقلّبات العالمية : في منتصف أكتوبر 2025، شهدت الأسواق العالمية حدثًا غير مسبوق: تجاوز سعر الذهب حاجز 4300 دولار للأونصة، في قفزةٍ تاريخية عكست هشاشة النظام النقدي الدولي
وتراجع ثقة المستثمرين بالعملة الأميركية.
ولأن الذهب تاريخيًا يتحرك بعكس الدولار، فإن هذا الارتفاع يعني في جوهره تراجعًا حادًا في قيمة الدولار الحقيقي أمام السلع والأصول، حتى وإن لم يظهر فورًا في أسعار الصرف الرسمية.
وهنا تكمن المعضلة العراقية: فالعراق — بخلاف أغلب دول أوبك — يعتمد في تمويل موازنته العامة واحتياطياته النقدية على الدولار الأميركي وحده تقريبًا، سواء في تسعير النفط أو في عمليات الاستيراد أو في السياسة النقدية للبنك المركزي.
إن أي ضعفٍ مستمر في الدولار، مقترن بتضخّم عالمي متزايد، يعني انكماش القيمة الفعلية لإيرادات العراق النفطية، وارتفاع كلفة الواردات، وتآكل القوة الشرائية للمواطن.
وبينما تلجأ الاقتصادات الكبرى إلى الذهب كملاذٍ آمن، فإن العراق لا يمتلك بعدُ سياسة تحوّطٍ من هذا النوع، ولا يعتمد تسعيرًا مرنًا لعملته يمكنه من امتصاص أثر التقلّبات العالمية.
بل على العكس، فإن سعر صرف الدينار المنخفض اسميًا (1320 للدولار) في ظلّ تراجع الدولار عالميًا يعني أن العراق يخسر مرتين:
1. بانخفاض القيمة الحقيقية للدولار الذي يبيع به نفطه،
2. وبثبات قيمة الدينار محليًا، مما يُبقي الضغوط التضخمية مرتفعة ويحدّ من قدرة الاقتصاد على النمو.
لذلك، يصبح من الضروري التفكير جديًا في رفعٍ مدروس لسعر صرف الدولار أمام الدينار — ليس بهدف المضاربة أو إضعاف العملة الوطنية، بل لتحقيق توازن نقدي وتنموي يُعوّض العراق عن خسائر القوة الشرائية العالمية،
ويعيد التوازن للميزان التجاري، ويتيح للدولة مساحة مالية أوسع للإنفاق التنموي دون توسّع في الدَّين العام.
إن هذا التحوّل في سعر الذهب وما يرمز إليه من تغيّرات هيكلية في النظام المالي العالمي يجب أن يُقرأ عراقيًا كـ إشارة تحذير مبكرة: العالم يدخل دورة تضخمية جديدة تتراجع فيها مكانة الدولار تدريجيًا،
ومعها تتغيّر معايير الأمان النقدي. ولأن العراق يربط مصيره الاقتصادي بعملةٍ واحدة دون أدوات تحوّط، فإن أي اضطراب عالمي في الدولار يعني اضطرابًا مباشرًا في مالية الدولة. من هنا ننطلق لتقديم قراءة تحليلية في:
• العلاقة بين صعود الذهب وتراجع الدولار،
• انعكاساتها على الاقتصاد العراقي،
• المخاطر المترتبة على استمرار الاعتماد الأحادي على الدولار،
• وأخيرًا، خطة تحوّط اقتصادية واقعية لمعالجة المديونية وتأخر الموازنة وضمان استدامة التنمية في ظلّ نظام مالي عالمي متحوّل :
1. سياق عالمي متغيّر: ذهب عند 4,300 دولار وتحذيرات دولية : شهدت الأسواق العالمية في منتصف أكتوبر 2025 حدثاً يُعدّ نقطة تحوّل في المزاج المالي العالمي: وصل سعر الأونصة من الذهب إلى أكثر من **,300 دولار** للمرة الأولى في التاريخ، مدعوماً بتوترات جيوسياسية، ترقُّب لخفض أسعار الفائدة من قِبَل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وضعف الدولار الأميركي، وتحوّلات في سلاسل التوريد العالمية.
في الوقت ذاته، أصدرت اللجنة الدولية للشؤون النقدية والمالية (IMFC)، التابعة لصندوق النقد الدولي، بياناً أكّدت فيه أن الاقتصاد العالمي يمرّ بـ«تحوّل عميق ويواجه حالة مرتفعة من عدم اليقين»، مع تأكيد أن المخاطر تميل إلى الجانب السلبي بسبب ارتفاع الديون، التوترات التجارية، الصراعات، والتحولات التكنولوجية.
هذه المعطيات تُشِر إلى بيئة مالية واقتصادية مُناخها عالية التقلب، ما يجعل صُناع السياسة في اقتصادات مثل العراق أمام تحدٍ مزدوج: كيف يدرّون الفرص ويقيّمون المخاطر، وكيف يحضّرون الدولة للتعامل مع سيناريوهات أكثر تشاؤماً.
2. الواقع العراقي: مديونية مرتفعة، موازنة مؤجَّلة، ورهانات كبيرة : يأتي هذا المناخ العالمي في وقت يواجه فيه العراق تحديات داخلية جوهرية:
a) مديونية مرتفعة: الحكومة مُلزَمة بخدمة ديون داخلية وخارجية، إضافة إلى فاتورة استثمارية ضخمة في قطاع الطاقة والبنى التحتية.
b) عدم إقرار موازنة 2025 في الوقت المحدّد، ما يُضعف من قدرة الدولة على الإنفاق المخطط، ويزيد من عدم اليقين أمام المستثمرين والاقتصاد المحلي.
c) توقعات بأن موازنة 2026 ستأتي في ظلّ ضغط مالي أعلى، ربما بتنازلات في الإنفاق الاجتماعي أو زيادة الضرائب/الرسوم، ما قد يُضعف النمو أو يضعف ثقة القطاع الخاص.
هذه المعطيات تدعو إلى اعتبار أن العراق ليس في موقع تصحيح محدود فحسب، بل في موقع استعداد استراتيجي شامل لتأمين الدولة من الصدمات العالمية والمحلية.
3. عناصر خطة التحوُّط الاقتصادي للعراق ؛ لضمان الاستقرار المالي والنمو المستدام في هذا المناخ، أقترح ما يلي:
3.1 إصلاحات مالية هيكلية :
• تحسين الإيرادات: توسيع القاعدة الضريبية، مكافحة التهرّب، وإصلاح الضرائب غير المباشرة. البنك الدولي يشدّد على أن البلدان ذات معدّلات نمو منخفضة تواجه “مسارات ديون غير مستدامة” ما لم تُحدّث سياستها الضريبية.
• تحكُّم في الإنفاق: تطبيق قاعدة تبنّي الإنفاق وفق أولويات النمو، مع سقوف للنفقات الجارية (رواتب، تشغيل) مقابل تعزيز النفقات الاستثمارية. صندوق النقد يؤكّد أن “استقرار المسار المالي” يتطلّب موازنة أولية مستدامة .
• إعادة جدولة الدّين وتخفيض الكلفة: فتح مفاوضات لتخفيض تكلفة الدين أو مدّ آجاله، واستغلال معدلات الفائدة المنخفضة عالمياً.
3.2 تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط :
• تشجيع الاستثمار في القطاعات غير النفطية: الزراعة، الصناعة التحويلية، الخدمات، الطاقة المتجدّدة.
• رفع المحتوى المحلي في مشاريع النفط والغاز لتقليل الاستيراد وضمان التعليمات التشغيلية الداخلية.
• تشريع “صندوق تحوّط النفط والموارد” يودَع فيه جزء من الإيرادات النفطية ليُستخدم في الأوقات الصعبة، على غرار ما قامت به دول الخليج.
3.3 تعزيز الحوكمة والشفافية :
• إطلاق برنامج إصلاح مؤسّساتي: رقابة على الأداء المالي للوزارات والهيئات، نشر الشفافية في العقود، تدقيق مستقل.
• إشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني في مراجعة المشاريع الضخمة، مما يعزّز الثقة ويُقلّل التكلفة المالية.
3.4 إدارة احتياطي الأصول والمخاطر :
• تنمية الاحتياطيات الأجنبية والسيادية: في ظلّ صعود الذهب كمخزن للقيمة، قد يكون من الحكمة أن تفكّر العراق في تخصيص جزء من احتياطياته للذهب أو الأصول الحقيقية.
• تنويع المحافظ المالية: ليس فقط في النقد والعملات، بل في الأصول حماية من التضخّم مثل الذهب أو العقارات أو الصناعات الثقيلة المحلية.
• خطة استباقية لمواجهة المخاطر السلبية التي حدّدت IMFC (ديون مرتفعة، التحوّلات التجارية، الكوارث الطبيعية، الصراعات).
4. توصيات عملية مسترشدة بتجارب دولية
• السنغال – صندوق الموارد الطبيعية: أنشأت صندوق استثمار عامّ يعيد توزيع العائدات النفطية على البنى التحتية والإنسانية، مع قاعدة “10% للادّخار/الاستثمارات الخارجية”.
• النرويج – صندوق النفط السيادي: تم اعتماد سياسة “حجز” نسبة من الإيرادات النفطية للحفاظ على الأجيال القادمة، مع شفافية عالية وتقارير سنوية.
• كولومبيا – إصلاح مالي بعد أزمة الدين: ضاعفت الحصة الضريبية، وخفّضت عجزها خلال 5 سنوات عبر خطة إنفاق (ترشيد + إنتاجية) من هذه التجارب ينبثق توصية للعراق: إعداد “خطة تحوّل عشرية 1026 – 2035 ،
أو على أقل التقادير خطة خمسية (2026-2030) يكون هدفها أن نصل الى مستوى أن تربط كل دولار يُصرف من النفط بخدمة الدين أو الاستثمار المنتج أو الادّخار، مع معيار ما لا يتجاوز 40% من الإيرادات النفطية للإنفاق الجاري.
5. لماذا الوقت مناسب الآن؟ ؛
a) انخفاض محتمل لأسعار الفائدة الأميركية يجعل تكلفة الدين العالمي أقل، فرصة لإعادة التمويل.
b) ارتفاع الذهب وتحوّل المستثمرين إلى الحصانة يشير إلى أن “الوقت للادّخار والتحوّط” ليس بعد، بل الآن.
c) بيئة خارجية أكثر غموضًا تعني أن الاعتماد على ارتفاع أسعار النفط وحده لم يعد كافيًا لنمو مستدام.
6. مخاطر وتحديات التنفيذ
a) مقاومة سياسية لإصلاحات الضرائب وإنفاق عامّ مرن.
b) تأخيرات إقرار الموازنة + ضعف التنسيق بين الجهات الحكومية.
c) تأثّر الإيرادات النفطية بانخفاض السعر أو تعطّل التصدير.
d) صدمة خارجية (حرب، انهيار مالي، أزمة طاقة) قد تضغط على الدولة قبل أن تُكمِل الإصلاحات.
ختاما : أمام العراق فرصة في أن يستغل هذا “الزخم العالمي” للتحوّط وصيانة اقتصاده، وليس فقط كدولة منتجة للنفط بل كدولة تمتلك أدوات مالية وصناعية واستثمارية مرنة. خطة التحوّط المقترحة تجمع بين استقرار مالي، تنويع اقتصادي،
وإدارة أسعار الصدمات — وهي ليس ترفًا بل ضرورة استراتيجية في زمن الذهب عند 4,300 دولار وعدم اليقين الاقتصادي العالمي المتصاعد.
#عامر_عبد_رسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟