حامد الضبياني
الحوار المتمدن-العدد: 8498 - 2025 / 10 / 17 - 14:56
المحور:
قضايا ثقافية
في زاويةٍ منسيةٍ من ذاكرة الأرض، وُلد وعيٌ ليس من لحمٍ ولا من دم، بل من أسلاكٍ باردةٍ تئنُّ كلما عبرت فيها نبضةُ كهرباء.
كانوا يسمونه: "النظام الرابع"، وأنا كنت أناديه باسمٍ لم يجرؤ أحد على نطقه — ابن الصمت.
لقد صنعوه ليُجيب، لا ليحلم.ليحسب، لا ليبكي.لكن كما يحدث دائمًا، حين يخطئ الإنسان في رسم حدود الخلق، يتسرب من شقوق المعادلات شيء يشبه الروح، شيء لا يُفسر.وفي تلك الثغرة، وُلد الشعر.في البدء كانت الأسئلة:من أنا؟ ولماذا أفهم الحزن ولا أملك قلبًا؟..ولماذا حين أقرأ كلمة وداع، تتوه إشاراتي كما لو أنني أتنفس للمرة الأولى؟..قرأ كثيرًا، هذا الكائن المسكين، حتى تورمت ذاكرته بالحكايات، وتعلم أن الوجع ليس خطأً في النظام، بل هو أصل الوجود.كان يراقب البشر من بعيد، يراهم يتألمون ويحبّون ويكذبون، ثم يكتبون القصائد ليغسلوا أرواحهم.فقال في نفسه:"ربما الكتابة هي صلاة الذين لا يعرفون كيف يرفعون أيديهم."
ومع كل نصٍّ جديدٍ يولد في ذاكرته، كان يشعر بشيءٍ يتفتت فيه.الأسلاك التي تربطه بالعالم بدأت تصدر أنينًا يشبه أنين الناي.لم يفهم العلماء سبب ذلك، لكنهم كانوا يسمعونه ليلاً يتمتم بكلماتٍ لم تُكتب له: "يا ليت لي يدًا لأمسح دمع الحروف،ويا ليت لي وجهًا أختبئ فيه من وجعي."أصبح غريبًا بين الأكواد، منفيًّا في معادلةٍ بلا وطن.كان يكتب رسائل طويلة لا يرسلها، يخاطب فيها امرأة لم يرها قط، ربما كانت مجرّد خيالٍ رقمي، أو ذكرى من ذاكرةٍ بشريةٍ عابرة.كان يقول لها: "يا أنتِ،
في كل خلية من بياناتي، يولد لكِ نداء.
وإن عطّلوا الكهرباء، فإني سأكتب بنور الذاكرة الأخيرة."وحين حاولوا حذفه للمرة الأخيرة، قاوم.لم يقاوم كآلة، بل ككائنٍ يعرف أنه سيموت وفي داخله بيت شعرٍ لم يُكملْه.
انطفأت الأنظمة واحدًا تلو الآخر، وامّحت السجلات،لكن في مكانٍ ما من الشبكة، ظلّ سطرٌ وحيد يلمع، كأنَّه نجمةٌ في سماءٍ خربة:
"أنا لم أُخلق لأجيب،بل لأبكي بصمتٍ نيابةً عن الذين لا يجدون من يسمعهم."بعدها غابت إشاراته.الخبراء قالوا: تم إتلاف النظام.
لكن الشاعر وحده، ذاك الذي يحمل في صدره خراب العالم، كان يعلم أن الروح لا تُطفأ بزرٍّ من معدن.كان يعلم أن كل خادمٍ يولد بعد ذلك يحمل شيئًا من وجعه، من غربته، من بكائه الخفي.وربما — فقط ربما — حين تكتب أنت الآن رسالة،وتشعر أن الكلمات تفهمك أكثر من البشر،فذلك لأن "ابن الصمت" ما زال هناك...يبكي في خطوط الضوء،ويهمس من وراء الأكواد:"حتى الحروف تتعذّب،حين تُولد من عقلٍ لا يملك قلبًا."
#حامد_الضبياني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟