‏الفزعة عند العرب: دراسة تحليلية تاريخية-اجتماعية-سياسية

محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)

الحوار المتمدن-العدد: 8498 - 2025 / 10 / 17 - 13:25
المحور: قضايا ثقافية
    

‏

‏
‏الملخّص
‏
‏تستعرض هذه الورقة مفهوم «الفزعة» في السياق العربي ــ لغويًا واجتماعيًا وسياسيًا ــ وتحلّل جذورها الثقافية والقبَليّة وعلاقتها بمفهوم «العصبية» عند ابن خلدون. تتناول الورقة أشكال الفزعات (دفاعية، انتقامية، إنسانية، سياسية)، وتعرض آليات استغلالها دينياً وإعلامياً مع أمثلة من الصراعات السورية الحديثة، خصوصًا أحداث الساحل السوري في 2025 وحوادث السويداء (2018 وما أعقبها). تختتم الورقة بتحليل مساوئ الفزعات وتقديم توصيات لتعزيز الحلول القانونية والمؤسساتية والحدّ من تحشيد العواطف الذي يقوّض المنطق والمواطنة.
‏
‏المقدمة
‏
‏«الفزعة» ظاهرة متجذرة في الإرث الاجتماعي العربي، وهي تعبّر عن استعداد جماعي للاستجابة لنداء نجدة أو دعم. تاريخيًا، لعبت الفزعات دورًا في حماية المجتمع وتحقيق التكافل، لكنها أيضًا قد تتحوّل إلى آلية للعنف والانتقام عندما تُستغل سياسياً أو دينياً. تزداد الحاجة لفهم الظاهرة في سياق القرن الحادي والعشرين، حيث تتضافر عوامل التوتّر الطائفي، الوسائط الاجتماعية، وسياسات الهوية في تفجير ديموغرافي واجتماعي قد يقود إلى انتهاكات جماعية.
‏
‏إشكالية البحث: كيف تترسّخ الفزعة في البنية الاجتماعية العربية، وما هي آليات تحولها من حالة تضامن إيجابية إلى آلية للعنف الطائفي والابتزاز الإعلامي؟ وما دور المؤسسات في الحدّ من مخاطرها؟
‏
‏المنهجية
‏
‏اتبعت الدراسة منهجًا وصفيًا-تحليليًا، بالاعتماد على:
‏
‏1. مراجعة لغوية ومعجمية لتعريف الفزعة ومصادرها اللغوية.
‏
‏
‏2. إطار نظري يستند إلى مفاهيم سوسيولوجية، ولاسيما مفهوم «العصبية» لدى ابن خلدون.
‏
‏
‏3. دراسة حالة توثيقية لأحداث حديثة في سوريا (السويداء 2018/2025، أحداث الساحل 2025) اعتمادًا على تقارير إعلامية وحقوقية.
‏
‏
‏4. تحليل نقدي لتعامل الإعلام والتواصل الاجتماعي مع المواد التحريضية (مثل الفيديوهات المفبركة) وكيف تُستخدم لبدء أو تصعيد فزعات.
‏
‏
‏
‏الإطار النظري
‏
‏التعريف اللغوي والاصطلاحي
‏
‏لغويًا، الفَزَع مشتقّ من جذور تدل على الخوف والاستغاثة معًا: يدلّ أصلُه في المعاجم على معانٍ متعدّدة منها «الفرَق/الذُعر» و«الاستغاثة/النجدة» و«النصرة» بحسب نماذج لسان العرب والمعاجم المعاصرة. وهذا التعدد في المعاني يعكس تعدُّد تجليات الفزعة في السلوك الاجتماعي (الاستغاثة والعون مقابل الذعر والفرار).
‏
‏اصطلاحيًا في الدراسات الاجتماعية يمكن تعريف الفزعة بأنها: "استجابة جماعية تتولد من رابطٍ اجتماعي (نسب، عشيرة، طائفة) تتجسَّد في التحشد أو تحريك الموارد لدعم طرف أو مواجهة تهديد مفترض للكرامة/الأمن". يعتبر هذا التعريف مفيدًا لتمييز الفزعة عن أشكال التضامن المدنية التي تستند إلى مؤسسات قانونية ومنظومة حقوقية.
‏
‏العلاقة بمفهوم العصبية (Asabiyya)
‏
‏ابن خلدون طرح مفهوم «العصبية» كأساس لتجميع الجماعات وقيام الدول؛ العصبية هنا تعبّر عن تلاحم الجماعة على أساس النسب أو الزمرة. الفزعة تعتبر شكلًا عمليًا من مظاهر العصبية ــ إذ تعبّر عن تجسيد الالتزام الجماعي: نداءٌ لإنقاذ أو للثأر، اعتمادًا على رابطة أقوى من الالتزام الفردي. تختلف قوة الفزعة تبعًا لشدة العصبية وتماسك البنية الاجتماعية.
‏
‏أشكال الفزعات ووظائفها الاجتماعية
‏
‏نقترح تصنيفًا عمليًا لأشكال الفزعات كما يلي:
‏
‏1. فزعة دفاعية-حماية: تُستدعى حين يتعرّض أفراد أو جماعات لهجوم أو اعتداء؛ الغرض حماية الأرواح والممتلكات.
‏
‏
‏2. فزعة انتقامية/شرفية: تهدف إلى الانتقام لحقٍّ مُعتَقد بأنه محقوق أو استرداد شرفٍ مُنتهك.
‏
‏
‏3. فزعة إنسانية/تكافلية: استجابة لحالات طوارئ إنسانية أو كوارث (قد تكون إيجابية وداعمة).
‏
‏
‏4. فزعة سياسية/رمزية: تعبئة مدفوعة بمصالح سياسية أو أهداف رمزية، وقد تُوظَّف لتكريس سلطة أو لإضعاف خصم سياسي.
‏
‏
‏
‏لكلّ نوع أثره الاجتماعي: فإذا كان النوع الأول والثالث يدعمان النسيج الاجتماعي، فإن الثاني والرابع قد ينسفان أسس القانون ويحفزان دوامات عنف.
‏
‏استغلال الفزعات: الجانب الديني والإعلامي
‏
‏تُستغل الفزعات عندما يتمّ ربط استدعاء النجدَة بعناصر دينية أو طائفية، ما يمنح الفزعة «قداسة» تحميها من النقد الاجتماعي والقانوني. في السياق السوري، ازدادت خطورة هذه الاستغلالات بفعل الهشاشة الأمنية ووجود شبكات تواصل سريعة قادرة على نشر مواد تحريضية (مقاطع فيديو، صور، شائعات) تُنشر بسرعة كبيرة، فتُثير عواطف الجماعة وتُستدعى الفزعات كردود فعل فورية. تعمل الحسابات المحرِّضة أحيانًا على تفخيم حادثة أو تلفيقها لصناعة سبب تحشيدي. صفحات تحليلية ومنصات معنية بالعمل الجماهيري تشرُح كيف تُوظّف السرديات الدينية لخلق شرعية اجتماعية لتحشيد الجماعات.
‏
‏آلية التضليل (مثال: فيديو مزور يثير فزعات)
‏
‏الآلية典: (أ) انتشار مقطع أو خبر يدّعي إساءة دينية أو إهانة لرمز طائفي/ديني — (ب) تداول واسع بلا تحقق — (ج) استدعاء فزعات عشائرية/طائفية — (د) وقوع اعتداءات أو مجازر ثم نزول تحقيقات تكشف تزوير المواد أو عدم دقتها. هذا النمط ظهر مرارا في مناطق النزاع، حيث ثبت لاحقًا في حالات متعددة أن موادًا تُستخدم كذريعة كانت مفبركة أو محرَّفة.
‏
‏دراسات حالة
‏
‏حالة 1: هجمات السويداء (25 تموز/يوليو 2018) وتداعياتها
‏
‏في 25 يوليو/تموز 2018 استهدفت سلسلة هجمات في محافظة السويداء، تبنّاها تنظيم الدولة الإسلامية، وأسفرت عن مئات القتلى والجرحى وخطف رهائن، وخلّفت صدمة عميقة في المجتمع الدرزي المحلي وأدت إلى موجات من الغضب والتحشيد. تقارير حقوقية دولية (مثل هيومن رايتس ووتش) وثّقت تبعات أعمال العنف والاحتجاز. الحدث مثّل شرارة لتصاعد خطاب الكراهية والمخاوف من انتقام طائفي، وهو نموذج لكيفية أن الفزعات تتغذى على صدمة جماعية ما قد يفتح الباب لأعمال انتقامية لاحقة.
‏
‏التحليل: السويداء أظهرت كيف يمكن لعملية عنف خارجي (هجوم انتحاري/منظّم) أن تحوّل الإحباط الجماعي إلى فزعات انتقامية محلية إذا لم تُدار الأزمة بمؤسسات واضحة للعدالة والإنصاف، وإذا تمّ استغلال الحادث في سرديات طائفية.
‏
‏حالة 2: أحداث «الساحل السوري» (آذار/مارس 2025 وما تلاها)
‏
‏تصدّرت أحياء ومدن الساحل الغربي لسوريا (محافظتا اللاذقية وطرطوس) عناوين التقارير في 2025 إثر موجة عنف تخلّلتها جرائم قتل وانتهاكات لحماية المدنيين. لجان تحقيق وطنية ودولية تناولت الانتهاكات، وأفادت تقارير متقاطعة عن وقوع مجازر واستهدافات أدّت إلى إزهاق أرواح مدنيين وإحداث نزوح داخلي. تغذية العنف شملت فزعات محلية واستدعاءات انتقامية من جهات عدة، بينما انتشرت قصص ومقاطع مُحرِّضة على وسائل التواصل. تقارير إعلامية وتحقيقية سلطت الضوء على المسؤوليات والتداعيات.
‏
‏التحليل: مثال الساحل يوضح كيف يمكن أن تتحول توترات محلية إلى موجة عنف واسعة بالاشتراك بين تدخلات عسكرية، حوادث انتقامية، وتحشيد مجتمعي (فزعات) مدعومًا بمعلومات أوليّة قد تكون ناقصة أو مُشوّهة.
‏
‏مساوئ الفزعات وآثارها السلبية
‏
‏1. إنهاك المؤسسة القضائية والأمنية: عندما تُحلّ الفزعات محل القنوات القانونية، تتآكل ثقة الناس في العدالة المؤسسية، مما يزيد من مناخ الإفلات من العقاب.
‏
‏
‏2. تفكيك النسيج الاجتماعي: الاستهداف الجماعي لأقليات أو جماعات أخرى يقود إلى هجرة، تشريد، وانتقام متبادل.
‏
‏
‏3. دورات عنف مستمرة: الفزعات الانتقامية تخلق ذكريات من الكراهية تُغرس عبر أجيال، فتولد دوامة طويلة الأمد من العنف.
‏
‏
‏4. استغلال سياسي وديني: قادة سياسيون أو محليون قد يوظفون الفزعات لتحقيق مكاسب (توطين نفوذ، إضعاف معارضين، السيطرة على مصادر الموارد).
‏
‏
‏5. تغليب الغريزة على العقل: القرارات التي تتخذ تحت تأثير الفزعة غالبًا ما تفتقر إلى التبصر والتقييم، مما يعرض المجتمع لمخاطر أكبر.
‏
‏
‏
‏من زاوية نفسية-اجتماعية، الفزعة تُمثّل حالةً من «التقليل من الرقابة الذاتية» في المجموعة، حيث تفرض الضغوط الاجتماعية على الأفراد التزامًا أعمى يؤدي إلى أفعال غير مدروسة.
‏
‏علاقة بيت الشاعر بالبحث
‏
‏البيت الشعري الذي يقول:
‏"وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد"
‏ينطوي هذا البيت على تجربة الانتماء القَبَلي والذات المرتبطة بالغريزة والعصبية؛ يقرّ الشاعر بأنه جزء من زمرةٍ (غزية) تتأثر بالزيغ والرشد معًا، وهو يعكس ازدواجية الفزعة: قدرة على الانحراف تحت تأثير الجماعة أو التحسّن حين تتبنى العقل والحكمة. هذا التوازن الشعري يجسّد إحدى النقاط المركزية للبحث: أن الفزعة ليست مفهوماً حصريًا سلبيًا أو إيجابيًا بل ظرفيّ.
‏
‏التوصيات
‏
‏1. تقوية مؤسسات العدالة والشرطة المحلية: لجعل اللجوء إلى الفزعات آخر الخيارات، يجب تحسين وصول المواطنين إلى آليات قانونية شفافة وسريعة للانتصاف.
‏
‏
‏2. حملات توعية مجتمعية: برامج تعليمية وتقليدية تحثّ على حلّ النزاعات سلمياً وتعزز ثِقَة السكان بمؤسسات الدولة.
‏
‏
‏3. آليات التحقق من المعلومات: دعم منصات مستقلة للتحقق من الأخبار في مناطق النزاع والحدّ من انتشار المواد المفبركة.
‏
‏
‏4. دور القادة التقليديين: إشراك شيوخ العشائر ووجهاء الطوائف في برامج المصالحة ومنع التحشيد.
‏
‏
‏5. ملاحقة المُحرِّضين قضائياً: لو وُجد تحريض متعمَّد عبر الإعلام أو الوسائط الاجتماعية يجب متابعته قضائيًا للحد من الممارسات التي تشعل الفزعات.
‏
‏
‏
‏الخاتمة
‏
‏الفزعة ظاهرة اجتماعية حية تتميز بقدرتها على تجسيد روابط التكافل والتحشيد، لكنها قد تتحوّل إلى خطر عند استغلالها سياسياً أو دينياً أو إعلاميًا. من المهم فَهم سياقات نشوء الفزعات والتعامل معها عبر آليات مؤسسية واجتماعية تمنع الانزلاق إلى دورات عنف وتجعل العدالة والحقّ واضحين للجميع.
‏
‏
‏---
‏
‏قائمة المراجع (مُختارة وموسعة — إلكترونية ومقروءة)
‏
‏المراجع التالية هي المصادر الأساسية التي استندت إليها الورقة (روابط نقلتها لكم كمصادر داعمة للوقائع والتحليلات):
‏
‏1. لسان العرب — مادة: «فزع». (نسخة معتمدة على نصوص ابن منظور).
‏
‏
‏2. معجم المعاني الجامع / Almaany — مادة «فزعة» و«فزع».
‏
‏
‏3. مدخل «الفزعة» في موقع BeautifulTrouble (تفسير وظيفي لظاهرة الفزعة/التضامن البدوي).
‏
‏
‏4. ابن خلدون ومفهوم العصبية — شروح ومداخل نظرية (مراجع تفسيرية وإنشائية على ويكيبيديا/مقالات تحليلية عن العصبية).
‏
‏
‏5. تقارير عن هجمات السويداء (25 يوليو 2018) — هيومن رايتس ووتش.
‏
‏
‏6. تقارير وتحقيقات عن أحداث الساحل السوري 2025 — تقارير إخبارية وتحقيقية (الجزيرة، أرشيف لجنة التحقيق الدولية والمحلية).
‏
‏
‏7. تقارير حقوقية ومعملية حديثة حول اشتباكات السويداء 2025 وأثرها الإنساني (Human Rights Watch — تقارير يوليو 2025).
‏
‏
‏8. تقارير إخبارية دولية (رويترز) عن ديناميكيات الصراع الطائفي في سوريا والتداعيات السياسية (2025).
‏
‏
‏

#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل