أحمد كامل ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 8498 - 2025 / 10 / 17 - 12:35
المحور:
قضايا ثقافية
لم أكن أتصوّر أنّ أداةً تُفكِّرُ معنا، أو بالأحرى تُحاكي تفكيرنا، ستثير كلّ هذا الجدل، وتُشعل في الناس هذا الصراع بين الإعجاب والخوف، بين الانبهار والاتهام، بين من يراها فتحًا معرفيًّا ومن يراها نذيرًا بنهاية الإبداع الإنسانيّ. منذ أن بدأ الذكاء الاصطناعيّ يغزو حياتنا، ونحن نعيش انقسامًا فكريًّا حادًّا، يكشف عن طبيعة علاقتنا القديمة بالأدوات، وعن مقدار ثقتنا بعقولنا نحن لا بالآلة.
ولأنني أعيش هذا العصر كما يعيش غيري، فإنني وجدت نفسي في قلب هذا النقاش. أسمع يوميًّا أصواتًا غاضبة تحذّر من الاعتماد على الذكاء الاصطناعيّ في الكتابة أو التفكير أو التعليم، بدعوى أنّه يقتل الإبداع ويمنع الإنسان من القراءة والتفكير. وأسمع في المقابل من يراه خلاصًا سحريًّا لكلّ تعبٍ ذهنيّ، فيترك له مهمة البحث والتحليل والكتابة، مكتفيًا بالنتيجة الجاهزة. وأنا، في منتصف هذا الصخب، لا أرى فيه شيطانًا ولا مخلّصًا، بل مرآةً ضخمة تُظهر لنا ما كنا نخفيه عن أنفسنا: طبيعتنا الكسولة أحيانًا، وغرورنا المعرفيّ أحيانًا أخرى، وحاجتنا الدائمة إلى أداة تذكّرنا بأنّ الفكر ليس في الوسيلة، بل في طريقة استخدامها.
كلّ أداة جديدة في التاريخ الإنسانيّ أثارت الذعر أولًا قبل أن تصبح أمرًا مألوفًا. حين اخترع الإنسان القلم، قال بعضهم: إنّ الحفظ سيتراجع، لأنّ الذاكرة ستتّكل على الكتابة. وحين ظهرت الطباعة، خاف الكتّاب من كساد مهنهم، وتخوّف الفقهاء من ضياع هيبة العلم. وعندما دخل الحاسوب إلى الجامعات، قيل: إنّه سيقتل روح البحث، وسيجعل الطالب يعتمد على الشاشة بدل الكتاب. والآن، حين أطلّ الذكاء الاصطناعيّ، تكرّرت المخاوف ذاتها، ولكن بثوب عصريّ جديد.
الحقيقة أنّ كلّ تلك الأدوات لم تسرق من الإنسان عقله، بل كشفت عن مدى استعداده لاستخدامه. فالقلم لا يكتب وحده، والطباعة لا تُفكّر، والحاسوب لا يُبدع من فراغ، وكذلك الذكاء الاصطناعيّ. هو امتداد طبيعيّ لتاريخ الأدوات التي صنعها الإنسان ليختصر بها الوقت والجهد. المشكلة ليست فيه، بل فيمن يظنّ أنّه يستطيع أن يُفوِّض عقله لآلة، كما يُفوِّض عاملاً ليقوم بمهمة.
أنا أستخدم الذكاء الاصطناعيّ في الكتابة أحيانًا، لا لأتوقف عن التفكير، بل لأستفزّ تفكيري أكثر. أتعامل معه كصديق ذكيّ عنيد، يدفعني لأن أُدقِّق في عباراتي، وأن أرى أفكاري من زوايا لم أكن أنتبه لها. هو ليس بديلًا عن عقلي، بل محفز له. ومن لا يفهم هذه الفكرة سيظلّ يراه خطرًا لأنّه يخاف أن يُفْضَحَ ضَعْفُهُ أمام مرآة أذكى منه في التنظيم، لا في الفهم.
من المضحك، والمُحزن أحيانًا، أنّ كثيرًا ممن يرفضون الذكاء الاصطناعيّ بدعوى أنّه "يمنع القراءة والتفكير"، لم يكونوا قبل ظهوره من القرّاء النهمين ولا من المفكرين العميقين. هم فقط وجدوا في وجوده ذريعة جديدة يعلّقون عليها خوفهم من التجديد. أذكر أنني سمعت أحدهم يقول: "الذكاء الاصطناعيّ سيجعل الناس تجهل أكثر، فقلت له مازحًا: "وهل كنت تَقرأ قبل أن يظهر؟". ضحك ولم يُجب، لأنّ الإجابة كانت واضحة.
الذكاء الاصطناعيّ لا يجعل أحدًا جاهلًا، لكنّه يفضح الجهل المستتر. فمن كان قارئًا سيبقى قارئًا، بل سيجد فيه وسيلة لتوسيع أفقه، ومن كان كسولًا سيزداد كسلًا. الأداة لا تُغيّر الطبيعة، بل تكشفها.
في الحقيقة، لم يُختبر الإنسان أخلاقيًّا كما يُختبر اليوم أمام هذه الأداة. فالذكاء الاصطناعيّ يضعنا أمام تساؤل جديد: هل ما ننتجه حقًا ملك لعقولنا أم لآلتنا؟
إنّ من يطلب من الذكاء الاصطناعيّ أن يكتب له مقالًا ثم ينسبه إلى نفسه دون مراجعة أو تعديل أو تفكير، لا يختلف كثيرًا عمّن ينسخ مقالًا من الإنترنت ويوقّعه باسمه. السرقة ليست في استخدام الأداة، بل في ادعاء الجهد الذي لم يُبذل. أمّا من يتعاون معه، فيوجهه، ويختبر إجاباته، ويُعيد صياغتها بلغته وأسلوبه وفكره، فإنّه لا يسرق، بل يُنتج فكرًا مشتركًا بين الإنسان والآلة، فكرًا هجينًا جديدًا يليق بعصرنا.
أحيانًا أشعر أنّ الرفض العنيف للذكاء الاصطناعيّ ليس رفضًا معرفيًّا بقدر ما هو خوف من المجهول. الإنسان بطبعه يخاف من الجديد، خاصّة حين لا يفهمه. تمامًا كما خاف أجدادنا من الراديو حين ظهر، واعتبروه "صوت الجنّ"، ثم لم يلبثوا أن جلسوا حوله كلّ مساء ليستمعوا إليه في خشوع. الخوف من الذكاء الاصطناعيّ طبيعيّ، لكن غير الطبيعيّ أن يتحوّل إلى جمود فكريّ يُغلق باب التجربة.
لقد أصبح هذا الرفض نفسه مادة للتندّر في بعض الأوساط الأكاديميّة؛ فكيف يرفض المثقّف أداة من أدوات المعرفة لأنّه يخاف أن تضعف فكرَه؟ إنّ الفكر الحقيقيّ لا يضعف إلّا إذا توقّف عن التساؤل، والذكاء الاصطناعيّ بطبيعته يثير أسئلة أكثر مما يقدّم أجوبة، وهذا ما يجعله حليفًا للعقل النقديّ لا عدوًا له.
حين أجلس أمام واجهة الذكاء الاصطناعيّ وأسأله عن فكرة أو موضوع، أشعر كأنني أنظر في مرآة واسعة تعكس ما في ذهني من أفكار مبعثرة. يجيبني بطريقة تُجبرني على المراجعة، على المقارنة، على التصحيح. كم من مرّة قدّم لي إجابة سطحيّة، فاستفزني ذلك لأبحث أكثر، وكم من مرّة أدهشني بتحليلٍ ذكيّ دفعني للتوسع في القراءة. أليس هذا ما نطلبه من أيّ أداة معرفيّة؟
أنا لا أبحث عن بديل لعقلي، بل عن محفّز له. من يرفض الذكاء الاصطناعيّ لأنّه "يفكر نيابة عنّا" يشبه من يرفض المعلم لأنّه "يشرح بدلاً منّا"، أو من يرفض الكتاب لأنّه "يحمل أفكارًا ليست أفكارنا".
التعليم من أكثر المجالات التي تأثرّت بهذه الثورة. رأيت بعض المعلمين يعلنون الحرب على الذكاء الاصطناعيّ ويمنعون الطلاب من استخدامه. يقولون إنّ الطالب لن يتعلم الكتابة إن لجأ إليه. لكن أليس هذا هو نفس القول الذي سمعناه يوم ظهرت الآلة الحاسبة؟ لقد قيل حينها إنّ الطلاب سيفقدون مهارة الحساب، ثم اكتشفنا أنّهم صاروا أكثر دقّة وأسرع أداءً.
إنني أؤمن أنّ التعليم في زمن الذكاء الاصطناعيّ يجب أن يتغيّر من التلقين إلى النقد، من إنتاج الجواب إلى تحليل الجواب، من سؤال “اكتب لي” إلى سؤال “ما رأيك فيما كتب؟”. لم يعد المطلوب من الطالب أن يكتب نصًّا من فراغ، بل أن يخلق قيمة فكريّة مما يُقدَّم له، أن يناقش الآلة لا أن يكررها.
الذكاء الاصطناعيّ لا يُلغي وظيفة الكاتب، لكنّه يفرض عليه أن يكون أعمق. لن يعود كافيًّا أن تكتب نصًّا متقن الأسلوب، فذلك بات في متناول الجميع. المطلوب أن تكتب نصًّا يحمل روحك، صوتك، بصمتك الفكريّة التي لا تُحاكى. وهنا تتجلّى المفارقة الجميلة: كلما تقدّمت الآلة، ازداد الطلب على الإنسان الحقيقيّ الذي يملك الوجدان والتجربة.
لعلّ أكثر ما يثيرني في هذا الجدل أنّ الذكاء الاصطناعيّ كشف هشاشتنا الفكريّة. لقد كنّا نُحبّ أن نظنّ أنّنا نقرأ ونتعلّم ونفكر، لكنّنا حين وجدنا أداة تستطيع أن تُنتج ما يشبه نتاجنا في ثوانٍ، ارتبكنا. شعر البعض أنّ قيمته الفكريّة مهددّة، وشعر آخرون أنّ جهدهم لا معنى له، لأنّ الآلة تستطيع أن تفعل مثله وربما أفضل. لكنّ هذه المشاعر، في رأيي، لا علاقة لها بالذكاء الاصطناعيّ، بل بالإنسان نفسه. من كان يؤمن بأنّ قيمته في أصالته، وفي طريقته في التفكير، لن يخاف من أيّ آلة. ومن كان يقيس ذاته بعدد الكلمات التي يكتبها، أو بالسرعة التي يُنجز بها، فسيشعر بالهزيمة أمام آلة لا تعرف التعب.
أنا أرى أنّ الذكاء الاصطناعيّ أعاد تعريف معنى الإبداع. لم يعدّ الإبداع في الفكرة وحدها، بل في زاوية النظر إليها، في الطريقة التي نعيد بها تشكيلها، في قدرتنا على إضافة البُعد الإنسانيّ لما هو تقني. إنني حين أستخدم الذكاء الاصطناعيّ، لا أبحث عن نصّ جاهز، بل عن بداية محادثة. أتعامل معه كما يتعامل الرسام مع فرشاته، لا كما يتعامل الناسخ مع قلمه.
يخاف بعض الكتّاب أن تضيع روح الأدب في عصر الذكاء الاصطناعيّ، ويعتقدون أنّ النصوص المولّدة آليًّا ستقضي على الذائقة الأدبيّة. لكنني أرى أنّ الأدب الحقيقيّ لا يُهدّد، لأنّ الجمال لا يُولَد من الخوارزميات، بل من التجربة الإنسانيّة. تستطيع الآلة أن تُحاكي اللّغة، لكنّها لا تشعر بالألم ولا تعرف الحنين. لا تستطيع أن تكتب عن الفقد كما يكتبه من فقد، ولا عن الحبّ كما يعيشه من أحبّ.
لذلك، فإنّ الذكاء الاصطناعيّ لن يُنهي الأدب، بل سيُنقّيه من الزيف والسطحيّة. سيجعلنا نُفرّق بين النصّ الجميل لأنّ لغته متقنة، والنصّ الجميل لأنّ روحه صادقة. لقد كان كثير من الكتاب يختبئون خلف الزخرف اللّغوي، أمّا اليوم فقد صار من السهل كشفهم، لأنّ الآلة قادرة على تقليد هذا الزخرف، بينما تظلّ الصدق الإنسانيّ هو الفارق الوحيد الذي لا يُحاكى.
إنّ الذين يرفضون الذكاء الاصطناعيّ تمامًا يشبهون أولئك الذين رفضوا الكهرباء أوّل مرّة، خشية أن “تحرق البيوت”. لكن من يجرؤ على التجربة هو من يصنع التقدّم. أنا لا ألوم الخائفين، فالخوف طبيعيّ، لكنّ التوقّف عنده هو المشكلة.
لقد مرّ الإنسان بثورات معرفيّة كثيرة: الثورة الزراعيّة، الصناعيّة، الرقميّة، وها نحن في الثورة الذكيّة. وكلّ ثورة كانت تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان وأدواته. فكما لم يُلغِ المحراثُ المزارع، ولم تُلغِ الطباعةُ الكاتب، لن يُلغِ الذكاء الاصطناعيّ المفكر، بل سيُعيد تشكيله.
أعتقد أنّ مستقبلنا مع الذكاء الاصطناعيّ يعتمد على وعينا، لا على قدرته. إذا استخدمناه لنختصر التفكير، سنخسر أنفسنا. وإذا استخدمناه لنتفكّر أكثر، سنرتقي. الفارق بين الاستخدامين شعرة، لكنّها تصنع الفرق بين الجهل والمعرفة. لقد أصبح الذكاء الاصطناعيّ أداة اختبار حضاريّ. ليس المهم كم يستطيع أن يكتب، بل كم نستطيع نحن أن نفكر بعد أن يكتب. هو ليس نهاية الإنسان، بل بداية الإنسان المفكّر من جديد.
وفي النهاية، لست ممن يؤمنون بنهاية الإنسان أمام الآلة، بل ببدايته الحقيقيّة معها. فالذكاء الاصطناعيّ لم يأتِ ليزيدنا جهلًا، بل ليكشف الجهل المستتر، ولم يُخلق ليمنعنا من القراءة، بل ليمتحن من يقرأ فعلاً. إنّه ليس خصمًا لنا، بل مرآة نرى فيها وعينا كما هو، ونتساءل أمامها بصمتٍ قديمٍ متجدّد: هل ما زلنا نفكّر؟ والمفارقة الساخرة أنّنا نسمع من يزعم أنّ الذكاء الاصطناعيّ سيقضي على الفكر البشريّ، وكأنّ الفكر كائن هشّ يمكن قتله بخوارزمية. الفكر لا يموت، بل يغيّر شكله، ويتجدّد، ويتحدّى نفسه كلّما ظنّ أحد أنّه تجاوزه. من يخاف من الذكاء الاصطناعيّ إنّما يخاف أن يرى نفسه بلا قناع، ومن يهاجمه لا يهاجم الأداة، بل عجزه أمامها. لقد علمتني هذه التجربة أنّ الأداة بريئة، وأنّ الخوف طبيعيّ، أمّا الاستسلام له فهو الهزيمة الحقيقيّة. فالذكاء الاصطناعيّ ليس طريقًا إلى الجهل كما يتوهّم البعض، بل جسرٌ نحو أفقٍ أوسع من المعرفة لمن امتلك الشجاعة لعبوره. أمّا الذين آثروا ضفّة الخوف، فسيظلون يراقبون المارين عليه وهم يتقدّمون، ثم يهمسون بأسى: لقد سبقتنا الآلة. غير أنّهم لا يدركون أنّ السبق لم يكن بالآلة، بل بالعقل الذي تجرّأ على الخطوة الأولى.
الطيرة- 17.10.2025
#أحمد_كامل_ناصر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟