عامر عبد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8497 - 2025 / 10 / 16 - 10:06
المحور:
الادارة و الاقتصاد
يمرّ العراق اليوم بمفترق حاسم: في العقود المقبلة، يتوقع أن يبلغ عدد سكانه نحو 60 مليون نسمة، يكون ربعهم في بغداد وحدها، مما يضع ضغوطًا هائلة على الأرض والماء والزراعة. وفيما العراق يُعدّ من الدول الغنية بالنفط،
فإن الاعتماد على هذا المورد وحده بات مهددًا بضعف الطلب الدولي وتقلبات الأسعار. في هذا السياق، تحوّل ما كان يُعدُّ “الحزام الزراعي” والساحات الخضراء المحيطة بالمدن العراقية إلى أحياء سكنية عشوائية،
تبتلع الأراضي الزراعية وتُسحب موارد المياه إلى مشروع العمران الفوضوي.
هذا المقال يسعى إلى استكشاف أبعاد هذه الظاهرة — من السياق الديموغرافي والمائي إلى التحولات في استخدام الأراضي والعواقب البيئية — ويقدّم مقترحات عملية بالاستفادة من تجارب دولية، لمساعدة العراق على استعادة توازن بين العمران والزراعة.
النمو السكاني والتحديات المستقبلية
• مشروع 60 مليون نسمة بحلول 2035؟ : النمو السكاني في العراق مستمر بوتيرة عالية. وفق تقديرات عدة دراسات، إذا استمرّ معدل النمو الحالي (حوالي 2.5-3% سنويًا) فإن البلاد قد تصل إلى نحو 60 مليون نسمة خلال العقد القادم.
هذا يعني أن بغداد وحدها قد تستقطب نحو 15 مليون نسمة أو أكثر، مما يضاعف أعباء البنى التحتية والإسكان والماء.
• ضغط هائل على الموارد المائية والزراعية : إن عددًا متزايدًا من الدراسات تحذّر من شحّ المياه في العراق: فالتقارير تشير إلى أن البلاد تواجه “نقصًا حادًا جدًا في المياه” نتيجة انخفاض الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة،
وتدهور الأنهار بسبب السدود في الدول المجاورة وسوء إدارة الموارد الداخلية. في القطاع الزراعي، يعتمد على الري بشكل كبير، وقد شهد المزارعون في جنوب العراق تراجعًا في الإنتاج بسبب أزمة المياه.
• كما أن النزاع المتزايد بين الاستخدام الزراعي والحاجة إلى التحوّل للتصدير أو الطاقة يُفاقم التوتر على الموارد.
• انخفاض أسعار النفط كمصدر للخطر : العراق، كاقتصاد يعتمد بدرجة كبيرة على النفط، يواجه مخاطرة انكشاف كبير إذا استمرّ الانخفاض في أسعار النفط أو الانتقال العالمي إلى طاقات نظيفة. هذا يفرض ضرورة تنويع الاقتصاد،
لكن التنويع لا يمكن أن يكون على حساب الأرض والزراعة والمجتمعات الريفية.
باختصار، العراق مقبل على صدام: بين الزيادة السكانية المتسارعة، وشح الماء، والزحف العمراني على حساب الأرض الزراعية، وبين اقتصاد مهدّد بولاءه للنفط.
اقتلاع الحزام الأخضر وتحويل الأراضي الزراعية ؛ مظاهر الزحف العمراني على الأراضي الزراعية ؛
1. في بغداد، تُعدّ التجمعات العشوائية من أبرز الأمثلة على تحويل الأرض الزراعية إلى إسكان غير مخطط. بعض الأحياء التي نشأت خارج الكتل العمرانية التقليدية هي على أراضٍ كانت مزارعًا أو حقولًا.
2. بمراجعة بحث بعنوان Informal settlements in Baghdad city يوثّق كيف أن الزحف العمراني غير المنتظم على الأراضي الزراعية خَلَق أحياء سكنية وضمنها تجاوزات في البناء على الأراضي الزراعية.
3. وفق تقرير "Land, Housing and Property in Iraq" تزايدت المستوطنات العشوائية داخل وحول المدن بشكل سريع، مع تحويل الأراضي الزراعية أو أراضي الدولة إلى إسكان، أحيانًا بطرق قانونية غامضة أو معاملات فساد.
4. في المناطق الطرفية مثل أبو غريب واللطيفية والنهروان والمدائن، يُلاحظ أن كثيرًا من الأراضي المزروعة سابقًا صارت الآن عناقيد إسمنتية أو ضواحي مكتظة بلا بنية تحتية أو كهرباء أو صرف صحي.
الأثر على الزراعة والغذاء المحلي :
1. التحوّل السريع للأراضي يعني تقلّص المساحات المزروعة، وهو ما ينعكس على الإنتاج المحلي، ويزيد اعتماد العراق على الاستيراد الغذائي.
2. وفق مركز بحوث التنمية، فإن العراق يفقد أكثر من100 كيلومتر مربع من الأراضي الزراعية سنويًا بسبب التوسع العمراني والتصحر والتدهور، أي ما يعادل مساحة أكبر من بغداد.
3. من جهة أخرى، الأنهار التي تغذي الري تضيق بسبب الاستخدامات الصناعية والعمرانية، ما يفاقم تراجع إنتاج المحاصيل.
البيئة والماء تحت ضغط الزحف :
1. العراق متّهم بأن يصبح "بلدًا بلا ماء" إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فمؤشر الضغط المائي بحسب إحدى الدراسات العالمية يُظهر أن العراق سيتجاوز درجات الخطر بين 2025 و 2040، خاصة في حوض الفرات.
2. في تقرير التقدّم المناخي الوطني (National Climate Resilience Assessment)، يُشدد على أن الجفاف يهدد الموارد المائية ويجعل مشاريع الطاقة وحقول النفط — التي تتطلب الماء — عرضة للتأثر الكبير.
3. في الجنوب، تأثرت الزراعة بشدة بسبب ارتفاع ملوحة التربة ونقص المياه.
4. كما أن نحو 76% من المزارعين في الجنوب يعانون من انعدام الأمن المائي، مما يضغط على سبل عيشهم ويجبر البعض على التوقف عن الزراعة.
5. وبحسب تقرير من المفوضية النرويجية للاجئين، 60٪ من المزارعين أقرّوا أنهم قلّلوا المساحة المزروعة أو كمية المياه المستخدمة .
6. إذًا، الزحف العمراني لا يضيع الأرض فقط، بل يستنزف الماء المتاح لها ويجعل الزراعة عرضة للانهيار.
مخاطر في غياب التخطيط والتخلي عن الأرض كمورد استراتيجي
1. التحويل المهيمن للأراضي الزراعية إلى عمران بلا تخطيط يعزّز ظاهرة العشوائيات، ويكوّن أحياء بلا مرافق أو بنى تحتية، مما يضطّر الدول إلى إنفاق هائل في التصليح لاحقًا.
2. المشاريع الحكومية الإسكانية غالبًا ما تتأخّر أو تُهجر: بحسب بيانات من مكتب المحاسبة الاتحادي، حوالي 65٪ من مشاريع الإسكان الحكومية تأخّرت أو تُركت دون تنفيذ حتى عام 2023)
3. بالاعتماد على الأرض كمخزون سريع للتسوية العقارية، يُتخلّى عن الاعتبارات البيئية والمجتمعية: لا تقييم بيئي، لا حقوق مجتمعية، ولا مشاركة حقيقية، فقط المعاملات العقارية السريعة.
4. في هذا السياق، تُضيَّع فرص التوازن بين المدن والريف، ويُنسى أن الأرض ليست مجرد سلعة، بل عنصر من منظومة الأمن الغذائي والماء والهواء.
تجارب دولية يمكن للعراق أن يستفيد منها
1. في دول مثل هولندا أو الدنمارك، تُستخدم أدوات مثل التقسيم النوعي للأرض (land zoning) وحصر الاستخدامات الزراعية في “مناطق حماية زراعية مشددة” لا يسمح فيها بالتحويل بسهولة.
2. تجربة سنغافورة في إدارة النمو السكاني تعتمد على التخطيط المكثف للمدن الرأسية وتقنيات “الزراعة الحضرية” لتقليل الحاجة إلى التحويل الخارجي للأرض.
3. في البرازيل وغيرها، تُلزم السلطات باسترجاع الأراضي التي تحوّلت من زراعية إلى سكنية بلا ترخيص، وَتُفرض تعويضات وإعادة تأهيل الأراضي المجاورة لتعويض الفقد البيئي.
4. في بعض الولايات الأمريكية، تُفرض ضريبة على الأراضي غير المستغلة أو تحويل استخداماتها لتشجيع الاستخدام المستدام والزراعة.
مقترحات استراتيجية للعراق
1. قانون شامل لحماية الحزام الأخضر : إصدار قانون يُجعل التحويل من زراعي إلى سكني أو صناعي مرهوناً بموافقة عالية المستوى وتقييم بيئي واجتماعي، ويمنع التحويلات العشوائية.
2. إنشاء مجلس أعلى للأراضي والمياه والتنمية المكانية رغم وجود “هيأة الأراضي” في وزارة الزراعة، إلا أن طبيعة التحديات الراهنة — من التمدد العمراني العشوائي، وشح المياه، وتدهور البيئة، وتضارب سياسات الاستثمار والإسكان —
تتجاوز الإطار القطاعي لأي وزارة منفردة. لذلك يُقترح تأسيس مجلس أعلى للأراضي والمياه والتنمية المكانية يكون تحت إشراف مجلس الوزراء مباشرة، ويمثل فيه وزراء الزراعة، والموارد المائية، والإعمار والإسكان، والبيئة، والتخطيط،
والداخلية، والمحافظين المعنيين. تتمثل مهام هذا المجلس في:
a) وضع السياسات الوطنية الشاملة لاستخدامات الأرض والمياه، وتحديد أولويات التنمية الزراعية والعمرانية والصناعية بما يحقق التوازن البيئي والاجتماعي.
b) تنسيق قرارات تخصيص الأراضي بين الوزارات والمحافظات لمنع التعارض أو التداخل في الصلاحيات.
c) مراجعة أي تغيير في جنس الأراضي أو تحويل استخداماتها، وإخضاعه لتقييم بيئي واجتماعي ملزم قبل الإقرار النهائي.
d) متابعة تنفيذ مشاريع الحزام الأخضر وإعادة تأهيل الأراضي المتدهورة ضمن رؤية وطنية موحدة.
e) تبنّي قاعدة بيانات مركزية للأراضي والمياه تدمج المعلومات الزراعية والبلدية والهيدرولوجية لتوفير أدوات علمية دقيقة لصنّاع القرار.
إن إنشاء هذا المجلس لا يلغـي دور “هيأة الأراضي الزراعية”، بل يرفع عملها إلى مستوى استراتيجي أعلى يضمن التكامل بين التخطيط، والبيئة، والمياه، والإسكان،
ويحوّل إدارة الأرض من صلاحية إجرائية إلى قرار سيادي يرتبط مباشرة بأمن العراق الغذائي والمائي والسكاني.
3. إعادة تأهيل الحزام الأخضر : إطلاق مشاريع زراعة كثيفة حول المدن الكبرى بأشجار مقاومة للجفاف، وربطها بأنظمة ري حديثة، لتشكيل طوق بيئي ضد التمدد المديني.
4. التقييم المسبق الإلزامي للمشروعات : أي مشروع سكني أو طاقي أو صناعي يجب أن يمرّ بتقييم شامل للأثر البيئي والاجتماعي، وأن يتضمّن خطة لتعويض المجتمعات المتأثرة.
5. حوافز للإبقاء على الزراعة الحضرية : تشجيع الزراعة داخل المدن، والبستنة على الأسطح، والزراعة المائية، لزيادة الإنتاج الغذائي وتقليل الضغط على الأراضي البعيدة.
6. إعادة توزيع عائدات المشاريع الكبرى : تخصيص نسبة من أرباح المشاريع العمرانية أو الطاقية لصيانة الأرض، وتحسين البنى التحتية للمناطق المجاورة التي تضررت.
7. ترشيد استخدام المياه والتقنيات الحديثة : تنفيذ مشاريع الري التي تستهلك ماء أقل (مثل الري بالتنقيط)، واستخدام حلول بيئية لتعزيز تخزين الأمطار، وإعادة استخدام المياه المعالجة.
8. تشريع للتعويض والمراجعة القانونية : منح حقّ اللجوء القانوني للمزارعين المتضررين، وتعويضهم إن تمت مصادرة أرضهم بشرط قانوني واضح، وإعادة النظر في صفقات الأراضي التي تغيرت جنسها بطريقة غامضة.
ختاما : يمرّ العراق اليوم بمواجهة مركّبة بين النمو السكاني، وندرة الماء، وهزّ اقتصاد النفط، وامتداد الإسمنت على الحقول. إذا لم يتدخل بشكل سريع ومنهجي، فإن الزحف العمراني سيبتلع المستقبل الغذائي والبيئي للعراق،
ويحول بلدًا كان يُعرف بـ “سلة العراق” إلى دولة تعتمد على الاستيراد وتعيش في الظلال.
لكن الفرصة لا تزال قائمة: بإعادة تنظيم السياسات، وإعطاء الأرض قيمتها الحقيقية كمورد استراتيجي، وليس كبضاعة عابرة، يمكن للعراق أن يوازن بين العمران والزراعة، ويصغي إلى الأرض التي هي في صميم وجوده.
#عامر_عبد_رسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟