أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - كرم خليل - سوريا الجديدة… في البحث عن الأخلاق المفقودة والعقد الاجتماعي المؤجل














المزيد.....

سوريا الجديدة… في البحث عن الأخلاق المفقودة والعقد الاجتماعي المؤجل


كرم خليل
سياسي و كاتب وباحث

(Karam Khalil)


الحوار المتمدن-العدد: 8497 - 2025 / 10 / 16 - 10:05
المحور: قضايا ثقافية
    


في كل مرحلة مفصلية من تاريخ الأمم، تتكشّف الحقيقة الكبرى: أن الانتصار لا يتحقق بالسلاح ولا بالسياسة وحدهما، بل بالأخلاق. فالأمم التي تفقد بوصلة القيم لا تبني دولة، بل تتنازع على ركامها. وسوريا اليوم، بكل ما تحمله من جراح ومآسٍ وصراعات متداخلة، لم تعد تحتاج إلى شعارات جديدة بقدر ما تحتاج إلى إعادة تأسيس ذاتها — أخلاقًا، ووعيًا، وضميرًا جمعيًا.

إنّ الاستقلال الحقيقي الذي يحتفل به الناس في الشعارات والمناسبات لا يتحقق بمجرد رفع علمٍ أو إعلان سيادةٍ سياسية، بل حين تستقلّ الروح عن عبودية الجهل، ويستقلّ العقل عن وصاية التعصب، ويستقلّ الضمير عن فساد الولاءات. فاستقلال الإنسان هو الشرط الأول لاستقلال الأوطان. ومتى ما استُعبد العقل، صار الاستقلال احتفالًا رمزيًا على أنقاض الحرية.

لقد مرّت سوريا بقرنٍ من التبدلات، لكنّ أخطر ما تعرضت له لم يكن سياسيًا فحسب، بل أخلاقيًا. فالاستبداد الطويل لم ينهك الدولة فقط، بل شوّه علاقة الإنسان بذاته وبغيره، وأدخل المجتمع في حالة من الانقسام الأخلاقي قبل أن يكون انقسامًا سياسيًا أو طائفيًا. إننا اليوم أمام مجتمعٍ أنهكته الحرب، وتكلّست فيه الروح بفعل الخوف، وتحوّل فيه الصراع من أجل الحق إلى صراعٍ من أجل البقاء. وهنا تبدأ معركة جديدة: معركة استعادة الأخلاق كفعل مقاومة مدنية.

إنّ بناء سوريا الجديدة لا يمكن أن يُختزل بإعادة الإعمار المادي، بل هو مشروع إعادة تشكيل الإنسان السوري ذاته — في وعيه، وفي علاقته بالحرية، وبالقانون، وبالمعنى. فلا عقد اجتماعي جديد دون عقدٍ أخلاقي أول. ولا دولة قانون دون مجتمع ضمير.
نحن بحاجة إلى إعادة تعريف الانتماء: لا على أساس الدم أو الطائفة أو الحزب، بل على أساس القيمة الإنسانية التي تشكّل النواة الأولى لأي وطنٍ عادل.

إنّ الأخلاق في جوهرها ليست مجاملة اجتماعية، بل بنية تحتية للوجود الإنساني والسياسي. ومن هنا، فإنّ إصلاح المجتمع السوري يبدأ بإصلاح أخلاقه الجمعية، أي بإعادة ترميم العلاقة بين الفرد والمجموع، بين الذات والآخر، بين الإنسان والإنسان.
في زمنٍ صار فيه النقد سلاحًا للتهشيم لا للبناء، والمواقف الأخلاقية ضربًا من المثالية البالية، يصبح التواضع فضيلة ثورية، والصدق عملًا مقاومًا، والرحمة شكلًا جديدًا من أشكال العدالة.

علينا أن نعيد إلى الإنسان السوري ثقته بذاته أولًا، قبل أن نطالبه ببناء وطن. وأن نعيد إليه شعوره بالأمان قبل أن نحمله عبء الإصلاح. فالأخلاق لا تنمو في الخوف، ولا تزدهر في بيئة الشك والكراهية.
إنّ أول بنود العقد الاجتماعي الجديد يجب أن يكون: أن يعيش السوريّ حرًّا من الخوف، وأن يُعامل بكرامة، وأن يكون له الحق في أن يخطئ دون أن يُدان بالولاء أو بالكفر.
هذه ليست شعارات، بل هي الأساس الفلسفي لأي مشروع وطني يريد أن ينهض على أنقاض قرنٍ من الفوضى.

في التجربة السورية، اختُزلت الوطنية في الولاء، والدين في السلطة، والمعرفة في الدعاية، والسياسة في الغلبة. واليوم، يأتي جيلٌ جديد يريد أن يحرّر الأخلاق من وصاية المنابر، والمعرفة من هيمنة الأيديولوجيا، والوطن من سطوة التقديس الزائف.
جيلٌ لا يرى في سوريا ساحة صراع، بل حقل اختبارٍ للضمير الإنساني في القرن الحادي والعشرين.

الاستقلال الحقيقي اليوم ليس من قوةٍ خارجية، بل من داخلنا نحن — من ذواتنا التي أُغرقت في الخوف والانقسام.
الاستقلال فعلُ وعيٍ لا فعلُ إعلان.
هو أن نمتلك شجاعة الاعتراف، وشجاعة الغفران، وشجاعة البدء من جديد دون كراهية.
إنّ الإصلاح السياسي لا قيمة له إن لم يُبنَ على إصلاحٍ أخلاقي وفكري يضع الإنسان في مركز المعادلة. فالمجتمع الذي يفقد توازنه الأخلاقي لا يُصلحه دستور ولا نظام انتخابي، لأنّ الأخلاق هي الضمانة الأولى لأي عقدٍ اجتماعيٍ ناجح.

سوريا القادمة يجب أن تكون مشروعًا إنسانيًا قبل أن تكون مشروع دولة.
مشروعًا يبني إنسانًا قادرًا على المحبة كما هو قادر على النقد، على العمل كما هو قادر على الحلم، على التفكير كما هو قادر على الإيمان.
إنّها ليست دعوة إلى رومانسية مثالية، بل إلى واقعية أخلاقية جديدة — واقعية تجعل من القيم رأس مال وطني جديد، ومن الضمير قاعدة إنتاج اجتماعي وسياسي.

ولأننا في لحظة مفصلية، فإنّ الخطوة الأولى تبدأ من هنا:
أن نعيد الاعتبار للإنسان بوصفه القيمة العليا، وأن نعيد تعريف السياسة بوصفها خدمة للخير العام لا أداةً للسيطرة، وأن نعيد بناء أخلاقنا العامة كما نعيد بناء بيوتنا المهدّمة.
فحين تقوم الأخلاق، تنهض الدولة. وحين ينهض الإنسان، تُولد الأمة من جديد.



#كرم_خليل (هاشتاغ)       Karam_Khalil#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المستبدّ وصانعه: في علم النفس الجمعي للمطبل السوري
- ثقافة الكراهية في سوريا… حين يصبح الاختلاف عداء
- الموالاة الجديدة.. وجه آخر للانحطاط السياسي السوري
- أحياء في ضمير الثورة: الشهداء الذين حموا سوريا أحياءً وأموات ...
- حين يصبح الإجماع قيدًا: في نقد الوعي الجمعي العربي
- الليبرالية: مشروع وجودي أم مجرد جهاز قانوني؟
- تركيا بين اهتزاز الداخل وتشابك الإقليم: قراءة في الواقع والم ...
- سوريا بين خطاب المركزية وأزمة التشكل: قراءة في مسارات إعادة ...
- سوريا في معترك المواجهة: الخطة الوطنية للتصدي لهيمنة الإحتلا ...
- من بوق الحدث إلى عقل الأمة: الإعلام ودوره في بناء الثقة والو ...
- بسّام العدل: من بريق الطائرة إلى ظلام القمامة قصة خيانة تكشف ...
- بين الموعظة والقانون: رحلة الإنسان بين خلود الفكرة وفناء الج ...
- قانون قتل الإخوة في الدولة العثمانية: بين السلطة والفوضى
- التحول السوري: قراءة في المرحلة الراهنة وتوصيات لبناء الدولة ...
- أهمية العلاقات السورية الأمريكية في هذه المرحلة الحساسة
- تجاذبات وإعادة رسم للخارطة الجيوسياسية في سوريا
- الخصخصة في سوريا.. حديث في الإيجابيات والسلبيات والطريق نحو ...
- وسائل الإعلام في مجتمعات ما بعد النزاع: بين الهيمنة والتحرر
- ظاهرة التكويع وسلطة الأمر الواقع
- العدالة الانتقالية والية الاصلاح


المزيد.....




- رغم نجاح صفقات ترامب الشخصية في الشرق الأوسط.. إلا أنها لن ت ...
- -شكرًا لإعادتها في تابوت-.. عائلات الرهائن القتلى تنتقد نتني ...
- ماذا تعرف عن القرية المصرية الصغيرة التي تنتج أكثر من نصف يا ...
- وزير الداخلية الفرنسي الجديد لوران نونيز ينوي -استئناف الحوا ...
- هل اتفقت قسد مع الحكومة السورية على طريقة الاندماج؟
- مرشحة عراقية تثير الجدل بمنشور ضد برشلونة ووعد بتزويج مشجعي ...
- أشياء لم تكن تعرفها عن تطبيق الملاحظات في -آيفون-
- إيران تعدم شخصا بتهمة التجسس لصالح إسرائيل
- باكستان وأفغانستان تؤكدان على دور قطر وتركيا لتثبيت وقف التص ...
- غارديان: أطفال غزة بحاجة للغذاء والدواء ونوم دون خوف


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - كرم خليل - سوريا الجديدة… في البحث عن الأخلاق المفقودة والعقد الاجتماعي المؤجل