قراءة وتعليق في كتاب:
الزمن الامريكي من نيويورك الى كابول
محمد حسنين هيكل
يستعرض هيكل في هذا الكتاب تجربته الخمسينية مع الولايات المتحدة الاميركية ويحددها بدءاً منذ بدايات خمسينات القرن الماضي وحتى بداية القرن الجديد. خمسون عاما قضاها هيكل في تجاربه وحياته الخاصة والعامة، إلاّ ان معظمها يبدو انها تدورفي فلك البحث عن كينونة السياسة الاميركية وماهيتها، ومحاولة جادة وعميقة في دراسة اصول التفكير لدى السياسي الاميركي في حقب تاريخية مختلفة تمتد الى خمسين عاما، بتعدد رؤساء الولايات المتحدة ومايتشكل من حزبين رئيسيين لها وهما الحزب الديمقراطي والجمهوري .
لكنه يخلص الى نتيجة مهمة جدا وهو ان السياسة الاميركية وان اختلف فيها الحزبان الرئيسيان في الولايات المتحدة في جانب اهدافهما او وسائلهما سواء تجاه السياسة الداخلية للولايات المتحدة او الخارجية ،فهو يحدد بشكل عام ان السياسة الاميركية واحدة لا تختلف وان اختلف الفريقان.
يتطرق هيكل الى جذور تاسيس اميركا نفسها وتاثيرات ذلك النشوء او التاسيس على الخلفيةالفكرية والعملية التي يفكربها الانسان الاميركي والتي تصب بالتالي على مجريات الحياة السياسية للولايات المتحدة، وماانتجت بالتالي من سياسة متفردة تختلف عن كل مثيلاتها في هذا العالم. ومن خلال دراسته لبدايات تأسيس الولايات المتحدة باكتشافها من قبل كولومبس والهجرات اللاحقةبحثا عن حياة جديدة او التخلص من الماضي الذي يلاحق الاشخاص الموجودين في اوروبا سواء الاجرام او السياسة، وكذلك البحث عن كنوز جديدة سواء الذهب او غيره في هذه الارض الجديدة وبحث عن ملاذ يبتعد كثيرا عن السمات التقليدية القاسية المتبعة في اوروبا ( الامريكيون بعضهم يحاول الهرب من ماضٍ يخاف ان يلحقه ، وبعضهم الآخر يحاول الإمساك بفرصة يخاف ألاّ يلحقها ) ( دوجلاس ريد- بعيداً وواسعاً – Far and Wide – ص 11 )هذا التحليل الدقيق لذات النفس الاميركي وهي نفس الفكرة التي دأب عليها كل المهاجرين الذين وصلوا اميركا او الارض الجديدة منذ البداية وحتى الان ،هذه الاسباب وغيرهاالكثير جعلت الاوروربيين بشكل عام يفكرون بالهجرة الى هذه الارض الجديدة رغم ماتشكله من مخاطر سواء في عبور المحيط الاطلنطي او مايمكن ان يواجهونه هناك حيث انهم يتجهون الى المجهول ،لكن المغامرة تبقى هي المحرك الرئيسي لكل المهاجرين والتي أثّرت بالتالي على الاسلوب الذي تتعامل به الولايات المتحدة مع نفسها او مع دول وشعوب العالم .
المغامرة يمكن ان نطلق عليها شعارا رئيسيا للولايات المتحدة والادارة الاميركية في السابق والحاضر والمستقبل ( التجربة الاميركية انها ليست وطن وليست دولة وانما موطن وملجأ تنوعت الاسباب للهجرة اليه لذلك فهي ارض بلا ملوك ولا كنيسة ولا اقطاع ولا قانون..هي فضاء مفتوح – محمد حسنين هيكل – ص 27 ) واذا كانت المغامرة المتأصلة في لب تفكير الفرد الاميركي والتي تحولت بمرور الزمن والتجارب التي خاضتها الولايات الاميركية وكما يقول هيكل بالاعتماد على معظم ماوصلت اليه اوروبا من علوم اضافة للاغراءات المادية التي يمكن من خلالها جذب العلماء والمفكرين والمخترعين الى اراضيها، وهذا ماحصل بالتالي، مما جعل اميركا تصبح الرائدة الاولى في العالم في مجال الابتكار والتطور العلمي والتقني خصوصا اذا ماعلمنا ماهو صراعها مع الاتحاد السوفيتي السابق عند نهاية الحرب العالمية الثانية وماقيل عن مجموعة من العلماء الالمان الذين تمت السيطرة عليهم عند انهيار المانيا في الحرب العالمية الثانية وتم اقتسامهما بين الحليفين وهما (اميركا والاتحاد السوفيتي) للاستفادة منهم في بناء بلديهما .إلا ان القوة الاقتصادية للولايات المتحدة وعدم تضرر مدنها بالحرب كما هو حال الاتحاد السوفيتي واختلاف اسلوب التخطيط الاقتصادي لكل منهما جعلها القوة الاقتصادية الاولى في العالم.
وكما يقول هيكل فان ارتباط الفكر الاوروبي بتاريخه يحد من حركته وابداعه، بينما يحاول الاميركي نحو الاستحواذ على كل ماهو جديد وغريب ومثير كونه لا يملك اي ارث تاريخي وبالتالي فهو يصنع مجده الجديد، باعتبار ان اوربا تملك تاريخا يمكنها الرجوع اليه لتفتخر به بينما اميركا ستصنع تاريخا جديدا لها تجعل العالم كله ينظر اليها بعين الاعجاب وهذا ماهو واضح الان .
وقد سعت الولايات المتحدة الاميركية بسبب وضعها الخاص كونها بلا ماضٍ يربطها الى الخلف بل الى مستقبل مزهر ومتطور يشدها الى الامام او ما يسميه الاميركيون بالتخلص من عقدة الماضي التي تمسك بتلابيب اوروبا بشكل عام وهذا مايجعل التفكير الاميركي بألاّ يهتم بالتاريخ فهو ماضي وهو يهتم بالحاضر ومايمكن ان يصل اليه هذا الحاضر لما يريده في المستقبل ( لا تحدثني عن الماضي بل عن اللحظة الراهنة ) ( هنري كيسنجر – ص 26 ) .
ان هيكل بتجربته كعربي سواء في الشرق الأوسط ومصر بالذات، وعلاقاته مع واشنطن جعلته يقدم صورة قريبة جداً مما هو عليه الحالة في الولايات المتحدة والسياسة الاميركية في العالم، ذلك انه من خلال علاقاته المتشعبة مع رجال صناعة القرار السياسي للولايات المتحدة ،استطاع ان يقدم صورة مشابهة للواقع كما يراها عربي سياسي مخضرم، وهو نوع من التوجيه لمن يود معرفة خبايا السياسة الاميركية، رُغم انه تجاهل بعض الحقائق ماراً عليها للذكر فقط ،إلاّ انه بمجملها كانت حقائق واقعية للسياسة الاميركية.
ان السياسة الاميركية لا تختلف عن مثيلاتها السابقة في نقطة مهمة- واقصد بالسابقة وهي الدول الاستعمارية التي إحتلت دولاً واراضٍ وإستعبدت شعوب لمئات السنين الماضية – وهي – اي الولايات المتحدة – في نقطة اساسية وهي التحفز مع خلق بؤرة صراع في المكان الذي تتوجه اليه ومن ثم التدخل اما لحل هذا الصراع بطريقة تبدو شبه مرضية للطرف الآخر اوإقتحام كامل كما حدث في فيتنام مثلاً، لكن الولايات المتحدة تختلف عن سابقاتها الاستعمارية في نقطة اخرى غير التاريخ والإرث الحضاري والتاريخي الا وهي اشكالية الزمن، فإشكالية الزمن في الاستعماريات القديمة يمكن ان يأخذ مدى بعيد قد يدوم سنوات او عقود، بينما لدى التفكير الاميركي لا يتحمل اكثر من اسابيع او اشهر، وهذا واضح فيما فعلته اميركا بعد احداث 11 أيلول في افغانستان ومن ثم في العراق.
اما من ناحية خلق بؤرة للصراع يكون مُدخلاً لها فهذا واضح ايضاً في محاربة عدوها والذي كان في حينه الاتحاد السوفيتي بخلق بؤر للصراع في مختلف المناطق التي ينوي الطرفان الوصول او التسلط عليه .
ان الولايات المتحدة قد دخلت معترك الحياة الدولية كدولة إستعمارية عند إشتراكها في الحرب العالمية الثانية وكان الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر لصالح الولايات الاميركية وليس العكس. فبسبب هذا الهجوم تحوّلت الولايات المتحدة من موقف الدفاع والتفرج الى موقف الهجوم ،وفي نفس الوقت موعدها مع قطف الثمار التي أسّست اهدافها في المائتين سنة من ولادتها تقريباً.
وبدأت الخطة الاميركية في التصدي وقطف الثمار بجبهتين كبيرتين الاولى التصدي للاتحاد السوفيتي ،اما قطف الثمار فهي مايعادل مساعدتها لدول اوروبا الغربية للتخلص من الغزو النازي لأراضيها، واصبح هدف الولايات المتحدة التصدي للاتحاد السوفيتي كهدف اساسي والهدف الثاني هو قطف ثمار دخولها الحرب الثانية بطلب من حلفائها الاوروبيين وهي الاستيلاء على مستعمراتها القديمة كلها .وقد حققت الثانية بشكل عام في معظم ارجاء العالم وحققت الهدف الاول في نهاية ثمانينات القرن الماضي في القضاء على الاتحاد السوفيتي،واصبح هدفها الآن هو موقفها من الدول الامبراطورية القديمة نفسها بعد ان إنتهت مستعمراتها والمتركزة في اوروبا الغربية وبشكل خاص المانيا وفرنسا وفي شرق آسيا متمثلة بالصين واليابان.
فالصين كدولة عظمى لكن وضعها الاقتصادي سيء وهذا يتيح لها المجال للدخول للداخل كما فعلت مع الاتحاد السوفيتي تقريباً، ولكن تبقى اليابان كقوة إقتصادية تشكل عبئاً كبيراً على إقتصاديات اميركا في العالم، اما اوروبا فما زالت فرنسا والمانيا تقفان بوجهها، وبالتأكيد سيكون هدفها التالي السيطرة على كل مقدرات العالم بقضم هذه الدول طالما لا يوجد عدو آخر. لكن المشكلة ان اميركا بهذا التصرف في كل انحاء العالم بمختلف اديانه ومعتقداته وحضاراته وثقافاته لا يمكن ان تذوب جميعا في البوتقة الاميركية، وبما ان اميركا لا تهتم بكل هذه الامور – العادات والتقاليد والمعتقدات والحضارات والثقافات – فقد اصبح التصادم معها عادي جدا من قبل الشعوب التي ترفض الذوبان في تيار الحضارة الاميركية .
إن ألأديان بشكل عام تمثل بؤرة صراع معتقدي ليس من السهولة القضاء عليه والتصدي معه بل بوسائل اخرى من خلال جذب البساط من تحته وهو يحتاج الى زمن طويل وهو مالاترغب به الولايات المتحدة ،فبدأت بزرع بؤراً للصراع سواء بين الجانب الايماني والالحادي كما فعلت مع الاتحاد السوفيتي في افغانستان ( إنشاء حلف إسلامي في المنطقة بعد جلاء القوات الامبراطورية القديمة – البريطانية والفرنسية – للوقوف كجدار امام الاتحاد السوفيتي.- هيكل – ص 21 )تتمثل في الدول الحليفة لها وهي المملكة العربية السعودية كممّول رئيسي والباكستان للمعلومات اللوجستية ، وسحب الاتحاد السوفيتي الى مستنقع إفغانستان لتعيد الصفعة اليه مما سبّبه لها من مآسي دخولها الى فيتنام ،وبعد إنتفاء الحاجة بسقوط الاتحاد السوفيتي سحبت يدها كليةً وبقي بن لادن ( العميل رقم واحد للمخابرات الاميركية ) وحيدا لا عمل له إلاّ بالاستمرار بنفس لعبته القديمة في اعلان نفسه المدافع عن الدين لكي لا تفضح اسرار تعامله مع اميركا لعشرين عاما ، وكذلك في العراق حيث زرعت اميركا صدام للتصدي لكل القوى الوطنية واوّلها الحزب الشيوعي العراقي ومن ثم الحركات الدينية متمثلة بحزب الدعوة الاسلامي الشيعي لما يمثله هذا التيار من مخاطر جمة على مصالح اميركا في المنطقة،وانتهى دور صدام مبدئياً عام 199. ،لكن تم تأجيل الخلاص منه الى حين، فكانت احداث 11 أيلول حيث لا مجال للتاخير في التصفيات العامة لكل العملاء وغيرهم.وبإزدياد الكراهية في العالم للولايات المتحدة تحول الصراع من صراع مسلح مباشر الى صراع سري ومخيف يصل حد التضحية بالنفس كما كان اليابانيون في سبيل ليس استرداد الحقوق بل في زعزعة مصالح الولايات المتحدة وهو ما أسمته بالحرب المتوازية ، فالحرب المتوازية لا يمكن التكهن بما يمكن ان يكون سواء في الهدف او الاسلوب او القوة او الزمان والمكان، وبذلك أدخلت الولايات المتحدة نفسها في صراع هي نفسها كونها القوة الاعظم في هذا العالم ليس باستطاعتها التصدي له، فبدأت محاولات تشذيبه من خلال تأسيس احلاف اسلامية بالتعاون مع حكومات تابعة لها تدّعي حمايتها لهذا الدين لكنها في الحقيقة تعمل بالضد تماماً، ويمكن لهذه المؤسسات والحركات والاحزاب والاحلاف والتنظيمات وغيرها التي يؤسسها عناصر مموّلة من قبل اميركا بشكل غير ظاهر للعيان ان تؤدي مايريده المؤمنين بها لكنها قي حقيقة الامر تسيّسها وتسيّرها حسب اهدافها المرسومة، وهذا مما يجعل الثقة بكثير من هذه التنظيمات موضع شك في كثير من انحاء العالم .
ففي الوقت الذي ظهرت فيه انظمة مثل القاعدة وابن لادن وصدام وغيرهما الكثير وعندما انتفت الحاجة منهم بدات الحاجة لضرورة التغييرلمرحلة جديدة، وكانت احداث 11 ايلول هو المحفز الرئيسي للبدء بتنفيذالحرب المتوازية فلا الصواريخ تنفع ولا الدرع الصاروخي ولا اي اسلحة متطورة اخرى مع هذا النوع من الحرب، حيث لا توجد دولاً ألآن يمكن ان تهدد اميركا بهذه الاسلحة ،واصبح السلاح الرئيسي الجديدالان هو الحرب المتوازية الذي لا يمكن لها ان تتكهن به وهو اخطر سلاح يهدد المصالح الاميركية منذ تاسيسها وحتى الان .
د.عبد الفتاح مرتضى
كندا - هاميلتون