عامر عبد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8488 - 2025 / 10 / 7 - 10:07
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
منذ أن بدأت إيران برنامجها النووي في سبعينيات القرن الماضي، ظلّ هذا الملف يتجاوز حدود التقنية إلى أن يصبح تجسيدًا لصراع الإرادات في الشرق الأوسط. فليس من المبالغة القول إنّ التخصيب في نطنز وأراك وبوشهر ليس مجرد مسألة وقود نووي، بل هو ترجمة عملية لميزان القوة والهوية في المنطقة؛ حيث تتقاطع العقيدة مع السياسة، والأمن مع الاقتصاد، والطموح القومي مع الضغوط الدولية.
اليوم، يقف البرنامج النووي الإيراني عند مفترق حاسم: من جهة، هناك مسار تفاوضي هشّ، ومن جهة أخرى تصعيد عسكري وسيبراني محتمل، وفي الخلفية تحولات جذرية في خريطة الطاقة العالمية، وتبدّل في أولويات الولايات المتحدة، وصعود متدرج لقوى إقليمية تبحث عن توازنات جديدة.
لفهم مستقبل هذا البرنامج، لا بد من تتبّع أربع دوائر مترابطة تشكّل معًا البنية العميقة لصناعة القرار الإيراني والإقليمي:
1. السيناريوهات المحتملة للمسار النووي، التي تحدد معايير القياس للمستقبل.
2. المنظور الداخلي الإيراني بكل تبايناته الأيديولوجية والسياسية.
3. سلوك القوى الموازِنة في المنطقة وتأثير القوى الكبرى عليها.
4. الخلفية الاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية – النفطية التي أنتجت هذا الوضع المعقد.
أولاً: السيناريوهات المحتملة لمستقبل البرنامج النووي الإيراني :
1. السيناريو الأول: فشل المفاوضات وتصعيد العقوبات : يُعد هذا السيناريو استمرارًا لحالة الضغط الأقصى، حيث تعود واشنطن إلى استخدام الاقتصاد كسلاح ردع وتوسّع دائرة العقوبات لتشمل الكيانات الوسيطة وشبكات الطاقة. غير أنّ هذا المسار، رغم قسوته، لم ينجح في كسر الإرادة الإيرانية، بل أدى إلى تكيّفٍ مؤسسي طويل المدى داخل الاقتصاد الإيراني عبر شبكات تجارة رمادية مع الصين وروسيا والعراق وتركيا.
في هذا السيناريو تتآكل قدرة الإصلاحيين على التأثير، ويتعزّز نفوذ الحرس الثوري والمؤسسة الأمنية التي ترى في الضغط دليلاً على صواب نهجها. لكنّ النتيجة ليست نصراً لإيران ولا هزيمة للغرب، بل حالة استنزاف متبادل تجعل المنطقة في وضع توتر دائم دون انفجار شامل.
التقييم: العقوبات تُبطئ التطور النووي لكنها لا تغيّر جوهر السياسة الإيرانية؛ بل تدفعها نحو مزيد من الاكتفاء الذاتي والتصلّب الأيديولوجي.
2. السيناريو الثاني: اتفاق محدود ومؤقت : في هذا المسار يتم تجميد مستوى التخصيب عند سقف معين مقابل تخفيف جزئي للعقوبات في قطاعات محددة. إنه اتفاق إدارة للأزمة وليس حلاً نهائياً لها.
واشنطن تحصل على ضمانات رقابية مؤقتة، وطهران تحصل على متنفس اقتصادي يخفف الاحتقان الشعبي، فيما يبقى الملف السياسي مفتوحاً أمام كل إدارة أميركية جديدة. وغالباً ما يتم تمرير هذا النوع من الاتفاقات عبر وساطات إقليمية هادئة (عُمان، قطر) وبرعاية أوروبية غير مباشرة.
التقييم: هذا السيناريو هو الأكثر احتمالاً في المدى القريب (2025–2026)، لكنه هشّ بطبيعته ويحتاج إلى تجديد دوري مثل “هدنة نووية متقطعة” تُدار بحذر على حافة الانفجار.
3. السيناريو الثالث: التصعيد العسكري المحدود : يحدث عندما تنفذ إسرائيل أو الولايات المتحدة ضربات دقيقة على منشآت محددة داخل إيران أو في محيطها الإقليمي، بهدف رفع الكلفة التقنية والسياسية للبرنامج دون إشعال حرب واسعة.
الرد الإيراني عادةً يكون عبر حروب الوكلاء أو الرد الصاروخي المحدود في الخليج أو سوريا أو البحر الأحمر. إلا أنّ الطرفين يدركان أن التصعيد الشامل سيهدد الاقتصاد العالمي وإمدادات النفط، ولهذا يلتزم الجميع بسقف “الردع المتبادل” دون عبور الخطوط الحمراء.
التقييم: هذا السيناريو خطير لكنه قابل للإدارة، وغالباً ما يُستخدم كمرحلة تمهيدية للعودة إلى التفاوض من موقع أقوى.
4. السيناريو الرابع: الاتفاق الشامل النهائي : هو السيناريو المثالي لكنه الأصعب تحقيقاً. يتطلب تفاهمات عميقة تتجاوز الملف النووي إلى منظومة أمن إقليمي جديدة تشمل الخليج واليمن والعراق ولبنان.
نجاحه مشروط بثلاثة عناصر غير متحققة حتى الآن:
1. ثقة متبادلة بين طهران وواشنطن.
2. توافق داخلي أميركي على سياسة واضحة تجاه إيران.
3. إجماع داخل النظام الإيراني على حدود التنازل المسموح به.
التقييم: احتمال هذا السيناريو ضعيف في الأمد المنظور، لكنه قد يعود كخيار “اضطراري” إذا تغيّرت البيئة الدولية بعد الانتخابات الأميركية القادمة أو في حال نشوء صفقة كبرى مع الصين وروسيا.
ثانياً: منظور التيارات السياسية داخل إيران (الكلفة مقابل الفائدة) : رغم التنوّع الأيديولوجي في إيران، فإنّ الهدف النووي مشترك: امتلاك قدرة ردعية تحفظ النظام وتمنحه موقعاً تفاوضياً متقدماً. الاختلاف يكمن في طريقة تحقيق هذا الهدف، أي في توازن الكلفة والفائدة.
1. التيار الأصولي المحافظ : يمثل جناح “الثورة الدائمة” الذي يرى في البرنامج النووي رمزاً للكرامة الوطنية ووسيلة لحماية الاستقلال السياسي.
• يربط هذا التيار بين التخصيب وبين الهوية الثورية ومفهوم الصمود في وجه الاستكبار.
• يقوده الحرس الثوري ويجد دعمه في الخطاب الديني والإعلامي الرسمي.
كلفته: استمرار العقوبات وتدهور المعيشة.
فوائده: ترسيخ الشرعية العقائدية للنظام وتعزيز الردع.
2. التيار الإصلاحي – التكنوقراطي : ينظر إلى الملف النووي كـ ورقة تفاوضية لا عقائدية، ويرى أنّ رفع العقوبات وإعادة الاندماج في الاقتصاد العالمي أهم من امتلاك قدرة نووية رمزية.
• هذا التيار يضمّ النخب الاقتصادية والبيروقراطية في طهران.
• يطالب بالعودة إلى اتفاق 2015 كأساس للتفاهم الجديد.
كلفته: تقديم تنازلات تقنية وتراجع في الهيبة الثورية.
فوائده: تحسين الوضع المعيشي واستعادة ثقة الطبقة الوسطى.
3. التيار البراغماتي الأمني : هو التيار المهيمن فعلاً، ويمزج بين الخطاب الثوري والعقل الأمني.
يرى أنّ البرنامج النووي جزء من منظومة الردع الشامل التي تشمل القوة الصاروخية وشبكات النفوذ الإقليمي.
• هذا التيار هو من يدير التفاوض والميدان معاً.
• ويستعمل الغموض النووي كورقة ضغط وتهديد في آن واحد.
كلفته: استمرار التوتر الإقليمي.
فوائده: حماية النظام من الانهيار وتثبيت مكانة إيران كقوة لا يمكن تجاوزها.
ثالثاً: سلوك القوى الإقليمية الموازِنة وتأثير القوى الكبرى
1. السعودية: توازن ردعي بوسائل سلمية : بعد اتفاق بكين مع طهران عام 2023، تحوّل النهج السعودي من المواجهة إلى إدارة الخلاف. تسعى الرياض إلى بناء توازن استراتيجي إيجابي، عبر برنامج نووي سلمي، وتطوير منظومة دفاع جوي متقدمة، وتحالفات اقتصادية في الخليج وشرق المتوسط.
النتيجة: السعودية تتعامل مع إيران كـ “خصم لا يمكن تجاوزه”، وتسعى لضبط سلوكه لا لعزله.
2. تركيا: براغماتية مزدوجة : أنقرة تنسج علاقاتها مع طهران وفق منطق (المنافس – الشريك) تتعاون معها في الطاقة وتنافسها في العراق وسوريا. وتستثمر في التوترات الإيرانية – الغربية لزيادة استقلالها عن واشنطن.
النتيجة: تركيا تستفيد من بقاء التوتر دون انفجار، وتعتبر إيران حاجزاً مفيداً ضد الفوضى الإقليمية.
3. مصر: استقرار محسوب : القاهرة تراقب المشهد بحذر وتؤمن بأنّ سباق التسلح النووي سيضر بالأمن العربي. تعمل على بناء محور استقرار مع دول الخليج، وتفضّل الدبلوماسية على التصعيد، لكنها تدعم تطوير قدرات دفاعية عربية متوازنة.
النتيجة: مصر لاعب تهدئة، لا طرف مواجهة.
4. الولايات المتحدة وروسيا :
• واشنطن ترى في الملف النووي أداة لضبط التمدد الإيراني، لكنها يبدو لم تعد تسعى لتغييره جذرياً. استراتيجيتها هي إدارة الأزمة لا حلّها.
• موسكو من جانبها توظف الملف كورقة تفاوض في صراعها مع الغرب، وتقدّم لطهران دعماً تكتيكياً في مجالات الطاقة والتسليح.
النتيجة: كلا القوتين تستخدمان إيران ضمن اللعبة الكبرى الجديدة، مما يجعل مصير البرنامج النووي رهينة صراع أوسع من حدوده الجغرافية.
رابعاً: الخلفية الاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية والنفطية : المعادلة الإقليمية لا يمكن فهمها دون العودة إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي صاغته واشنطن بعد 11 أيلول. ذلك المشروع ربط بين أمن الطاقة وأمن إسرائيل وتغيير الأنظمة عبر القوة الناعمة أو الصلبة.
لكنّ سقوط نظام صدام حسين عام 2003 فتح الباب أمام صعود إيران كقوة جيوسياسية ممتدة من الخليج إلى المتوسط، وهو ما غيّر اتجاه بوصلة الردع في المنطقة.
1. البعد النفطي : إيران تملك مفاتيح حيوية في ممرات الطاقة (هرمز – بحر عُمان – الخليج).
التحكم في هذه الممرات يعني التحكم في السعر الجيوسياسي للنفط العالمي. ولهذا فإن أي تصعيد عسكري معها يهدد الاستقرار المالي العالمي قبل أن يهدد الأمن الإقليمي.
2. البعد الإسرائيلي : إسرائيل ترى أن امتلاك إيران للقدرة النووية – ولو لأغراض سلمية – يخلّ بتوازن الردع التقليدي. ولذلك تعمل على ضرب “العتبة النووية” عبر اغتيالات علمية أو هجمات سيبرانية، لكنها تحسب خطواتها خوفاً من ردٍّ متعدد الجبهات.
3. البعد الأيديولوجي : الصراع بين إيران والغرب ليس صراع مصالح فحسب بل صراع رموز؛ الغرب يريد دولة طبيعية مندمجة في النظام الدولي، وإيران تريد أن تبقى دولة ثورية ذات خصوصية. هذا التناقض الوجودي يجعل أي اتفاق مؤقتاً مهما كانت تفاصيله.
الخلاصة الاستشرافية
1. مؤشرات القياس للمستقبل :
• الزمن اللازم للاختراق النووي (Breakout Time): كلما تقلّص، زادت احتمالات الضربة الوقائية.
• مستوى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية: مؤشر على استعداد إيران للتسوية.
• سلوك الحلفاء الإقليميين: أي توتر في العراق أو اليمن أو لبنان يُترجم فوراً إلى تصلّب في الموقف الغربي.
2. موازنة الردع والانفجار : البرنامج النووي الإيراني ليس مجرد مشروع علمي، بل هندسة استراتيجية للوجود الإيراني في الإقليم. إيران لا تسعى إلى صنع القنبلة، بل إلى امتلاك القدرة على صنعها متى أرادت؛ أي إلى “العتبة النووية الذكية” التي تردع أعداءها وتمنحها مرونة تفاوضية عالية.
3. السيناريو الأرجح (2025–2030):
• استمرار اتفاقات محدودة متقطعة تتخللها فترات تصعيد.
• إدارة إيرانية مزدوجة للملف: تصعيد في المحيط، وتهدئة في المركز.
• إسرائيل ستواصل استراتيجية “المشاغبة المنضبطة” دون الانزلاق إلى حرب شاملة.
• الولايات المتحدة ستحافظ على نهج “إدارة الأزمة”، مع تركيز أكبر على آسيا واحتواء الصين.
ختاماً : مستقبل البرنامج النووي الإيراني ليس في المختبرات بقدر ما هو في ميزان القوى الإقليمي والدولي. فكل تقدم في أجهزة الطرد المركزي يقابله تصعيد في معادلات السياسة والنفط والأمن. لقد أصبح البرنامج النووي الإيراني لغة جديدة للشرق الأوسط: لغة ردع وتفاوض ووجود، تُكتب بمعادلات الفيزياء لكن تُقرأ بمنطق الجغرافيا السياسية. ولهذا فإنّ القادم لن يكون انفجاراً نووياً بقدر ما سيكون توازناً هشاً على حافة الاشتعال، توازناً يحكمه الخوف المتبادل، ويؤجل الانفجار دون أن يلغيه.
#عامر_عبد_رسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟