|
هكذا يتمرد الشعراء
صدام فهد الاسدي
الحوار المتمدن-العدد: 1827 - 2007 / 2 / 15 - 08:15
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
ليس التمرد في الشعر بجديد على الشعر العراقي والعربي فقد مثل الصعالكة البداية وهم يرفضون الواقع المرير ويطالبون بالعدالة والمساواة ، وأعقبهم أبو نؤاس رافضا متمردا على تقاليد مجتمعه وهو يحمل الكائس ويغرق حتى الثمالة معبرا عن موقفه معترضا على الطلل ، وتلاه المتنبي شيخ المتمردين يحمل السيف والشعر والكبرياء ويعلن عن حرب لا هوادة ، وقد لقي هؤلاء قلقا وإحساسا بالعبث مقترنا بالعنف والتوتر والتشرد والشعور بالمجازفة وزجّ النفس في المخاطر ، وفي العصر الحديث كان النجفي واحدا من عشرات المتمردين على الحياة وتناقضاتها أمثال حسين مردان وعبدالامير الحصيري فكان مردان يرفض ان يستقر تحت سقف ، وكان الحصيري يجلس على قارعة الطريق ليكسب رغيف عيشه بما يكتب من شعر وبحوث آنذاك ، أما الصافي النجفي فهو طراز خاص بالعزلة والغربة والتمرد فهو القائل بعظمة لسانه ( فطرت منذ الصغر على الانحراف من الجادة العامة التي لا أرى فيها جديدا) ، وهو يمثل نفسه بالمتنبي حيث قال : إلى الشعر يأتي كل ألف مجدد فبعد نبي الشعر أحمد أحمد وكان يعلن للناس أن يسيروا على هداه قائلا : أسير كما توحي إليّ سريرتي فإن شئتم أن تهتدوا فبي اهتدوا وهكذا بدأت حالات التمرد عنده وكان الشعر أول من تمرد عليه الشاعر ومعه الناقد قائلا : بربك ما يقول الشعر يوما إذا السخف استحال لديك شعرا فيا من ينقد الأشعار جهلا ويهوى دون لب القول قشرا وتمر على الفن والفنانين قائلا : جلبوا صباغ الغرب ثم طلوا به فنا قبيحا عندهم وجسوما وهكذا اكتشف الصافي سر خيبته عندما عرف انه شاعر جاب كل المسالك ، الوظيفة ، صناعة ، تجارة ، كيمياء ، تنجيم وسحر ، كلها قد فشل فيها وقد افلح فقط بالشعر قائلا : فأدركتُ من بعد العنا سرّ خيبتي وأيقنتُ بعد البحث أني شاعرُ وكان متمردا على فئات عديدة من المجتمع ، كالعلماء الذين لا يطلبون إلا المال من خلال علمهم قائلا : كل يوم يأتوننا باختراع مسرع في دمارنا والفناء ومتى أوجدوا اختراعا مفيدا لم يروموا منه سوى الإثراء فرأى الناس كلهم خارجين عن الطباع التي يعرفها فهو يكره حارته قائلا : لي جارة قد حرت في أمرها ودلها الممقوت أو كبرها أقول إذ اسمع أقدامها قد قامت الحية من وكرها وكره الدار والجار معا واعترض على من يؤمن الدار قبل الجار قائلا : قال قوم الجار قبل الدار ولذا قد ألفت سكن القفار طفت في الأرض ما ظفرت بجار فمن اليأس ما أقمت بدار وهكذا بات الشعر سجينا مثله قائلا : حظك يا شعرُ مثل حظي جئنا سجينين للوجودِ أم أنت مثلي تعيش ملقى فمن مهود إلى لحودِ فكلاهما من المهد إلى اللحد والنتيجة واحدة . وقد كره الصحف والكتب قائلا : أمل وانتهى علام القراءة فمن الصحف والكتاب براء إن النجفي عاش بعيدا عن مرابع صباه ومغاني أنسه ومجمع أترابه في قرية الجعارة في النجف الأشرف ، عاش ما تبقى من عمره غريبا وحيدا منعزلا ، لا أسرة تأويه ولا صاحبة تؤنسه ولا غنى يسعده واستمرت تلك الحالة حتى وفاته فماذا نتوقع ردود فعله وهو معدوم من كل مكونات الحياة . فنظر لها بمنظار أسود ، سئم الحياة فشلها ونجاحها قائلا : إني سئمت معيشتي أفلا أموت على الأقل حتى كان يطلب القبر سبيلا لخلاصه من الحياة قائلا: أيا قبرا له جسمي يؤول تعبت من المسير متى الوصول وهكذا سئم الشعر عندما رأى كساد سوقه قائلا: تخليت عن نظم القصائد جانبا وحطمت أقلامي ومزقت قرطاسي كيف تحوّل عاشق الطبيعة إلى عدو يكره ابتسامة الورد وأصبحت الندامة تطوي آماله ، لماذا ءإلى الدنيا ، ، لقد تبرم من الحياة وأصبح لا يطيق حمل رجله قائلا : وما العيش عندي غير مستنقع وقعت وما لي منه منج سوى القبرُ إذ رامت منه رفع رجلي جاهداً أرى رجلي الأخرى تعود إلى القعرِ وبعد هذا هل نكشف عن تلك السوداوية وأسبابها ولعل مقدمتها تكمن في دمامة الشاعر فهو القائل : وجهي دميم وقلبي عدو كل دميم ثم احتلال جسمه بالمرض فقد طحنت أضلاعه: تقطع كل عضو من أخيه فلم يقبل بأي الموصلات وأشعر بالعظام مكسرات جميعا قد طحنّ بمطحناتِ لعلنا نوجز سرّ هذه الكآبة في بيتين قالهما الشاعر في الستين من عمره : استقبل الستين مستوحشاً لا أهل لا مال ولا ولد لا مسكن آوي له ثابت لا سكن لا هند لا دعد وكانت الناس وطباعها سر هزيمة الشاعر للتمرد . فهو لا يثق بهم ويشكّ في صفاء المجتمع وصدق العلاقات قائلا : لو يلبس الناس ما تخفي سرائرهم غطّت على الكلّ أدناس وأرجاسُ وكان يشكو من النفاق قائلا : قد حدست النفاق في النوم قدما ثم جربتهم فلم يحظ حدسي وكان يشكو من قلة الوفاء قائلا: وأنادي يا أيها الناس قولوا هل رأيتهم شيئا يسمى الوفاء وكان يشكو من الخداع والكذب قائلا : كثر الخداع اليوم في أقوالنا وانظر إلى من قال لا ما قيلا وكان يشكو من الحسد قائلا : أوقد الحاسدون حولي نارا زادها اللؤم والربا والنفاق وهكذا انتقل تمرده إلى البرغوث الصغير قائلا: أسأله البرغوث مستفهما تقرصني ويحك ما ذنبي ورأى الحيوان ظالما ولكنه أقلّ ظلماً من الإنسان قائلا: ولقد أرى الحيوان حينا ظالما لكن أرى الإنسان منه أظلما وكان متمرداً على المرأة قائلا: عدوّان منذ البدء عقل و مرأة وإن لم تصدق فألق آدم واسأل وبعد هذا الإيجاز لتمرد الشاعر ماذا قال فيه الشاعر السياب (الصافي موضوعي إلى ابعد الحدود ، انه ظاهرة ضخمة في الشعر ) وقال فيه آخر (شاعر يأنف أن يأوي إلى قصر بناه سواه) هذا الشاعر الذي حاربته الأيام وتزوجته الأسقام وصحبته الوحدة والعزلة ، ولد يتيما وعاش حياته وشبابه غريبا سجينا ودعته الشام جريحا واستقبلته بغداد ضريرا فقال حينها: بغداد حار المادحون بوصفها زين البلاد كثيرة الأوصاف كانت تحنّ لقطعة من كبدها والآن عادت حين عاد الصافي الشاعر المتنبي المتمرد الغريب سلوكا ومزاجا في مأكله وملبسه وجلسته ونفسه تأبى العطف حتى إذا أجلس في المقهى يرفض أن يدفع غيره ثمن القهوة أو الشاي . وهو لا يقبل بالذل ، فالحياة (عنده لا عزاء النفوس قائلا) : فعش ما حييت بأنف أشمّ ولا ترض يوماً لشيء خضوعا عاش النجفي في بيت فارغ إلا من الله ، عاش مؤمنا بقدرة الله فهو الخالق الذي لا ينسى عبده أبدا قائلا: يا حائر الفكر في معيشته لا تضطرب فالله خالقكا وبعد هذا التمرد نصل إلى مسك الختام ، فهل تعلم بأن الصافي النجفي كتب في الستينات نصف الأدب العربي في بيتين من الشعر فقط .. (عندما حضر جون كندي إلى حفل في الستينات قال له المذيع: لماذا تأخرت يا سيدي..؟ قال بسبب غسل فمي من دنس قهوة عربية، عندها قتل جون كندي ، فباع النجفي سترته التي يرتديها واشترى علبة صبغ فكتب على السفارة الأمريكية في لبنان هذين البيتين اللذين عدّهما أحد الغربيين نصف الأدب العربي: لئن تغسل الفم من قهوة وبعدها غسلت في دمك فاعلم بأنك قذر اللسان وقهوتنا غسلت من فمك
#صدام_فهد_الاسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشوك المدمى
-
---الشاعر محمود البريكان بين العبقرية والصمت-
-
عندما ترحل صواري الريح
-
الحلم في غابر الازمنة
-
وشاح الثلج على كتف الوطن
-
الشاعر ثامر سعيد و العبور الى زاوية الأقنعة
-
حينما يشق النهر قلب الصخر
-
حرائق عصية على المطر
-
تداعيات سنابك المطر في شعر الدكتور عبد الكريم راضي جعفر
-
نحت من ضباب في امرأة رشدي العامل
-
قبل سقوط راية السراب
-
الشاعر حسين مردان القديس الفاجر من يهيل الجبل على الشعراء
-
اقصاء بدائي
-
الشاعر الدكتور صلاح نيازي/الآتي على صهوة من لهب
-
حين تنتفض الشوائب
-
قف بعيدا عن اذرع النار/
-
تشظيات متفائل
-
تداعيات سفن الكلام في قصيدة منذر عبد الحر
-
المطر يقص الرواية غدا
-
الشاعر الدكتور صلاح نيازي الاتي على صهوة من لهب
المزيد.....
-
مصر: الدولار يسجل أعلى مستوى أمام الجنيه منذ التعويم.. ومصرف
...
-
مدينة أمريكية تستقبل 2025 بنسف فندق.. ما علاقة صدام حسين وإي
...
-
الطيران الروسي يشن غارة قوية على تجمع للقوات الأوكرانية في ز
...
-
استراتيجية جديدة لتكوين عادات جيدة والتخلص من السيئة
-
كتائب القسام تعلن عن إيقاع جنود إسرائيليين بين قتيل وجريح به
...
-
الجيشان المصري والسعودي يختتمان تدريبات -السهم الثاقب- برماي
...
-
-التلغراف-: طلب لزيلينسكي يثير غضب البريطانيين وسخريتهم
-
أنور قرقاش: ستبقى الإمارات دار الأمان وواحة الاستقرار
-
سابقة تاريخية.. الشيوخ المصري يرفع الحصانة عن رئيس رابطة الأ
...
-
منذ الصباح.. -حزب الله- يشن هجمات صاروخية متواصلة وغير مسبوق
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|