((حول الحكم والمعارضة في العراق)) (حلقة رابعة)
((تحطيم وتشويه ركائز المجتمع المدني الناشئة))
1963 ـ 2003
د. مهند البراك
اجهض انقلاب شباط الدموي وقطاره المعروف عام 1963 ، منظمات المجتمع المدني الناشئة من نقابات واتحادات وجمعيّات ، بجبهة قومية عريضة بالوان طيفها، ومن اقطاعيين وموظفين وعسكريين كبار ممن تضررت مصالحهم اثر اجراءات ثورة تموز 1958 ، بدعم وتحريك شركات النفط، وعدد من الحكومات العربية ودول الجوار، واستهدفت المكتسبات التي تحققت، وحكم الزعيم قاسم، والحياة الحزبية . .
فلمواجهة 14 تموز وتأثيراته، وجدت الدوائر الغربية آنذاك، في عدد من التجمعات ذات العداء المستحكم للدمقراطية، خير ما يمكن الأعتماد عليه (بشكل مباشراوغير مباشر) وبتقبّل القليل من الخسائر، بعد ان حصلت على ضوء اخضر من دوائرالقاهرة(1) ، فشخّصت ودعمت عدد من متنفذي البعث العراقي، ليلعب دور رأس حربة المواجهة، بالأعتماد على كبار الضباط من الدائرة القومية العشائرية، بدون الحاجة الى قواعد عسكرية او تدخّل عسكري مباشر(2) .
وبسبب ممارسات البعثيين الوحشية الدموية التي راح ضحاياها الاف المواطنين ، التي عزلت الحكم عن العالم،اضافة الى عدائهم للقوى القومية الأخرى بعدئذ، قام رئيس الجمهورية عارف مستنداً الى ضباط عشيرته جميلات ودعم كبار الضباط بما فيهم من المحسوبين على البعث ممن لم يتفقوا مع استمرار ممارساته بعد ان ادى انقلاب شباط اهدافه ! ! بابعاد حزب البعث عن الحكم في تشرين 1963 واستمرهو كرئيس وعيّن البكر نائبا له، بمباركة عبدالناصر!
بذلك بدأت مرحلة في الحكم، تكونت حلقته العليا من كبار العسكريين العراقيين( وليس الحجازيين كما في العهد الملكي السابق) وامتداداتهم العائلية والعشائرية، من الضباط العارفيين والقوميين الناصريين، ومن الموالين للبعث. محققين توازنا قلقاً بين ضباط الرمادي (الأنبار)، تكريت والموصل، بقيادة عارف مستندا على ضباط عشيرته، منهم ضباط فوجه الذي كان على رأسه، مكوّناً منه نواة الحرس الجمهوري لحمايته .
وقامت السلطات العسكرية الجديدة ببعض الأجراءات التخفيفية، بحق آلاف السجينات والسجناء السياسيين من الدمقراطيين والشيوعيين والقاسميين وحدّدت محكومياتهم، واطلقت سراح عدد من المشتبه بهم، بعد ان أُعدم من أُعدم وصُفي من صُفيّ وبعد ان قضىّ الباقون عاماً من الرعب، واستمر في السجون الوف اقل .
استمر رجال الحكم العسكري العشائري المطعّم بعدد من المدنيين كواجهة، على اساس "القوة مصدر السلطات" وليس الشعب، واعلنوا دستوراً مؤقتا جديداً الغى عدداً من فقرات دستور 14 تموز المؤقت، التقدمية كقانون الأحوال المدنية والحريات السياسية . . وانشغلوا بحماية سلطتهم وضمان ديمومتها، جامعين ثروات من الوساطة (السمسرة) لشركات النفط والتجارة ومن بيع اجازات الأستيراد، ومن الأقطاعيين واصحاب الأراضي، الذين بدأ العمل لأعادة الأرض لأغلبهم اوتعويضهم عن اجراءات الأصلاح الزراعي، تاركين مشاريع الوحدة ومشاريع الحلول السياسية لأشغال وتوجيه المجتمع، ولملئ الفراغ السياسي السائد آنذاك، التي وقفت منها قوى المعارضة موقفا متفاعلاً وليس جامدا ايضاً (3).
ساد الصراع عنيفاً بين ضباط المعادلة القلقة، على الحكم والغنائم مهما تغلّف، بعيداً عن معاناة الناس وحاجاتها، ووصل الى حدود اللامعقول عندما دكّت طائرات رئيس الوزراء القصر الجمهوري عام 1966 في محاولته الأنقلابية على عارف حين كان الناس يتسائلون " ماذا يريد رئيس الوزراء؟ ينقلب على من ؟ اليس هو السلطة القائمة، ام ماذا ؟! "، في الوقت الذي كان الجميع يعلن اعتماده على دعم عبد الناصر والسير على خطاه، بعد تجربة الأنفصال والتخلي عن شعار الوحدة الفورية، وانشاء لجان تنسيق عسكرية وثقافية واقتصادية ، تماشيا مع اوضاع القاهرة وتوجهها اللارأسمالي آنذاك !
وقد اتخذت اجراءات اقتصادية وسياسية عدة عكست ارتجالية قرارات السلطة وعشوائيتها الناتجة من تكوينها العسكري العشائري . . مسددة بذلك ضربة للصناعة وطبقتها البرجوازية الوطنية الناشئة، الأمر الذي ادى الى تهريب الرأسماليين الناشئين لأموالهم الى خارج البلد، وخسارة الأقتصاد الوطني وزيادة البطالة، وخسارة التطور البطئ نحو المجتمع المدني، اضافة الى تزايد اعتماد الميزانية على عائدات النفط بنسب وصلت الى 70 %، الأمر الذي فاقم التبعية لشركات النفط، في الوقت الذي وصلت فيه المصاريف العسكرية حدودا قياسية .
بتفاقم الأوضاع المعيشية واستمرار تحريم احزاب المعارضة،جاءت خسارة 5 حزيران 1967 امام اسرائيل، لتهيج الشارع مطالبا بالدمقراطية واطلاق سراح السجناء وعودة المفصولين وتشغيل الخريجين الجدد (سواءاً من اكملوا دراستهم وعادوا للوطن اومن اكملوها في الوطن)(4) وحل مشكلة البطالة والفقر، وبدأ شعار اسقاط السلطة القائمة يرتفع واخذت وتيرة المعارضة تتصاعد لتشمل قطاعات اوسع وتأخذ طابع العنف كرد على اجراءات السلطة القسرية . .
حاولت السلطة الحاكمة اجراء (حوار ديمقراطي) مع المعارضة، فكان مدير الأمن العام آنذاك يسأل المعتقلين الجدد خاصة بدون ضرب قاسي !! لمحاولة فهم سياسة المعارضة (كما وثّقت اكثر من شخصية معارضة معتقلة آنذاك)، الأمر الذي يوضّح كيف كان شكل التفاعل بين السلطة والمعارضة !
وبينما كانت حلقة الضباط الحاكمة العليا تحل مشاكلها في قصورها بعيداً عن الشارع، عن طريق محاولات الأنقلاب العسكرية، كانت المعارضة تعمل لأسقاط الحكم، فاضافة الى محاولات ضباط قوميين تقدميين للأطاحة بالحكم، كان الحزب الشيوعي يتهيأ لعمل حاسم بعصيان احدى الوحدات العسكرية الحساسة تعقبها انتفاضة شعبية، وكانت القيادة المركزية تتهيأ لأنتفاضة شعبية مسلحة وبدأت فعلاً في الأهوار، اضافة الى تصاعد نجاحات الثورة الكردية في كردستان العراق سياسياً وعسكرياً.
وقد لعبت نجاحات الحركات الثورية في اميركا اللاتينية ورمزها الثائر الأرجنتيني جيفارا، وانتصارات جبهة التحرير الفيتنامية وحركة المقاومة الفلسطينية . . مع اليسار الجديد ومظاهرات الطلبة المدوية في اوربا الغربية، دوراً تحريضياً اضافياًً اخذ يحرّك اوساطا شبابية متنوعة اوسع .
ازدادت نشاطات قوى المعارضة وتصاعدت اضرابات العمال والطلبة والمظاهرات التي طالبت بالدمقراطية والحريات السياسية، واخذت قوى المعارضة تتقارب وتزداد تنظيماً في جبهة وطنية تقدمية، وبدا الجو منذراً بانفجار ثورة شعبية جديدة جعلت شركات النفط ودوائر الغرب تستعجل في قطع الطريق عليها بـ (ثورة بيضاء) عسكرية بشكل فوقي متتالي واضح الترتيب في 17 /30 تموز 1968 فتح الباب لمرحلة رهيبة من علاقة السلطة البعثية الجديدة والمعارضة .
تحوّلت بذلك السلطة من عسكرية فردية الى سلطة حزب ذي سمعة دموية وحشية، حوّل الصراع مع المعارضة هذه المرة من صراع مباشر الى غير مباشر بطريق الأختراق والأحتواء، بالأرهاب الوحشي الفائق التصوّر، وسط اطلاق سراح السجناء السياسيين الأقدمين، ومسايرة نبض الشارع المتصاعد نحو معسكر الشرق بالأعلان الديماغوجي بانحيازه له!
واخذ يبني الروح العسكرية الوحشية بتبني اهداف الشارع المقدسة والثأر لهزيمة حزيران ومن اجل الوحدة العربية والأشتراكية ومصارعة الصهيونية والأمبريالية(!) متخطيا الحدود الدينية القومية والعرقية والعشائرية في تعبئة الشارع ومنح الهبات والتكريم لمن يعمل لصالحه، فاسحاً المجال لقوة سياسية جازلاً لها العطاء، لضرب أخرى شكّلت خطورة مباشرة عليه، منفّذاً مطالب القوى التقدمية بشكل مسخ، طالباً منها انهاء وجودها الذي "لم يصبح له داعٍ بعد" والاّ سُحقت !!
ففي الوقت الذي دعى فيه الى وحدة العرب الفولاذية البسماركية ودَعَمَ المعارضات القومية في الدول العربية، حطّم منظمات القوميين العرب التقدمية في العراق واذلّها، وبأسم حل القضية الفلسطينية، كان عامل شقّها الدائم وخنجراً مسموماً في ظهرها، وبدعم الثورة الفيتنامية والكوبية مادياًّ والتقرب للدول الأشتراكية، سعى دوماً لتصفية الحزب الشيوعي بالأختطاف والتعذيب والأعدامات. وتحت راية العداء للأمبريالية وتحطيم رموزها القديمة، اعتمد عليها وعلى معاهدها وخبراتها بانيا الجديد والمعاصر لخدمتها وتثبيت كرسيه هو .
وبأسم حل القضية الكردية ومجالس الحكم الذاتي، حاول مسخها وتحطيمها بشراء الذمم وبالقتال الدموي وحروب الأبادة واستخدام السلاح الكيمياوي الرهيب، في الوقت الذي دعم فيه المعارضات الكردية في دول الجوار، وتحت رايات الأسلام وتقريب عدد من قادة الحركات الأسلامية في الدول العربية والعالم كالترابي وشبيلات . . والأدعاء الكاذب بالنَسَب الشريف، اذلّ واهان وصفىّ قادة ومجتهدين تاريخيين للحركة الأسلامية المتنوّرة .
وعلى ذلك الطريق، شكّل منظمات سياسية(ائتلافية) وتشاورية ـ علنية وسريّة! ـ بين الحكم والمعارضة، بالتناسب مع كلّ مرحلة لمواجهة الخصوم الآنيين من ناحية ولأختراق ومحاولة تحطيم الحليف الآني، ماسخاً ايّاها من هيئات للمجتمع المدني الى هيئات مسخ، زارعاً البلبلة والأحقاد والحساسيات بين فئات الشعب وطلائعه السياسية .
وبعد ان استعمل قراباته العائلية والعشائرية للوصول ولتثبيت سلطته على الحزب، استخدم الحزب لضرب مناوئيه وعشائرهم (دفاعاً عن الحزب والثورة والمجتمع المتمدن!)، واعاد تكوين التحالفات العشائرية على اساس (الولاء للحزب) الذي اصبح يعني الولاء لعشيرته المتواضعة الأصل التي عدّل نسبها.
وبتأثير الحروب والحصاروتخوفه من الجيش وبعض قطاعات حزبه، خاصة بعد انتفاضة ربيع 1991 البطلة التي كشفت له (زيف الولاءات)، اخذ يهتم اهتماما استثنائياً بالعشائر، فقرّب مكتب العشائر اليه في القصر وزوّده بصلاحيّات كبيرة ورصد له مبالغ هائلة لبناء (وأعادة بناء) الأفخاذ الجديدة، بممارسة كلّ الأساليب القمعية الآنفة الذكر معها، وارسل من يعتذر له لرؤساء العشائر الكبيرة التي قَتَل من ابنائها، واضافة الى التسليح اصبح لعدد من الزعامات العشائرية التي والته مكاتب وعاملين ومسلّحين .
ورغم ماقيل ويقال عن العشائر فأن الدكتاتور استطاع ان يخلق فئات عشائرية مشوّهة لخدمته وهي محدودة، لا تقارن بابناء العشائر الأصيلة ذات العزّ والنخوة والشهامة، ولايمكن القول بأن صدام حوّل المجتمع العراقي الى عشائر، مع كل التقدير للعشائر . لقد اتبع صدام السياسة ذاتها مع العشائر الكردية التي وصل عدد ابناءها الذين رُتّبوا في سرايا الدفاع والأفواج الخفيفة الى اكثر من نصف مليون منتسب عام 1986 ، ساهم غالبيتهم في انتفاضة كردستان، كما ان الأحزاب الكردستانية بتسامحها وصبرها وبدعم كلّ القوى الوطنية استطاعت ان تحل تلك المشكلة، ولم تحلّ العشائر محل الأحزاب الكردستانية .
واخيراً، أعتمد صدام على حزب البعث واهدافه بدايةً بدعم عفلق، في محاولة تهميش احزاب المعارضة اولاً، ثم مسخ حزب البعث من حزب ذي اهداف سياسية الى عصابات، لأنهاء كل الأحزاب ودورها الأجتماعي، محولاً المجتمع الى مجتمع تابع لأرادة الدكتاتور بالمال والسلاح والأرهاب والتعذيب والحروب وفرق الأعدام والحصار، وبالديماغوجيا وأعلام الدجل والتضليل والكذب، بجيوش الأعلاميين المأجورين، متبعاً خططاً وخبرات شرقية وغربية وماسونية مدفوعة الأجر، نفطاً رخيصاً وارصدة وحسابات متنوعة.
* * *
من خلال العرض والتحليل السريعين المتواضعين لتأريخ العلاقة العنيفة التي فرضتها السلطات المتلاحقة والمصالح، منذ مطلع القرن الماضي، على قوى المعارضة الوطنية التي أضطرّت للدفاع عن نفسها، يمكننا تصوّر البون الواسع لأزمة الثقة بالوعود، ولماذا الأصرار على تأمين الأمان وانشاء حكومة انتقالية عراقية كاملة الصلاحيات، تهيأ لأنتخابات برلمانية وتحديد موعد لأنهاء الأحتلال، والتعويض عنه بقوات تحت اشراف الأمم المتحدة، عند الضرورة .
ان انشاء مؤسسات المجتمع المدني في العراق، والدعوة لحكم تداولي متفاعل مع المعارضة لايمكن الحديث عنه قبل تحريم العنف واشاعة روح التسامح، وعودة الدورة الأقتصادية الى حالتها الطبيعية، وتنويع مصادر الدخل، واشاعة الدمقراطية السياسية وحرية الصحافة والأحزاب التي ستغيّر بدورها كياناتها وبرامجها كي تلبيّ مصالح وطموحات منتسبيها وناخبيها من ناحية، وتواكب مسيرة البلد التقدمية في الظروف المستجدة، من ناحية أخرى .
ان ذلك لايمكن ان يتم بتجاهل آراء القوى والأحزاب الوطنية والمنظمات والأتحادات الشعبية والمهنية والأبداعية الموجودة في الواقع القائم، الأمر الذي سيحتاج اضافة الى الأخلاص، الى الأقناع وليس العنف ! (انتهى)
27 /7 / 2003
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. العقيد صلاح سالم ، مذكرات عبد المجيد فريد، حنا بطاطو، مذكرات طالب شبيب، اوكار الهزيمة للفكيكي
2. مذكرات حردان التكريتي، مذكرات طالب شبيب، من هو صدام التكريتي؟ لأتحاد الطلبة الأيرانيين .
3. رغم تحريم الأحزاب واستمرار اعتقال آلاف السجينات والسجناء، بدون محاكمات عادلة، وسرّية نشاط المعارضة، جرى العديد من اللقاءات والتشاور بين احزابها وكانت قيادة الحزب الشيوعي قد اصدرت مسودة توجهات ايجابية حول الأتحاد الأشتراكي ـ فرع العراق في آب 1964، رفضتها منظماته القاعدية، فسحبها.
كدلالة على عدم اصرار الحزب الدوغماتي على العنف كما يُرَوَّج .
4. اجاب رئيس الوزراء طاهر يحيى خريجات معاهد المعلمات من شرفته في القصر الجمهوري، بعد دعوته آلاف الخريجات العاطلات عن العمل لسماع مطاليبهن بعد ان كُنّ يناقشنه صائحات من الأسفل، قائلاً" انتن بهذه الأساليب(؟) تحاولن جذب الرجال للزواج بكنّ لا أكثر! "