"الاحتلال" تحرير ومقاومته جريمة
د.عبدالخالق حسين
هناك ضجيج إعلامي عربي وإيراني متواصل، ليل نهار، ضد تحرير العراق على أيد قوات التحالف الأنكلو-أمريكي، من الحكم البعثي الصدامي البغيض. ويطلق هؤلاء على وجود قوات التحالف في العراق بالإحتلال الأجنبي ويدعون شعبنا لمقاومته بالكفاح المسلح أسوة بما تعمله الشعوب إزاء الإحتلال التقليدي. والقصد من حملتهم هذه تحويل العراق إلى ضفة غربية واسعة على أمل إغراق أمريكا في مستنقع عراقي عميق يؤدي بالتالي إلى إرغامها على الإنسحاب كما حصل لها في فيتنام وبالتالي تحويل العراق إلى ساحة للحروب الأهلية كما حصل في الصومال وأفغانستان ويجري الآن في لايبيريا، غير آبهين بما سيحصل للشعب العراقي من كوارث وبذلك يتخلصون هم من المصير الذي حصل لنظام صدام حسين.
يعتمد هؤلاء على وصفات جاهزة توارثوها من العهود الغابرة، أيام النضال ضد الكولونيالية والحرب الباردة، معتقدين أنها صالحة لكل زمان ومكان. هناك قاعدة ذهبية في الطب، تنطبق على جميع مجالات الحياة ومفادها أن كل حالة يجب أن تعالج حسب شروطها واستحقاقاتها. فالعلاج الشافي لمريض ما قد يسبب الموت لمريض آخر له ظروفه الخاصة به وحتى لو كان يحمل نفس المرض! فيطلق هؤلاء وصفات ومصطلحات وأقوالاً عفا عليها الزمن، كانت تصلح لحالات معينة تخص عهود الإحتلالات الإستعمارية الغابرة، يطالبون شعبنا بتطبيقها اليوم والقيام بمقاومة قوات التحالف التي جاءت لتحريريه وإعادة بناء بلاده. إن مجرد التفكير بهذه الوصفات الفاشلة يعتبر محاولة انتحارية جماعية لشعبنا المثخن بالجراح.
ليس الإعلام العربي والإيراني وحده الذي يحرض شعبنا على الانتحار الجماعي والقيام بأعمال ضد مصالحه فحسب، بل وهناك بعض العراقيين من بقايا متحجرات الحرب الباردة وأسرى الآيدولوجيات المتخشبة، والشيوخ الذين عادوا إلى صباهم في آخر زمان، الذين مازالوا يصرون على أن آيدولوجياتهم هي العلاج الشافي لجميع العلل panacea وفي كل الظروف. فهؤلاء تجمد عندهم الزمن ولم يتحرك خطوة واحدة. ولا فرق بين هؤلاء المؤدلجين على مختلف آيدولوجياتهم سواءً كانوا يساريين طفوليين أو قوميين عروبيين أو إسلامويين متطرفيين، حيث يربطهم عداءهم المشترك للغرب وبالأخص لأمريكا، يعيشون حياتهم لشيء واحد فقط وهو معارضة أمريكا على كل شيء حتى ولو قامت هذه بعمل لصالح شعوبهم. وكما قال أحد الكتاب: "لو قالت أمريكا أن الشمس تشرق من الشرق فيعترض هؤلاء بالقول أن الشمس تشرق من الغرب!!". ويا للمفارقة أن أغلب هؤلاء يعيشون في هذا الغرب الذي وفر لهم الأمن والمأوى والحرية وغيرها من متطلبات الحياة الكريمة التي افتقدوها في بلدهم العراق. ولا يهمهم ما سيؤول إليه مصير شعبهم فيما لو طبقوا دعواتهم المضللة لا سامح الله.
موضوعة الإحتلال
كما ذكرت في مداخلة سابقة، هناك نوعان من الإحتلال، الإحتلال الداخلي والإحتلال الخارجي الذي يمكن تقسيمه إلى إحتلال إستعماري تقليدي واحتلال من أجل التحرير. لقد كان النظام البعثي الصدامي هو احتلال داخلي ومن أبشع أنواعه في التاريخ منذ اغتصابه للسلطة عن طريق انقلاب القصر في 17-30 تموز 1968. فقد عانى الشعب العراقي أبشع أنواع الإضطهاد على يد هذا النوع من الإحتلال. لقد سيطرت عصابات المافيا البعثية التابعة "لمنظمة الدولة السرية" على جميع مقدرات الشعب العراقي واتبعت أسلوب الترغيب والترهيب وصادرت جميع موارده الإقتصادية الهائلة وحرمت الشعب العراقي من الإستفادة منها واستخدمتها واستدانت عليها عشرات المليارات من الدولارات، لعسكرة البلاد وشراء الأسلحة الفتاكة والذمم من الإعلاميين والمجرمين وشن الحروب الداخلية والخارجية وتسبب في هلاك مليونين من العراقيين وتشريد خمسة ملايين منهم في الشتات واستخدام السلاح الكيمياوي لإبادة الجنس في كردستان والجنوب وملأ العراق بالمقابر الجماعية والسجون وغرف التعذيب والمثارم البشرية وأهلك الحرث والنسل. فهل هناك أبشع من هذا الاحتلال الداخلي؟ وبعد كل ما عاناه من النظام المقبور، هل يلام هذا الشعب في عدم الدفاع عنه؟ وهل شعبنا بهذا القدر من الجحود ونكران الجميل لكي يحمل السلاح ضد من قام بتحريره وخلاصه من أبشع نظام دموي قمعي؟ وعلى قدر ما يخصني الأمر كعراقي، فإني أتقدم بالشكر والامتنان للدولتين العظميين، أمريكا وبريطانيا، على تحرير بلادنا من أبشع نظام إجرامي في التاريخ ويشاركني في هذا الرأي أكثر من 80% من أبناء شعبنا، كما بينته إستطلاعات الرأي الميدانية.
مثال على تعامل النظام المقبور مع الشعب
لا شك إن أغلب القراء الكرام قد شاهدوا أو سمعوا عن شريط الفيديو الذي بثته قناة (العربية) واللقطة الرهيبة التي تصور أزلام وطبان (الأخ غير الشقيق لصدام حسين) ينهالون ضرباً على إثنين من شرطة المرور حتى أغمي عليهما لأنهما أوقفا موكب وطبان ليسمحا لموكب عدي بالمرور. ولو أوقفا موكب عدي لواجها نفس المصير إن لم يكن أبشع. وهذا مثال واحد يكشف بكل وضوح أن هؤلاء الجلادين كانوا يعاملون أبناء شعبنا كحشرات لا قيمة لها. وقد شاهد معي هذه اللقطة المؤلمة صديق سوداني وهو طبيب كان دائماً يعارضني بانفعال عندما كنت ابرر له تأييدنا للدعم الأمريكي لخلاص شعبنا من هؤلاء الجلادين. فبعد أن شاهد تلك اللقطة البشعة، سألته: هل ما زلت عند رأيك في لومنا على قبول الدعم الأنكلو-أمريكي لتحرير العراق؟ فأجاب: والله تمنيت لو لم أشاهد هذه اللقطة، لأن الكوابيس المرعبة ستطاردني في النوم ومن حق هذا الشعب أن يطلب الخلاص حتى من الشيطان.
الإحتلال الخارجي
أما الإحتلال الخارجي الذي حصل للعراق في الوقت الراهن، فهو ليس إحتلالاً بالمعنى التقليدي وليس لإستعماره أو سرقة نفطه كما يروج الأشقاء العرب وغيرهم، وإنما جاء لصالح الشعب العراقي والعالم وكنتيجة حتمية لسياسة النظام المقبور، فرضتها ظروف العولمة التي جعلت المشكلة الوطنية مشكلة دولية تخص جميع الدول. وهذه القوات ذاتها حررت الكويت ولم تستعمرها ولم تسرق قطرة واحدة من نفطها. وليس من الممكن ترك نظام همجي متخلف مثل نظام صدام حسين، يملأ بلاده بالمقابر الجماعية ويهدد أمن وسلام العالم بحجة أنها شأن داخلي. فهذا "الإحتلال" هو الذي منع الحاكم الجلاد من تحقيق تهديده الرهيب ب(أن من يحكم العراق بعده سيستلمه أرضاً بلا شعب). فأي إحتلال هذا الذي يعرض حياة جنوده للخطر من أجل حماية أرواح وممتلكات البلد المحتل؟ بينما نرى فلول الإحتلال الداخلي الصدامي يقومون بقتل المواطنين وتدمير المؤسسات الإقتصادية لبلادهم.
الدعوة للمقاومة
لقد روج الإعلاميون العرب قبل الحرب أن الشعب العراقي يحتاج إلى دكتاتور قوي مثل صدام حسين للحفاظ على وحدته وأنه إذا ما سقط فسيتمزق العراق إلى دويلات الطوائف وراحوا يبشرون بالحروب الطائفية بين السنة والشيعة والعرب والأكراد وأن بغداد ستمحى من الوجود بالقنابل النووية وسيقتل أكثر من مليون نسمة وملايين من العراقيين سيكونون لاجئين..الخ. طبعاً كل هذا لم يحصل وقد سقط النظام بسهولة وبسرعة فائقة أثبتت أنه كان فعلاً نمر من ورق. والآن يحاول هؤلاء العزف على نغمة نشاز أخرى وذلك بتحريض شعبنا في الشمال والجنوب ضد قوات التحالف ويروجون أن السنة وحدهم يقاومون بينما يقف الشيعة في الجنوب موقف اللامبالاة مما يجري!!
إن تسمية الأعمال الإجرامية التي يقوم بها مجرمون محترفون من فلول النظام المقبور ب(المقاومة الوطنية أو الشعبية) تجاوز على الحقيقة وتضليل للرأي العام العربي المضلل أصلاً. وعندما انكشفت جرائم صدام حسين البشعة للعالم، حاول هذا البعض أن ينأوا بأنفسهم من صدام حسين وتبرير دعواتهم بالقول بأن هذه "المقاومة" ليست من أجله وعودة نظامه ولا علاقة لهم به بل هي مقاومة وطنية ضد الإحتلال وضد صدام حسين في نفس الوقت. وهذا الإدعاء أفشلته تظاهرات "المقاومين" في الفلوجة والموصل والرمادي وتكريت برفعهم صور الجلاد المخلوع وترديدهم الهتاف الممجوج (بالروح بالدم نفديك يا صدام). فكيف يريدوننا أن نصدق أن هؤلاء فعلاً مقاومة وطنية وضد صدام حسين؟
من هو الحريص على مصلحة الشعب؟
نعم إن هذا "الإحتلال" هو من اجل تحرير الشعب العراقي ولمصلحته وبناء العراق بعد أن دمَّره النظام الصدامي لمدة 35 عاماً. أية مقاومة وطنية هذه التي تعمل على قتل مهندسة عراقية مديرة محطة كهرباء في بغداد وهي أم لأربعة أطفال، لا لشيء إلا لأنها بذلت كل ما في وسعها لتصليح تلك المحطة ونجحت في توفير وإيصال الطاقة الكهربائية لأبناء شعبها في هذا الظرف العصيب والحر الشديد؟
أية مقاومة وطنية هذه التي يحاول بها عصابة من فدائيي صدام لتدمير محطة كهرباء النجيبية، شمال البصرة، والتي تجهز الطاقة للمنطقة الجنوبية كلها، وكانت الخطة تهدف إلى تدمير المحطة بكاملها بحيث تحرم المنطقة من الطاقة لمدة عام على الأقل. ولكن تحرك الضمير الوطني عند أحدهم فأخبر قوات التحالف عنهم فنصبوا لهم كميناً وقبضوا عليهم عند محاولتهم تنفيذ الجريمة. كذلك حاول عدد من المخربين إرشاء حارس محطة كهرباء الناصرية بخمسة آلاف دولار مقابل السماح لهم بالدخول في المحطة وتدميرها بالعبوات الناسفة فأخبر عنهم قوات التحالف وتم إلقاء القبض عليهم.
أية مقاومة وطنية هذه التي تهدف إلى تدمير المنشآت النفطية العراقية والبنى التحتية للإقتصاد الوطني؟ أي مقاومة وطنية هذه التي قام بها المجرمون في حرق المكتبة الوطنية وتحويل ملايين المخطوطات والوثائق التاريخية النفيسة إلى رماد؟ أية مقاومة وطنية هذه التي تقوم بتدمير مركز الإتصالات التلفونية وتحرم الشعب من الإتصال مع بعضهم ومع العالم الخارجي؟
من المتضرر من كل هذه الأعمال، الشعب العراقي أم قوات "الإحتلال"؟ وهناك قائمة طويلة من جرائم هؤلاء المجرمين الذين يسميهم الإعلام العربي والإيراني بالمقاومة الوطنية ضد الإحتلال وفي جميع هذه الجرائم، فالمتضرر الوحيد منها هو الشعب العراقي وحده.
ومن جهة أخرى نرى قوات التحالف هي التي تقوم بحماية المنشآت وتصليحها وحماية أرواح الناس من أذى هذه الشراذم الضالة ومنع الأعمال التخريبية التي يقوم بها فلول النظام المقبور.
وبعد كل هذا، هل هناك أي ضمير وأخلاق لهؤلاء الذين يدعون شعبنا إلى رفع السلاح لمقاومة قوات التحالف؟ وهل شعبنا بهذه السذاجة والبساطة ونكران الجميل ليقوم بقتل من حررهم من أبشع نظام جائر في التاريخ؟ والكل يعرف أن بقاء هذه القوات مؤقت وفي صالح الشعب العراقي. هل فكر هؤلاء بما سيحصل للشعب العراقي فيما لو انسحبت قوات التحالف من العراق قبل الأوان؟ إن حقد هؤلاء على أمريكا قد أعمى بصيرتهم عن التفكير السليم ودفعهم للتضحية بشعبنا طالما هم أنفسهم بعيدون عن الأذى ومنهم من يتمتع بما وفرت لهم الدول الغربية من أمن ورفاه. فليفهم هؤلاء جيداً ويقرؤوا الواقع قراءة صحيحة، إن أي عمل إجرامي ضد قوات التحالف، مردوده معكوس على من يقوم به، ويطيل من فترة بقاء هذه القوات في العراق وإطالة عذابات شعبنا على أيدي فلول صدام حسين. وبعد كل هذه التضحيات التي قدمتها أمريكا وبريطانيا لا يمكن لهذه القوات أن تنسحب قبل أن تحقق أهدافها التي جاءت من اجلها وهي إقامة نظام ديمقراطي وإعادة بناء العراق، تماماً كما حصل بعد إسقاط النازية في ألمانيا.