|
ناصر حدّة مؤسس الحزب الشيوعي في دمشق
عبد الله حنا
الحوار المتمدن-العدد: 1835 - 2007 / 2 / 23 - 12:05
المحور:
سيرة ذاتية
ا ناصر الدين حدّة المولود في يبرود عام 1906، هو أول شيوعي في سورية الحالية المعروفة بالجمهورية العربية السورية. فبعد فلسطين، التي شهدت بداية انتشار الفكر الماركسي فيها في السنوات الأولى التي أعقبت قيام ثورة أكتوبر البلشفية في روسيا، وضع النقابي اللبناني فؤاد الشمالي المنفي من مصر أسس العمل الشيوعي، بالتعاون مع يوسف يزبك المثقف الموسوعي المتأثر برياح الثورة الفرنسية، وبخاصة جناحها اليساري. هذا الحزب الشيوعي الوليد عام 1924 سرعان ما تطلع إلى عاصمة بني أمية باحثاً عن موطئ قدم لتأسيس حزب شيوعي فيها. فكان أول من استقبل نبتة الاشتراكية ناصر الدين حدِّة ومريده فوزي الزعيم، ومن ثمّ علي خلقي. وعن طريق ناصر حدِّة وبالتعاون مع فوزي الزعيم تمّ كسب الشاب خالد بكداش إلى صفوف هذه المجموعة الصغيرة، التي شكّلت النواة الأولى لقيام الحزب الشيوعي في دمشق ومن ثمّ في عدد من المدن السورية وأريافها. منذ اللقاء الأول توسم ناصر حدة في خالد بكداش خيراً لقيادة الحركة الشيوعية الوليدة. وفعلاً كان بكداش عند حسن ظن حدّة، وبرز قائداً شيوعياً لا يُشَقُ له غبار. ومع الزمن طغى اسمه على المؤسسين، الذين طواهم النسيان. وهدفنا في مجموعة هذه المقالات (الدراسات) إزالة الغبار عن نشاط هؤلاء المؤسسين، الذين مهَّدوا الطريق أمام خالد بكداش وفرج الله الحلو وغيرهما لاستنهاض الحركة الشيوعية في منتصف القرن العشرين، دون إغفال دور الآخرين. تكمن ريادة ناصر حدِّة في أنه أرشد ثلاثة إلى الفكر الاشتراكي الماركسي، ممن سيحتلون مراكز مرموقة في الحزب الشيوعي وهم: - فوزي الزعيم.. - خالد بكداش.. - فرج الله الحلو.. وتوضّح المقالات المنشورة هنا كيف جرت الصلة بين حدّة وهؤلاء الثلاثة. ولكن معلوماتنا عن ناصر حدة وكيف اهتدى إلى الفكر الماركسي ونشاطه في قيادة الحزب الشيوعي بين عامي 1928 و1937 لا تزال شحيحة. ناصر الدين حدّة ابن محمود ابن حسن ولد، كما ذكرنا، في يبرود عام 1906، ولأسباب تتعلق بظروف ذلك الزمن سجل تولده عام 1912، كما هو وارد في الوثائق المدرسية، وتعود جذور بيت حدة إلى عائلة ناصر الدين في البقاع وحسب مرويات أولاد حدّة التجأ جدّ العائلة إلى يبرود هرباً من الثأر واستقرّ فيها وجرت عملية تزاوج بين بيت حدة وبيت عقيل إحدى العوائل الوجيهة في يبرود. ومع الزمن استطاع بيت حدِّة وبيت عقيل أن يتملكا قسماً من مزرعة تل فطايا المجاورة ليبرود. محمود حدِّة، والد ناصر، كان يملك أرضاً زراعية واسعة نسبياً بمقاييس القلمون، ويمارس تجارة مال القبان، وكان شريكاً في أعمال تجارية مع فارس الخوري وتوفيق شامية في دمشق. وهذا كان أحد أهم الأسباب لتوجيه أولاده خالد وبهجت وناصر للدراسة والتعليم. وكانت أم ناصر من عائلة بيت عقيل الغنية نسبياً والمتعلمة. ويبدو أن محمود حدّة طمح إلى مجاراة بيت عقيل في العلم فأرسل ابنه ناصراً إلى دمشق لتلقي العلم. في صيف 1928 قدم إلى دمشق من زحلة هيكازون بوياجيان موفداً من القيادة إلى دمشق للإسهام في تأسيس منظمات للحزب فيها. سكن بوياجيان في حي شعبي وفتح عيادة طب أسنان ومارس المهنة دون شهادة ونجح في تنظيم فرقتين شيوعيتين، إحداهما عربية أكثرية أعضائها من عمال النسيج، والثانية أرمنية. ويكتب مادويان في ذكرياته: (في صيف 1928 ذهبت إلى دمشق لإلقاء محاضرات على الفرقتين). وحسب رواية مادويان انضم في أواخر عام 1928 وأوائل عام 1929 إلى منظمة الحزب الشيوعي بدمشق الرفاق علي خلقي، بشير فلاحة مصطفى (جود)، أبو محمود (شقيق داود آغا)، ناصر حدّة، فوزي الزعيم، نظمي رفاعي (من بعلبك) وهو طالب يدرس في الشام، وعبد القادر عياش (من دير الزور) وغيرهم. ويعدد مادويان المنظمات، التي ظهرت قبل 1930، ومنها (منظمة حزبية أخرى في سورية تأسست في النبك بمبادرة من ناصر حدة) (ص 94)، ولدى الدكتور إبراهيم قندور معلومات قيّمة عن نشاط ناصر حدة، وكان قد التقى به في جلسات عديدة، وحصل من سعيد بن ناصر حدة على وثائق نأمل أن ترى النور قريباً. ويملك الدكتور قندور معلومات عن بداية تنظيم شيوعي في النبك في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين. يورد أرتين مادويان في ذكرياته أن المجلس الوطني الثاني للحزب (كونفرنس عُقد في أواخر نيسان عام 1930 في بيروت وشارك في الاجتماع فؤاد الشمالي، أرتين مادويان، ناصر حدة، نظمي الرفاعي من بعلبك، رشيد عاصي من زحلة، وثلاثة أرمن. وقد انتخب المجلس الوطني أعضاء اللجنة المركزية ومنهم: فؤاد الشمالي أرتين مادويان، ناصر حدّة، نظمي الرفاعي وهيكازون بوياجيان وعُيّن فؤاد الشمالي أميناً عاماً. وذكر سعيد بن ناصر حدّة، أن والده ذكر عدة أسماء من الشيوعيين الأرمن ممن كان على صلة وثيقة بهم. ولم يذكر سعيد من تلك الأسماء إلا اسم أرتين مادويان. عام 1993 صدر عن دار الطليعة بدمشق كتاب (خالد بكداش يتحدث...)، إعداد وحوار عماد ندّاف. سُجّل مضمون الكتاب على أشرطة كاسيت بصوت السيد خالد بكداش خلال عدة جلسات جرت جميعها خلال عام 1992. ونبّهت الصفحة الأولى من الكتاب إلى المساعدة التي قدمها كل من السادة وصال فرحة بكداش، عمار بكداش، قدري جميل خلال مراحل عمل هذا الكتاب. معنى ذلك أن طبع الكتاب حاز على موافقة (أهل البيت) وهي القيادة الفعلية للحزب، المفروض فيها مراجعة ما كُتب وتصحيح الأخطاء، التي من الطبيعي أن تقع لمن يتحدث شفهياً عن أحداث مضى عليها عقود من السنين. وسننقل فيما يلي ما تحدث به خالد بكداش عن ناصر حدة: (في عسال الورد بدأت رحلتي الطويلة مع الحزب الشيوعي السوري، كنت اشتغل مراقباً على تعبيد الطرقات في هذه المنطقة. كانت هذه الفترة قصيرة، ولكنها هامة وهناك التقيت مع ناصر حدّة في مزرعة تل فطايا.. وأثناء حديثه معي تكلم عن شخص اسمه: فوزي الزعيم... لم يكن يعرف أن فوزي صديقي. فقلت له: أنا أعرف فوزي الزعيم, إنه صديقي في الشام ونسكن في حيين متجاورين. وكانت مصادفة هامة. فهذا اللقاء مع ناصر حدِّة، هو الذي لفت نظري إلى الجانب الآخر في حياة فوزي الزعيم... الجانب السياسي والنضالي...). (ص 20). نلاحظ من هذا النص المنقول حرفياً عن لسان خالد بكداش القائد الشيوعي البارز بعد فؤاد الشمالي وناصر حدّة وفوزي الزعيم إغفال دور كلٍ من فؤاد الشمالي وناصر حدّة. وبمزيد من الأسى نستغرب تجاهل خالد بكداش دور ناصر حدّة في تأسيس الحزب الشيوعي والإسهام في قيادته بين عامي 1928 و1937. علماً أن مذكرات الشيوعيين القدامى وأحاديث بعضهم مع كاتب هذه الأسطر، وكذلك ما نقله زياد الملا تؤكد الدور الذي لعبه ناصر حدّة في كسب الشاب خالد بكداش إلى الحزب الشيوعي. ونحن نتساءل ما المقصود بالجملة التي نطقها خالد بكداش: (في عسال الورد بدأت رحلتي الطويلة مع الحزب الشيوعي السوري.. وهناك التقيت مع ناصر حدِّة...) أليس ذلك اعترافاً بدور ناصر حدِّة في بداية الرحلة الطويلة لبكداش. ولماذا القفز من فوق ناصر حدِّة إلى فوزي الزعيم، الذي أرشده حدة إلى الحزب الشيوعي حسب ما ذكر الشيوعي القديم مصطفى أمين؟.. الأمر الهام هو أن حدّة أعطى بكداش كتاب البيان الشيوعي باللغة الفرنسية، كما نقل إسكندر نعمة عن حدة وقام الشاب الألمعي خالد بكداش الضليع في اللغتين الفرنسية والعربية بترجمة هذا الكتاب إلى العربية ونشره عام 1933. ألا يستحق إهداء حدة كتاب البيان الشيوعي لبكداش الإشارة من هذا الأخير إلى ذلك الشيوعي، الذي اعترف بأهلية خالد بكداش للقيادة وتنازل عنها عن طيبة خاطر وقناعة معترفاً بإمكانيات بكداش القيادية؟.. كان من المفروض اختيار شخص مؤهل معرفياً وعلى دراية بتاريخ الحركة الشيوعية وتاريخ سورية للحوار مع شخصية تاريخية من وزن خالد بكداش، واستثارة ذاكرته ومحاورته في الثغرات والأحداث التاريخية، التي لا يرغب في ذكرها أو يمكن أن ينساها من بلغ من العمر عتيّاً. وفي تقديرنا أن حدّة لم يبخل على بكداش في الكتب التي يملكها لتثقيفه، بعد أن توسم فيه خيراً، كما ذكر حدِّة لإسكندر نعمة. ويتبين مما تحدث به بكداش (ص 22) أن ناصر حدِّة أعطاه كتاباً لنقولا حداد بعنوان (الاشتراكية) مطبوعاً في مصر عام 1920. وامتلاك ناصر حدِّة لهذا الكتاب وكتاب البيان الشيوعي وغيرهما من الكتب المطبوعة بالعربية والفرنسية، دليل على اهتمام الرجل بالفكر وطموحه لتأسيس حزب شيوعي وبناء حزب يبني الاشتراكية... فلو كان محاور الشخصية الشيوعية الفذّة، الذي ملأت أخباره الآفاق، وترك بصمات واضحة المعالم في تاريخ الحركة الشيوعية والمشرق العربي، محاوراً على مستوى رفيع في معرفة تاريخ الحزب الشيوعي، لكان الحوار أغنى المكتبة الماركسية بمعلومات لا تزال طي الكتمان، وبخاصة مرحلة تأسيس الحزب الشيوعي السوري، وتحديداً مرحلة ما قبل خالد بكداش. قبل مقابلة نداف لبكداش بزمن أجرت مجلة (النهج)، ورئيس تحريرها فخري كريم حواراً مع خالد بكداش، تجاهل فيه فخري كريم بدايات الحزب الشيوعي السوري طامساً تاريخ عقد ونيف من الزمن عندما استهل حواره. بالجملة التالية: (من الخلايا الأولى في حي الأكراد إبان الثلاثينيات، إلى احتمالات العدوان وعناصر الصمود عام 1983، تجري (النهج) حواراً شاملاً مع الرفيق خالد بكداش..). المأساة أن هذا الحوار أعيد نشره في كرّاس صدر باسم خالد بكداش تحت عنوان: (حول قضايا التاريخ وقضايا الساعة). وقد تجاهل بكداش، أو قلّل من دور البناة الأوائل جنوداً وقادة للحزب الشيوعي قبل عودة خالد بكداش من موسكو أوائل عام 1937 واعتلائه سدة رئاسة الحزب الشيوعي. لا نريد الدخول هنا في متاهات الأخطاء التاريخية والمبالغات الواردة في الكراس، بل نريد الإشارة إلى أسلوب (البتر)، في رواية تاريخ البدايات الأولى للحزب الشيوعي، ناهيك بتهميش المنهج الماركسي لكتابة التاريخ. كتب بكداش: (ويومها كنا خمسة شيوعيين في كل الشام. أحدهم من بيت الشربجي، الآخرون: فوزي الزعيم، ناصر الدين حدّة، واثنان نسيت اسميهما. ثم وسعنا الحزب. صرنا ستة ثم سبعة. كان هذا عام 1930) ص (9). ليست لدينا معلومات دقيقة عن كيفية وطرق تعرُّف ناصر حدّة على الفكر الشيوعي. ولا شك أن شغف ناصر حدّة بالقراءة، وصلاته بالشيوعيين في بيروت عام 1926 أثناء دراسته، ورسائل المُهاجر إلى أمريكا اللاتينية خالد حدِّة، الأخ الأكبر لناصر، أسهمت أيضاً في دفع ناصر باتجاه الاشتراكية. فالأخ الذي انضوى تحت لواء الحركة الاشتراكية هناك ملأ صفحات رسائله بالحديث عن الاشتراكية والمظلومين، وهذا ما دفع ناصر حدِّة للاتجاه بحزم نحو الشيوعية. وسرعان ما يصبح ناصر حدِّة عام 1929 من قياديي الحزب الشيوعي الناشئ. (هذه المعلومات منقولة عن كتاب زياد الملا، الذي استقاها أيضاً من شيوعيين قدامى كانوا على صلة وثيقة بحدة) وقد روى ناصر حدِّة لجورج عويشق أن جريدة الحزب (الفجر الأحمر) كانت تطبع باليد وأول من نشط من العرب في الدعاية للشيوعية بدمشق هو إلياس شاتيلا، الذي درس في فرنسا. وعرفنا من عويشق أن شقيق إلياس جورج شاتيلا كان مراسلاً لجريدة (ليزيكو Les Echos)، التي تطبع باللغة الفرنسية، وكانت تنشر أخباراً عن نشاطات الشيوعين وستكون هذه الجريدة مصدراً هاماً لمعرفة تاريخ الحزب الشيوعي. ما يثير فضولنا هنا هو معرفة دور إلياس شاتيلا في الدعوة للحزب ومدى علاقته مع ناصر حدِّة. هذا مع العلم أن شاتيلا، الذي لا يتحمل الحياة القاسية ويحب الكيف استخدمه عنصر الأمن الكوميسيير كربيت حسبما ورد في ذكريات أرتين مادويان لاعتقال الشيوعيين في دمشق. (ص156) قبل أن يلتقي حدة ببكداش في مزرعة الأول في تل فطايا كان ناصر حدِّة قد أجرى في يبرود مجموعة لقاءات مع الشاب الدمشقي الممتلئ حيوية ونشاطاً فوزي الزعيم، الذي عرف الحزب الشيوعي الوليد عن طريق ناصر حدة. ولم تمض برهة طويلة حتى أصبح فوزي في دمشق علماً شيوعياً يشار له بالبنان. وذكريات مصطفى أمين والحديث معه ألقيا الأضواء على دور حدِّة في تنسيب فوزي الزعيم كما سنرى. الشخصية الشيوعية الثالثة، التي اتصل بها حدة ونسّبها إلى الحزب هي فرج الله الحلو، الذي سيصبح الأمين العام أو رئيس الحزب الشيوعي اللبناني. درّس حدّة مادة الرياضيات في الكلية الوطنية الانجيلية بحمص، التي كان الشعور العروبي قوياً فيها. وهناك في عام 1930تعرّف المدرس ناصر حدِّة على طالب البكالوريا فرج الله الحلو، وقد أخذ حدّة بيد فرج الله إلى طريق النضال في سبيل تحرير الكادحين والدعوة إلى الاشتراكية. يلفت النظر أن ناصر حدِّة كلّف فرج الله الحلو في أوائل صيف 1931 بالعمل على تأسيس منظمة للحزب الشيوعي في بلاد جبيل موطن فرج الله وكُلِّلت المهمة بالنجاح في أيلول من العام نفسه. وقد حضر الاجتماع التأسيسي فؤاد الشمالي رئيس الحزب (الحلو... ص17) مما يدل على النشاط القيادي لحدِّة وتنسيقه في العمل مع الشمالي. وذكريات أرتين مادويان تذكر أن ناصر حدِّة كان يسافر أسبوعياً إلى بيروت للاجتماع في القيادة، التي منها مادويان وفؤاد الشمالي. إلياس البطل من مواليد 1917 في ديرعطية درس ثلاث سنوات في الكلية الإنجيلية. وفي لقاء معه بتاريخ 26 / 7 / 1978 ذكر أن ناصر حدِّة كان يدرّس الرياضيات وكان الشعور العروبي قوياً بين الطلاب. وقد أخذ إلياس الفكرة الوطنية من عادل وحكمت عقيل، وهما من يبرود. وذات يوم من عام 1932 وهم يلعبون في خرائب المدرسة وجدوا ثلاث نسخ، مطمورة في التراب، من بيان الحزب الشيوعي السوري مؤلف من عدة صفحات وبتوقيع فؤاد الشمالي. الكراس جله أحمر عليه شارة المطرقة والمنجل وشعار (يا صعاليك العالم اتحدوا). ولم يتذكر البطل من محتويات البيان سوى الدعوة إلى مجانية التعليم، التي استهوته بسبب فقره وقيام الجمعيات الخيرية بمساعدته مالياً. ونستطيع أن نجزم أن ناصر حدِّة أو أحد مناصريه خبّأ البيانات بين الخرائب تجنباً للمداهمة والاعتقال. خلال ما يقرب من عشر سنوات (1928 - 1937) كرّس ناصر حدِّه وقته وبذل ما استطاع من جهد لتأسيس حزب شيوعي في ظروف صعبة للغاية. وبعد تنحّيه عن القيادة بقي عضواً في الحزب الشيوعي حتى أوائل الأربعينيات، وفي تلك الفترة أخذت تظهر على ناصر حدِّة علائم التعب والملل والتهرب من المسؤوليات والعمل الحزبي، حسبما أفاد رفاقه، الذين التقى بهم زياد الملا. أسباب ذلك كثيرة نترك الحديث عنها إلى أن تتكشف وثائق جديدة. المهم في الأمر أن ناصر حدِّة شدّ الرحال إلى الجزيرة، التي بدأت طلائع الرأسمال الزراعي تنتشر في ربوعها. وهناك عمل في التجارة والزراعة. ويروي المقربون منه أنه بقي محتفظاً بمعتقداته دون أي نضال يذكر من أجل تحقيقها. ويتميز ناصر حدة بأنه كان صديقاً للجميع. فهو مع الفلاح فلاح، ومع التاجر تاجر، ومع المثقف يخوض في غمار الثقافة، وكانت علاقاته حسنة أيضاً مع كبار الملاك والرأسماليين الزراعيين في الجزيرة. بعد المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري عام 1969 والاتجاه لكتابة تاريخ الحزب ومعرفة مرحلة التكوين، جرى الاتصال مجدداً بناصر حدِّة. وقام الحزب بإرسال بعض أولاده للدراسة في موسكو. وعندما اشتد المرض بناصر أرسله الحزب عام 1971 للعلاج في مشفى اللجنة المركزية في موسكو. وأخيراً رحل ناصر حدة عن هذا العالم بتاريخ 26 تشرين الأول عام 1973 دون أن يكتب، حسب علمنا، مذكرات أو يدلي بأحاديث مدونة عن أخصب مرحلة في حياته بين عامي 1927 و1937. ويبقى السؤال اللغز: أين استقرت وثائق ناصر حدِّة عن هذه المرحلة؟ ما كُتب أو رُوِيَ عن نشاط ناصر حدِّة كتب مصطفى أمين أن صديقه مصطفى العشا وابن عمه كانا عضوين في جمعية لمحو الأمية، وطلبا منه الموافقة على الاشتراك في الجمعية فوافق. كان مركز الجمعية في زقاق القداح قرب الجسر الأبيض والمركز، عبارة عن دار عربية رُفعت فوق بابها لوحة كتب عليها: (مدرسة عمر بن الخطاب لتعليم الأميين) ولننقل ما كتبه مصطفى أمين حرفياً: (بعد هذه الزيارة ببضعة أشهر اتصل بي مصطفى العشا وأخبرني بلزوم حضوري للجمعية، في يوم وساعة حددهما، لأنه ستجري الانتخابات لاختيار اللجنة الإدارية للجمعية. وفي الموعد المحدد وبوصولي للجمعية وجدت حشداً من الأشخاص فيها، وكان أحد الأشخاص يلقي خطاباً عن أهمية العلم ونشر المعرفة وعن المجتمع وضرورة تطويره, وعن أهمية محو الأمية في بلادنا. كما تحدث عن الشباب ودورهم في المجتمع وانتهى الخطاب بالتصفيق، وكان هذا التصفيق تعبيراً عن موافقة الحضور على أن يبقى الخطيب رئيساً للجنة الإدارية للجمعية). (وفي اليوم التالي علمت أن الخطيب اسمه ناصر حدِّة، وهو الأمين العام للحزب الشيوعي في سورية). (بعد بضعة أشهر طلب مني مصطفى العشا إن كنت أرغب في حضور محاضرة في حي الأكراد دون أي تفاصيل. بعد وصولنا بقليل إلى مكان الاجتماع وكان في دار عربية، على سطح مكشوف وقد صُفّت الكراسي عليه. امتلأت الكراسي بالحضور. بعدها تفاجأنا بشخص طويل ونحيل أسمر يطلّ علينا من الجهة المقابلة لنا وبعد التصفيق، بدأ خطابه، وكان في مجمله عن دور العمال والفلاحين والاشتراكية والعدالة والمساواة وعن حياة العمال والفلاحين الذين يحكمون بلادهم لأول مرة بالتاريخ في بلاد السوفييت). (بعد المحاضرة أخبرني مصطفى العشا بأن الخطيب اسمه خالد بكداش, وقد أصبح الأمين العام الجديد للحزب الشيوعي، وقد جاء حديثاً من موسكو ولم يخطر ببالي آن ذاك أن أسأله عن الأمين السابق ناصر حدِّة). (انتهى النقل عن أمين ص 46) لم يكن الشاب خالد بكداش إنساناً مغموراً قبل انتسابه إلى الحزب الشيوعي. يذكر منير سليمان في لقائه مع كاتب هذه الأسطر بتاريخ 11 / 8 / 1974 أن خالد بكداش قاد عام 1929 إضراباً طلابياً مطلبياً منظماً. كما لفت نظر منير سليمان نقاش خالد بكداش في الندوات، التي عُقدت في دمشق (حول القديم والحديث), ومن هنا (نقشت عندي فكرة الشيوعية)، حسب تعبير سليمان. وبعد مدة قرأ سليمان في الصحف أن خالد بكداش مَثُلَ أمام المحكمة الأجنبية بتهمة انتمائه إلى الحزب الشيوعي. فربط سليمان بين نقاش بكداش في الندوات ومحاكمته لأنه شيوعي. ثمّ سافر سليمان إلى فرنسا للدراسة وهناك انتسب إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1931 وعندما رجع سليمان من فرنسا عام 1934 وجد أن ناصر حدّة وفوزي الزعيم هما اللذان يقودان الحزب في دمشق. كتابات يوسف خطّار الحلو تبيّن بوضوح أن قادة الحزب الشيوعي بدمشق على أعتاب النهوض الوطني الجماهيري في شباط وآذار من عام 1936 هم ناصر حدّة وفوزي الزعيم ورشاد عيسى واقتضى الأمر استدعاء فرج الله الحلو من حلب لمساعدتهم في العمل، ولكن سلطات دمشق سرعان ما أبعدته عنها إلى بيروت واستمر الثلاثة يقودون الحزب في دمشق حتى شباط 1937. في أحاديث ناصر حدِّة مع إسكندر نعمة إشارة واضحة إلى سعي ناصر حدِّة لتسليم قيادة الحزب الشيوعي إلى خالد بكداش، الذي حاز إعجاب بقية الرفاق. وتمّ ذلك إثر اجتماع موسع للشيوعيين وافقوا بالإجماع على اقتراح ناصر حدِّة بتسليم القيادة إلى خالد بكداش. ويتابع ناصر حدِّة في حديثه مع إسكندر نعمة قائلاً: لقد وجدت أن خالد بكداش أقدر مني على قيادة الحزب، فهو شاب متحمس، وعلى جانب كبير من الاستيعاب النظري والفكري، وأتوسم فيه مستقبلاً أفضل للحزب. يذكر يوسف خطار الحلو أن اجتماعاً موسعاً للجنة المركزية للحزب الشيوعي في سورية ولبنان عُقد في دمشق بين 3 و7 شباط 1937. قدّم خالد بكداش في هذا الاجتماع تقريراً سياسياً تقرر على أثره السير بالعمل العلني, كما اتفق على تشكيل لجنة مركزية في عدادها خالد بكداش، فرج الله الحلو، نقولا شاوي، رشاد عيسى، فوزي الزعيم، يوسف خطار الحلو، فؤاد قازان، مصطفى العريس، عبد الجليل سيريس (من حلب)، الدكتور نسيب الجندي (من حمص)، وغيرهم. (ص23) ونلاحظ أن اسم ناصر حدِّة لم يرد في قائمة القيادة. لماذا؟.. لم يبيّن يوسف خطار الحلو السبب. ذكر منير سليمان لكاتب هذه الأسطر عن حدِّة ما يلي: (إنسان بسيط ثقافته محدودة، وهو يحمل البكالوريا ويمتاز بأنه حركة وكثير الاتصال بجميع الأوساط. لديه مفاهيم بسيطة وساذجة عن الشيوعية وكان, إلى جانب فوزي الزعيم، المسؤول الحزبي عن دمشق). هذه المفاهيم الساذجة والبسيطة، في نظر الماركسي منير سليمان المختص في الاقتصاد وخريج جامعة السوربون في باريز، كانت مفهومة لدى العمال البسطاء. جاء في ذكريات النقابي جبران حلال: (وبعد دخولي الحزب تعرفت على المناضل ناصر حدّة. كان يحدثنا بأشياء لا نعرفها عن الاشتراكية، وكنّا نطرب لحديثه كثيراً، فقد كان متعلماً وشيّق الحديث. كما كان إنساناً عادياً للغاية، يشاركنا الجلوس على مقاعد حديقة البلدية في برج الروس بالقصاع). (ص 94) ينقل زياد الملا عن كامل عياد المثقف الماركسي القريب من الشيوعيين في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما سأله عن رأيه في ناصر حدِّة فأجاب: (باستثناء كونه من أقدم الشيوعيين السوريين، فهو لم يكن يتمتع بأية سمات قيادية، يمكن إبرازها أو التركيز عليها) (ص 43). على نقيض شهادة الدكتور في الفلسفة كامل عياد نرى أن يوسف خطار الحلو، وهو من قدامى الشيوعيين اللبنانيين، وعرف ناصر حدِّة عن كثب، قدّم صورة مشرقة عن ناصر حدِّة. ونقتطف الهام من شهادة الحلو بحدِّة: (ناصر حدِّة من المناضلين الوطنيين السوريين، الذي ساهم مع فوزي الزعيم وشفيق داود آغا (أبو محمود) عام 1928 في تأسيس أولى منظمات الحزب الشيوعي في سورية) (ص 164). (في أواخر ربيع وصيف 1936 أخذ ناصر حدِّة يتردد على بيروت للقاء القيادة المؤلفة منه ومن فرج الله الحلو ونقولا شاوي وأرتين مادويان وينقل يوسف خطار انطباعاته عن حدَِّة بالفقرة التالية: (في هذه الفترة تعرفت على ناصر حدِّة، فإذا هو شخصية مرموقة يملك القدرة على الحوار، صدره متسع للنقاش، يعير آراء الرفاق المزيد من الانتباه، إن انتقد فلا للتيئيس وإضعاف الثقة بالنفس، بل للتشجيع، ولرفع المستوى، ضليع باللغة العربية، ويجيد الفرنسية). (ص 165). ونقل الحلو عن نقولا شاوي رأيه بحدِّة: (لقد عرفت ناصر في دمشق، فإذا هو ليس مناضلاً عادياً وحسب، بل إنه يتمتع بقدرة على إجراء أوسع الصلات ليس مع الشخصيات السياسية والاجتماعية، بل ومع الجماهير الشعبية... إن صلات ناصر حدِّة بسليم خياطة كانت جيدة جداً وكانا صديقين)، و(لم أشعر مرة أنه استخدم صفته القيادية كأداة للضغط أو الترهيب، لهذا كان محبوباً ومقدّراً من جميع الذين عملوا معه في سورية أو في لبنان). (ص 165). وأخيراً، لا بدّ من التنويه بالمرسلات، التي أجراها ناصر حدّه مع كل من إبراهيم هنانو وعبد الرحمن الشهبندر ومحمد علي علوية (من مصر) وآخرين. وستكشف هذه المراسلات أحد أوجه نشاط الحزب الشيوعي والعضو القيادي البارز ناصر حدّة مع هذه الشخصيات الوطنية. وقد سلّم سعيد بنا ناصر حدّة هذه الوثائق الهامة إلى الدكتور إبراهيم قندور، ولا نعلم هل قام الدكتور قندور بنشرها، أم لا تزال حبيسة الرفوف؟ عبد الله حنا
-------------------------------------------------------------------------------- النور- 280 (7/2/2007)
#عبد_الله_حنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مواقف الحزب الشيوعي من -التقسيم- و-الوحدة-.. في ذكريات مصطفى
...
المزيد.....
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
-
نجل شاه إيران الراحل لـCNN: ترامب و-الضغط الأقصى- فرصة لإنشا
...
-
-لقد قتلت اثنين من أطفالي، فهل ستقتل الثالث أيضا؟-: فضيحة وف
...
-
كيم: المفاوضات السابقة مع واشنطن لم تؤكد سوى سياستها العدائي
...
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|