|
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثامنة: ضرورة معرفة معنى العلمانية
محمد بركات
الحوار المتمدن-العدد: 8467 - 2025 / 9 / 16 - 20:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من أشهر التعبيرات التي أصبحَت في الآونة الأخيرة تُلقى على مسامعنا ليلَ نهار، تعبير «الأفكار المستورَدة». وقد أفلحَت أساليب الدعاية المنظَّمة في ربط هذا التعبير بشحنة قوية من الاستهجان، ونجحَت في أن تجعل الكثيرين يُردِّدونه دون أن يفكروا في معناه، ويستخدمونه كما لو كان شيئًا مُنفرًا بطبيعته، كالكوليرا، أو شيئًا يدعو بطبيعته إلى الاستنكار كالاحتلال الإسرائيلي. إنَّ «المستورَد» في الأصل صفة تتعلق بميدان الاقتصاد، بحيث لا يمكن القول إنَّ مجتمعًا من المجتمعات يستطيع الاستمرار بدونه، ولنا أن نتساءل: هل صحيح أنَّ الأفكار المستورَدة شيءٌّ ضارٌّ ينبغي تجنُّبُه؟ وإذا كانت في بعض جوانبها تجلب الضرر، فما هي هذه الجوانب؟ إنَّ الدعوة إلى محاربة الفكر المستورَد، في عالمنا العربي، تُبرَّر بالحرص على التراث الأصيل، ومنع الأفكار الآتية من الخارج، لأنَّ فكرنا ينبغي أن ينبع من داخلنا، ومن تاريخنا، ومن ماضينا وتراثنا. ومثل هذا الحرص يُمثِّل هدفًا نبيلًا لا يستطيع أيُّ مُفكر يعمل لصالح مجتمعه إلا أن يحنيَ رأسه إجلالًا له. ولكن السؤال الذي لا يكفُّ عن الإلحاح علينا في هذا الصدد هو: هل صحيح أنَّ تراثنا وتاريخنا وماضينا كان حصيلة تفاعل داخلي بحت، وأنَّه خلَا خُلوًّا تامًّا من كل عنصر «مستورَد»؟ إنَّ الأُمة العربية، بالذات، هي آخر أُمة على سطح هذه الأرض تستطيع أن تجيب عن هذا السؤال بالإيجاب. صحيح أنَّها من أقدر أمم الدنيا على الاحتفاظ بأصالتها وتراثها، ولكن هذه الأصالة وهذا التراث قد بُنيَا، إلى حدٍّ بعيد، على إدماج عناصر «مستورَدة» في النواة الأصيلة للعروبة، وكان هذا عنوانًا لنضجها وثقتها في نفسها. فمنذ السنوات الأولى للحضارة الإسلامية، سنوات الفتح الذي أذهل العالم واكتسح إمبراطورياتٍ قديمةً عاتية، بنى العرب دولتهم الكبرى على أساس اقتباس ما يصلُح لهم من أنظمة الدول التي خضعَت للفتح العربي، وكان من الطبيعي أن يكون نطاق هذا الاقتباس واسعًا لأنَّ طبيعة الفاتحين العرب، وحياتهم البدوية البسيطة، لم تكُن تسمح بتأسيس «دولة» بالمعنى الواسع والمُعقَّد لهذه الكلمة. وبعبارة أخرى فإنَّ الدعائم الأولى للدولة الإسلامية المترامية الأطراف كانت — في قدْر غير قليل من جوانبها — أفكارًا ونُظمًا مستورَدة. ولو كان العرب الأوائل قد أخذوا بمبدأ محاربة الأفكار المستورَدة بنفس الضراوة التي يحاربها بعضهم بها اليوم، لَمَا استطاعوا أن ينتقلوا، في عشرات قليلة من السنين، من حياة البداوة إلى حياة الحضارة، ولَمَا تمكَّنوا من إعمال عقولهم في اختبار النُّظم الوافدة، واقتباس الصالح منها دون حساسية أو تعقيدات أو خوف على أصالتهم. وحين توطَّدَت دعائم هذه الدولة الإسلامية الكبرى، التي كانت تضمُّ شعوبًا وأجناسًا متباينةً انصهرَت كلها في بوتقة واحدة، وأخذَت تتطلع إلى ميادين العلم والثقافة، بعد أن أدَّت رسالتها في ميادين العقيدة والجهاد والسياسة، كانت أبرز السمات المميزة لها هي الشجاعة في تقبُّل «الأفكار المستورَدة» دون خوف على أصالتها. وبفضل هذه الشجاعة في قبول «الفكر المستورَد» ظهرت في العالم الإسلامي مجموعة متألقة من الفلاسفة والعلماء والمؤرِّخين والمُفكرين الاجتماعيين، كانت منارةً للعالم كله خلال العصور الوسطى المُظلمة. وكانت هذه الأسماء اللامعة هي التي قدَّمَت، فيما بعد، إشعاعها العلمي والفكري إلى أوروبا، وأسهمَت بدَور يتزايد الاعتراف به، في إنهاض العلم والفكر الأوروبيَّين ونقلهما إلى عصر جديد. وهنا قام الفكر الإسلامي بدَور عظيم بوصفه «فكرًا مُصدَّرًا»، وكان استيراد أوروبا لهذا الفكر أهمَّ عوامل نهضتها الحديث. هذه حقائق معروفة، ولكن الذي ننساه أحيانًا هو أنَّ الفخر الذي نحسُّ به إزاء الدَّور الذي قُمنا به في «تصدير» فكرنا وعلمنا إلى أوروبا، معناه أنَّنا نعترف بأهمية استيراد الفكر، لأنَّ التصدير والاستيراد عمليتان متلازمتان، بل هما وجهان لعملة واحدة. ومع ذلك، فإنَّك تجد الكاتب الواحد يحارب «الأفكار المستورَدة» بلا هوادة، ويُشِيد في الوقت ذاته بدَور العرب العظيم في تنوير الأوروبيين، ويعطي أوروبا — في نهاية العصر الوسيط — كل الحقِّ في أن تستورد من العرب ما شاءت من الأفكار، ولا يكفُّ عن التباهي بهذه الحقيقة، كل ذلك دون أن يدرك فداحة التناقض الذي يقع فيه حين ينكر مبدأ استيراد الفكر من جانب، ويزهو به من جانب آخر. (الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، د. فؤاد زكريا)
العلمانية لماذا المفترض في الدين أن يكون لتحقيق حرية الإنسان وتحقيق سعادته وإطلاق قدراته في تنمية نفسه والمجتمع من حوله، واستخدام المعطيات المتاحة التي يوفرها عامل التطور بكل أشكاله على مر العصور. ولذلك كان الدين هداية روحية للإنسان، ولم يأت ليحكم الدول والمجتمعات، لأن الدين لا يحكم في الهواء، بل لابد من رجال لهم بشريتهم وضعفهم وأطماعهم يحكمون باسمه وباسم الله، ومن هنا يقع المحظور ويتسلط رجال الدين على رقاب الناس فيشقون بهم وبالدين على حد سواء، وهذا ما وقع في أوروبا في القرون الوسطى، فطغى رجال الكهنوت وتجبروا، حتى وصل بهم الأمر إلى أنهم كانوا يولون ويعزلون الملوك والأباطرة، وكانوا يفسرون كل شيء تفسيرا---ص دينياً، حتى الصواعق والرعود والبروق، كانوا يقولون أنها صوت تهديد ووعيد من الله، وكانوا يبالغون في تخويف الناس من عذاب جهنم، حتى باعوا لهم "صكوك الغفران" التي يحجزون بها مقاعد في الجنة، كما يفعل شيوخ البزنس الآن ويسلبون الناس أموالهم بكفالة يتيم أو حفر بئر الخ: ولك الجنة.. وحاربوا التقدم العلمي وتتبعوا العلماء وعذبوهم وقتلوهم، بزعم أنهم خالفوا الكتاب المقدس، كما يحدث الآن عندنا تماماً، من تتبع الشيوخ ورجال الأزهر لكل جديد وإصدار فتوى بصدده (لابد من ختم المرور) حتى قالوا أن الذكاء الإصطناعي إلحاد وكفر بالله.. من هنا كانت ضرورة العلمانية، لكي نتجنب ويلات الماضي ونتعلم من تاريخ غيرنا، بدلاً مما نحن فيه من تأخر وتخلف بسبب الصورة التي يشيعها المشايخ في الناس من تزهيد في الدنيا واحتقارها وإشغالهم بعذاب القبر تارة، وبعذاب جهنم تارة، وبغضب الله تارة، وضرورة محاربة أعداء الإسلام المنافقين المندسين بيننا (يعنون المفكرين والمثقفين العلمانيين والليبراليين) ويستغلون جهل رجل الشارع ويقولون له أن هذه كلها مذاهب كفرية إلحادية ضد الإسلام وضد الدين. ومع أن أوروبا تخلصت من هذا البلاء منذ خمسة قرون، عن طريق فصل سلطة رجل الدين عن الحياة العامة، إلا أن الشعوب العربية لا زالت حتى الآن لا تفهم معنى العلمانية. يقول د. خالد منتصر: تعد العلمانية من أكثر الكلمات في قاموسنا اللغوى تعرضاً للظلم البين والخلط الشديد عن عمد أو عن جهل وهي قد أصبحت وصمة عار لكل من يتلفظ بها، أما من يتجرأ بأن ينتسب إليها فقد إقتربت رقبته من مقصلة التكفير وأصبح هدفاً لحد الرده. والسبب فى هذا الموقف المعادى للعلمانية هو الخلط بينها وبين الإلحاد أما السبب الأقوى فهو أن العلمانية ستسحب البساط من تحت أقدام رجال الدين. فهي تدعو لحوار الأفكار على مائدة العقل وتعريتها من رداء القداسة، وهذا يجعل من المسألة مسألة بشرية بحتة فإذا كان حديثهم عن البركة في الاقتصاد الاسلامى حولته العلمانية لحديث عن محاولة خفض نسبة التضخم وزيادة الدخل القومى، وإذا كان كلامهم عن حكم الله حولته العلمانية الى كلام عن الديمقراطية والدستور لتنظيم العلاقات بين البشر ، فالله جل جلاله لا يحكم بذاته ولكن عن طريق بشر أيضاً لهم أهواؤهم ومصالحهم التي لابد من تنظيمها وإذا كانت قضيتهم هى قراءة الماضى فقضية العلمانية هي صياغة المستقبل. وتعرض د. فؤاد زكريا إلى الضجة التى أثيرت حول استخلاص كلمة العلمانية بفتح العين من العالم او بكسر العين من العلم، واعتبرها ضجة مبالغا فيها لأن كلا من المعنيين لابد أن يؤدى الى الآخر، فالشقة ليست بعيدة بين الاهتمام بأمور هذا العالم وبين الاهتمام بالعلم، وذلك لأن العلم بمعناه الحديث لم يظهر إلا منذ بدء التحول نحو إنتزاع أمور الحياة من المؤسسات التي تمثل السلطة الروحية وتركيزها فى يد السلطة الزمنية، والعلم بطبيعته زماني لا يزعم لنفسه الخلود بل ان الحقيقة الكبرى فيه هي قابليته للتصحيح ولتجاوز ذاته على الدوام، وهو أيضا مرتبط بهذا العالم لا يدعى معرفة أسرار غيبية أو عوالم روحانية خافية ومن ثم فهو يفترض أن معرفتنا الدقيقة لا تنصب إلا على العالم الذي نعيش فيه يترك ما وراء هذا العالم لأنواع أخرى من المعرفة دينية كانت ام صوفية.. فالنظرة العلمية عالمانية بطبيعتها. ومع تنامى التيار الأصولى الاسلامى وتصاعد سطوته الثقافية والسياسية والاقتصادية على المجتمع المصرى كان لابد للعلمانيين أن يقدموا تعريفهم الخاص للعلمانية وأن يحاولوا فك الارتباط الشرطي بين العلمانية والالحاد من أذهان الناس ، فالمشكلة كانت قد إنتقلت من برودة الأكاديمية الى سخونة الشارع ، والأمر لم يعد أمر نطق بالفتح او بالكسر وإنما أصبح غزلاً وتملقاً للمشـاعـر الدينية باسم محاربة العلمانية، أصبح الأمر تخديرا مزمنا لكسب الجماهير المغيبة، هنا أصبحت محاولة التعريف ضرورة ملحة وليست ترفاً دراسياً، فالأمانة العلمية تقتضيهم أن يستمدوا آراءهم عن العلمانية من تنظيرات العلمانيين أنفسهم لها، وعلى حد علمي أنه حتى الآن لم يربط علماني عربي واحد بين العلمانية وبين الإلحاد، فالعلمانية نظرة الى المعرفة والسياسة والالحاد نظرة الى الدين واللاهوت وبقراءة متأنية لكتابات رموز العلمانية الحديثة نستطيع أن نقرر هذه الحقيقة ونعرف العلمانية بالإيجاب وليس بالسلب، بحقيقتها وليست بأنها هى التى غير الإلحاد، حتى لا يصبح العلمانيون دائما فى موقف رد الفعل ودفع الهجوم وحتى لا يقعوا في الشراك اللزجة المنصوبة لهم من قبل المعسكر الأصولي، والذي يجعلهم دائماً في حالة إستنفار مستمر وقسم دائم بأغلظ الأيمان: ها نحن مؤمنون مثلكم بل وأكثر. نشأت العلمانية في عصر التنوير والنهضة الأوروبية كضرورة لمواجهة الكنيسة ومعارضة وقوفها في وجه التطور العلمي وسيطرتها على المجتمع ومؤسساته، بما فيها مؤسسة الحكم. وبداية نتفق على الأصل اللغوى لكلمة العلمانية، فالعلمانية هي المقابل العربي لكلمة Secularism في الانجليزية أو Seculaire في الفرنسية، وأصول الكلمة تعنى يستولد أو ينتج او يبذر او يستنبت من الاهتمامات الدنيوية الحياتية، ومن هنا فإنها استخدمت كصفة أيضًا لأصحاب هذه الاهتمامات الدنيوية، وللكلمة أيضا دلالة زمنية (saeculum) فى اللاتينية بمعنى القرن حيث أنها تصف الأحداث التي قد تقع مرة واحدة في كل قرن، فالدقة الكاملة لترجمتها كما يشير د. فؤاد زكريا هى الزمانية إن العلمانية ترتبط بالأمور الزمنية أى بما يحدث فى هذا العالم وعلى هذه الأرض في مقابل الأمور الروحانية التي تتعلق بالعالم الآخر. وقد كان المترجمون الشوام قديماً يستعملون لفظ العلمانية كترجمة للكلمة الفرنسية LAIQUE او الانجليزية LAIQUE وهي المأخوذة عن اللاتينية LAICUS اى الجماهير العادية او الناس او الشعب الذي لا يحترف الكهانة، تمييزاً لهم عن رجال الدين، والمفهوم الثاني وان كان لا يستخدم الآن يؤكد المفهوم الأول ولا ينفيه فاللفظ قد تطور ليعبر عن التحول من حكم الاكليروس الكهنوتي إلى السيطرة المدنية حكم الرجال العاديين المعنيين بالشئون الدنيوية (الزمانية). إن تعريفات العلمانيين للعلمانية شأن أي تعريف في إطار العلوم الانسانية تختلف باختلاف وجهة النظر، ولكن في النهاية تصب كل التعريفات في مصب واحد. وأول هذه الأنواع من التعريفات هو التعريف الذي يستند الى علاقة العلمانية بالدين : (العلمانية ليست هى المقابل للدين ولكنها المقابل للكهانة). ثانياً: تعريف من حيث حقوق المواطنة وأسسها الدستورية (العلمانية لا تجعل الدين أساساً للمواطنة وتفتح أبواب الوطن للجميع من مختلف الأديان) هذه هي العلمانية دون زيادة او نقصان فهى لم ترادف فى أى زمان أو مكان نفي الأديان. ثالثا : التعريف الشامل من وجهه نظر معرفية وفلسفية (التفكير في النسبي بما هو نسبى وليس بما هو مطلق). هذا هو تعريف العلمانية للدكتور "مراد وهبة" والذي جاء في معرض حديثه عن "رسالة فى التسامح" للمؤلف الانجليزى "جون لوك" والذي خلص إلى أن المعتقدات الدينية ليست قابلة للبرهنة ولا لغير البرهنة فهي إما أن يعتقد بها أولا، ولهذا ليس في إمكان أحد أن يفرضها على أحد ومن ثم يرفض لوك مبدأ الاضطهاد بإسم الدين، ويترتب على ذلك تمييزه بين أمور الحكومة المدنية وأمور الدين ويقرر مراد وهبة إن هذا التمييز هو نتيجة للعلمانية وليس سبباً لها، وهذا التعريف يتفق إلى حد كبير مع تعريف آخر هو أن "العلمانية محاولة فى سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المسلمات الغيبية".
تاريخ العلمانية في العالم العربي ترجع إرهاصات العلمانية الأولى في العالم العربي الى الحزب الوطني (۱۸۷۹ - ۱۸۸۲) الذي قاد الثورة العرابية بهدف نقل السلطة من ايدى الأرستوقراطية التركية الشركسية الى أيدى كبار الملاك والتجار الوطنيين، وتستند هذه الآراء الى البيان التأسيسي للحزب والذى وضعه محمد عبده والذي نص فيه على أن الحزب سياسي وليس ديني، وأن القاعدة في المواطنة هي من يعيش على أرض مصر ويستظل بسمائها ويحرث ارضها بصرف النظر عن الجنس والدين والعقيدة. وظهرت بوادر العلمانية في العالم العربي من خلال مفكرين تعزى اليهم بدايات التفكير العلماني أو تنسب اليهم مراحل عافيته وصعوده، مفكرين من أمثال الطهطاوى حين قال «حب الوطن من الايمان» ، والتي تناقضت مع مقولة عبد العزيز جاويش «لا وطنية في الاسلام»، أو مثل محمد عبده كما ذكرنا، أو الشيخ على عبد الرازق حين أصدر كتابه الاسلام واصول الحكم عام ١٩٢٥، أو طه حسين حين اصدر كتابه في الشعر الجاهلي عام ١٩٢٦، أو سلامه موسى حين قال: (إن اختلاط الأديان بالسياسة كان على الدوام مصدر حروب بينما السلم والرخاء كانا في ابتعاد الدين عن السياسة وان تعاليم الاسلام والمسيحية تقرران أن الدين علاقة خاصة بين الانسان وربه وليس لأحد أن يجعل من نفسه رقيباً عليها)، أو المهاجرين الشوام مثل فرح أنطون ويعقوب صروف وأمين المعلوف وجورجى زيدان. د. خالد منتصر، وهم الإعجاز العلمي 85-96
أهم منظِّري العلمانية الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا: وهو يهودي، ويعتبر رائد العلمانية باعتبارها منهجا للحياة والسلوك، وله رسالة في اللاهوت والسياسة، وهو صاحب مدرسة النقد التاريخي. العالم والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: الذي أصدر سنة 1778 كتاب "العقد الاجتماعي"، الذي يعد "إنجيل" الثورة الفرنسية. الفيلسوف الفرنسي شارل مونتسكيو: وخاصة في كتابه "روح القوانين"، وهو صاحب نظرية الفصل بين السلطات، التي أصبحت أحد المبادئ الأساسية في الممارسات السياسية. الأديب والفيلسوف الفرنسي فرانسوا فولتير: صاحب مفهوم "القانون الطبيعي"، كما أنه من الجيل المعروف بـ"فلاسفة الأنوار"، ومن بين ما ألف وكتب فيه علاقة الدين بالعقل، وحدود التداخل بينهما.
العلمانية بين المفكرين ورجال الدين ولقد وجدت كلاماً رائعاً حول العلمانية للدكتور فؤاد زكريا، في كتابه (الصحوة الإسلامية في ميزان العقل) سأقوم بتلخيصه، يقول: لا بدَّ لنا، لكي نوضح سمات العلمانية في بلادنا، من أن نميز بين مرحلتَين للعلمانية في عالمنا العربي الحديث؛ الأولى هي العلمانية التي ظهرَت في زمن الصدمة الحضارية مع الغرب، والثانية هي علمانية العصر الحاضر. ففي أواخر القرن التاسع عشر كان العلم الأوروبي قد بلغ أوج ازدهاره، وكان التفاؤل بانتصار العلم على كل ما يعترض الإنسانية من مشاكل وعقبات يبهر العقول، حتى في أوروبا ذاتها، ويدفعها إلى استخلاص نتائج بعيدة كل البعد عن دقة العلم ذاته، وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا الانبهار على مُفكرين كبار في عالمنا العربي، فيؤكدون أنَّ الخلاص من تخلُّف القرون الوسطية، الذي كان لا يزال يلازمنا في جوانب أساسية من حياتنا، لن يتحقَّق إلَّا بأخذ النموذج العلماني الأوروبي بكل عناصره. ودون أيِّ خوض في تفاصيل الآراء التي قال بها مُفكرون مثل سلامة موسى وشلبي شميل وإسماعيل مظهر، ودون أيَّة محاولة للحكم عليهم، فإنَّ تلك العلمانية الأولى، والأقدم، كانت تتسم بالسمات الثلاث التالية: (١) أنَّها كانت إيجابية، بمعنى أنَّها تسعى إلى تحقيق هدف حضاري مُحدَّد المعالم، هو بناء المجتمع على النموذج الأوروبي الحديث. (٢) ويترتب على السمة السابقة أنَّها كانت مشروعًا متكاملًا، يستهدف تحديث كل جوانب الحياة على النمط الغربي. وبهذا المعنى يمكن أن يُعَدَّ «محمد علي» أول علماني حقيقي في العالم العربي الحديث، وصاحب أول مشروع متكامل للنهضة، كان قوامه التحديث الشامل على النمط الأوروبي. وكل ما في الأمر أنَّ علمانيته كانت تتمثَّل في ميدان الممارسة، أيْ في مجالات كالسياسة والاقتصاد والتعليم، ولم يكُن يساندها فكر نظري واعٍ، وإنَّما احتاج هذا الفكر إلى ما يقرب من قرن لكي يتبلور عند مجموعة المُفكرين المذكورين من قبل. (٣) وأخيرًا، فقد كانت تلك العلمانية الأولى موجَّهةً أساسًا ضدَّ أوروبا، وقد تبدو هذه مفارقة، ولكن من المعروف أنَّ الهدف المعلَن لروَّاد هذا التيار كان الاقتداء بأوروبا من أجل التحرر من أوروبا، لأنَّ التقدم العلمي والتكنولوجي الغربي لا يُقهَر إلَّا بتقدم مماثل. وفي ضوء هذا التحديد لسمات العلمانية في مرحلتها المبكرة الأولى، نستطيع أن نلمح، عن طريق المقارنة والتضاد، السمات المميزة للعلمانية المعاصرة، أي المتأخرة؛ ذلك لأنَّ السياق التاريخي الذي ظهرَت فيه هذه العلمانية المتأخرة كان مختلفًا إلى حدٍّ بعيد. فقد مرَّت بلادنا بتجارب متعددة فيما بين المرحلتَين، شهدت فيها انتصارات وعانت من هزائم ونكسات على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي. ولم تعد مشكلة التحرر من الاستعمار هي المسيطرة، بل أصبحَت قضية التنمية، وقدرة المجتمع على تحقيق الحدِّ الأدنى اللازم لبقاء حياته على مستوًى معقول، هي الشغل الشاغل. وتصارعَت في مجتمعاتنا اتجاهات ليبرالية ويسارية وقومية، ولكن التيار الذي اجتذب الجموع الكبيرة وأثار خيالها وداعبها بأعرض الآمال كان التيار الإسلامي. ولأسباب عديدة، لا يتسع المقام هنا لشرحها، اكتسح هذا التيار الإسلامي بقية التيارات واختطف منها قاعدتها الجماهيرية. وسُرعان ما تجاوز الأُطر الضيقة التي كانت السُّلطات الرسمية تعتقد أنَّها ستحصره فيها، وتجاوزَت طموحاته بمراحل ذلك المستوى المحدود، الذي أرادته له تلك القُوى التي فتحَت له الأبواب وأمدَّته بالعون المادي والمعنوي، فلم يعد هدفه، كما كان يُراد له في مبدأ الأمر، إسكات الأصوات التي تُنادي بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية - وهي أصوات تنتمي إلى تيارات سياسية متعددة - وإنَّما أصبح له مشروعه الخاص، وأصبح يتطلع إلى بناء دولته الخاصة، واكتسبَت دعوته طابعًا شديد الإيجابية، شديد العدوانية. وكان من الطبيعي أن يزداد شمول الحركة الإسلامية ويتسع إطارها، من مجرَّد دعوة تستهدف تقوية الدَّور الذي يلعبه الدين في حياة الأفراد، إلى المناداة بتوجيه المؤسَّسات ذاتها - وليس الأفراد فحسب - في الاتجاه الديني، وإخضاع كافة أنظمة المجتمع لسُلطة الدين. وهكذا اتجهَت شعارات الحركة نحو المزيد من الطموح، فإذا بها تُنادي بصبغ الدولة، سياسيًّا، بالصبغة الإسلامية، وهو هدف يقتضي، بطبيعة الحال، إعادة بناء التشريع على نمط «الشريعة» الإسلامية. وسرعان ما انتقلَت الدعوة إلى الميدان الاقتصادي، فأصبحَت تُنادي بصبغ المؤسَّسات الاقتصادية بالصبغة الإسلامية، وتقرن القول بالفعل، فتُنشئ البنوك أو المصارف الإسلامية، وشركات توظيف الأموال العملاقة، ثم تنتقل بعد ذلك إلى المؤسَّسات الفكرية والثقافية، فتُغرق الأسواق بطوفان من الكتب والنشرات والمجلات، يستهدف صبَّ عقول جيل كامل في قوالبها الخاصة، بل وتفرض رقابتها بالقوة على الأنشطة الفنية، فتمنع إقامة المسرحيات والحفلات الغنائية والراقصة، وتدعو أنصارها - في بعض حالاتها المتطرفة - إلى مقاطعة التليفزيون، وتطالب بالزيِّ الإسلامي في الألعاب الرياضية.. إلخ. اتَّجهَت الحركة الإسلامية المعاصرة إذَن إلى المزيد من التوسع والشمول وصبِّ كافة جوانب الحياة وجميع مؤسَّسات المجتمع في قوالبها الخاصة. وكان من الطبيعي أن يكون لهذا تأثيره الحاسم على مفهوم العلمانية في المرحلة المعاصرة من تاريخنا. فقد أصبحَت العلمانية الآن دفاعيةً قبل كل شيء، بمعنى أنَّها تستهدف مقاومة هذا التيار الجارف، ولا تستهدف بناء مشروعها الخاص، كما كان حال العلمانية في أوائل القرن العشرين. إنَّها الآن علمانية سلبية، تعرف جيدًا ما لا تريد، ولكنَّها لا تتوحَّد حول هدف إيجابي يُحدِّد لها ما تريد. ومع ذلك فالعلمانيون المعاصرون، بكافة فصائلهم وجميع اتجاهاتهم، يريدون أن تستمرَّ تلك التحركات الإصلاحية، ما بين طرف وطرف مضاد، في حركة المجتمع، تلك التحركات التي تؤكِّد حيوية المجتمع وقدرته على تجديد نفسه وتصحيح مساره. غير أنَّهم يريدون، بكل الإصرار، أن يستمرَّ الصراع بين أطراف هذه الحركة «بشريًّا»، أيْ أن يدور بين جماعات لا تزعم واحدة منها أنَّها هي الناطقة بلسان السماء، وتكتسب بذلك لنفسها، على حساب الآخرين جميعًا، مكانةً لا تستحقُّها. ويؤكِّد العلمانيون أنَّ إقحام «السماء» أو الاستعانة بها من أجل تغليب طرف على طرف، يشوِّه جميع القضايا ويُعطِّل حلولها ويضع الصراعات كلها في إطار زائف، تسوده الشكليات ويختفي منه الجوهر، ولا يعود العقل والمنطق والقدرة على الإتيان بالحلول الواقعية الناجحة هو أساس المفاضلة بين تيار وآخر. وواقع الأمر أنَّه، مهما كان المدى الذي يستعين فيه التيار الإسلامي بالنصوص الإلهية المقدسة، فإنَّ هذا التيار يظلُّ بشريًّا، ووجهات نظره هي وجهات نظر آدميين لهم مصالحهم المحدَّدة (وأبسط دليل على هذا، التباين الشاسع بين عدد كبير من الاتجاهات التي يؤكِّد كلٌّ منها أنَّه هو وحده الناطق بلسان الإسلام، لأنَّ صوتهم لو كان إلهيًّا بحقٍّ لَمَا أمكن حدوث أيِّ اختلاف فيه، وقد أثبت التاريخ والواقع بما لا يدع مجالاً للشك كذب وخداع تلك الجماعات الإسلامية للجماهير، بعد توليهم مقاليد الحكم في مصر في عهد الرئيس محمد مرسي، حين فوجيء الناس بأن هؤلاء يعملون على أخونة مؤسسات الدولة، والسعي لمصالحهم الخاصة، ومصلحة الجماعة لا مصلحة الوطن، بالإضافة إلى ما هو أشنع، وهو الخضوع للإدارة الأمريكية، التي كانت تملي تعاليمها على المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وهو بدوره يملي أوامره على الرئيس فيطيع، فخرجت الجماهير تهتف: "يسقط حكم المرشد" بعد أن اكتشفوا زيفهم وخداعهم، وأن أطماعهم وأنانيتهم تعدت الحدود). وكل ما يريده العلمانيون هو أن ينزل كل طرف إلى ساحة الصراع وهو معترف بأنَّه يُمثِّل وجهة نظر بشرية تحتمل الصواب أو الخطأ، وأن يدور هذا الصراع على أساس البقاء للأصلح عقلًا والأكثر إقناعًا والأقدر على الحل، لا على أساس أنَّ «السماء» تنحاز إلى طرف واحد دون الآخرين. إنَّ أهمَّ وأقوى مظاهر عدم التكافؤ في المعركة الدائرة بين الإسلاميين والعلمانيين، هو أنَّ الطرف الإسلامي يستند إلى ذلك التراث الديني العميق المتأصل في النفوس، ويحتمي بالقداسة الدينية ويستمدُّ منها حُجَجَه، ويعمل على حصار الطرف الآخر؛ إذ يصوِّره بصورة الخارج عن هذا التراث أو المتحدِّي له. وهكذا تُتاح للطرف الأول كل الفرص لكي يصول ويجول، على حين يظلُّ سيف التكفير معلَّقًا على رقبة الطرف الثاني، دافعًا إياه إلى فرض القيود على عقله، مهما كانت براءة فكره، وإلى لجم لسانه حتى لو كان هدفه الأوحد خير أُمَّته وصلاح عقول أبنائها. ولهذه النقطة أهمية خاصة في المرحلة التي تشيع فيها المناظرات الكلامية أو المكتوبة بين مُمثِّلي التيار الديني وبين العلمانيين، فيزعم الأولون أنَّهم «انتصروا» في الحوار، مع أنَّهم في واقع الأمر لم يخوضوا المعركة بقُدراتهم الخاصة، ولم يبذلوا فيها جهدًا يُذكر، وإنَّما خاضها لهم التراث المتأصل والتديُّن الراسخ في نفوس الملايين، وتولَّى المواجهة بدلًا منهم، وكل ما فعلوه هو أنَّهم احتمَوا بهذه القلعة الحصينة، وتركوها تدافع عنهم. إنَّ المواجهة هنا أشبه بتلك المعارك التي كنَّا نألفها جميعًا في المراحل المبكرة من أعمارنا، حين يقف أحد الطفلَين على عتبة البيت الكبير الذي يسكنه إخوته وأبواه وأجداده وأعمامه، ويواجه طفلًا غريبًا عن الحي، فيستطيع بصيحة واحدة أن يستنفر عشيرته كلها لنُصرته، على حين يقف الآخر متردِّدًا في استخدام ما يملك من قُدرات، لأنَّ الأرض التي تدور حولها المعركة ليست أرضه … وبعد هذا كله يزعم الأول أنَّه هو المتفوق، وهو الذي انتصر. إنَّ الصراع في مثل هذه الحالة لا يدور بين فكر وفكر، وإنَّما بين فكر متردِّد يضع لنفسه ألف قيد وقيد، وبين «سُلطة» عاتية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يستغلها أحد الطرفَين بلا انقطاع كلما أعوزته الحجَّة العقلية، فيصيح صيحته المعهودة: احذروا الكافر! وربَّما تمكَّن بهذا الأسلوب من السيطرة على الساحة، لأنَّ النبع الذي ينهل منه هو التراث المتأصل في نفوس الملايين، ولكنَّه لا يُحقِّق هذه السيطرة بقُواه الخاصة على الإطلاق، ولا يحارب معركته أصلًا، بل يترك سلاح الإيمان المتأصل يحارب له معركته، ثم يزهو بعد ذلك بانتصاره ويتباهى بتفوقه! ومُجمَل القول أنَّ المعركة بين الإسلاميين والعلمانيين تظلُّ على الدوام معركةً غير متكافئة، على الرغم من الأساطير التي تُقال عن «اضطهاد» الفكر الإسلامي و«فتح الأبواب» أمام الفكر العلماني. إنَّ أيَّ كاتب أُلصقَت به صفة العلمانية يراجع ما يكتبه مرارًا قبل أن ينشره، ويحرص دائمًا على أن ينفي عن نفسه تهمة الكفر، التي أصبح الجهلاء يهدِّدون بها كل مُفكر يسعى إلى إدخال بصيص من النور إلى العقول المظلمة. ولا جدال في أنَّ هناك إرهابًا فكريًّا شاملًا في هذا الميدان، لا تمارسه الحكومات بقدْر ما يمارسه الرأي العام نفسه، وعلى مَن يشكُّ في ذلك أن يُحلِّل مضمون كتابات العلمانيين ونوع الخطاب الذي يستخدمونه من أجل عرض أفكارهم، وسيجد عندئذٍ أنَّ كلَّا منهم يحرص على أن يؤكِّد براءته ويُثبت إخلاصه قبل أن يتفوه بكلمة نقدية واحدة، بل سيجد أنَّ حجج الغالبية الساحقة من العلمانيين ضدَّ تفسيرات الإسلاميين المعاصرين تُستَمَد كلها من داخل الإسلام نفسه، وتُقدَّم في إطار يؤكِّد حرص صاحبها على تأكيد براءته من التهمة التي يعلم مقدمًا أنَّها ستوجَّه إليه.
نقد العلمانية هناك سوء فهم أساسي يتعرَّض له مفهوم العلمانية والاتجاه الفكري العام الذي يوصَف بأنَّه علماني، والذي تُشارك فيه تيارات متعددة تختلف فيما بينها حول أمور كثيرة، وإن كانت تشترك في اقتناعها بأنَّ الصيغة التي يقترحها التيار الإسلامي ليست هي الحل. وقد يكون سوء الفهم هذا مقصودًا أو غير مقصود، ولكن الاستنتاج الذي لا بدَّ أن يصل إليه المرء حين يقرأ كتابات التيارات الإسلامية - مهما اختلفَت اتجاهاتها - عن العلمانية، هو أنَّ الموضوع بأسره مُشوَّه إلى حدٍّ مؤسف في أذهان أصحاب هذه الكتابات. وستكون مهمَّتنا في الجزء الباقي من هذا البحث، محاولة استخلاص مظاهر التشويه وسوء الفهم هذه من خلال تحليل الخطاب الإسلامي المعاصر، ومن خلال التشريح الدقيق للأسباب التي يؤكِّد من أجلها الإسلاميون المعاصرون، وبعض المتعاطفين معهم، أنَّ العلمانية لا مكان لها في أيِّ مجتمع يدين أهله بالإسلام. (1) الانتقادات الخطابية: لا جدال في أنَّ اختيار لفظ «الخطابية» لوصف هذه الانتقادات يُعبِّر عن الاستهانة بها، وينطوي ضمنًا على حُكم عليها بأنَّها لا ترقى إلى مستوى النقد القابل للمناقشة العلمية. وهذا صحيح، ولكنْ لا ينبغي أن يستنتج منه المرء أنَّ هذه الانتقادات أقلُّ تأثيرًا من غيرها، فحقيقة الأمر على عكس ذلك تمامًا. وهذا النوع من الانتقادات هو الأوسع انتشارًا في كتابات الإسلاميين المعاصرين وفي خطاباتهم وفي لغتهم المتداوَلة بوجه عام، والأرجح أنَّ الطابع الخطابي فيها؛ أعني الطابع الذي لا يرتكز على أيِّ أساس يمكن مناقشته علميًّا أو منطقيًّا، وإنَّما يستهدف التشنيع على الرأي المنتقد وإثارة حالة انفعالية ساخطة عليه لدى عامة الناس فحسب، هذا الطابع هو ذاته الذي أدَّى إلى انتشارها الواسع بين جمهرة أنصار التيار الإسلامي؛ ذلك لأنَّ التنشئة العقلية، التي تحرص الجماعات الإسلامية المعاصرة على أن تُربي عليها أنصارها، تقوم على غرس عادات التسليم والإذعان والتصديق فيهم، وعلى استبعاد النزوع إلى التدقيق والبحث والتحرِّي في الأمور قبل إصدار حكم عليها. وترتكز على نوع من «العنعنة» المعاصرة؛ فينقُل «أ» عن «ب»، بعد أن يكون «ب» قد نقل عن «ج»، و«ج» عن «د»، وهلُمَّ جرًّا … على أن تكون حلقات السلسلة كلها من أنصار فكرهم. وهكذا ينتشر الخطأ الأصلي انتشارًا هائلًا لأنَّ أحدًّا لا يكلف نفسه عناء الاستوثاق منه، وسرعان ما يغدو - من فرط تكراره - أشبه بالبديهية التي لا تُناقَش: (أ) العلمانية هي اللادينية: هناك ما يشبه الإجماع بين مُفكري التيار الإسلامي المعاصر على الربط بين العلمانية واللادينية، وهذا في الواقع أقوى أسلحتهم وأشدُّها تأثيرًا في نفوس الأتباع. فعندما يُحدَّد الموقف العلماني بأنَّه مضادٌّ للموقف الديني، تكون القضية كلها قد حُسمَت قبل أن يبدأ أيُّ نقاش. وليس مهمًّا إن كان هذا الحكم مخالفًا للمنطق وللتاريخ، لأنَّ هذه مسائل لا يُكلف أحد نفسه عناء التفكير المدقِّق فيها، وإنَّما المهم تشويه سُمعة العلمانيين بين شباب يفتقر إلى الوعي والثقافة والنضج والقدرة على التساؤل، والتلاعب بعقولهم من أجل كسب الأنصار بأرخص الأساليب. ولنتأمل مجموعة نموذجية من التعريفات التي يُقدِّمها الإسلاميون المعاصرون للعلمانية، كيما نستخلص منها الاستنتاجات اللازمة. أولًا: في كتابه "العلمانية" يُعرِّف الشيخ محمد مهدي شمس الدين العلمانية بأنَّها «النهج الحياتي الذي يستبعد أيَّ تأثير أو توجيه ديني على تنظيم المجتمع، والعلاقات الإنسانية داخل المجتمع، والقِيَم التي تحتويها تلك العلاقات وترتكز عليها، ومن ثَم فهو نهج حياتي مادي تكوَّن نتيجة لنمو الفلسفات المادية اللادينية.». فلنتأمَّل بعض ما في هذا التعريف، الذي يبدو في ظاهره بريئًا، من مغالطات: (أ) يُحدِّد التعريف في بدايته نهج العلمانية بأنَّه يستبعد تأثير الدين في «تنظيم المجتمع»، وهو موضوع سياسي، وربما لا يعترض عليه العلمانيون أنفسهم، لأنَّهم يدعون بالفعل إلى الفصل بين الدين والتنظيم السياسي للمجتمع. ولكن التعريف ينتقل من هذا الموضوع السياسي إلى موضوع اجتماعي وأخلاقي، فيذهب إلى أنَّ العلمانية تستبعد الدين من ميدان «العلاقات الإنسانية داخل المجتمع، والقيم التي تحتويها تلك العلاقات …» وهنا تَكْمُن المغالطة؛ فعلى سبيل المثال نجد العلماني المتحمِّس، في المجتمعات الإسلامية أو المجتمعات الغربية المسيحية، يرفض توجيه التنظيم السياسي للمجتمع توجيهًا يرتكز على سُلطة الدين، ولكنَّه في الوقت ذاته يتزوج بوثيقة شرعية إسلامية، أو يعقد زواجه في الكنيسة إن كان مسيحيًّا، ويستشهد بالقِيَم والمبادئ الدينية ويُطبِّقها في الكثير من جوانب سلوكه الاجتماعي والشخصي، دون أن يكون في ذلك أيُّ خروج عن «علمانيته». (ب) والمغالطة الثانية تَكْمُن في التلاعب بلفظ «اللادينية»، فالكلمة يمكن أن تعني الخارج عن نطاق الدين، ويمكن أن تعني المضاد للدين أو الرافض للدين. ولا شكَّ أنَّ العلمانية، إذا جاز أن توصَف بأنَّها «لا دينية»، فإنَّها لا تكون كذلك إلَّا بالمعنى الأول، لأنَّ كل ما ترمي إليه هو إبعاد الدين عن ميدان التنظيم السياسي للمجتمع، والإبقاء على هذا الميدان بشريًّا بحتًا، تتصارع فيه برامج البشر ومصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، دون أن يكون لفئة منهم الحقُّ في الزعم بأنَّها تُمثِّل «وجهة نظر السماء». أمَّا المعنى الثاني، أعني رفض الدين، فليس من صميم العلمانية في شيء. صحيح أنَّ بعض العلمانيين رافضون للدين، ولكنْ من المؤكَّد أيضًا أنَّ كثيرين من العلمانيين متدينون، وأنَّ كثيرين من المتدينين علمانيون، لأنَّ الدين يظلُّ محتفظًا بقداسته في كلتا الحالتين، ولكنَّه يُنزَّه عن التدخل في الممارسات السياسية المتقلبة، مع تنظيمه لجوانب هامة في حياة الإنسان، كالجانب الروحي والأخلاقي. (جـ) أمَّا المغالطة الثالثة في هذا التعريف فهي إقحام كلمة «مادي» في الموضوع، حين يُقال إنَّ العلمانية «نهج حياتي مادي تكوَّن نتيجةً لنمو الفلسفات المادية اللادينية». وتكاد كتابات الإسلاميين المعاصرين كلها تتفق على استخدام لفظ «المادية» مرتبطًا بالعلمانية، وهو استخدام ينمُّ عن افتقار كامل إلى الدقة الفكرية، وأغلب الظنِّ أنَّه مغالطة متعمَّدة، هدفها الربط بين العلمانية وبين المعاني المستهجَنة التي ينطوي عليها لفظ «المادية» في أذهان الناس. وهو ربط يؤدِّي دَورًا عظيم الأهمية على المستوى النفسي، لأنَّه يحشد طاقةً هائلةً من السخط والكراهية اللاشعورية تنصبُّ كلها على العلمانية والعلمانيين. يبدو أنَّ مُفكري التيار الإسلامي المعاصر يعتقدون أنَّ كل فكر لا ينبع من مصدر ديني لا بدَّ أن يكون ماديًّا، بدليل أنَّ شيخنا الذي اقتبسنا منه التعريف السابق يصف مناهج العلم المنضبطة الدقيقة بأنَّها «مادية»، جعلَت الإنسان «غريزة» بلا روح ولا عقل ولا إرادة ولا طموح (ص٧٨)، وأحالته إلى «كتلة منفعلة بمحيطه» (ص٧٩). ويُلخِّص الموقف بقوله: «هذه الفلسفة، والمعارف الإنسانية التي تأثرت بنظرتها المادية الخالصة إلى الإنسان.. ترجمَت نفسها في مرحلة التطبيق السياسي والمجتمعي إلى ما يُسمَّى بالعلمانية … هذه الفلسفة المادية الخالصة … بمنهجها الذي يُقزِّم الإنسان ويختصره في كتلة من المادة الشديدة التعقيد» (ص٨٠). ولو تأمَّلنا التاريخ الحديث لأوروبا، التي كانت مهد العلمانية، والتي يقول الجميع إنَّها هي التي صدَّرَتها إلينا، لوجدنا أنَّ تياراتها الفكرية والفلسفية كانت تنقسم إلى تيارين متضادين؛ هما المادية والمثالية، بل إنَّ التيار المثالي كان أقوى وأوسع نطاقًا بكثير من التيار المادي، ومع ذلك فقد كان «الجميع» علمانيين. فديكارت، أبو المثالية الأوروبية الحديثة، وكانت، صاحب المثالية النقدية، وهيجل، أكبر المثاليين في التاريخ، وغيرهم وغيرهم من الفلاسفة والأدباء والمُفكرين المغرقين في المثالية، كل هؤلاء كانوا علمانيين رافضين بصورة قاطعة تدخُّل الكنيسة أو الدين بوجه عام في التنظيم السياسي أو الاجتماعي للدولة، ولكنَّهم كانوا في الوقت ذاته خصومًا ألدَّاء للمادية. وعلى ذلك، فإذا كان صحيحًا أنَّ بين العلمانيين بعض أصحاب المذاهب المادية، فإنَّ المادية لا ترتبط بالعلمانية ارتباطًا ضروريًّا على الإطلاق. فهل يمكن الحكم على تاريخ أوروبا الحديث، الذي كان كله علمانيًّا، بأنَّه كان كله ماديًّا أيضًا، على الرغم من كل مَن ظهر فيها من شعراء وفنانين ومُفكرين روحيين وفلاسفة مثاليين خاضوا معارك قاسية ضدَّ المادية؟ هكذا تُختزل الحضارة الأوروبية الحديثة كلها، حضارة شيكسبير وجوته وباخ وبيتهوفن ورمبرانت وميكل أنجلو وأينشتين، إلى مادية ميكانيكية تلغي كل ما هو روحي أو راقٍ أو رفيع في الإنسان، وكأنَّ هؤلاء جميعًا لم تكُن لهم في حياتهم من رسالة سوى تأكيد غريزية الإنسان وبَهيميَّته. ومع ذلك، فحتى العلم نفسه لا يُوصف بأنَّه مادي إلَّا من منظور ضيق يتغافل عن أهمِّ جوانبه. فالكشف العلمي عملية روحية من الطراز الأول. ومن المستحيل أن يُوصف العالِم الذي يُفني عمره في سبيل استجلاء نقطة غامضة مُعيَّنة، وإعلاء شأن العقل البشري وتوسيع سلطانه، ويمارس خلال عمله العلمي أقصى درجات ضبط النفس والتحكم في الإرادة، من المستحيل أن يُوصف بأنَّه يستهدف اختزال الإنسان إلى «غريزة»، بلا روح ولا عقل ولا إرادة. وإذا كان العلم يُمارَس على عالم المادة (وهذا لا ينطبق على جميع العلوم)، فإنَّ الهدف منه قهر عالم المادة والتغلب عليه والسيطرة عليه من خلال إدراك قوانينه. ثانيًا: ولنتأمَّل حالةً أخرى للمغالطات التي يُقدِّمها مُفكرو الصحوة الإسلامية عن العلمانية، ونُخضِعها للتحليل: يُعرِّف أنور الجندي العلمانية في مدخل كتاب «سقوط العلمانية» فيقول: «لفظ «علمانية» هو ترجمة للكلمة اللاتينية Secular، ومعناها في اللغات الأوروبية: لا ديني» (ص٧). (ويُلاحَظ أولًا أنَّ كلمة Secular ليست لاتينية، بل هي إنجليزية مشتقَّة من أصل لاتيني، كما أنَّ الكلمة لا تعني «لاديني» على الإطلاق، وإنما تعني «زمني».) وهكذا يبدأ مُفكرنا كتابه الكبير بتشويه أساسي يجرُّ وراءه بالطبع تشويهات أفدح منه، فهو يقول على سبيل المثال: «العلمانية لم تكُن قاصرةً [هكذا!] على أنَّها دعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وإنَّما ذلك في تقدير أصحاب الدعوة هي [هكذا!] المرحلة الأولى، التي تُهيئ الفكر والمجتمع جميعًا لخطوة حاسمة في علمنة الذات العربية نفسها على أساس أن تُسقِط نهائيًا وإلى الأبد كل ما يتصل بفكرها وتراثها ودينها وقيمها القديمة كلها، وأن تعتنق المنهج العلمي …» (ص١٠). هنا نجد سلسلةً أخرى من المغالطات، أهمُّها الادِّعاء بأنَّ العلمانيين يستهدفون إسقاط الفكر والدين والتراث والقِيَم القديمة كلها، وهو ادِّعاء يُكذِّبه مجرَّد استذكار أسماء بعض كبار العلمانيين، مثل طه حسين والعقاد والمازني وهيكل باشا، ممَّن كانوا باحثين أُصَلاء في التراث ومدافعين أشدَّاء عن أصالة الذات العربية. والمغالطة الأخرى الفادحة هي وضع المنهج العلمي في تضادٍّ وخصومة مع التراث والدين والقِيَم القديمة، وكأنَّ المرء إذا أخذ بالأول ينبغي عليه أن يتخلَّى عن الأخريات، وإذا كان حريصًا على تراثه ودينه فلزامٌ عليه أن يُدير ظهره للمنهج العلمي … وهي مغالطة لا يردُّ عليها العلمانيون وحدهم، بل يردُّ عليها الإسلاميون أنفسهم، حين يؤكدون - عن حقٍّ - أنَّ تراثنا الإسلامي الأصيل حافل بنماذج العلماء الذين اتَّبعوا منهجًا علميًّا كان رائدًا في دقته وانضباطه. ثالثًا: وفي كتابه "ورقة ثقافية في الرد على العلمانيين" يتوسَّع الدكتور محمد يحيى في الحديث عن العلمانية بوصفها مرادفةً للادينية، فيؤكِّد أنَّ الاتجاه العام للتعليم والثقافة في بلادنا كان علمانيًّا رافضًا للدين، قائلًا: «كانت الجامعات والمدارس السائرة في ركاب المذاهب الغربية هي أول مَن بشَّر باللادينية في الميدان التعليمي بفصل الدين عن المناهج … ودراسته كمجرَّد ظاهرة بشرية وضعية … وفي مجالات الفنون والآداب، جاءت اللادينية مع الأنماط والنماذج الغربية كالرواية الواقعية والمسرح والشعر الحديث والباليه والسينما، وذلك من خلال مضامين ورؤًى وضعية بحتة لا تُفسح أيَّ مجال لتصوُّر ديني، ومع هذه المنقولات والتأثيرات سرت اللادينية إلى جسد المجتمع ككل.». هكذا أصبح تعليمنا كله «لادينيًّا»، لماذا؟ لأنَّه «فصل الدين عن المناهج». لعلَّ ما يعنيه بفصل الدين عن المناهج، هو أنَّنا لم نعد ندرس في معاهدنا الكيمياء الإسلامية أو علم الفَلَك الإسلامي أو الجيولوجيا الإسلامية، ولم نُطبِّق الدعوة إلى «أَسلَمَة العلوم»، وهي دعوة تتردَّد بقوة في كثير من الأوساط الإسلامية المعاصرة، بدليل ذلك الرواج الهائل الذي يلقاه «الطب الإسلامي» في هذه الأيام. ولو صحَّ هذا التفسير، أو هذا «الاجتهاد»، لَمَا كانت لديَّ من إجابة على هذه الدعوة سوى الإشارة إلى الحقيقة البسيطة التي تقول إنَّ العلم ينبغي أن يُلتمَس حيث يحرز أعظم تقدُّم له، ولا أظنُّ أن أعظم تقدُّم وصل إليه العلم المعاصر كان في العالم الإسلامي! وأخيرًا، فإنَّ النَّص الذي اقتبسناه لكاتبنا ينطوي على هدم لجميع الفنون التي تصقل روح الإنسان الحديث وتهذِّبها، إذ يدمغها كلها بأنَّها «لادينية»، ويطالبنا بالاستغناء عن الرواية الواقعية (يقصد نجيب محفوظ طبعًا، الذي أحلَّ دمه في الآونة الأخيرة واحد من أمراء الدعوة الإسلامية المشهورين)، وعن المسرح والشعر الحديث والباليه والسينما، لأنَّها تعمل على «سريان اللادينية في جسد المجتمع ككل». ويبدو أنَّ جواز المرور لأيِّ عمل فني هو أن يكون قائمًا على «تصوُّر ديني»، ولمَّا كان من المستحيل تصوُّر «باليه إسلامي» مثلًا، فلا بدَّ من إلغاء مثل هذه الفنون أو صبغ ما يمكن صبغُه منها بالطابع الديني، حتى تصبح فنونًا مشروعة، أو فنونًا شرعية. وفي ضوء هذا الرأي، الذي يقول به واحد من الإسلاميين، لم يُعرف عنه أنَّه من المتطرفين، تكون إحدى جرائم العلمانية سعيها وراء هذا القبس من النور، الذي تُضفيه الفنون والآداب على حياة الإنسان، ولا سيَّما حين ترتكز هذه الفنون والآداب على رؤية بشرية. وهكذا تمتدُّ الدعوة، من مجال الشريعة التي ينبغي أن تحلَّ محلَّ أيِّ قانون يضعه البشر، إلى مجال العلوم التي ينبغي استبعادُها لو ابتعدَت عن الإطار الإسلامي، وأخيرًا إلى مجال الآداب والفنون، التي ينبغي إدانتُها وتحريمُها ما دامت ترتكز على موضوعات بشرية «وضعية». ومُجمَل القول أنَّ كل ما يضيء روح الإنسان وعقله يصبح مدانًا لأنَّه علماني، وما دام علمانيًّا فهو «لاديني». (ب) العلمانية بوصفها مؤامرة في الفكر النظري والأيديولوجي الرائج بين التيارات الإسلامية المعاصرة، ينتشر التفسير التآمري للظواهر التاريخية والثقافية، بل والعلمية في أحيان كثيرة، على أوسع نطاق، فوراء كل ظاهرة تسعى تلك التيارات إلى محاربتها، مؤامرة صليبية أو استعمارية أو يهودية صهيونية أو ماسونية أو استشراقية، وهذه الجهات كلها، في نظرهم، مُتربِّصة بالإسلام، تتحيَّن الفرص للإيقاع به، بل إنَّ كتاباتهم لتوحي في أحيان غير قليلة بأنَّ المنتمين إلى هذه الجهات جميعًا ليس لهم شاغل يشغلهم سوى الإسلام والمسلمين، وأنَّ جهدهم ومالهم وطاقتهم وفكرهم موجَّهة كلها إلى عقد مؤتمرات وتخطيط مؤامرات للحدِّ من الخطر الإسلامي الماحق، ولتصفية حساباتهم مع ذلك العدو القديم. والمنطق الذي تُبرَّر به هذه النظرة التآمرية هو أنَّ الإسلام قهر أعظم ممالك الغرب، بدءًا من إمبراطورية الروم حتى أكبر الدول الصليبية، عندما كان في أوج قوَّته. وما زالت ذكرى هذا النصر الإسلامي العظيم عالقةً في أذهان الغرب، تُمثِّل خطرًا يمكن أن يتجدَّد في أيَّة لحظة. ومن هنا يبذل الغرب جهدًا جهيدًا كيما يحُول دون عودة تجمُّع القوة الإسلامية مرةً أخرى، وحتى لا يُعرِّض نفسه لخطر آخر. ومع مثل هذا المنطق لن يكون من المُجدي أن تشير إلى الفارق الهائل بين عوامل انتصار أمَّة على أمَّة في العصور الوسطى وبين نظائرها في العالم المعاصر، وأن توضح أنَّ هذا الانتصار لا يتحقَّق الآن إلَّا في ظلِّ عوامل شديدة التعقيد، تُحشد فيها القُوى العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعقائدية للمجتمع، وكلها أمور يتخلَّف فيها العالم الإسلامي تخلُّفًا شديدًا، بحيث يستحيل أن يشكِّل «خطرًا» حقيقيًّا على الغرب كما كان يفعل في القرون الأولى من الإسلام. ولن يكون من المُجدي أن تردَّ على أصحاب هذا المنطق بأنَّ ما يُبديه الغرب من اهتمام في الوقت الراهن لا يرجع إلَّا إلى الرغبة في استكمال السيطرة على العالم الإسلامي، الذي يتمتَّع كثير من أجزائه بثروات هائلة ومواقع استراتيجية حاسمة. هذه الردود كلها لن تُجدي معهم، لأنَّ أسطورة العصر الذهبي للإسلام، الذي يمكن أن يُبعث حيًّا في «صحوة» مفاجئة، ويعود بكل ما كان له من سلطان وتفوُّق وسيطرة على سائر دول العالم؛ هذه الأسطورة تحتلُّ في أذهان الإسلاميين المعاصرين مكانةً يستحيل أن يزحزحها أيُّ منطق متماسك أو أيَّة حقيقة صلبة من حقائق العصر. هذه النظرة التآمرية تتجلَّى، بصورة مباشرة، في موقف الإسلاميين المعاصرين من العلمانية، فهناك ما يُشبه الإجماع بينهم على أنَّ العلمانية مؤامرة على الإسلام، وأنَّ لهذه المؤامرة مصدرًا أجنبيًّا، وأنَّ دُعاة العلمانية في العالم الإسلامي إمَّا مشاركون بوعي في هذه المؤامرة، وإمَّا أدوات ساذجة في أيدي القُوى الأجنبية التي تتآمر على الإسلام. ولنتأمَّل بعض النماذج لهذه النظرة التآمرية إلى العلمانية: يقول أنور الجندي: «إنَّ الدعوة العلمانية هي نتاج يهودي تلمودي أصيل كان له أبعد الأثر في الفكر الغربي»٤ وهو يربط بصورة قاطعة بين العلمانية وبين الماسونية ومخططات التلمود والثورة الفرنسية وعصر التنوير، وكلها اتجاهات تستهدف «إخراج اليهود من الجيتو، والحصول على حقِّ المواطَنة، كمقدمة للوثوب إلى الحياة الفكرية والاجتماعية والسيطرة عليها».٥ وتظلُّ هذه النظرة التآمرية سائدةً في كتاب أنور الجندي من بدايته إلى نهايته، ويظلُّ مركز المؤامرة هو ذلك الأخطبوط الكوني الذي تنبع منه كل شرور العالم، والذي يُعبِّر عنه بمفاهيم غامضة، كالتلمودية والماسونية، وهي مفاهيم لا دَور لها سوى إحداث نوع من الرعب أو النفور في أذهان الشباب، يمتدُّ بالضرورة إلى كل ما يترتب على هذه المؤامرة العالمية من نتائج، وعلى رأسها العلمانية بالطبع. وربما أبدى أصحاب العقول المتواضعة من أمثالنا دهشتهم من القول بوجود هدف مشترك يجمع بين التلمودية وبين عصر التنوير، مع أنَّ هذا الأخير لم يكُن له من هدف سوى تحرير العقول من الخزعبلات التي كانت تُعشِّش فيها بفضل معتقدات غيبية على رأسها التلمودية، وربما أبدى أصحاب العقول المتواضعة هؤلاء مزيدًا من الاستغراب حين يجدون مُفكرًا واسع الانتشار، يقرأ له عشرات الألوف من الشباب بتبجيل وخشوع، لا يرى في الثورة الفرنسية وعصر التنوير سوى أنَّهما أعطيَا مزيدًا من الحقوق لليهود، ويغيب عن ناظريه تمامًا كل ما كان لعصر التنوير من أثر علمي وثقافي واجتماعي، شكَّل منعطفًا حاسمًا في تحرير العقل البشري من الوهم والخرافة، ومهَّد الطريق لانطلاقته الجبَّارة في القرنين التاليين، كما يغيب عن ناظريه ذلك التأثير الهائل للثورة الفرنسية - مهما كانت سلبياتُها - على تحرُّر الإنسان سياسيًّا واجتماعيًّا، وحلول طبقة أكثر استنارةً محلَّ طبقة النبلاء الإقطاعيين التي كانت مسيطرةً حتى ذلك الحين، وتمهيد الطريق أمام الشعوب المغلوبة على أمرها لكي تنال حريتها بيديها بدلًا من أن تنتظر ما يجود به عليها الحكام المستبدون. كل هذه أمور لا قيمة لها في نظر كاتبنا، وكل ما يعنيه هو أنَّ عصر التنوير والثورة الفرنسية قدَّما إلى اليهود بعض الحقوق، ومن ثَم فهما جزء من المؤامرة الكونية اليهودية الماسونية التي تحكَّمَت وما زالت تتحكم في مصائر البشر في كافة أرجاء هذا العالم الفسيح. ويقول د. محمد يحيى: «الفكرة العلمانية إذَن هي بنت تلك الخطة الواسعة التي أسميناها بالتغريب والاستعمار الثقافي، وهي إحدى دعائم هذه الخطة، وتهدف من خلال الهجوم على الدين وفصله عن شتَّى نواحي الحياة والمجتمع، إلى إحداث فراغ عقائدي وفكري تملؤه بعد ذلك فلسفات ونظريات الغرب … بل وتشغله بعد ذلك عقيدة الغرب نفسها، وهي المسيحية. فلا عجب في أن تكون العلمانية هي الذراع الأول للتبشير الصليبي.». هنا تتكرَّر السمات التي لاحظناها من قبل بشأن التفسير التآمري للعلمانية، ولكن شكل المؤامرة يختلف؛ فهنا تهدف المؤامرة، من خلال الهجوم على الإسلام، إلى إحداث فراغ عقائدي يُمهِّد الطريق لحلول المسيحية محلَّ الإسلام، وهذا هو هدف «تلك الخطة الواسعة التي أسميناها بالتغريب والاستعمار الثقافي». ولنحاول الآن أن نُخضِع هذا النَّص لشيء من التحليل المنطقي. (١) الملاحظة الأولى هي أن زميلًا للكاتب، ينتمي إلى التيار نفسه، بل هو قطعًا أعلى منه مرتبةً وأرسخ قدمًا في هذا التيار، وهو أنور الجندي، قد وصف المؤامرة العلمانية بأنَّها يهودية تلمودية، ودافع عن هذه الفكرة طوال كتابه، على حين أنَّ كاتبنا الحالي يصفها بأنَّها تبشيرية صليبية تستهدف إحلال المسيحية محلَّ الإسلام. فأيُّ التفسيرين نصدِّق؟ ألا ينبغي على مفكِّري التيار الإسلامي أن يتفاهموا فيما بينهم، لكي نستقرَّ على رأي حول مصدر هذه المؤامرة العلمانية الخطيرة، وهل هي يهودية التلمود أم مسيحية التبشير؟ (٢) والملاحظة الثانية هي أنَّ الكاتب نفسه قد دأب طوال كتابه، على تسمية العلمانية ﺑ «اللادينية»، بل إنَّه في الصفحة نفسها التي اقتبسنا منها النَّص السابق يرى أنَّ هذه التسمية هي التعبير الأفضل عن معنى العلمانية. فإذا كان يؤمن بأن العلمانية مرادفة للادينية، فكيف يقول إنَّ هدف المؤامرة العلمانية إحلال دين محلَّ دين؟ (٣) وإذا تركنا المنطق الواضح جانبًا، واستشهدنا بالواقع الحالي والسوابق التاريخية الماضية، فكيف يمكن أن تكون العلمانية ذراعًا للتبشير الصليبي؟ لقد ظهرَت العلمانية في أوروبا، كما يعترف الجميع، وضمنهم الكاتب نفسه، كردِّ فعل على طغيان الكنيسة ووقوفها في وجه التطور الاجتماعي والعلمي في الغرب. فهل ترضى الكنيسة، التي هي بغير شكٍّ راعية التبشير، بأن تستعين في مهمَّتها هذه بذراع تسعى إلى هدمها؟ إنَّ الهدف من اختيار هذه الأمثلة وإخضاعها للتحليل ليس نقدها في ذاتها، أو نقد أصحابها، وإنَّما هو نقد ذلك النمط الفكري الذي ينتشر على أوسع نطاق بين الإسلاميين المعاصرين. ولا شكَّ في أنَّ التهافُت المنطقي والعلمي لهذا النمط الفكري يدلُّ على أنَّ كُتَّاب التيارات الإسلامية المعاصرة لا يكتبون لجمهور لديه الحدُّ الأدنى من الحسِّ النقدي، ومن الثقافة العامة التي تسمح له بكشف مغالطاتهم، فهذا المستوى الهابط في الخطاب الإسلامي المعاصر يفترض جمهورًا مُطيعًا، مُصدِّقًا لكل ما يُقال له، لا يقرأ سوى كُتب التيار الإسلامي نفسه، ولا يفكر لحظةً واحدةً في أنَّ ما يقرؤه من هذه الكتب يحتاج إلى مراجعة أو نقد.
(2) الانتقادات العلمية لا ترتكز جميع الانتقادات الموجَّهة إلى العلمانية على أُسس خطابية ودعائية كتلك التي ناقشناها في الجزء السابق من بحثنا، بل إنَّ هناك فئةً أخرى من الانتقادات تلجأ إلى حُجَج يمكن أن تُوصف بأنَّها علمية وتاريخية، بمعنى أنَّها تُعبِّر عن وجهة نظر تتضمَّن حدًّا أدنى من التماسك والاتساق، وتستدعي مناقشةً عقليةً وعلميةً تكشف عمَّا فيها من أوجه الصواب والخطأ. والمحور الذي تدور حوله جميع الانتقادات العلمية الموجَّهة إلى العلمانية هو الربط بينها وبين ظروف المجتمع الأوروبي في مرحلة مُعيَّنة من تاريخه، ومن هنا فإنَّ مناقشة هذه المسألة من جميع أوجهها هي، في رأينا، ذات أهمية حاسمة بالنسبة إلى هذا الموضوع بأَسره.
هل العلمانية ضرورة أوروبية فحسب؟ يؤكد نُقَّاد العلمانية أنَّها اتجاه في الفكر ظهر في المجتمع الأوروبي تعبيرًا عن ضرورة تاريخية مرتبطة أوثق الارتباط بالظروف الخاصة التي مرَّت بها أوروبا في مرحلة انتقالها من العصور الوسطى إلى العصر الحديث. ولكن هذه الضرورة التاريخية لا تسري إلَّا على مجتمعها وحده، أمَّا المجتمعات الأخرى التي لم تمر بظروف مماثلة لظروف أوروبا، فليست - على الإطلاق - مُلزَمةً باعتناق العلمانية، بل إنَّها لو اعتنقَتها، لكانت في ذلك مُحاكيةً لأوروبا بطريقة ببغائية تنمُّ عن انعدام الشخصية واختفاء الإحساس بالكرامة. هذا التمييز بين ظروف أوروبا عند ظهور العلمانية في عصر النهضة وظروف العالم الإسلامي المعاصر، يرتكز على تحليل تاريخي لأوضاع المجتمعين في هذين العصرين، ففي عصر النهضة كانت أوروبا تكافح من أجل التخلُّص من ذلك الجمود الفكري والعلمي الذي اتَّسمَت به حياتها في العصور الوسطى. وكانت العقبة الكبرى التي تحُول دون انتقال أوروبا إلى صميم العصر الحديث هي الكنيسة؛ فقد كانت الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا هيئةً قائمةً بذاتها، ذات نفوذ واسع وسُلطة طاغية، وكان لها كيانها الرسمي وترتيبها الهرمي الخاص، وكانت تعطي نفسها حقَّ التدخُّل في أمور الدنيا إلى جانب أمور الدين. وهكذا فإنَّ الفلاسفة والأدباء الجُدد اضطروا إلى مواجهة سُلطة الكنيسة بوصفها العقبة الكأداء في وجه التقدم. غير أنَّ أشدَّ الفئات معاناةً من تدخُّل الكنيسة وسعيها إلى الهيمنة الشاملة كانت فئة العلماء. وهكذا كان تقدُّم أوروبا رهنًا بالوقوف ضدَّ هيمنة الكنيسة، وكان الحدُّ من سُلطة رجال الدين شرطًا أساسيًّا لنهضة الفكر والعلم والفن في أوروبا. وتمضي الحُجَّة الشائعة في تفنيد العلمانية فتقول إنَّ العلمانية كانت، بهذا المعنى، ضرورةً أساسيةً من ضرورات التقدم في المجتمع الأوروبي. غير أنَّ العالم الإسلامي لم يشهد شيئًا من تلك الأوضاع التي جعلَت العلمانية ضرورةً محتومةً في أوروبا. فالإسلام لم يعرف هيئةً توازي الهيئة الكنسية الرسمية، ولا يعرف منصبًا رسميًّا يحتلُّ قمة الهرم الديني كمنصب البابا، ولا أتباعًا من رجال الدين تتدرج مراتبهم في هرم مُحدَّد المعالم. ولم يعرف الإسلام - هكذا تقول الحُجَّة - اضطهادًا للعلماء، ولم يشهد محاولاتٍ لعرقلة البحث العلمي. ومن ثَم فإنَّ الأسباب التي جعلَت العلمانية مرحلةً ضروريةً في التاريخ الأوروبي، لا وجود لها في التاريخ الإسلامي السابق أو المعاصر، وعندئذٍ تصبح الدعوة إلى العلمانية في العالم الإسلامي المعاصر محاكاةً للغرب على غير أساس، ويمكن الحكمُ على أصحابها بأنَّهم منبهرون بالغرب دون أن يتعمَّقوا فهم طبيعة مجتمعهم. هذه، بقدْر كبير من الإيجاز، هي الخطوط الرئيسية لتلك الحُجَّة التي تفنِّد الدعوة العلمانية في العالم الإسلامي المعاصر باعتبارها دعوةً مستورَدة غريبة عن روح مجتمعنا وجوهره الأصيل. ومع ذلك، فإنَّ هذه الحُجَّة، التي تبدو في نظر هؤلاء جميعًا غير قابلة للتفنيد، هي في رأيي حُجَّة باطلة في مجملها وفي جميع تفاصيلها. وسأحاول فيما يلي أن أبرهن على صحة ما أقول. 1- الإسلام والمؤسَّسة الدينية: أول عناصر المقارنة بين الأوضاع التي حتَّمَت ظهور العلمانية في أوروبا المسيحية، وبين أوضاع العالم الإسلامي، هو أنَّ أوروبا كانت طوال العصور الوسطى خاضعةً لمؤسَّسة دينية رسمية هرمية البنية ذات هيمنة هائلة على المجتمعات الأوروبية، على حين أنَّ الإسلام لم يعرف مثل هذه المؤسَّسة الدينية، ولا توجَد فيه هيئة تقوم بدَور الوساطة بين الإنسان وخالقه، فهو لا يعرف رجالًا للدين بالمعنى السائد في الغرب، وإنَّما يعرف «علماء دين» فحسب، ليست لهم أيَّة سُلطة تتعدَّى نطاق اجتهادهم الخاص في أمور الدين. وبطبيعة الحال فإنَّ المقارنة التفصيلية مستحيلة، وخاصةً إذا أُجريَت بين ظروف أوروبا عند نهاية العصور الوسطى وظروف العالم الإسلامي الحالية. فإلى جانب القرون الأربعة التي تفصل بين الفترتَين - وهي القرون الأربعة ذاتها التي شهدَت تطوراتٍ حضاريةً تفوق ما عرفَته البشرية منذ بداية تاريخها - هناك الاختلاف الهائل بين الأُسس التي قام عليها كلٌّ من المجتمعَين. ومن هنا فمن المتوقَّع، ومن الطبيعي، أن نجد اختلافًا واضحًا بين وضع القائمين على أمور الدين في كلا المجتمعَين. غير أنَّ القول بأنَّ الإسلام لا يعرف، ولم يعرف، مؤسَّسة دينية على الإطلاق، هو قول ينطوي على قدْر غير قليل من الإسراف. ربما لم يعرف الإسلام مؤسَّسةً دينيةً مماثلةً للمؤسَّسة البابوية الكاثوليكية. وهذا كما قُلنا أمر طبيعي، ولكنَّه كان ولا يزال يضمُّ سُلطةً دينيةً قويةً مسموعة الكلمة مرهوبة الجانب، يرعى شئونها ويسهر على حمايتها رجال متخصِّصون في أمور الدين، ولها في كثير من الأحيان سُلطة على الأجهزة التنفيذية في الدولة. فالأزهر، على سبيل المثال، مؤسَّسة دينية، يحتلُّ قمَّتها شيخ الأزهر، الذي كان - قبل أن يخضع منصبه لمطالب السُّلطة السياسية في العقود الأخيرة - أكبر الشخصيات الدينية التي تتمتع بتبجيل وتوقير في كافة أرجاء العالم الإسلامي. وهيئة الإفتاء، وعلى رأسها مُفتي الديار، وكذلك هيئة كبار العلماء، تُمثِّل بدَورها سُلطةً دينيةً لا جدال فيها، يُطلب رأيها في الأمور الهامة، ولا تُنفَّذ أحكام الإعدام إلَّا بعد تصديقها عليها، ولا يمرُّ أيُّ تعديل في قوانين هامة - مثل قانون الأحوال الشخصية - إلَّا إذا أقرَّته. وفي المذهب الشيعي المُعاصر، يتمثَّل هذا الوضع بصورة أوضح، حيث يظهر الترتيب الهرمي على نحوٍ لا تُخطئه العين، بادئًا من الملا، ومارًا بحُجَّة الإسلام، ومنتهيًا إلى آية الله وآية الله العظمى. ومنذ الثورة الإيرانية أصبح لهذا الترتيب الهرمي سُلطة، في إدارة كافة شئون الحكم، ربما فاقت سُلطة البابوات في العصور الوسطى. وطوال التاريخ الإسلامي كانت هذه السُّلطة الدينية قائمة، وكانت أحيانًا تستخدم مكانتها وهيبتها من أجل الدفاع عن مبادئ الدين الأصيلة، فيؤدِّي ذلك إلى مصادمات قد تكون حاميةً مع الحكام من خلفاء وسلاطين وأمراء، وأحيانًا أخرى تضع نفسها في خدمة الحاكم وتُصدر له من الأحكام والفتاوى ما يُقدِّم سندًا شرعيًّا لتصرفاته، حتى لو كانت جائرةً أو طائشة، وامتدَّ ذلك حتى اللحظة الراهنة من تاريخنا؛ حين أصبحَت الكتب والمنشورات تُعرض على هيئة دينية منبثقة عن الأزهر، تملك حقَّ مصادرة أيِّ نتاج فكري أو أدبي أو علمي يتعارض مع تفسيرها الخاص للدين. إنَّ الكُتَّاب المعاصرين الناقدين للعلمانية على أساس أنَّها مرتبطة بظروف أوروبا الخاصة وحدها، لا يملُّون من تأكيد التميز بين وضع المسيحية في العالم الغربي، الذي كان منقسمًا إلى سُلطة زمنية وسُلطة روحية، ووضع الإسلام الذي لا يعرف تمييزًا كهذا، والذي يوحِّد بين ما هو زمني (أي الدنيا) وما هو روحي (أي الدين). ولكن الأمر الذي يغفله هؤلاء هو أنَّ كاثوليكية العصور الوسطى في أوروبا كانت بدَورها شاملةً للزمني والروحي، تسعى إلى حُكم هذا العالم والعالم الآخر معًا، بل إنَّ اسم الكاثوليكية، لغويًّا، يُعبِّر عن معنى الشمول الذي لا يخرج عن نطاقه شيء. ولم يحدث الانقسام المنسوب إلى الحضارة الأوروبية إلَّا بعد نضال طويل، ظلَّت خلاله السُّلطة البابوية تُحاول بقدْر استطاعتها أن تتحكَّم في الدنيا بقدْر ما تتحكم في الدين. ومعنى ذلك أنَّ فكرة شمول الدين لأمور الدنيا ليست شيئًا يختصُّ به الإسلام، كما يعتقد نُقَّاد العلمانية المعاصرون، بل إنَّ المسيحية قد عرفَتها حقَّ المعرفة. أمَّا الاعتقاد الشائع بين نُقَّاد العلمانية في بلادنا، والقائل إنَّ المسيحية لا تُنظِّم شئون الدنيا، ولا تتضمن الأحكام الدينية اللازمة لذلك، فهو اعتقاد مُفرِط في التبسيط، يُحاول صياغة التاريخ على النحو الذي يلائم أغراض أصحابه. وحقيقة الأمر أنَّ كل مَن يتابع تاريخ أوروبا في العصر الوسيط يدرك بسهولةٍ مدى سعي الكنيسة الكاثوليكية إلى إقحام العقيدة المسيحية في كل صغيرة وكبيرة، ومدى الجهد الذي بذلَته السُّلطات الدينية فيها من أجل فرض هيمنتها على جميع التفاصيل في حياة الناس العامة والخاصة. وبعبارة أخرى، فإنَّ كلمة المسيح «أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، التي يستشهد بها كثير من خصوم العلمانية المعاصرين للتدليل على أنَّ المسيحية كانت تؤكِّد ثنائية الدنيا والدين، ولم تكُن تسعى إلى تنظيم شئون الدنيا، بل كان جهدها كله منصبًّا على حُكم مملكة الله؛ هذه الكلمة لم تكُن تُفسَّر على هذا النحو في العصور الوسطى الأوروبية، ولم يكُن المقصود منها على الإطلاق أن تتخلَّى الكنيسة عن دعوتها إلى الهيمنة الشاملة للدين. ولم تتمكَّن أوروبا من تحرير نفسها من هذه الهيمنة إلَّا بعد ذلك النضال المرير الذي خاضه مُفكروها وعلماؤها وبعض رجال الدين فيها طوال فترةً لا تقلُّ عن قرنَين من الزمان. فإذا كان النزوع إلى الشمول حقيقةً مؤكَّدةً في تاريخ المسيحية - خلال قرونها العشرة الأولى على الأقل - فإنَّ أوضاع مسيحية العصور الوسطى لم تكُن تختلف في أساسياتها عن الأوضاع السائدة في الإسلام. وبالطبع هناك تفاصيل كثيرة تتباين فيها العقيدتان، وذلك على الأقلِّ لاختلاف العصر والبيئة الاجتماعية اختلافًا كبيرًا، غير أنَّ الاتجاه العام نحو الشمولية كان مشتركًا بينهما، ومن ثَم فإنَّ أحد الأسباب التي برَّرَت ظهور العلمانية في أوروبا يمكن أن ينطبق بدَوره على الأوضاع السائدة في العالم الإسلامي.
2- موقف السُّلطة الدينية من العلم لعلَّ أشهر الحُجَج التي يستند إليها خصوم العلمانية في العالم الإسلامي هي الحُجَّة القائلة إنَّ العلمانية كانت لها ضرورتها في أوروبا، منذ عصر النهضة، لأنَّ المؤسَّسة الدينية أثبتَت هناك عداوتها السافرة للعلم الحديث، وحاربَت كشوفه الجديدة بضراوة، ومن ثَم فإنَّ المجتمع الأوروبي الذي خاض تجربةً رائدةً شديدة الخصوبة في ميدان الكشف العلمي منذ عصر النهضة في القرنَين الخامس عشر والسادس عشر، كان لزامًا عليه أن يعمل على إفساح المجال أمام التقدُّم العلمي الحديث عن طريق الحدِّ من سُلطة الكنيسة وتأكيد مبدأ العلمانية. ومن الواضح أنَّ هذه الحُجَّة لا تكتسب قيمتها إلَّا إذا أُضيف إليها وجهها الآخر؛ وهو أنَّ الحضارة الإسلامية لم تشهد اضطهادًا للعلم على أيدي رجال الدين، وأنَّ العلاقة بين العلم والدين فيها كانت علاقة تسامح وتفاهم متبادل، ومن ثَم فإنَّ الأسباب التي دعَت إلى ظهور العلمانية في أوروبا لا وجود لها في عالم الإسلام. على أنَّه، إذا كان الوجه الأول لهذه الحُجَّة، الخاص بالوضع في أوروبا، صحيحًا ومؤيدًا بشهادة التاريخ، فلستُ أدري كيف أقنع أصحاب هذه الحُجَّة أنفسهم بصحة الوجه الثاني، الذي ينفي حدوث أيِّ تصادم بين الدين والعلم في ظلِّ الحضارة الإسلامية. فماذا يقول هؤلاء عن المِحَن التي ألمَّت بالمعتزلة، وابن رشد، والسهروردي، والحلاج، على سبيل المثال؟ ألم يكُن رجال الدين، بصورة أو بأخرى، وراء الاضطهاد الذي حلَّ بهؤلاء المُفكرين؟ قد يُقال إنَّ تلك الأوضاع كانت سائدةً في العالم كله في المرحلة السابقة على العصر الحديث، وإنَّ الأمور اختلفَت في العالم الإسلامي الحديث. ولكن ماذا تقول عن الاضطهاد الذي ألحقه رجال الدين، أو مؤسَّسة الأزهر، بطه حسين، وعلي عبد الرازق، ومحمد أحمد خلف الله، ونصر حامد أبو زيد وكثير غيرهم من الباحثين والمُفكرين؟ أليس هذا دليلًا على أنَّ الصدام بين المُفكر أو العالم وبين السُّلطة الدينية ما زال على أشُدِّه في المجتمع الإسلامي في صميم العصر الحديث؟ وقد يُقال إنَّ الحالات السابقة تتعلَّق بشخصيات كانت تتحدى مبادئَ دينيةً أساسية، وكان الصدام معها محتومًا. ومع عدم اعترافنا بصحة هذا الدفاع، فإنَّا سنجد الوضع مماثلًا في تعامل رجال الدين الإسلامي مع كثير من النظريات العلمية والفكرية الحديثة. فما زال دارون وفرويد حتى اليوم موضوعَين في القائمة السوداء لدى جميع المُفكرين الإسلاميين، وبخاصة رجال الدين منهم، وما تزال تعاليمهما ونظرياتهما تُلعن كل صباح ومساء على أيدي أشخاص لم يقرءوا عنهما إلَّا ما كتبه شركاؤهم في الفكر، بل إنَّ مجرَّد الإشارة إلى اسمَيهما، ومعهما اسم ماركس بالطبع، يُعدُّ من المحرَّمات في أكثر البلاد تمسُّكًا بالتعاليم الشكلية للإسلام. وقد يُقال أيضًا إنَّ تلك النظريات كانت تنطوي على نتائج تُهدِّد القِيَم الدينية تهديدًا خطيرًا، ولكن، حتى لو صحَّ هذا الدفاع، فماذا نقول عن كشوف علمية محايدة لم تكُن تستهدف المساس بالدين من قريب أو من بعيد، كالهندسة الوراثية وأطفال الأنابيب؟ إنَّ أمثال هذه الكشوف ما زالت تحتاج إلى مباركة هيئات دينية عُليا قبل أن تصبح مشروعةً في المجتمع الإسلامي. وماذا يقولون عن تحريم المطبعة، حيث أفتى الأهر وهيئة علماء الدولة العثمانية معاً بتحريم الطباعة التي صدرت عام 1515م، وكانت الكنيسة الكاثوليكية بالغرب قد أصدرت مرسوماً بتحريمها عام 1501م وإعدام من يقوم بطباعة الكتب، والغريب أن نفس تلك القسوة صدرت عن علماء المسلمين الذين حرموا طباعة المصحف، فقالوا أن "مواد الطباعة نجسة، وإن طباعة المصحف حرام، ومن يطبعه كافر وعقوبته القتل"! وبعد وفاة الملك فؤاد حرم مشايخ الأزهر بث الإذاعة لصوت المقرئ محمد رفعت، وتم بالفعل منع إذاعة القرآن في الراديو، وظل المنع سارياً حتى العام 1943. وذكر الملك الحسن الثاني قصة عن الملك عبد العزيز مؤسس السعودية، حين خشي من ردة فعل فقهاء الوهابية من إدخال الراديو للمملكة، لأنهم كانوا يحرمون الراديو ويقولون: إن الجن هم من يتحدث فيه! فجمعهم قبيل موعد بدء بث الإذاعة المصرية للقرآن، وما أن بدأ البث حتى فتح المذياع بصوت المقرئ، ليفاجئهم بالسؤال: هل من الممكن أنَّ من يقرأ القرآن من الجن؟ وحرم علماء المذاهب الإسلامية جميعاً "ألصنبور" عند ظهوره، ما عدا علماء الحنفية، ولذلك سمي في مصر باسم الحنفية، وحرموا الدراجة وسموها بحصان إبليس، وحرموا القهوة والشطرنج، ولا زالوا حتى الآن يحرمون الفنون لا سيما الأغاني والموسيقى، حتى الدف، ويسمونها مزامير الشيطان، وحرموا عرض فيلم "الرسالة" على التلفزيون المصري بزعم أنه يجسد شخصيات الصحابة، وحرموا فوائد البنوك، ومن غرائب فتاواهم تحريم أحد تلاميذ الشيخ ياسر برهامي تحية العلم بزعم أنها بدعة غربية وليست من الإسلام، واشتهر عن هيئة كبار العلماء في السعودية تحريم قيادة المرأة للسيارة، ولم يبيحوها إلا منذ بضع سنين بعد تولي ولي العهد محمد بن سلمان. ولا زالوا حتى الآن هم وأتباعهم في العالم يفتون بتحريم كشف المرأة لوجهها وحرمة حلق الرجل لحيته وإطالة ثوبه. ومن غرائب فتاواهم تحريم لبس البنطال بزعم أنه من ملابس الكفار وقد ورد النهي عن التشبه بالكفار، وبناء عليه، ومن أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية، حرموا تعلم اللغة الإنجليزية، لأنها لغة الكفار، وخطوة نحو التغريب والتأثر بهم وبثقافتهم. كما حرّم فقهاء نجد والحجاز استخدام الاتصالات اللاسلكية لإرسال البرقيات واعتبروها وسائل شيطانية، وفي الستينيات طالت فتاوى التحريم التلفزيون وتوسعت التحريمات لتشمل الفيديو والكاسيت، والتصوير الفوتوغرافي لأنه تشبه بالله في خلقه وذريعة إلى الشرك الأكبر، وصولاً إلى تحريم الدش "الستلايت"، وفي مطلع الألفية الثالثة ظهرت فتاوى تحريم الإنترنت، وصدرت فتوى بتحريم الموبايل المزوّد بكاميرا، لورود حديث نبوي يقول أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، ومنع دخوله إلى السعودية بضع سنوات. وحرمت "طالبان" التعليم للفتيات، ومع الضغوط الأميركية تم السماح للفتيات بالتعلم حتى الصف السادس فقط، ومن بعد ذلك يصبح حراماً! وما زال مشايخ "بوكو حرام" و"طالبان" يحرمون التطعيم ضد شلل الأطفال، بدعوى أنه لقاح غربي يستهدف قطع نسل المسلمين. كما صدرت فتاوى مشابهة بتحريم استخدام حبوب منع الحمل، وكافة وسائل تنظيم الأسرة.. وهناك قوائم لفتاوى التحريم لأشياء لا تصدق ولا يخطر على بال إنسان طبيعي أن يحرمها أحد كهنة القرون الوسطى، ويكفيك أن تكتب في أحد محركات البحث على الإنترنت: (سلسلة : كان حراما ثم أصبح حلالا). والذي يُهِمُّنا في هذا كله هو أنَّ هناك بالفعل سُلطةً دينيةً تتدخَّل في الأمور العلمية، وتُحلِّل كشوف العلم والتكنولوجيا أو تُحرِّمها وفقًا لمعايير دينية خالصة. ولسنا الآن في معرض تقييم هذا التدخُّل، ولا يعنينا إن كان صوابًا أم خطأ، بل إنَّ كل ما نودُّ إثباته هو أنَّ تلك المقولة التي يُردِّدها خصوم العلمانية وكأنَّها بديهية لا تُناقَش، والقائلة إنَّ أوروبا لجأت إلى العلمانية تخلُّصًا من تدخُّل المؤسَّسة الدينية الرسمية - ممثَّلةً في الكنيسة - في شئون العلم ووقوفها في وجه كشوفه الجديدة، على حين أنَّ الإسلام لا يعرف مؤسَّسةً دينيةً كهذه، ولم يشهد تدخُّلًا باسم الدين ضدَّ العلم؛ هذه المقولة لا تعدو في نظرنا أن تكون وهمًا كبيرًا أقنعنا أنفسنا به حتى نجد مبررًا لاستبعاد مبدأ العلمانية من جذوره. وحقيقة الأمر أنَّ الأسباب نفسها التي أدَّت إلى ظهور العلمانية في أوروبا قائمة في مجتمعنا الإسلامي، مع فارق أساسي هو أنَّ محاربة الكنيسة الأوروبية للعلم كانت بالغة الضراوة في بدايات عصر النهضة، أيْ في وقت كان العلم الحديث فيه لا يزال يخطو خطواته الأولى، وكان الجهل أقوى سيطرةً وأكثر شيوعًا في المجتمع بأَسره. أمَّا نحن، فما عُذرنا إذا عُدنا إلى محاربة النظريات العلمية باسم الدين بعد أربعة قرون صنع العلم خلالها المعجزات؟ وما عُذرنا حين نجد أنفسنا عاجزين في جميع المواسم الدينية الهامة عن الاتفاق على بدايات الشهور القمرية؛ أعني عاجزين عن الاعتراف بقدرة الحسابات الفلكية على تحديد هذه البدايات، في الوقت الذي أخذ فيه الإنسان يتطلع إلى استيطان الكواكب البعيدة؟ وكيف نسمح لعقولنا بتصديق الزعم القائل إنَّ الهيئات الدينية في العالم الإسلامي لا تعترض طريق العلم، إذا كانت تلك الهيئات لا تزال، حتى هذه اللحظة، عاجزةً عن إبداء الثقة في العلم في أمر ضئيل الشأن مثل ظهور الهلال في مطلع الشهر العربي؟
3- الإسلام وعقلية العصور الوسطى أمَّا العنصر الثالث في تلك الحُجَّة التي تربط بين ظهور العلمانية وظروف أوروبا الخاصة في نهاية العصور الوسطى، وترى أنَّ هذه الظروف غير قائمة في حالة الإسلام، فيرتكز على التمييز بين تاريخ أوروبا، الذي شهد عصرًا قديمًا مزدهرًا وعصرًا وسيطًا متخلفًا (على الرغم من أنَّه كان أطول العصور كلها زمنيًا)، وعصرًا حديثًا بلغ فيه التقدُّم أقصى درجاته، وبين التاريخ الإسلامي الذي لا يسير وفقًا لهذا الترتيب. فالعصور الوسطى الإسلامية كانت هي العصور الذهبية في التاريخ الإسلامي، وما يُقال عن ضرورة الأخذ بالعلمانية، تحرُّرًا من عقلية العصور الوسطى، هو كلام خاضع لوجهة النظر الأوروبية إلى التاريخ، أيْ إنَّه محاكاة لأوروبا في مجتمع كان له مساره المختلف عن مسارها. وأول ما نلاحظه على هذه الحُجَّة هو أنَّها تربط بين ظهور أيِّ مذهب فكري وبين الأصل الذي نشأ منه، وكأنَّ هذا المذهب ينبغي أن يظلَّ مقيَّدًا بأصله الأول أبد الآبدين. فإذا كانت العلمانية قد نشأت حقًّا في ظروف عصر النهضة الأوروبية، فما الذي يمنع من أن تكون، من حيث المبدأ، قابلةً للتطبيق في ظروف أخرى؟ إنَّ كل مبدأ أحدث نقطة تحوُّل في حياة البشرية، كان في بدايته مرتبطًا بزمان ومكان ومجتمع مُعيَّن، ولكنَّه سرعان ما تحوَّل إلى مكتسَب بشري عام، وأصبح ملكًا للإنسانية جمعاء. وما أشبه الذين يسعَون إلى تقييد العلمانية بظروف أوروبا الخاصة في عصر النهضة؛ ما أشبههم بمَن يرفضون تطبيق المبادئ الديمقراطية في العالم الإسلامي بحُجَّة أنَّ الديمقراطية كلمة يونانية الأصل تنتمي إلى صميم الحضارة الغربية وحدها، ومن ثَم فإنَّ الدعوة إليها في مجتمعاتنا الإسلامية إنَّما تنطوي على محاكاة وتبعية واغتراب. ولا جدال في أنَّ الشرور التي عانتها المجتمعات الإسلامية الحديثة من جرَّاء الاستبداد والحكم المطلق - الذي يكتسي في أحيان غير قليلة برداء الدين - تكفي لإقناعنا بأنَّ مبدأً عظيمًا كالديمقراطية لا يصحُّ أن يظلَّ إلى الأبد مرتبطًا بالأصل الذي نشأ فيه، وأنَّ التجربة الطويلة أثبتَت قدرته على التحوُّل إلى مبدأ أساسي في شئون السياسة والحكم يمكن تطبيقُه بنجاح - بعد إدخال التعديلات اللازمة - على أيِّ مجتمع بشري. ومثل هذا يُقال عن العلمانية؛ ذلك لأنَّ أولئك الذين يتصوَّرون أنَّها مجرَّد نتاج مباشر لتمرُّد الأوروبيين على مواقف كنيستهم الكاثوليكية في العصور الوسطى، يغفلون جوهر العلمانية ويتعلقون بقشورها. فالعلمانية الأوروبية لم تكُن حركةً رافضةً للدين، بدليل أنَّ الدين لم يختفِ من أوروبا، والغرب بأكمله، بعد أربعة قرون من اتِّباع المبادئ العلمانية في كافة الميادين. وإنَّما كانت العلمانية رافضةً لأسلوب مُعيَّن في التفكير كان يتمسَّك به رجال الدين في ذلك العصر ويستخدمون سُلطتهم الجبَّارة من أجل فرضه بالقوة. فما هو هذا الأسلوب الذي تصدَّت العلمانية لرفضه، وما عناصره؟ إنَّ أول وأهمَّ ما كانت ترفضه العلمانية الأوروبية هو أسلوب التفكير بالسُّلطة، وهو الأسلوب الذي كان مميزًا لتفكير العصور الوسطى. والمقصود بالتفكير بالسُّلطة، ألَّا يواجه المرء المشكلات أو الظواهر المطلوب بحثها، بصورة مباشرة، وإنَّما يستشهد بما قِيلَ عنها في كتب مقدَّسة أو على ألسنة الشخصيات المشهورة في الماضي بوجه خاص. ومن الواضح أنَّ التفكير بالسُّلطة يسدُّ الطريق أمام أيَّة مناقشة منطقية أو علمية، إذ إنَّ مَن يفكر بهذا الأسلوب لا يُقدِّم أيَّة أدلة أو براهين، وإنَّما يضع جمهوره أمام سُلطة النَّص أو أقوال الشخصية المشهورة، وعلى هذا الجمهور أن يسلِّم بهذه السُّلطة، وإلَّا تعرَّض للاتهام بالهرطقة أو التجديف. هذا التفكير بالسُّلطة يجرُّ وراءه مجموعةً من النتائج التي تحُول دون حدوث تقدُّم علمي أو فكري أو اجتماعي حقيقي، كالاعتقاد بأنَّ المرء يملك الحقيقة المطلقة، وبأنَّ البشرية كلها تنقسم إلى أهل الحقِّ (الذين ينتمي إليهم صاحب هذا الاعتقاد بطبيعة الحال)، وأهل الباطل (وهم الآخرون جميعًا، مع أنَّ كلًّا منهم يؤمن طبعًا بحقيقته المطلقة الخاصة به)، وكذلك الاعتقاد بأنَّ دَور العقل ثانوي أو هامشي، وبأنَّ التغير وهمٌ ظاهري، وبأنَّ الاعتماد على التجربة والخبرة والممارسة علامة قصور، لأنَّ أرفع الحقائق هي تلك التي تأتي من السُّلطة العُليا. والآن، لنسأل أنفسنا: هل العصور الوسطى، بهذا المعنى، حالة أوروبية خاصة، أم إنَّها قابلة للتطبيق على نطاق أوسع بكثير من أوروبا ذاتها؟ إنَّ لهذا السؤال أهميةً حيوية؛ فعليه يتوقَّف قبولنا للعلمانية بوصفها ضرورةً لا غَناء لنا عنها في عصرنا الحاضر، أو رفضنا لها بوصفها محاكاةً لأوضاع كانت سائدةً في أوروبا ولا علاقة لها بعالمنا الإسلامي. والإجابة التي أُومن بها إيمانًا تامًّا، وأعتقد أنَّها تُمثِّل نقطةً حاسمةً في معالجة هذا الموضوع، هي أنَّ العصور الوسطى ليست مرحلةً تاريخيةً أو زمنيةً فحسب، وإنَّما هي أيضًا حالة ذهنية. فلو نظرنا إليها بالمفهوم التاريخي أو الزمني لقُلنا إنَّها تنتمي إلى حضارة مُعيَّنة، غريبة عنَّا، في مرحلة مُعيَّنة من تطوُّرها. ولكنَّنا لو تأمَّلناها من حيث هي أسلوب في التفكير لوجدنا أنَّها حالة قابلة للتكرار في مجتمعات كثيرة، وأنَّ العصور الوسطى ليست تلك المرحلة التي انقضَت منذ أربعة قرون أو خمسة فحسب، وإنَّما هي أيضًا وضع نجد له نظائر في صميم العصر الذي نعيش فيه. فكل مَن يفكر على أساس أنَّه يملك حقيقةً مطلقة، ويضع حاجزًا بين هذه الحقيقة وبين قابلية المناقشة والنقد، وكل مَن يتخذ لحُجَجه سندًا وحيدًا من الاستشهاد بالنصوص، أو اقتباس أقوال القدماء، أو الرجوع إلى السلف الصالح، يفكر بعقلية العصور الوسطى، حتى لو كان يعيش في القرن الحادي والعشرين. إنَّ الحاجة إلى تجاوز العصور الوسطى إنَّما يُمثِّل حاجةً دائمةً تتكرَّر في مختلف العصور والبيئات. فلكل مجتمع عصوره الوسطى، حتى في صميم عصرنا الحاضر، ولكل مجتمع حاجته إلى تجاوز الفكر السُّلطوي ومواجهة المشكلات مباشرةً بمنطق العقل ومشاهدات الحسِّ وخبرة الممارسة والتجربة. والمسلم المعاصر الذي لا يعرف كيف يناقش وضع المرأة، مثلًا، إلَّا من خلال النصوص والروايات المتواترة عن السلف الصالح، دون أن يتأمَّل الأوضاع الفعلية والمشكلات الراهنة للمرأة المعاصرة، يعيش في العصور الوسطى، ويحتاج إلى ثورة فكرية شاملة كيما يُغيِّر طريقته في النظر إلى الأمور. إنَّ الأسلوب السائد بين الأصوليين الإسلاميين المعاصرين، عندما يواجهون أيَّ موقف جديد، هو «قياسه» على نصٍّ من النصوص، أو البحث عن حالة مشابهة له في كتابات الأئمة والفقهاء، فإن لم يجدوا، لم يكُن هناك مفرٌّ من «الاجتهاد»، ولكنْ مع التزام روح النصوص والأحكام الشرعية. وكل مَن درس شيئًا عن تاريخ الحضارة يعلم أنَّ منهج «القياس» هذا هو أول ما ثار عليه الأوروبيون، حيث أرادوا أن ينفضُوا عنهم غبار العصور الوسطى ويشقُّوا لعقولهم طريقًا جديدًا، صحيح أنَّ «القياس» يختلف نوعه وتفاصيله في الحالتَين، ولكن الروح واحدة؛ إذ إنَّ المرجع الأخير في الحالتَين هو تلك المعرفة المسبقة التي يُفترض أنَّها هي المرجع والسند في بحثنا عن أيَّة حقيقة أو في حُكمنا على أيِّ موقف جديد. ألسنا، في عالمنا الإسلامي المعاصر، محتاجين إلى مَن يقول لنا، كما قال كبار مُفكري عصر النهضة وأوائل العصر الحديث لمعاصريهم: إذا كانت الطبيعة أمامكم، ومشاكل الناس والعالم أمامكم، فلماذا ترجعون في كل شيء إلى النصوص وإلى أقوال القدماء ومواقفهم بدلًا من المواجهة المباشرة للمشكلات. إن العلمانية ضرورةً لازمةً لكل مجتمع يتراجع فيه التفكير المستقلُّ ويحُلُّ محلَّه التفكير العاجز الذي يرتكن دائمًا على مصدر خارجه، ويرى نفسه أشدَّ قصورًا من أن يستطيع مواجهة المشكلات بنفسه. وبهذا المعنى لا تكون العلمانية على الإطلاق مبدأً مستورَدًا من الغرب، وإنَّما هي مبدأ أصيل تحتاج إليه جميع المجتمعات البشرية إذا وجدَت نفسها تواجه صراعًا بين استقلالية الفكر وسُلطويته. وتؤدِّي الفكرة التي نقول بها الآن إلى نتيجة قد تبدو غريبةً للوهلة الأولى، ولكنَّها تغدو مفهومةً ومعقولةً تمامًا في ضوء التحليل الذي قدَّمناه من قبل. هذه الفكرة هي أنَّ الآية ينبغي أن تعكس فيما بين الاتجاه العلماني والاتجاه السُّلطوي التراثي الذي يُسمِّي نفسه إسلاميًّا. فالوضع الشائع لدى أصحاب الفكر التراثي هو أن يصفوا العلمانيين بأنَّهم تابعون لحضارة غريبة عنهم، وبأنَّهم مقلِّدون يستوردون مبدأهم الأساسي من الغرب، بينما يصفون أنفسهم بالأصالة وبالتفكير المستقلِّ الذي يرفض المبادئ المستورَدة ويعود دائمًا إلى جذوره التاريخية والحضارية. وفي رأيي أنَّنا لو أمعنَّا الفكر لوَجَب أن نقلب هذا الوضع رأسًا على عقب؛ ذلك لأنَّ التراثيين، في عجزهم الدائم عن مواجهة الحاضر بمنطقه الخاص، وفي اضطرارهم المستمر إلى استخلاص أُسس تفكيرهم من المبادئ السائدة في عصور سابقة، هم الذين يكشفون عن عجز واضح عن الاستقلال، ويعلنون بلا مُوارَبةٍ تبعيتَهم لأجيال تفصلها عنهم قرون عديدة. صحيح أنَّ هذه الأجيال ليست غريبةً عنَّا، ولا تنتمي إلى حضارة غير حضارتنا، غير أنَّ الحالة الذهنية للشخص الذي يُهرع إلى نصٍّ قديم لكي يستصدر منه حُكمًا على أيِّ موقف جديد يواجهه، هي في حقيقتها حالة الشخص التابع، الذي يخشى التفكير في الأمور بنفسه ويعجز عنه. وفي مقابل ذلك فإنَّ العلمانيين، الذين يدعون إلى الاندماج المباشر في العصر ومواجهة مشكلاته بمنطق وتفكير معاصر، يكشفون بغير شكٍّ عن استقلالية واعتماد على الذات لا جدال فيهما. وأكبر الأساطير، في رأينا، هو تلك الأكذوبة التي ردَّدها خصوم العلمانية وصدَّقها أتباعهم بلا تفكير، وهي أنَّ العلمانيين يدعون إلى السير في رِكاب الفكر الغربي، ويستمِدُّون الحلول لمشكلاتهم من نظريات جاءت بها الحضارة الأوروبية، وأنَّهم بالتالي تابعون معتمدون على الغير. فكل ما يُريده العلماني هو أن يسير في موكب التقدم، وأن يبحث عن أحدث الأفكار وأقدرها على مواجهة مشكلات العصر، وليس في دعوته ما يُحتِّم على الإطلاق مجاراة الأوروبيين في أساليبهم وممارساتهم وأفكارهم، وإنَّما قد يتلاقى مع الأوروبيين - دون تعمُّد ودون تخطيط مسبق - في سعيه إلى تطبيق المنهج العقلي والمنطق الدقيق، وفي رفضه لسُلطة القدماء على عقول المُحدِثين، ولكن جوهر دعوته هو استقلالية التفكير لا تبعيته. وخلاصة القول أنَّ العلاقة بين التراثيين والعلمانيين، من حيث مدى استقلال كل طرف أو تبعيته، تُعرَض علينا بطريقة مقلوبة مضلِّلة، وهذا التضليل يظهر بكل وضوح إذا ما أوجزت المسألة في عبارة واحدة، وهي أنَّ التراثي لا يفكر إلَّا عن طريق غيره، بينما العلماني لا يفكر إلَّا بنفسه.
مشكلة سيطرة الماضي على الحاضر اقتبس الدكتور فهمي جدعان، في كتابه القيِّم «أُسس التقدم عند مُفكري الإسلام في العالم العربي الحديث» الحديث النبوي الصحيح: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، ويرى أنَّ التاريخ الإسلامي، بعد عصر الخلفاء الراشدين كان ينطوي على حتمية «التقدم إلى الأسوأ». وهو حين يعرض لآراء بعض الشخصيات الإسلامية التي تعترف بشكل من أشكال فكرة التقدم، يرى أنَّ هذه الشخصيات كانت هامشيةً ولا تُمثِّل المجتمع كله. ولذا لا عجب إذا ما رأينا أنَّ الإحساس بتقهقُر الحياة الاجتماعية والسياسية في الإسلام قد وجد صدًى عظيمًا وقوةً عارمةً في حياة الناس. أمَّا الشاهد الثاني فهو الأستاذ محمود أمين العالم، الذي يصل، بعد بحث لمفهوم الزمن في الفكر العربي، إلى أنَّ «النظرة العربية الإسلامية في العصر الوسيط كان يسودها بشكل عام مفهوم للزمن يخلو من الرؤية التطورية، بل كان يغلب عليه الطابع الارتدادي. فبالرغم من الأحلام المتعلقة بالمهدي المُنتظَر، وبالرغم من الممارسات الفكرية والاجتماعية والتكنولوجية المختلفة، التي كانت تتطلع إلى تغيير في الحاضر أو المستقبل، فإنَّ مرحلة الدعوة الأولى كانت تُمثِّل نقطة إشارة إلى ما هو الأفضل والأمثل». على أنَّ هذه النظرة إلى التاريخ على أنَّه يسير في خطٍّ هابطٍ بالقياس إلى مصدر الإشعاع الأول، أيْ عصر الدعوة الإسلامية، لم تخلُ من محاولات للإحياء كانت مشوبةً بالتفاؤل، فلقد استشهد الكثيرون بالحديث النبوي الذي يُعبِّر عن رؤية تكسر حِدَّة النظرة التشاؤمية إلى التاريخ، وتبعث أملًا في تجديد حياة العقيدة، ومن ثَم بَعْث دماء جديدة في حياة المجتمع، وأعني به «يبعث الله على رأس كل مائة عام مَن يجدِّد هذه الأمة أمر دينها» ولكنْ، ما نطاق النظرة المستقبلية التي تترتب على هذا الحديث؟ إنَّ المسألة هنا تتعلق بإحياء أمر الدين، ففي كل قرن يظهر مُصلح لكي يعيد دماء الحياة التي جفَّت في شرايين الفكر الديني نتيجةً لسوء الفهم وفساد الممارسة. ومهمَّة هذا المُصلح هي أن يتدارك الخطأ، ويحُول دون أن يصبح التدهور وقوعًا في الهاوية، ولكن ليس من مهمَّته - على الإطلاق - أن يتجاوز نطاق الإشعاع الأول للعقيدة، أو يعلوَ على المستوى الذي سبق بلوغه في نقطة مُعيَّنة من الماضي. إنَّ السمة التي تنفرد بها العلاقة بين الماضي والحاضر، في الثقافة العربية، هي أنَّ الماضي ماثل دائمًا أمام الحاضر، لا بوصفه مندمجًا في هذا الحاضر ومتداخلًا فيه، بل بوصفه قوةً مستقلةً عنه، منافسةً له، تدافع عن حقوقها إزاءه، وتُحاول أن تحُلَّ محلَّه إن استطاعت - ولو شئتُ أن ألخص هذه السمة في كلمة واحدة، لقلتُ إنَّ نظرتنا إلى الماضي «لا تاريخية»؛ فالنظرة التاريخية إلى الماضي هي تلك التي تضعه في سياقه الفعلي، وتتأمله من منظور نسبي، بوصفه مرحلةً انتهى عهدها، وتلاشت مراحل لاحقة تجاوزتها بالتدرُّج حتى أوصلَتنا إلى الحاضر. وفي مثل النظرة التاريخية لا يكون الماضي قوةً منافسةً للحاضر، ولا تُثار على الإطلاق مُشكلة التوفيق بين الماضي والحاضر، لأنَّ الحاضر بطبيعته يحمل في داخله بذور الماضي، ولأنَّ الماضي خلق الحاضر عن طريق تجاوزه لذاته. أمَّا في ثقافتنا العربية فإنَّ الماضي يقطع صلته بعصره بالتدريج، ويفقد طابعه النسبي، ويخرج عن الإطار الزمني الذي كان مرتبطًا به، ليصبح قوةً دائمة الحضور، ولا بدَّ أن يتصادم ما هو دائم الحضور مع الحاضر. إنَّ العلاقة بينهما، بإيجاز، علاقة قوتَين متعارضتَين، مع أنَّ الماضي والحاضر ليسا أصلًا سوى قوة واحدة يتغير طابعها خلال الامتداد الزمني بالتدرج. وفي اعتقادي أنَّ هذه النظرة «اللاتاريخية» إلى الماضي هي المسئولة عن قدْر كبير من التخلف الفكري الذي يعاني منه العالم العربي.
العلمانية والتراث يتصوَّر خصوم العلمانية أنَّهم هم وحدهم حُماة التراث، وأنَّ العلمانيين يدعون إلى هدمه ويستمدُّون مقوِّمات تفكيرهم من حضارة غريبة عن حضارتنا. ويترتَّب على ذلك اعتقاد راسخ لديهم بأنَّنا لا نستطيع الحفاظ على هُويَّتنا والتمسُّك بجذورنا إلَّا برفض العلمانية. ونحن نأمل أن نكون قد أثبتنا في مناقشتنا السابقة أنَّ العلمانية إنَّما هي في أساسها تعبير عن منهج مُعيَّن في التفكير لا ينبغي أن يكون مرتبطًا بالغرب، وأنَّها تُمثِّل احتياجًا فكريًّا دائمًا يمكن أن يظهر في أيِّ مجتمع يحاول كسر نطاق السُّلطة العقلية والانتقال إلى مرحلة التفكير المستقل. فإذا كان الأمر كذلك، كان معناه فكَّ الارتباط الذي يقول به هؤلاء الخصوم بين العلمانية وبين الحضارة الغربية. ويظلُّ لدينا بعد ذلك الشقُّ الثاني من هذا النقد؛ وهو القول بأنَّ رفض العلمانية شرط ضروري للحفاظ على التراث. والواقع أنَّ مجموعة القِيَم العقلية التي قُلنا من قبلُ إنَّها تُشكِّل قوام العلمانية؛ أعني قِيَم العقلانية وروح النقد والتزام المنطق العلمي والاستقلال عن السُّلطة الفكرية، ليست على الإطلاق قِيَمًا تنفرد بها الحضارة الغربية (كما يقول نُقَّاد العلمانية، الذين يمنحون تلك الحضارة - من حيث لا يدرون - شرفًا لا تستحقُّه)، بل إنَّ لهذه القِيَم أصولًا في صميم الحضارة الإسلامية بدَورها. فدُعاة العلمانية المعاصرون في العالم الإسلامي لا يتعيَّن أن يكونوا نُسخًا مشوَّهةً من المُفكرين الغربيين المُحدِثين، وإنَّما هم بالأحرى امتداد لتراث المعتزلة والفارابي وابن رشد وابن الهيثم. ومن المؤكَّد أنَّ هؤلاء الأخيرين بدَورهم كانت لهم معاركهم ضدَّ أنصار التقيُّد الحَرفي بالنَّص والخضوع الكامل للسُّلطة، وربما خاضوا هذه المعارك تحت راية الصراع بين «العقل والنقل» أو محاولة التوفيق بين «الحكمة والشريعة»، وهي بالطبع مصطلحات لا تُستخدَم في عصرنا الحاضر، ولكن جوهر المعركة الفكرية واحد. إنَّ العلمانية لا يتعيَّن، من حيث المبدأ، أن تكون رافضةً للتراث، والتضاد المزعوم بينهما لا يعدو أن يكون أسطورةً من الأساطير الباطلة التي ينشرها خصوم العلمانية. غير أنَّ جوهر الخلاف بين الموقفَين هو أن العلمانيين، حين يُبدون اهتمامهم بالتراث، لا يفكرون على الإطلاق في إعادة صياغة حياتهم وفِكرهم على مثاله، على حين أنَّ جوهر الدعوة السلفية الجديدة في بلادنا هو الهجرة من الحاضر إلى الماضي، واستخلاص المبادئ الأساسية التي توجِّه الحياة من تلك المُثُل العُليا التي كانت سائدة - أو يُقال إنَّها كانت سائدة - في عصور ماضية تُمثِّل بالنسبة إليهم الحلم والأمل. إنَّ العلمانية، مهما تعمَّقَت في التراث، تظلُّ تضعه في إطاره التاريخي، وتربطه بظروف الزمان والمكان التي حدَّدَت معالمه، وهي لا تقع أبدًا في خطأ الاستعاضة به عن الحاضر، مهما كان هُويَّتُه بالماضي، مهما كان مجيدًا. ولذلك كان موقف العلمانية من التراث جامعًا بين الحفاظ عليه وتجاوزه، بل إنَّها ترى أنَّ التراث لا يُصان ولا يُحفظ إلَّا من خلال عملية النقد والتجاوز. وعلى سبيل المثال، فإنَّ الرياضيات التي استوعبَت، في وقتٍ ما، كشوف جابر بن حيان ثم تجاوزَتها، قد صانت تراث جابر على نحوٍ أفضلَ بكثير ممَّا يفعل أولئك الذين يعتقدون أنَّ المبادئ العامة للعلم القديم ما زالت صالحةً للتطبيق حتى عصرنا الحاضر (كما يفعل جميع المتحمِّسين ﻟ «الطبِّ الإسلامي»، على سبيل المثال). ولو نظرنا إلى الأمر بشيء من الموضوعية، لتبيَّن لنَّا أن اختزان التراث بعيدًا عن إطاره التاريخي، هو الذي يؤدِّي حتمًا إلى هدمه (على عكس ما يبدو للوهلة الأولى)، وأنَّ تجميد الماضي إلى الحدِّ الذي يُعَدُّ معه «صالحًا لكل زمان ومكان»، هو الذي يسلب هذا الماضي كل نضارته وحيويته.
أ. موقف نقاد التراث: من حقِّ المرء أن يشير إلى عيوب في التراث وينبِّهنا إلى طريقة التغلب عليها، ولكن ليس من حقِّه أن يؤكد أنَّ هذه العيوب وحدها هي التي أدَّت إلى تخلُّفنا الفكري، إذ إنَّ نظائرها كانت موجودةً في الغرب، وربما بمزيد من القوة والعنف، ولكنَّها لم تحلَّ دون وصول الغرب إلى مرحلة احترام الفكر الحر، واكتساب التقدم الذي لا بدَّ أن يترتب على ضمان حقِّ العقل البشري في التعبير عن نفسه. على أنَّ خصوم التراث أو نقَّاده يُصرُّون على أن يوجِّهوا حملتهم بعنف إلى هذه العوامل السلبية، وكأنَّها هي وحدها سبب التخلف، فعلامَ يدلُّ هذا الإصرار؟ إنَّه في واقع الأمر يدلُّ على أنَّ هؤلاء الخصوم كانوا يتوقعون من التراث أن يحلَّ مشكلات الحاضر، أو يتصورون أنَّ له مثل هذه الوظيفة، ولكنَّهم يرونه عاجزًا عن أدائها. ومجرَّد توجيه النقد بمثل هذا العنف ينطوي على مقارنة ضمنية بين التراث وبين الحاضر، وعلى اعتقاد بأنَّ التراث قوة حية ينبغي الدخولُ في معركة معها، أيْ إنَّ هذا النقد ينطلق من نفس الموقف الذي يقفه أنصار التراث - كما سنرى بعد قليل - وإن يكُن ينتهي آخر الأمر إلى نتيجة سلبية. وحسبُنا، لكي ندلِّل على أنَّ موقف الخصوم وموقف الأنصار يمثِّلان وجهَين، أحدهما سلبي والآخر إيجابي، لعملة واحدة، أن نشير إلى موقف الأوروبيين من تراثهم القديم. فمن العسير أن نجد اليوم كاتبًا أوروبيًّا ينتقد نظرة اليونانيين إلى الكون، مثلًا، أو يحمل على النظريات الأخلاقية عند الفلاسفة الرومان. وليس هذا راجعًا إلى أنَّ تلك الفلسفات أو الآراء العلمية كانت بمنأًى عن النقد، بل هو راجع إلى سيطرة النظرة التاريخية على موقف الأوروبيين من التراث، وإدراكهم أنَّ سيادة هذه النظرة التاريخية تعني ضرورة الامتناع عن مقارنة الماضي بالحاضر، وبالتالي الامتناع عن توجيه الذم أو المدح إلى التراث، إلَّا إذا كان ذلك داخل الإطار التاريخي الخاص به. وهكذا فإنَّنا حين نُشدِّد الحملة على التراث من منظورنا الحاضر، إنَّما نتخذ موقف مَن كان يتوقع من التراث أن يحلَّ مشاكل العصر الحاضر، ونُغفل بذلك الموقع التاريخي للتراث، والوظيفة التي كان ينبغي عليه أن يؤدِّيَها في إطار عصره، ونقفز بهذه العصور عبر مسافات زمنية واسعة، وعندئذٍ يكون من السهل أن نجد عليه - من وجهة النظر الحاضرة - مآخذ لا أول لها ولا آخر، وإذَن فالبحث عن أسباب التخلف الفكري في العالم العربي لا ينبغي له أن يتخذ من نقد التراث مدخلًا وحيدًا، أو مدخلًا رئيسيًّا.
ب. موقف أنصار التراث: يمثِّل أنصار التراث، كما قُلنا من قبل، الوجه الآخر من نفس العملة التي تجعل للتراث نطاقًا يفوق بكثير نطاقه الحقيقي، أيْ نطاقه التاريخي. وفي حالة هؤلاء الأنصار يُقال لنا إنَّ سبب التخلف هو عدم التزامنا بالتراث، أو هو ابتعاد الحاضر عنه، وإنَّ طريق التقدم الحقيقي هو الرجوع إليه بصورة أو بأخرى. وصحيح أنَّ الكثيرين يكتفون بالدعوة إلى استلهام «روح» التراث، والمبادئ المعنوية التي ألهمَت روَّاده وأقطابه، غير أنَّ الفكر العربي الحديث والمعاصر لم يعدم أناسًا يدعون إلى استعادة التراث بتفاصيله، ويرون أنَّ خلاص العرب في حاضرهم إنَّما يكون ببعث الماضي من جديد، حتى في جزئيات الحياة اليومية، كالملبس أو أسلوب المعاملات الجارية. وسواء أكان الأمر متعلقًا بهؤلاء أو أولئك، فإنَّ مثل هذا الموقف، الذي يدعو إلى استعادة مقوِّمات الماضي في الحاضر، يُعَدُّ - بين سائر الثقافات العالمية - موقفًا تنفرد به الثقافة العربية. ولكي يدعم أنصار التراث حجَّتهم، فإنَّهم يستندون إلى مصادر مُعيَّنة في هذا التراث، يؤكدون أنَّ المعرفة البشرية كلها تكمن فيها، ويجعلونها تبدو كما لو كانت قد وعَت علم السابقين واللاحقين، بحيث يكون من العبث محاولة تجاوزها، لأنَّ كل شيء سبق أن قِيلَ فيها. وسأكتفي بضرب أمثلة قليلة لهذه المصادر التي يُقال إنَّها تشتمل على كل معرفة بشرية: (١) فهناك فئة كاملة من الكُتَّاب تَخصَّص أفرادها في إثبات أنَّ الكشوف العلمية الحديثة موجودة كلها في آيات قرآنية. ويعتمد هؤلاء الكُتَّاب على مشابهات لفظية بسيطة في إثبات دعواهم، كالاعتماد على آية وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ … في إثبات وجود علم الذرة في النصوص القرآنية، أو على آية وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ في إثبات وجود جميع حقائق علم الأحياء… إلخ. ومن الأمور التي تسترعي الانتباه أنَّ هناك فريقًا قويًّا من أنصار التراث المتحمِّسين، يرفضون هذا النوع من التفسير بكل قوة (بنت الشاطئ مثلًا)، ويستنكرون بشدة أن يكون القرآن كتابًا في علم الطبيعة أو البيولوجيا أو تكنولوجيا الفضاء، ويؤكدون أنَّ الوظيفة الأخلاقية، لا الوظيفة العلمية، هي الهدف الأساسي من النصوص الدينية. على أن التفنيد الذي ربما كان أكثر حسمًا من هذا وذاك، هو أن هذه المحاولة، حتى لو صحَّت، تخفق في تحقيق أيِّ هدف؛ ذلك لأن القصد منها هو إثبات أن النصوص القرآنية تحتوي على كل علم، وعلى كل نظرية جديدة تُكتشف، وبالتالي فإن دراسة هذه النصوص توصلنا وحدها، إلى كل ما نريد من علم ومعرفة. والمشكلة التي يؤدِّي إليها هذا الموقف هي أننا، حتى لو افترضنا جدلًا، صحة كل ما يُقال في هذا الصدد، لابدَّ أن ننتظر أولًا حتى تُكتشف النظرية العلمية بالجهد البشري، ثم نهتدي إليها بعد ذلك في النَّص الديني. فالذرة لم يتبيَّن وجودها في القرآن إلا بعد أن كانت قد اكتُشفت قوانينُها فعلًا على أيدي رذرفورد وطومسون ونيلز بور وغيرهم. وقُل مثل هذا عن كل كشف علمي يُقال إن أصوله موجودة في الآيات القرآنية. ولاشكَّ أن حجَّة أنصار التراث، في هذا الصدد، كان من الممكن أن تصبح فعَّالة بحق، لو كانت هناك حالات أمكن فيها التوصُّلُ إلى كشف علمي عن طريق دراسة الآيات التي ورد فيها هذا الكشف فحسب. ولكنْ لمَّا كان من المستحيل الإتيانُ بحالة واحدة كان فيها النَّص الديني مصدرًا لنظرية جديدة في العلم، فإن الهدف الذي يرمي إليه أنصار هذا الرأي يفقد كل مبرِّر له. وهكذا فإن عشرات الكتب التي يحاول أصحابها أن يُثبتوا وجود العلم كله - سواء ما اكتُشف منه وما سيُكتشف فيما بعد - في النصوص الدينية، إنما هي جهد ضائع يُبذل في سبيل هدف محكوم عليه منذ البداية بالإخفاق. وفي هذه الحالة يكون رأي ذلك الفريق من أنصار التراث، الذي يرى أن النَّص الديني لا يستهدف سوى هداية البشر لا تعليمهم أساسيات الطبيعة أو البيولوجيا أو الكيمياء، أحكم بكثير من رأي أولئك الذين يتوهَّمون أنهم يُعلُون من قدْر النَّص الديني إذ يضعون فيه كل علوم البشر، ثم يتبيَّن لهم أن حجَّتهم باطلة، لأن الكشوف العلمية لا تتمُّ إلا بجهد بشري، ولن نهتديَ إليها في النَّص الديني إلا بعد أن تكون قد اكتُشفَت بالفعل. (٢) وثمة فئة أخرى لا تحاول أن تردَّ علم البشر - ما كان منه وما سيكون - إلى نصوص دينية، وإنما ترى في التراث العلمي والفكري العربي، في عصر نهضته الكبرى، أصلًا لعدد كبير من المكتشَفات الحديثة، وتُمجِّد ذلك التراث بوصفه منبعًا للحكمة والمعرفة لم تعرف البشرية له نظيرًا. ولا جدال في أن موقف هذه الفئة أقوى من موقف الفئة السابقة؛ لأن هناك بالفعل سندًا قويًّا من التاريخ للرأي الذي ينادي بتمجيد الفكر والعلم العربي القديم. ولهذا فإننا لا نجد ما يدعونا إلى أن نؤكد مرةً أخرى أن العصور الوسطى العربية كانت، على عكس العصور الوسطى الأوروبية، فترة ازدهار علمي وفكري، وأن الدين الذي تدين به النهضة الأوروبية الحديثة للعرب لم يُعترف به حتى الآن اعترافًا كافيًا، بالرغم من كل ما كُتب عنه. على أن الأمر الذي يُضعف موقف هذه الفئة ليس المبدأ العام الذي ترتكز عليه، وإنما المبالغة المسرفة في تأكيد هذا المبدأ، والسعي إلى الخروج بهذا التراث المجيد، عن إطاره التاريخي، وإضفاء نوع من الصحة المطلقة، التي تسري على كل زمان، على إنجازاته التي كانت في وقتها شيئًا رائعًا بحق. فليس من الأمور غير المألوفة أن نجد بعض كُتَّابنا يحاولون إثبات أن أحدث النظريات العلمية كانت موجودةً لدى العرب. ولقد استمعتُ بنفسي إلى واحد من كبار المتخصِّصين يؤكد أن نظرية النسبية قد عُرفت أيام العرب، وأظنُّ أنه حدَّد البيروني بوصفه مصدرًا لهذه النظرية. كما أن هناك كثيرين غيره لا يكتفون ببيان أهمية الكشوف التي توصَّل إليها العلماء العرب في علم البصريات وغيرها من فروع الفيزياء، وإنما يُصرُّون على الاهتداء إلى أحدث النظريات العلمية في هذه الميادين لدى العرب القدماء. وعندما يمجِّدون عالِمًا ومُفكرًا مثل ابن خلدون، فإنك تجد منهم مَن لا يكتفي بسرد إنجازات هذه الشخصية الفذة - وهي إنجازات رائعة المقاييس العالمية - بل يسعَون جاهدين إلى استخلاص التطورات التالية في علم الاجتماع وفلسفة التاريخ من كتاباته. وحين يتحدثون في ميدان الفلسفة، فلا بدَّ أن يؤكدوا أن الغزالي قد استبق هيوم في نقده لفكرة العلية، وأن ابن تيمية تنبَّه، قبل المَناطِقة الرياضيين المعاصرين بقرون متعددة، إلى عيوب أساسية في المنطق الأرسطي. هذه النظرة «اللاتاريخية» إلى التراث، ومحاولة قراءة التطورات التالية، لا في الفكر العربي بل في الفكر الغربي، بين سطوره، من أوضح مظاهر التخلف الفكري في بلادنا؛ ذلك لأنها ترفض النظر إلى عصرنا من خلال منطقه الخاص، وتحاول أن تفكر فيه بمنطق عصر أصبح في ذمة التاريخ، مهما كان المجد الذي كان يتصف به عندئذٍ. وهي، في إنكارها للسياق التاريخي الذي ظهر فيه ذلك التراث، ترتكب أخطاءً فادحةً حتى في حقِّ التراث ذاته؛ فمن المستحيل، مثلًا، أن تكون نظريات الفيزياء الحديثة قد ظهرَت في العصور الوسطى العربية؛ لأن ظهورها في العصر الحديث كان مرتبطًا بتطورات طويلة لم يكُن لها نظير في أيِّ عصر سابق. أمَّا النقد الفلسفي عند الغزالي وعند ابن تيمية، فكان في الحالتَين يهدف آخِر الأمر إلى إبطال الفلاسفة والمنطق الذي يرتكزون عليه، من أجل إفساح الطريق للإيمان، وللتدخُّل الإلهي المستمر في العالم، أيْ إنه كان داخلًا في إطار فكري مختلف اختلافًا حاسمًا عن ذلك الذي كانت تنتمي إليه أفكار هيوم أو المَناطِقة الرياضيين المُحدِثين. على أن التفنيد الحاسم لهذا الموقف (بدَوره) إنما يكمن في كونه يؤدِّي إلى عكس الهدف المقصود منه. فغاية هذا التمجيد، الذي نُرجع فيه إلى علمائنا ومُفكرينا من العرب فضل التوصُّل إلى عدد كبير من النظريات والأفكار الحديثة، هو أن نُثبت أن العرب قد استبقوا علماء ومُفكرين غربيين، وأنهم كانوا أصحاب فضل عليهم. ولكن حقيقة الأمر أن هذه الغاية تنقلب إلى تمجيد ضمني للفكر والعلم الغربي على حساب العرب؛ ذلك لأنها تتخذ من نواتج الثقافة الغربية مقياسًا، وتحدِّد مكانة المُفكر العربي تبعًا لمدى اقترابه أو ابتعاده عن هذا المُفكر الغربي أو ذاك. فإذا كان العالم العربي قد استبق أينشتين، وإذا كان المُفكر العربي قد استبق كونت أو هيوم، فلا بدَّ أنه كان عظيمًا لهذا السبب ذاته. وهكذا يصبح معيار العظمة هنا هو الوصول على ما أنجزه الغرب. وفي هذا تمجيد ضمني للحضارة الغربية لا يحلم به الغربيون أنفسهم. ولو كان لدينا إيمان حقيقي بما أنجزه علماؤنا ومُفكرونا، لأقنعنا الإنسانية بفضلهم عليها من حيث هم فحسب، لا من حيث إنهم سبقوا أفكار هذا العالم أو ذاك المُفكر الغربي. ولكي تكتمل لدينا الصورة، يكفينا أن نسأل أنفسنا: هل حدث ذات يوم أن مجَّد الغربيون أحد رجالهم لأنَّه توصَّل - قبل هؤلاء العلماء أو المُفكرين العرب - إلى رأي من آرائهم، أو لأنَّه استطاع أن يتوسع فيه ويُفصِّله بعدهم؟ هنا يكمن الفرق بين الثقافة التي تُمجِّد نفسها بثقة، وتلك التي تُمجِّد نفسها عن طريق الإصرار على مقارنة نفسها بالآخرين وربط نفسها بعجلتهم. ومن المؤكد أنَّ هذه المقارنة الدائمة واتخاذ إنجازات الغربيين مقياسًا لمدى أصالتنا، تؤدِّي آخِر الأمر إلى تثبيت قيمة الثقافة الغربية على نحوٍ مطلق، أمَّا قيمة ثقافتنا فلا تتأكد إلَّا بقدْر ما تنتسب بصورة أو بأخرى إلى تلك الثقافة. وهذا ما كنتُ أعنيه حين قلتُ إنَّ هذا التمجيد اللاتاريخي يؤدِّي إلى عكس الهدف المقصود منه. إذَن فالخطأ لا يكمن في مجرَّد تمجيد التراث، وإنَّما يكمن في طريقة التمجيد ذاتها؛ فهو يقارن دائمًا بما أنجزه الغرب، وكأنَّ الشكل الوحيد الممكن للتقدم الثقافي هو ذلك الذي يوجَد في الحضارة الغربية. كما أنَّ التراث يصوَّر كما لو كان قوةً حيةً قادرةً على حلِّ جميع مشكلات العصر الحاضر، بل إنَّ المتحمِّسين يذهبون إلى حدِّ القول إنَّ أيَّة هزيمة تَلحق بنا، حتى في الميدان العسكري، لا بدَّ أن تكون مرتبطة، بصورة أو بأخرى، بموقفنا من هذا التراث؛ فالتجاهل المزعوم لجذورنا، ومنها الجذور الدينية، هو في رأي الكثيرين السبب الحقيقي لهزيمة ١٩٦٧م، وموقفنا من الماضي هو الذي أدَّى إلى تلك الكارثة، على حين أنَّ الأداء الأفضل الذي قُمنا به في عام ١٩٧٣م إنَّما يرجع - في نظر هؤلاء - إلى أنَّنا ازددنا اقترابًا من هذه الجذور، بعد أن تبيَّنَت لنا فداحة الأضرار التي نجمَت عن انفصالنا عنها. وهكذا يخرج التراث خروجًا تامًّا عن مهمَّته الأصلية، وعن وظيفته المنطقية التي لا يصحُّ أن يتعدَّاها، حتى بالنسبة إلى أشدِّ الناس تحمسًا له. ويصبح الماضي هو القادر على تخليصنا من مشاكل الحاضر، وتصبح المواجهة المباشرة للحاضر أمرًا مستحيل التحقيق في ظلِّ هذه النظرة «التراجعية» اللاتاريخية. وبعبارة أخرى، فإنَّ هذا النمط من أنصار التراث يشوِّهون معنى الحاضر والماضي على حدٍّ سواء؛ إذ إنَّ الماضي في نظرهم له وظيفة حيَّة فعَّالة، يظلُّ فيها محتفظًا بطابعه الخاص، ولكنَّه يؤثر في الحاضر ويتحكم فيه بطريقة مضادة للتاريخ. ومن جهة أخرى فإنَّ الحاضر يضيع منه حضوره وحيويته، إذ يُنظر إلى عوامل النجاح والإخفاق فيه على أنَّها مرتبطة أساسًا بموقفنا من الماضي، ويفقد منطقُه الخاصُّ فاعليته لكي يحلَّ محلَّه منطق مُستمَد من عصر مغاير أساسًا له. ومثل هذا المسلك، الذي يؤدِّي إلى موقف غير تاريخي إزاء الماضي والحاضر معًا، لا يترتب عليه فقط إخفاق عملي في معالجة مشكلات اللحظة الراهنة، بل يترتب عليه أيضًا إخفاق نظري ذريع في فهم وظيفة التراث وظلم فادح له، يتمُّ على أيدي أولئك الذين يتخذون من أنفسهم أنصارًا له، وتكون قوامه هي نفس عملية الدفاع والتبرير التي يظنون أنَّهم يُثبتون بها تمجيدهم للتراث.
السمة المميزة للتراث العربي لماذا لم تؤدِّ العناصر اللاعقلية، التي احتشدَت بها الثقافة الغربية زمنًا طويلًا، أو سياسة اضطهاد الفكر الحر التي حفل بها التاريخ الغربي، إلى نتائج مماثلة لتلك التي أحدثَتها هذه العوامل في العالم العربي؟ ولماذا استطاع الغرب أن ينهض بالرغم من هذه العوامل السلبية، بينما كانت نتيجتها الوحيدة في مجتمعنا هي استمرار التخلف؟ وما الذي يضطرُّ أنصار التراث إلى التمسُّك بنظريتهم التراجعية والبحث عن علم العصر كله في نصٍّ دينيٍّ أو كتاب كلاسيكي؟ ما هي العلة الحقيقية لهذا التطلع المستمر إلى الخلف، الذي يرتبط - في المجال الفكري - بالتخلف؟ هذه التساؤلات تتجاوز نطاق الانحياز للتراث أو العداء له، وتنتمي في الواقع إلى مجال التشخيص والتعليل لا إلى مجال التقييم واتخاذ المواقف المؤيدة أو المعارضة. وليس من الممكن أن يُوصَف مَن يطرح هذه التساؤلات ويحاول تقديم إجابة عنها، بأنَّه ينتمي إلى معسكر أنصار التراث أو خصومه، بل هو أساسًا شخص يريد أن يفهم، ويتخذ موقف التحليل العلمي. إنَّنا نعتقد أنَّ سمة «الانقطاع الحضاري» هي السمة المميزة للتراث الفكري والعلمي في بلادنا العربية، وهي التي تصبغ بصبغتها الخاصة كل ما أشرنا إليه قبل الآن من عوامل، وتؤدِّي بأنصار التراث وخصومه معًا إلى اتخاذ مواقف غير سليمة، وتجعلهم يتوقعون من التراث ما لا يُنتظر منه القيام به، أو يحملون عليه لأسباب هو منها بريء. ولو شئنا أن نهتديَ إلى سبب رئيسي لتخلفنا الفكري، لقُلنا إنَّ هذا السبب هو أنَّ ماضينا وحاضرنا لا يكوِّنان خطًّا متصلًا، وأنَّ هذا الانقطاع هو الذي أدَّى إلى تشويه نظرتنا إلى الماضي والحاضر على السواء. إنَّ العلم والفكر العربي يتسم بفترة ازدهار وصل فيها إلى أقصى درجات التقدم المتاحة في العصور الوسطى، وكان العرب خلال هذه الفترة هم مُعلِّمو الإنسانية ومُوجِّهوها بحق، وكان مركز الثقل الحضاري في العالم هو البلاد الناطقة بالعربية، من الخليج إلى جبال البرانس. ولكن هذه الفترة اللامعة ما لبثَت أن انطفأَت، ولم يحدث استمرار واتصال لحركة التقدم، وتوقف نمو العقل العربي عند مرحلة مُعيَّنة، كاد بعدها هذا العقل أن يصبح منسيًّا. وفي عصر قريب، قد يكون هو القرن العشرون أو التاسع عشر على أحسن الفروض، بدأت مرحلة النهوض من جديد، وحاولَت أن تستعين بذلك العقل الذي كان مكتمل النمو في وقتٍ ما، ولم يدُر بخلدها أنَّ نمو الإنسانية ككل كان قد تجاوز هذه المرحلة بكثير، وأنَّ التخلف كان أعمق وأوسع مدًى من أن يمكن تعويضُه عن طريق استئناف السير من جديد ابتداءً من النقطة التي توقَّفَت عندها المسيرة قبل زمن طويل. هذا الانقطاع الثقافي إذَن أمر واقع، وليس هنا مجال لتعليله، ولكن يكفينا أن نُقرِّر حدوثه فحسب، كظاهرة تاريخية لا سبيل إلى إنكارها. وحدوث هذا الانقطاع يعني أنَّ العلم والفكر العربي لم يكوِّنا تراثًا متصلًا، استمر منذ فترة ازدهاره حتى وقتنا الحالي بلا توقُّف، بل كان فترةً مضيئةً أعقبها ظلام طويل. وقد ترتَّب على عدم استمرار هذه الفترة أنَّها لم تتهيأ لهذه الفرصة لكي تندمج في عقل الشعب العربي وتصبح مبادئها جزءًا من تكوين الإنسان الذهني في هذه المنطقة من العالم، وإنَّما ظلَّ العلم والفكر منعزلَين، ومقتصرَين على الصفوة المختارة. وصحيح أنَّ كل علم وفكر رفيع يبدأ على يد صفوة مختارة كهذه، غير أنَّ استمراره وتوطيده لمكانته يُتيح له الفرصة لكي يصبح، بالتدريج، مندمجًا في الذهن العادي، داخلًا في إطار العتاد الذي يحمله معه كل إنسان، فنظرية كبرنيكوس كانت، في عصر النهضة، فرضًا لا يؤمن به إلَّا قِلَّة من العلماء، ولكن استمرار التراث الكبرنيكي والجهود التي بُذلَت من أجل دعم هذا الفرض وإثباته، جعلَتها تتحول بالتدريج إلى عنصر أساسي من عناصر المعلومات الثقافية في ذهن الإنسان العادي، وقُل مثل ذلك عن نظرية التطور، وعن مبادئ التحليل النفسي، وغير ذلك من الكشوف والتحليلات الهامة، التي كانت في البداية وقفًا على أذهان قليلة، ثم أدَّى استمرار التراث العلمي واتصاله إلى اندماجها، بمُضيِّ الوقت، في ثقافة غير المتخصِّص. أمَّا في حالة التراث العربي، فإنَّ العقلية العادية والسلوك اليومي للإنسان العربي لم يكتسب شيئًا من مبادئه، ولم تصبح جزءًا من سلوكه مثلما نقول اليوم عن الفرنسي إنَّ نظرته إلى الأمور ديكارتية. ولو نظرنا إلى أيِّ تراث قديم - علمي مثلًا - عبر مسافات زمنية طويلة، لبَدَا لنا أنَّ الحالة الجديدة للعلم منقطعة الصلة به تمامًا، ولكن حقيقة الأمر هي أنَّ هذه الحالة لم تنشأ، ولم تصبح ممكنة، إلَّا بفضل سلسلة من التطورات كان فيها القديم ذا تأثير في البداية، ثم ضعُف تأثيرُه بالتدريج نتيجةً للنقد والتصحيح، واستمرَّت عملية التصحيح والتجديد هذه حتى المرحلة التي يبدو فيها أنَّ القديم لم يعد له أيُّ أثر. والواقع أنَّه موجود، ولكن من خلال فنائه وتصحيحه ونقده. موجود في الأجيال الجديدة من النظريات والأفكار التي ما كانت لتُبعَث إلى الوجود لو لم تكُن من سلالة هذا الجَدِّ البعيد، فنظرية كبرنيكوس موجودة لدى جاليليو بقوة، وجاليليو كان له تأثيره القوي في ديكارت وفي نيوتن، ولكن مع مزيد من التعديل والتصحيح، ونيوتن كان هو القوة الدافعة للحركة العلمية التي استمرَّت طوال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي أدَّت في نهاية الأمر، وبعد سلسلة طويلة من التصحيحات والتعديلات، إلى أينشتين في أوائل القرن العشرين. وخلال ذلك كله يوجَد القديم في الجديد، لا بمعنى أنَّ الجديد يعود إلى القديم أو يستلهم منه أفكاره، ولكن بمعنى أنَّ القديم يُتيح للجديد فرصة تجاوزه وتصحيحه وتفنيده. ومن خلال أخطاء القديم تأتي القوة الدافعة التي تولِّد الجديد. إنَّنا لو شئنا أن نلخص في كلمة واحدة التضادَّ بين النظرة إلى التراث التي تؤدِّي إلى تقدُّم فكري، وتلك التي لا يترتب عليها سوى التخلف، لقُلنا إنَّ التراث في الأولى، يحيا من خلال موته، أمَّا في الثانية فإنَّه يموت من خلال حياته؛ في الأولى يكون التراث متصلًا، لا يطرأ عليه انقطاع، فتكون النتيجة أنَّ كل مرحلة قديمة تُمهِّد الطريق لمرحلة جديدة تعلو عليها وتستوعبها في ذاتها، ولكن مع تجاوزها. أمَّا في الثانية، حين يحدث انقطاع في التراث، وحين تتمُّ محاولةُ الإحياء دون إدراك لمقتضيات العصر الجديد الذي طرأ بعد الانقطاع الطويل، فإنَّ في هذا الإحياء ذاته موتًا للتراث، لأنَّه يبعثه من جديد في غير وقته، ويزرعه - كالقلب الغريب - في جسم عصر لا بدَّ أن يرفضه.
درس النهضة الأوروبية لنقارن بين ما حدث للتراث المستمر، وما حدث للتراث المنقطع في أوروبا، ففي عصر النهضة، كان أمام الأوروبيين تياران يمكن نظريًّا الاستعانةُ بهما في إحياء العلم؛ أحدهما هو التيار اليوناني (المنقطع)، والآخر هو العربي (المستمر وقتها). وعلى قدْر ما انتفع الأوروبيون بالتيار الأخير، فقد رفضوا التيار الأول. وحين أقول إنَّهم رفضوه فأنا لا أعني أنَّهم ظلُّوا يرفضونه دائمًا، أو أنَّهم رفضوه في جميع المجالات، فمن المؤكد أنَّهم عادوا إلى التراث اليوناني والروماني في مجال الفنون والآداب، ولكنَّهم في مجال التفكير العلمي والفلسفي رفضوه رفضًا قاطعًا، فقد كان أول ما حرص عليه كبار فلاسفة الفترة الأولى من العصر الحديث (حين كان الفلاسفة علماء أو مُوجِّهين لتيار المعرفة بوجه عام)، هو توجيه أقسى الانتقادات إلى العلم اليوناني، وإلى سُلطة أرسطو على وجه التخصيص. ولست بحاجة إلى أن أشير إلى تلك النصوص المشهورة، التي دعَا فيها بيكون وديكارت إلى الخلاص من سُلطة القدماء، واتخاذ الفكر الواضح، أو المشاهدة والتجربة الواضحة، معيارًا أوحد لقبول الفكرة والاعتراف بصحتها. إنَّ من واجبنا في العالم العربي أن ندرس هذا الموقف بإمعان، لكي نعرف كيف انتقلَت أوروبا من مرحلة تخلُّف طويلة إلى أول الطريق الذي أوصلها إلى ما هي عليه الآن من تقدم، ولكي تتضح أمام أعيننا العوامل التي جعلَت الغربيين يتقدمون علينا إلى حدٍّ هائل، مع أنَّ نقطة بدايتهم، في ذلك العصر، كانت أضعف بكثير ممَّا كنَّا قد توصَّلنا إليه قبلهم بقرون عِدَّة. وأول ما نستخلصه من هذه الدراسة هو أنَّ الأوروبيين لم يخجلوا من إعلان رفضهم القاطع لتراث كامل ينتمي إلى صميم ثقافتهم، وتمتدُّ إليه جذورها. فقد كان الفلاسفة في هذه الفترة يقفون من تراث الفكر الأرسطي، الذي سيطر على العصور الوسطى سيطرةً كاملة، موقف التحدي الصريح، وكانت نقطة بداية العلماء - من أمثال جاليليو - هي ضرورة تحرير الفكر من سُلطة القدماء، والتوجُّه إلى الطبيعة مباشرة، بدلًا من كتب التراث، من أجل فهم العالم وقوانينه. ولم يكُن في موقف الرفض القاطع هذا ما يعيبهم، بل لقد أصبح هذا الموقف هو أساس مجدهم، وهو الذي وضعهم على قمة الفكر والعلم في عصرهم. ولو بحثنا عن العامل الذي جعل الفكر والعلم الأوروبي يرفض تراثه القديم على هذا النحو القاطع، الذي وصل - كما قُلنا - إلى حدِّ القسوة، لوجدنا أنَّ هذا العامل كان في حقيقته انقطاع التراث، فالفكر والعلم القديم كانا في عصره شيئًا هائلًا بحق، وكان مصدر أمجاد للأمة التي ظهر فيها ما زال العالم يعترف لها بها حتى اليوم. ولكن تجمُّد هذا التراث في العصور الوسطى الأوروبية، ووقوفه عند حدوده القديمة، أو حتى تراجعه عنها، وعدم قدرته على تطوير ذاته في حركة متصلة يعمل فيها الجديد على استيعاب القديم في داخله مع تجاوزه على الدوام؛ كل ذلك كان من المُحتَّم أن يؤدِّيَ بأقطاب الفكر والعلم، في عصر النهضة وأوائل العصر الحديث، إلى أن يشنُّوا حملةً ضاريةً ضدَّ التراث، ويتصوَّروا أنَّ التقدم الحقيقي لن يتحقَّق إلَّا عن طريق رفع شعار «البدء من جديد» في جميع المجالات. ولم يمنع ذلك، بطبيعة الحال، من أن يتخذ الأوروبيون فيما بعدُ موقفًا متوازيًا من التراث القديم حين وضعوه في إطاره التاريخي، ولم يعودوا ينظرون إليه على أنَّه قوة تنافس الحاضر. فعندئذٍ، حين بدأ الحاضر الأوروبي يمتلئ بمضمون غني، لم يعد هناك ما يُخجِل في الاعتراف بقيمة التراث الكلاسيكي وفي تمجيده، بوصفه قوةً كانت لها قيمتها الكبرى في عصرها، وإن لم تكُن التطورات التالية قد تجاوزَتها إلى حدٍّ لا متناهٍ. ولنقُل بعبارة أخرى إنَّ النظرة التاريخية إلى التراث تؤدِّي إلى إزالة كل تناقض بين تمجيد التراث والاعتراف بتخلُّفه، فهو يُمجَّد لأنَّه كان شيئًا رفيعًا في عصره، على حين أنَّ تخلُّفه يظهر واضحًا إذا ما قُورِن بالأوضاع التي تجاوزَته في العصر الحاضر. وهكذا نستخلص من استيعاب درس النهضة وموقفها من التراث حقيقتَين على أعظم جانب من الأهمية: الأولى: هي أنَّ من الممكن أن تقوم نهضة علمية فكرية رفيعة المستوى في مراحلها الأولى، على أساس الرفض الحاسم للتراث، وذلك حين يكون هناك انقطاع في التراث يمنع من استمراره في خطٍّ متصل حتى الحاضر، وعندئذٍ لا بدَّ أن ترفع النهضة شعار «البدء من جديد» كعلامة على تحدِّي التراث. والثانية: هي أنَّ التطور والتقدم المستمر في المعرفة يساعد على الوصول إلى نظرة تاريخية إلى التراث، يختفي فيها التناقض بين تمجيده والاعتراف بتخلُّفه.
الصلة بين التخلف والاغتراب إنَّ المقارنة بين موقف الأوروبيين من تراثهم، بل من تراثنا نحن أيضًا، وموقف الثقافة العربية من هذا التراث، تكشف لنا عن مصدر أساسي من مصادر تخلُّفنا الفكري. وهذا التخلف يتخذ في العصر الحاضر شكل الاغتراب والتمزق، الذي لا يُمهِّد لانطلاقة جديدة إلى الأمام، بل يُعبِّر عن حالة من العجز عن مواجهة العصر، والعجز عن نسيانه، في الآن نفسه. فالعقل العربي، في المرحلة الراهنة من تاريخه، مغترب بصورة مزدوجة، وهو لا يتلقَّى هذا الاغتراب من الخارج، أو من قوة تفرضه عليه، بل إنَّه هو الذي يفرضه على ذاته بإصرار وعناد، فتكون النتيجة الوحيدة لذلك هي بقاؤه حيث هو، على حين أنَّ العالم من حوله يجري بسرعة مذهلة لكي يحتلَّ في كل يوم مواقع جديدة، يغزوها العقل السليم. ولقد أَلِفنا أن يُحدِّثنا الكُتَّاب في بلادنا عن ذلك الاغتراب «المكاني» الذي يتمثل لدى المتعلقين بثقافة بلاد غير بلادهم، وهم أولئك الذين تجدهم حولكَ أينما ذهبت، يكملون ما يعجزون عن التعبير عنه بكلمات أجنبية، ويقتبسون من بلاد بعيدة أسلوب حياتهم اليومية، وشكل ملبسهم، وربما طريقة إيماءاتهم وإشاراتهم. هؤلاء الناس مغتربون مكانيًّا، لأنَّ جسمهم في أوطانهم وعقلهم في أوطان أخرى نائية. وربما كان كل مثقف متعلق بالفكر الغربي - بمعنًى ما - من هؤلاء المغتربين «مكانيًا»، ومن ثَم فهو هدف للحملات التي يشيع توجيهُها ضدَّ «الغزو الحضاري» والثقافات المستورَدة التي تُهدِّد أصالتنا بأفدح الخطر. غير أنَّ أصحاب هذه الحملات هم أنفسهم مغتربون بمعنًى أخطر، لأنَّه أشدُّ خفاءً؛ ذلك لأنَّ النصير المتحمِّس للتراث يغترب عن عصره، وعن حاضره، ويتعلق بعصر تفصله عنه أبعاد زمانية كبيرة، ومثل هذا الاغتراب الزماني أمر لا مفرَّ منه بالنسبة إلى كل مَن يلتمس في التراث إجاباتٍ كاملةً عن الأسئلة التي يثيرها العصر الحاضر؛ فهو مفروض على مَن يلتمس في حكمة الأقدمين حلًّا لكل مشكلات العصر الأخلاقية، وعلى مَن يجد في سلوك القدماء في المعارك مرشدًا وموجِّهًا في الحرب الحديثة، إلى آخر هذه الأمثلة التي يحفل بها عالم الفكر في بلادنا العربية. مثل هذه الأنماط الفكرية - وهي كثيرة - لا بدَّ أن تكون مغتربة، حتى لو تنكَّرت للعصر الذي تعيش فيه، وسَعَت إلى قطع روابطها به، وظلَّ فكرها وقلبها مرتبطًا بالعصر القديم، الذي تتركَّز فيه كل آمالها؛ ذلك لأنَّ الحاضر يفرض نفسه على المرء مهما حاول أن يهرب منه. إنَّه حولكَ أينما ذهبت، ومهما دفنتَ رأسك في رمال الصحراء، أو في رمال البيداء، ولا بدَّ أن يظهر الاغتراب في حياة هؤلاء المتنكرين للعصر على شكل عجز عن فهم ما يدور فيه أو عدم قدرة على السلوك السوي، أو تمسُّك بعادات لا تَلقى من الآخرين إلَّا السخرية، أو - على أحسن الفروض - إحساس طاغٍ بأنَّ كل شيء في العصر الحاضر خطأ، وبأنَّ الأيام الطيبة قد ولَّت إلى غير رجعة، وبأنَّ المرء قد كُتب عليه أن يعيش في عصر ويتعلَّق بعصر آخر، وهذا الإحساس هو قمة الاغتراب، وقمة العجز عن التكيُّف، الذي يعكس أزمة التخلف الفكري في أجلى صورها. إنَّ المأساة التي تنطوي عليها هذه الأزمة هي أنَّ أصحاب هذا الاتجاه يبحثون عن الانتماء، ويفتشون عن جذورهم العميقة، ولكنَّهم يزدادون اغترابًا كلَّما توهموا أنَّهم دعموا روابطهم بهذه الجذور، لأنَّ ذلك الاغتراب الزمني قد يكون أخطر من الاغتراب المكاني. فصحيح أنَّ مَن يرتبط إلى حدٍّ مفرط بثقافة معاصرة تنتمي إلى مجتمع غريب عن مجتمعه هو - إلى هذا الحدِّ - شخص مغترب، ولكنْ ألا يؤدِّي بعد الشُّقَّة في الزمان إلى اغتراب أخطر؟ ألا يمكن أن تكون ثقافة المجتمع الذي ننتمي إليه غريبةً عنَّا إذا كان يفصلها عنَّا بُعد زمني وحضاري هائل؟ وهل نستطيع أن نقول بصدق إنَّنا منتمون، حين نتعلق بثقافة هي حقًّا منتمية إلى مجتمعنا، ولكنَّها ظهرَت في عصر تختلف جميع مقوماته عن عصرنا، إلى حدِّ أنَّنا لا نستطيع أن نتعرف على أيٍّ منها في حياتنا الراهنة؟ إنَّ المكان في عصرنا ينكمش، والعالم يتجه إلى التقارب الفكري وتكوين ثقافة ذات طابع عالمي تقوم فيها التكنولوجيا الحديثة بمهمَّة تخفيف الحواجز بين الثقافات المحلية، وفي مقابل ذلك تحدث في الزمان حالة عكسية، فهو يزداد امتدادًا إلى حدِّ أنَّ الفارق بين جيلَين متعاقبَين قد يزيد الآن عن الفارق بين عشرة أجيال في القرون الماضية. وفي مثل هذا العصر الذي تزداد فيه المسافات الزمانية اتساعًا وتزداد فيه المسافات المكانية ضيقًا، قد تكون العودة إلى ثقافة سحيقة القِدَم مؤدِّية إلى اغترابٍ أشدَّ من ذلك الذي يؤدِّي إلى التعلق بثقافة بعيدة مكانيًّا. وبطبيعة الحال فإنَّ المغتربين زمانيًّا ينكرون ذلك عن طريق نظرة مُعيَّنة إلى الزمان، يؤكدون فيها أنَّ التغير وهم، وأنَّ الزمن لم يتقدَّم، وأنَّ التطور خداع؛ أيْ إنَّهم يعزُّون أنفسهم بنظرة سكونية إلى الزمان، ولكن التسارع المتزايد للتغير يُثبت أنَّهم، في هذا أيضًا، إنَّما يخدعون أنفسهم.
العلمانية ضرورة اجتماعية وسياسية لقد أثبتَت التجربة التاريخية أنَّ نطاق الحريات يتسع كثيرًا في ظلِّ الحكم العلماني عنه في أيِّ مجتمع تُدار فيه شئون السياسة على أساس ديني، فالحكم الديني يغري الأغلبية باضطهاد الأقلية، ويغري الحكَّام باستغلال قداسة الدين من أجل تبرير تصرفاتهم وإضفاء العصمة على أخطائهم وأطماعهم. وكثير من حقوق الإنسان الأساسية، ولا سيِّما حرية الاعتقاد والتفكير، تُقيَّد أو حتى تُهدَر إذا كان الحكم يرتكز على وجود حقيقة مطلقة يُعَدُّ كل ما يخالفها زندقةً وتجديفًا. من جهة أخرى، تُضفي العلمانية على الإنسان المكانة التي يستحقُّها، فهي لا تؤلهه ولا تقول بعصمته من الخطأ، وإنَّما هي تعترف بمحدودية عقل الإنسان وعجزه عن تحقيق الكثير ممَّا يتجه إليه طموحُه، غير أنَّها تعترف في الوقت ذاته بأنَّ عظمة الإنسان تكمن على وجه التحديد في سعيه الدائم إلى تجاوز عجزه وقصوره، وتدرك عن وعي أنَّ الإنسان حقَّق في هذا المضمار إنجازاتٍ رائعة، وما زال ينتظر ما هو أعظم كثيرًا ممَّا حقَّقه. فالحضارة البشرية ليست إلَّا سعي هذا الكائن، الذي يعي جيدًا حدوده وقصوره، إلى تجاوز ذاته. وهذا ينطبق على كافة مجالات الحضارة، ولكن ما يعنينا هنا هو الميدان السياسي والاجتماعي. فليس في وسع أحد الادِّعاء بأنَّ النظُم التي وضعها الإنسان لنفسه كاملة. غير أنَّ إدراك الإنسان لقصور هذه النظُم هو الذي يدفعه إلى تحسينها بلا انقطاع. وخلال كل مرحلة في هذه العملية التي لا تنقطع، يكتسب الإنسان مزيدًا من الخبرات، ويعمل على تقليل أخطائه والارتفاع بمستوى إنجازاته. والأهمُّ من هذا كله، أنَّ الإنسان يكتسب مزيدًا من الثقة في نفسه، ويُصحِّح مساره كلما تراكمَت تجاربه، بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات. غير أنَّ خصوم العلمانية يحملون في داخلهم قدْرًا هائلًا من الاحتقار للإنسان، لا يعلنونه عن الملأ، وربما لم يكونوا على وعي تام به، ولكنه كامن في صميم تعاليمهم، فأكبر الكبائر عندهم، في ميدان السياسة وتدبير شئون المجتمع، هو أن تستمدَّ السُّلطة السياسية شرعيتها من الإنسان، ومن الشعب، وأن يكون تشريعها مستمَدًّا من التجارب والخبرات التي تتراكم لدى المجتمعات البشرية؛ ذلك لأنَّ كل ما يصدُر عن الشعب، أو عن الإنسان عامة، موصوم لديهم بالتقلُّب والتخبُّط والإخفاق. ولفظ «الوضعي» الذي يصفون به القوانين البشرية، ويعنون به ما هو من وضع الإنسان، أصبح من ألفاظ التجريح والتحقير، ولدى معظم هذه الاتجاهات بُغض كامن للديمقراطية، لمجرَّد أنَّها تعني «حكم الشعب». ولا جدال في أنَّ فكرة «حاكمية الله»، التي طرحها سيد قطب، وردَّدَتها من بعده جماعات كثيرة اتَّخذَت من تعاليمه نقطة انطلاق لها، تُلخِّص موقف هذه الجماعات في عدم الثقة بالإنسان. ويرتكز هذا الموقف على استغلال الأخطاء التي يقع فيها الشعب لكي يُثبت أنَّ هذا الشعب ينبغي أن يظلَّ في حالة وصاية دائمة، وأنَّه بالتالي عاجز عن تدبير أموره بنفسه. ومن جهة ثانية، فإنَّ هذه الحاكمية الإلهية تُمثِّل - كما قُلنا في مواضع كثيرة أخرى - فكرةً مستحيلة التطبيق؛ لأنَّ الشرع الإلهي لا يُطبَّق إلَّا بواسطة البشر، ولأنَّ توسُّط الإنسان لا غَناء عنه عند إنزال أيِّ حُكم إلهي من السماء إلى الأرض، ومن ثَم يمكن بسهولة أن تتحوَّل حاكمية الله إلى حاكمية للبشر. ومن جهة ثالثة، فإنَّ هذه الحاكمية الإلهية التي تزعم أنَّها تنقل رسالة السماء إلى الأرض، أخطر وأشدُّ ضررًا بما لا يُقاس، من أيِّ حُكم بشري يتقدَّم إلى مجتمعه بوصفه بشريًّا، لأنَّ الأخير قابل للتخطئة والتغيير، بينما الأول يُضفي على الإنسان الذي يُطبِّقه عصمةً لا يملكها، ويخلع عليه قداسة المصدر السماوي الذي يزعم أنَّه هو الناطق باسمه، فيصبح من المستحيل ردُّه إلى الصواب، ويغدو القمع والاضطهاد هو القاعدة في تعامله مع كل مَن يحاول تنبيه المجتمع إلى أخطائه. إنَّ الأخطاء الفادحة التي تشيع حول مفهوم العلمانية من أوضح مظاهر التدهور الفكري الذي وصلنا إليه في العقدَين الأخيرَين. ولا يقتصر هذا التدهور على موضوع العلمانية وحده، وإنَّما تسود بين جماهير غفيرة من الناس، وخاصةً المُنتمين منهم إلى جماعة إسلامية، مجموعةٌ من الأفكار الباطلة التي يُردِّدها الجميع بلا تفكير، ولا يحاول أحد أن يتحقَّق بنفسه من صحَّتها، وتظلُّ تُردَّد وتُتناقل، لا على مستوى الأفراد العاديين فحسب، بل على مستوى الكُتَّاب والمُفكرين أنفسهم، مثل د. عبد الوهاب المسيري، فالجميع يتحدَّثون بلا فهم عن العلم «المادي» الأوروبي، وعن تلك الفلسفة «المادية» التي تجعل من الإنسان الغربي مجرَّد «غريزة» أو كتلة مُعقَّدة من المادة، وتستبعد كل عنصر روحي استبعادًا تامًّا. والجميع يتوهَّمون أنَّ العلم إذا تجاوز المجال المادي أو التجريبي المباشر أو المحسوس كان معنى ذلك أنَّه ينتقل إلى «عالم الغيب» الذي لا سبيل إلى معرفته إلَّا بشكل من أشكال الوحي. والكل يؤمنون بأنَّ الإنسان الأوروبي يعيش في حالة انحلال خُلقي دائم، ولا يُفكر إلَّا في الجنس الذي يُمارسه بتحرُّر تام، ولا مجال في حياته لأيِّ نوع من القِيَم الأخلاقية، وأنَّ التشريع في الدول الأوروبية يستهدف حماية «الشواذ جنسيًّا»، ويدافع عن الزنا، إلى آخر هذه الأوهام التي تكوِّن صورةً مشوَّهةً يتألَّف منها الزاد الفكري الوحيد لملايين من الناس. مثل هذه القضايا الخُرافية يستحيل أن تسود وتتردَّد من كاتب إلى كاتب، ومن خطيب إلى خطيب، ومن قارئ إلى قارئ، إلَّا في عصور الانحدار الفكري، والتسليم الساذج بما يقوله دُعاة مُغرِضون، أو كُتَّاب لا يعرفون ولا يقرءون. ولو كانت الدعوة الإسلامية المعاصرة تحمل ذرةً من التفتُّح العقلي والاستنارة والرغبة الحقيقية في التحرُّر من سيطرة الفكر الأجنبي، لكان أول وسائلها إلى تحقيق هذا الهدف فهم الخصم فهمًا صحيحًا، وتكوين صورة صادقة ومتوازنة عنه، ولعملَت على غرس روح البحث والنقد في نفوس أتباعها، بدلًا من أن تغرقهم في ظلمات القوالب المحفوظة.
د. فؤاد زكريا، الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، الفصلين الثاني والثالث.
#محمد_بركات (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السابعة: خطورة الإعجاز العل
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السادسة: ضرورة معرفة تاريخ
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الخامسة: العلاقة بالآخر ومش
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الرابعة: تاريخية النص الدين
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثالثة: الكهنوت العدو الأخ
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثانية: لا يوجد دين رسمي ع
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الأولى: الله ظاهر في خلقه
-
المختار من الفتوحات المكية (23) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (22) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (21) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (20)
-
المختار من الفتوحات المكية (19) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (18) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (17) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (16) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (15) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (14) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (13) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (12) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (11) محيي الدين بن عربي
المزيد.....
-
تركيا ترفض تسليم إسرائيل نقشا -يثبت الوجود اليهودي في القدس-
...
-
فوق السلطة.. وزير فرنسي سابق: الإسلام الدين الأكثر اعتناقا و
...
-
كل ما تريد معرفته عن دورة العاب التضامن الاسلامي واماكن إقام
...
-
ترامب يشتم النائبة المسلمة إلهان عمر ويدعو لعزلها.. فما الأس
...
-
إنتخابات الكنيسة السويدية الأحد - ممارسة ديمقراطية في مؤسسة
...
-
عرض كتاب.. التهديدات الإسرائيلية للمقدسات الإسلامية والمسيحي
...
-
عرض كتاب.. التهديدات الإسرائيلية للمقدسات الإسلامية والمسيحي
...
-
نيويورك.. يهود يتظاهرون احتجاجا على مشاركة نتنياهو باجتماعات
...
-
يهود يتظاهرون في نيويورك احتجاجا على مشاركة نتنياهو باجتماعا
...
-
القمة العربية الإسلامية في الدوحة.. نجاح مرهون بمراجعة التحا
...
المزيد.....
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
المزيد.....
|