تعذر لأسباب فنية، نشر الحلقة الثالثة من دراسة الدكتور جورج قرم <<من أجل توزيع أكثر عدالة للثروات في العالم العربي>> يوم الاربعاء الماضي. لذا، ننشر اليوم هذه الحلقة وهي الأخيرة.
ان المشاكل المزمنة للاقتصادات العربية لا بد من ان تؤدي الى سياسات اقتصادية اكثر ترشيدا وصوابية لمعالجة فعالة للاختناقات والتشوهات والمعرقلات المتعددة التي تقف حائلا امام الحصول على معدلات نمو قابل للاستدامة وغير معرّض الى تقلبات العوامل الخارجية باستمرار. واذا كانت سياسات التحرير الاقتصادي والتعديل البنيوي (Structural Adjustement) المطبقة في المنطقة العربية لا بد منها، فإن هذه السياسات تحتاج الى الكثير من الاجراءات التكميلية الهامة لكي تعالج جميع التشوهات والانحرافات ولكي تشجع القطاع الخاص على الدخول في نمط اكثر فاعلية من الاستثمارات، خاصة من ناحية خلق المزيد من فرص العمل والدخول في مناخ اقتصادي عام يشجع التحول من الاتكال على ريوع مختلفة، غير منتجة، الى امتلاك اساليب التنظيم الاداري والصناعي الحديث الذي لا بد منه للصمود امام المنافسة الدولية الشديدة والتخفيف من الاتكال على المواد النفطية والتحويلات المالية من العرب العاملين في الاغتراب داخل المنطقة العربية وخارجها.
تجدر الاشارة في هذا المضمار، الى ان التغييرات الاخيرة الضخمة التي حصلت في بنية توزيع الثروات والمداخيل منذ فترة الازدهار النفطي وتطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي في الدول التي كانت تعمل سابقا بنظام اشتراكي الطابع، قد ادت الى انماط استثمارية مركزة على القطاع العقاري وبشكل خاص بناء الشقق الفخمة والمراكز التجارية والفنادق الفخمة، وعلى تشجيع الانماط الاستهلاكية الحديثة في شتى المجالات استجابة للطلب الواسع الناشئ عن القدرة الشرائية الجديدة التي تراكمت بالشكل الذي وصفناه اعلاه لدى فئات اجتماعية وسياسية جديدة. ويبدو ان الجهود السابقة التي كانت قد بذلت في بعض الدول مثل مصر والجزائر لبناء قاعدة صناعية متطورة، ومنها الجهود العربية المشتركة لبناء صناعات حربية، قد تراخت او تراجعت او تلاشت لاسباب عديدة، منها ما اصاب التعاون العربي من خضات سياسية ضخمة اثر غزو الكويت، ومنها ما يتعلق بالتراجع في نشاطات القطاع العام في الدول العربية، إلا في دول الخليج العربي حيث تم التركيز على تطوير الصناعات النفطية والغازية والبتروكيماويات. اما صناعة السيارات والصناعات الحربية وصناعة الالكترونيات والمعلوماتية، فلم تشهد الاقتصادات العربية اي تطور يذكر في مثل هذه الصناعات الرئيسية في آليات النمو الحديث. وقد بقيت الجهود الصناعية في القطاع الخاص محصورة في التوسع الافقي في صنع الألبسة والدخول في عقود فرعية (Sub- Contracting) مع بعض الشركات الدولية خاصة في المغرب وتونس. وربما تكون قلة الجهود الصناعية المبذولة في المنطقة العربية مسؤولة عن عدم قدوم استثمارات اجنبية مباشرة الى المنطقة خارج استمرار الاستثمار الاجنبي في قطاع الطاقة الذي يهم اقتصادات الدول الغربية.
وفي نظرنا ان ظاهرة تقاعس سياسات التصنيع، بما فيه الصناعات الحربية والصناعات الالكترونية وصناعات المواد الغذائية، هي المسؤولة الى حد بعيد عن تفاقم سوء توزيع المداخيل والثروات او استمرار آليات وانماط توزيعية لا ترتبط بجهد انتاجي جماعي، تشجعه سياسات اقتصادية ومالية تهدف بشكل واضح الى تعديل توزيع المداخيل لكي تصبح اكثر عدالة وفاعلية في آن معا من ناحية ارساء مقومات التنمية المستدامة.
بطبيعة الحال انه ليس من السهل تغيير انماط توزيع الدخل في المنطقة العربية اذ يبدو ان بنية المداخيل والثروات اكتسبت طابعا جامدا ومتحجرا، ولم يناقَش هذا الموضوع بشكل مباشر في الادبيات الاقتصادية الحديثة بما فيها الدراسات والتحاليل المتعلقة بالعالم العربي. فالاتجاه السائد هو دراسة ظاهرة الفقر واساليب تخفيفه او مكافحته عبر تحسين مستوى الخدمات التربوية والصحية والحمايات الاجتماعية المقدمة من قبل الدولة الى الفئات الاجتماعية الاكثر فقرا. ان السياسات التي تدعو اليها الهيئات الدولية مثل البنك الدولي او برنامج الامم المتحدة للتنمية (UNDP) لمكافحة الفقر لا تركز اجمالا على قضية اصلاح بنية المداخيل والثروات بشكل مباشر بل هي تحث الدول على تبني سياسات تهدف الى تخفيض معاناة الفئات الفقيرة وتوفير الخدمات التي من شأنها تسهيل ايجاد فرص عمل. وترى تلك الهيئات الدولية ان تلغي الدولة المعنية بتفشي ظاهرة الفقر انواع الدعم العام للاستهلاك، مثل دعم اسعار بعض السلع الاستهلاكية الاساسية (الارز، الطحين، والخبز، الشاي، السكر، الزيت على سبيل المثال)، وهو دعم مكلف للمالية العامة، لاستبدال هذه الانواع من الدعم بحمايات اجتماعية تصيب بشكل حصري الفئات الاشد فقرا وتقدم الى هذه الفئات انواعا مختلفة من المساعدات عبر اطار مؤسسي متخصص لمكافحة الفقر (الصناديق الاجتماعية كما تم تأسيسها في كل من مصر واليمن والاردن على سبيل المثال).
غير انه تشير بعض الدراسات الخاصة بالعالم العربي الى العوامل الاقتصادية الاجمالية واخطاء السياسات التنموية وانعدام العدالة في توزيع المداخيل والموارد كأسباب رئيسية في تفشي ظاهرة الفقر. وبشكل اجمالي يشكك الكثير من الباحثين الاقتصاديين العرب في صوابية سياسات الاصلاح الاقتصادي (Structural adjustment policies) كما هي مطبقة حسب المعالجات التقليدية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ويتخوف معظم الباحثين من تفاقم ازمة البطالة وحالات الفقر في الوطن العربي من جراء تطبيق سياسات الاصلاح الاقتصادي ومنها الغاء الدعم على المواد والسلع الاساسية وعمليات الخصخصة التي قد يكون لها اثر سيئ على مستوى العمالة نظرا لاهمية وحجم مؤسسات القطاع العام. وتربط ايضا معظم الدراسات بين مشكلة البطالة وتدني مستوى التعليم، كما تشير بعض الدراسات الى انعدام الحصول او ضيق فرص الحصول على اصول انتاجية وموارد تمويلية لتطوير نشاطات انتاجية من قبل فئات السكان الاكثر فقرا وهذا ما تسعى الى معالجته البرامج المرسومة في اطار صناديق التنمية. وقلما تركزت الدراسات مباشرة على الديناميكية الناقصة في نشاطات القطاع الخاص او في نمط العلاقة بين القطاع الخاص والقطاع العام او في السياسات الضريبية الواجب اتباعها من اجل الانتقال التدريجي من نمط ريعي في التنمية التي تتميز بها الاقتصاديات العربية اجمالا الى نمط انتاجي يولد فرص العمل لكل فئات المجتمع، من الكفاءات العلمية والتقنية الرفيعة الى الفئات الفقيرة والمهمشة. وهذا في الحقيقة يتطلب النظر الى تجربة البلدان الاخرى خاصة في جنوب شرق آسيا حيث ادت الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص عبر التشاور المعمق حول افضل السبل لامتلاك التكنولوجيات وتطوير القدرة الذاتية في تطويرها الى نتائج مرموقة على خلاف الوضع القائم في المنطقة العربية.
ان تغيير هذا الوضع يتطلب اقامة نوع جديد من العلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص في الدول العربية مبنية على وعي اكثر وضوحا للمسؤوليات التي يجب ان يتحملها كل من القطاعين وتوزيعها بينهما. ففي ظل تراجع دور الدولة في الاقتصاد وتضاؤل امكانيته المالية لا بد من ان يعي القطاع الخاص ما يجب ان يكون له من مسؤوليات جديدة في خلق فرص العمل عبر استثمارات متواصلة تهدف الى زيادة الانتاجية والاستفادة من الكفاءات البشرية القائمة وتقوية قدرته التنافسية للتغلب على حالة تهميش الاقتصادات العربية في الاقتصاد الدولي. وعلى الدول ان تعيد النظر في كثير من سياساتها وان تخلق مناخا استثماريا محفزا عبر اصلاح الانظمة الضريبية والقضائية والقانونية وايجاد الصيغ الجديدة لكي يتحمل القطاع الخاص مسؤولياته الانتاجية والاجتماعية في اطار تقسيم عمل جديد بين القطاعين يؤدي الى زيادة اداء العجلة الاقتصادية وتوسع فرص العمل واصلاح بنية المداخيل والثروات مما يخرج اقتصاد المنطقة من حالة التهميش والركود والتبعية للعوامل الاقتصادية الخارجية في المسارات التنموية.
() وزير مالية سابق
©2003 جريدة السفير