|
في دلالة انفصال -العمل السياسي- عن السياسة العملية في بلداننا
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1824 - 2007 / 2 / 12 - 12:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قلما يوضح مثقفون ومحللون عرب نطاق صلاحية تحليلاتهم، أو يحددون المخاطبين المفترضين بها، أو يميزون الطرف أو الأطراف المعنية بتنفيذ "حلول" يقترحونها في مقالاتهم ودراساتهم وأبحاثهم. والتمييز الجوهري الذي تخفق معظم كتاباتنا في الإلحاح عليه هو التمييز بين نطاقي ومنطقي التحليل والعمل، وتاليا الاختلاف الكبير بين ما قد نسميها الحلول التحليلية التي يمكن أن يقترحها المثقف، وبين الحلول العملية التي يمكن أن يستفيد منها السياسي. فلنبرح الكلام المجرد لتوضيح مقصدنا. بصدد الأزمة الراهنة في لبنان، يكتب مثقفون مظهرين ترابط نزاعات سياسية لبنانية مع صراعات وتوترات إقليمية ودولية. وقد يكشفون بحق اختلالات بنيوية يعاني منها النظام اللبناني. وعلى المحور الزمني، يرصدون أصولا تاريخية متفاوتة القدم لمختلف عناصر الأزمة اللبنانية. ويخلصون إلى ضرورة معالجة مشكلات إقليمية شرق أوسطية، وإصلاح عميق في النظام اللبناني، والتصدي لمظالم ومخاوف تاريخية.. من أجل التغلب على الأزمة. هذا "صحيح" بلا ريب. لكن ما هو نطاق صحة الحلول التي تتوج تحليلات كهذه، تجتهد لاستنفاد جميع الترابطات الممكنة؟ هل تفيد السياسي المهتم بمعالجة الطور الحاد من الأزمة؟ هل تقدم له عدة عملية من أجل سياسة مثمرة في مواجهة أزمة هذه؟ هل هي "توصيات تنفيذية" عملية، تخاطب جهات بعينها، على غرار ما تفعل مراكز دراسات استراتيجية غربية ("المجموعة الدولية لمقاربة الأزمات" مثلا)، أم أنها تصورات إجمالية لأوضاع يفترض أنه تنحل فيها المشكلات المعنية، تصورات نابعة من دواعي اتساق مقال الكاتب أو بحثه، أو من ولاءاته الإيديولوجية أو حتى من مقتضيات توازنه النفسي؟ هذه أسئلة قلما نطرحها لقلة اهتمامنا بالقضايا المنهجية فيما نكتب. وفي غياب التفكير بهذه القضية، يمكن لتحليلاتنا أن تشكل خلفية معرفية مفيدة، قد لا يستغني عنها فاعلون سياسيون عقلانيون، لكن فائدتها في صوغ سياسات عملية تتراوح بين محدودة ومعدومة. وما قد نقترح من "حلول" قد يبقى بالغ الفائدة لنقد المعالجات التقنية المحض للمشكلات المدروسة (تغلب هذه المعالجات في نتاج مراكز الدراسات الغربية، "المجموعة الدولية.." المشار إليها مثالٌ؛ ومراكز "الثينك تانك" الأميركية تتبع السنّة نفسها)، هذه المعالجات التي تهمل البعد التاريخي، وتخفق في الغالب في بلورة تصور متماسك للعدالة، فتفصل تحليلاتها الوضعانية و"حلولها" العملية عن أي بعد قيمي، وتبقى وفية على العموم لموازين القوى القائمة، وما هو مضمر فيها من تفوق غربي مادي وثقافي وحضاري ودائم. أقول إن ما قد نقترحه من حلول، يحتفظ بقيمة نقدية حيال أمثال هذه المعالجات، بيد انه يبقى مع ذلك غير ملائم للسياسة العملية. هذا لأن منطق التحليل يقوم على إظهار الترابطات الدالة لقضية معينة، فيما يقوم منطق العمل بالعكس من ذلك على الفرز والتمييز ووضع اليد على "تناقض رئيسي" أو "حلقة ضعيفة"، أو إجابة محددة على سؤال: "من أين نبدأ؟". كلما أظهرت تحليلاتنا ترابطات أوسع كانت أكثر إقناعا، فيما يلزم أن تكون هذه قليلة من أجل العمل. لذلك المثقف سياسي سيء. والسياسي مثقف أسوأ. ولذلك كيسنجر على حق إذ يقول إن الفكر بصفاء مدهش حين ليس ثمة بديل. حالة اللابديل تقلل الاحتمالات التي قد يحار بينها التفكير، وتسهل عملية التقرير. بخصوص الأزمة اللبنانية مثلا فإن الحل السياسي العملي هو من قبيل انتخاب رئيس جديد أو برلمان جديد أو الوصول إلى تسوية ما بخصوص نظام المحكمة الدولية... وهو ما لا يمس صحة القول بأن من شأن معالجة شاملة للمشكلات الإقليمية والإصلاح العميق للنظام اللبناني أن يساعد في تجنيب لبنان أزمات مستقبلية. ويبدو لنا أن الجذر الأساسي لضعف انشغالنا بالسياسة العملية هو تخارج قيم الثقافة والسياسة، وهذا شرط تعززه حالة اللااعتراف (بل الاحتقار) المتبادل بين المثقفين والسلطات الحاكمة. ينكر المثقفون أية صفة كلية ومبدئية على السلطات التي تحتكر السياسة، فلا يشغلون أنفسهم بتقديم اقتراحات عملية لها. بالمقابل تطالب السلطات نقادها من المثقفين بحلول عملية، مصادرة على مطابقة تامة لها (السلطات) مع الكلي والمبدئي. فهي لا تتصور للمثقفين غير دور استشاري تكميلي. ولما كان المثقف قلما يستطيع أن يبقى بعيدا عن السياسة، فإنه سيطور تصورا خاصا لها قد يصلح أن نسميه "العمل السياسي"، تمييزا عن السياسة العملية كما قد تمارس في مجتمع ديمقراطي حسم قيمه الأساسية ودوّنها في مؤسساته، وارتدت السياسة فيه إلى مستوى إجرائي أو "توصيات تنفيذية" (لا نلتزم بهذا التصور المحافظ للسياسة؛ نسوقه كنموذج توضيحي فقط). فالعمل السياسي هو سياسة المثقفين، ولطالما كان في هذه عناصر طوباوية ونقدية تذكر بالأصول والانحيازات الثورية لطبقة المثقفين في بلادنا. ولطالما كان العمل السياسي بحد ذاته اعتراضا على السياسة العملية ذات الأصول المحافظة. فيما وراء انفصال الثقافة عن السياسة، يعكس التباعد بين السياسة العملية والعمل السياسي ضعف التبنين الثقافي والتمأسس الاجتماعي والسياسي في دولنا الراهنة. هنا لا تستقل المعرفة بنصاب مستقل عن السياسة (عزيز العظمة)، وليس للسياسة ذاتها نصاب عقلاني يجتذب إليه أنشطة بحثية وفكرية تساعده في صنع قراراته ومأسستها. هنا تتداخل الأدوار والاختصاصات والمعقوليات، وتتشابك المسؤوليات، ويسجل البعد القيمي والعصبوي (الديني والمذهبي والإثني ...) حضورا قويا في نزاعاتنا السياسية، فيما البعد المصلحي العقلاني يزداد ضعفا. وفي مثل هذه الشروط تشيع المقاربات "النظرية" والتأملية للسياسة، وتندر المقاربات الوضعانية العملية. والمثقف المحروم من أي سند مؤسسي لن يرى في المقاربات الوضعانية غير ما يؤبد الأوضاع القائمة. فإن وجدت هذه، ويحصل أن توجد، فإنها تتسم بطابع محافظ مكشوف في انحيازه للأوضاع القائمة هذه. ليس ثمة ما يشير اليوم إلى أن الفجوة تضيق بين المثقفين والسياسة العملية في بلادنا. والمشكلة أننا نشهد مستوى متقدما من احتضار "العمل السياسي"، ومن انحطاط السياسة العملية إلى فن البقاء في السلطة بأي ثمن. سياسة المثقفين تموت. وسياسة السياسيين تزداد بهيمية. ولعل فناء تلك وتوحش هذه من نواتج تفكك الدولة الوطنية التي جمعت الطرفين على مضض، الدولة التي لم تعرف أن تتحول إلى دولة – أمة حقيقية، فلم يبق مفتوحا أمامها غير درب التمزق الطائفي، حيث الثقافة والسياسة معا فائضتان عن الحاجة.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحييد لبنان إقليميا وحياد الدولة اللبناني الطائفي
-
في أصول تطييف السياسة وصناعة الطوائف
-
أميركا الشرق أوسطية: هيمنة بلا هيمنة!
-
رُبّ سيرة أنقذت من حيرة! -هويات متعددة وحيرة واحدة- لحسام عي
...
-
في سورية، استقرارٌ يستبطن حصارا و..يستدعيه
-
حول الطائفية: ورقة نقاش ومقدمة ملف
-
عن حال القانون تحت ظلال الطغيان
-
بيروتُ سوريٍ ملتبس!
-
إهدار المعنى القرباني لإعدام صدام
-
اللهُمَّ أعزَّ الحرية بأحد الدالَيْن: الدين أو الدولة!
-
عمقان لإسرائيل وضحالات متعددة لنا
-
المعارضة الديمقراطية السورية في أزمة!
-
معضلة حزب الله ومحنة لبنان
-
حنين إلى الوطنية القبلية في حمى الدكتاتور
-
في أصل السخط العربي وفصله
-
تعاقب أطوار ثلاث للسياسة والثقافة العربية...
-
كل التلفزيون للسلطة، ولا سلطة للتلفزيون!
-
أزمة الهيمنة وعسر التغيير السياسي العربي
-
في -نقد السياسة-: من الإصلاح والتغيير إلى العمل الاجتماعي
-
ديمقراطية أكثرية، علمانية فوقية، ديمقراطية توافقية؟
المزيد.....
-
الحكومة الإسرائيلية تقر بالإجماع فرض عقوبات على صحيفة -هآرتس
...
-
الإمارات تكشف هوية المتورطين في مقتل الحاخام الإسرائيلي-المو
...
-
غوتيريش يدين استخدام الألغام المضادة للأفراد في نزاع أوكراني
...
-
انتظرته والدته لعام وشهرين ووصل إليها جثة هامدة
-
خمسة معتقدات خاطئة عن كسور العظام
-
عشرات الآلاف من أنصار عمران خان يقتربون من إسلام أباد التي أ
...
-
روسيا تضرب تجمعات أوكرانية وتدمر معدات عسكرية في 141 موقعًا
...
-
عاصفة -بيرت- تخلّف قتلى ودمارا في بريطانيا (فيديو)
-
مصر.. أرملة ملحن مشهور تتحدث بعد مشاجرة أثناء دفنه واتهامات
...
-
السجن لشاب كوري تعمّد زيادة وزنه ليتهرب من الخدمة العسكرية!
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|