|
المرسوم البيبرسي، أقدم قانون ساري للإضطهاد الديني
أحمد حسنين الحسنية
الحوار المتمدن-العدد: 1824 - 2007 / 2 / 12 - 11:12
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يجأر إخواننا في الوطن، مسيحيي مصر بمر الشكوى من وطأة قانون عثماني صدر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يعرف بالمرسوم الهمايوني، ينظم علاقتهم، و علاقات المسيحيين الأخرين، بالدولة، ذلك المرسوم الذي يعد ساري المفعول في مصر و إلى اليوم، و الذي تعد الشكوى منه حجر الزاوية في أي مؤتمر قبطي. المرسوم الهمايوني و إن كان يعد مصدر معاناة في عصر حرية الضمير التي يعيشها العالم إلا منطقتنا المنكودة ، فإنه أيضا موضع تندر إخواننا الأقباط لقدمه السحيق، من وجهة نظرهم، غير دارين أن هناك مرسوم أكثر من المرسوم الهمايوني قدما، و أكثر منه شدة و تقييدا لحرية الضمير في مصر، يخص إخوانهم المسلمين في مصر، و يطبق بشدة و بصمت و دون جلبة و دون تهاون أيضا، منذ أصدره الظاهر بيبرس في عام 665 للهجرة، الموافق لعام 1266 للميلاد، أي مر عليه 741 عام منذ صدر و قرأه المنادون من فوق ظهور الحمير على الناس في شوارع القاهرة و مدن مصر. المرسوم البيبرسي أبسط كثيرا في تركيبه من المرسوم الهمايوني، ربما لعامل العصر، و ربما أيضا لطبيعة الظاهر بيبرس الحربية الصارمة التي تدخل في صلب الموضوع و لا تكثر كثيرا من الكلام. فالمرسوم البيبرسي يتركب من مادة واحدة هي: الأمر للرعية باتباع واحد من المذاهب السنية الأربعة، الشافعية ( المذهب الرسمي آنذاك) أو المالكية أو الحنفية أو الحنبلية، و إنه لا يولى قاضي و لا تقبل شهادة أحد و لا يترشح لاحدى وظائف الخطابة أو الامامة أو التدريس أحد، ما لم يكن مقلدا ( أي متبع) لأحد هذه المذاهب الأربعة. المرسوم البيبرسي، من وجهة نظري، أشد وطأة، و أكثر تمييزا و تقييدا و حدا للحريات من المرسوم الهمايوني، مع رفضي المطلق الصريح للمرسومين. فالمرسوم الهمايوني لم يأمر المسيحيين، بأن يعتنقوا دين معين مثلما لم يحدد لهم قائمة قصيرة بالمذاهب التي يجب أن يتبعوها، فلم يأمر مثلا بأن يكون كافة مسيحيي السلطنة العثمانية و توابعها ، من المسيحيين الأرثوذكس اليعاقبة، أو أن على المسيحيين أن يختاروا بين الأرثوذكسية اليعقوبية أو الأرثوذكسية الملكانية فقط، و من لا يتبع احداهما، و يختار، على سبيل المثال، النسطورية أو الكاثوليكية أو الإنجيلية، فإن شهادته لن تقبل و لن يحق له أن يعمل في سلك وظائف معينة كما الحال في المرسوم البيبرسي، الذي حرم وظائف هامة في ذلك العصر على المسلمين من غير أتباع مذاهب القائمة البيبرسية. على إن الملاحظ إنه، و كأي قانون، قد دخلت عليه تعديلات، و لكنها هنا لم تكن إلا إضافات لا تمس المادة الأصلية الأولى بأي تعديل. إنها لم تكن سوى إضافات زادته وطأة وتشدد، بزيادة بعض المواد عليه، فيذكر ابن حجر في كتاب الدرر الكامنة الجزء الثاني ص 46، أنه عندما كان أعداء أي فرد يريدون أن يكيدوا له و يوقعوا به، دسوا عليه من رماه بالتشيع، فتصادر أملاكه و تنهال عليه العقوبات و الإهانات حتى يظهر التوبة. ما يرويه ابن حجر يدل على زيادة متشدده في المرسوم البيبرسي، أضيفت لاحقا، زادته شده، فبينما كان المرسوم البييرسي قبل التعديل، يقوم على أساس الحرمان من وظائف معينة مع عقوبة مدنية أخرى تتمثل في عدم قبول شهادته أمام المحاكم، نجد أن التعديل الجديد يدل على إجبار في الإعتناق، و ربما مرد ذلك أن الكثير من الناس لم يكن لهم مطمح في تولي وظائف القضاء و الخطابة و الامامة و التدريس بحكم التأهيل المهني، كما أن الكثير من سكان الريف لم يكن يؤثر فيهم موضوع رفض شهادتهم أمام القضاء، لأن المجتمع الريفي يعتمد أساسا، و إلى اليوم، على جلسات الحكم العرفي غير الرسمية، و ذلك في شئون الحياة العادية و الغير متعلقة بالجرائم الكبرى، بما جعل المرسوم البيبرسي غير فعال، و الدليل ما ذكره ابو المحاسن من أن غالبية سكان بعض قرى الصعيد كانوا أشرافا علوية في النسب، زيديين في المذهب، و يتجاهرون بذلك، أي بزيديتهم، و ما ذكره الإدفوي أن التشيع كان في إسنا فاشيا و الرفض ماشيا فجف حتى خف، و لكن لاحظ قوله خف و لم يقل إنتهى أمره أو إختفى، و ما ذكره شمس الدين الدمشقي في القرن الثامن الهجري أن في القرن التالي لظهور المرسوم البيبرسي، من أن بلدة أصفون القريبة من الأقصر، و جد بها طائفة من الإسماعيلية و الرافضة و الامامية و طائفة من الدرزية و الحاكمية .كان نتيجة ذلك مزيدا من التشدد، يصل للمصادرة و الإيذاء مادام الحرمان من بعض الوظائف لا يجدي. لا حاجة إلى الإطالة بذكر ما يؤكد إستمرارية فعالية المرسوم البيبرسي و سريان أحكامه، بكافة التعديلات المتشددة اللاحقة، طوال العصرين المملوكي و العثماني، و التي كان من ضمنها، على سبيل المثال، في العصر العثماني منع أصحاب المنازل من تأجير منازلهم، أو حتى غرفة بالمنزل، لغير أبناء المذاهب الأربعة المذكورة في المرسوم البيبرسي، و إن لم يوجد إلا مستأجر من غير تلك المذاهب الأربعة، فإن الغرفة تغلق، أي يمنع أصحاب المنزل أو الغرفة من الإستفادة من عائد تأجير منزلهم أو غرفتهم، لحين قدوم مستأجر يتبع المرسوم البيبرسي. اليوم عندما أنظر، فإنني لا أرى سوى أن المرسوم البيبرسي، بمعاداته لحرية الضمير، لازال ساري المفعول بكل تعديلاته و بتشدد غير مسبوق لم يحدث منذ عصر محمد على الكبير و إلى وصول السادات للسلطة، الفارق الوحيد، أو لنقل التعديل الوحيد الذي دخل في عصر مبارك الأب، إنه قد تم تقليص مساحة الإختيار لمسلمي مصر، فلم تعد القائمة الرسمية تضم أربعة مذاهب بل، مذهب واحد هو المذهب الحنبلي، و الذي سبق و أن رفضه المصريين و نعتوا من يتبعه بالتشدد و ضيق الأفق، و لكن تم تقديمه في ثوبه الأحمر الأخير و هو الثوب الوهابي، المعروف تمويها بالسلفي. لا بد من الإعتراف اليوم بأن هناك إضطهاد وحشي لكل من يخرج عن الصراط الوهابي، و يرفض أن يتبع دين ملك مصر الحالي مبارك الأب الذي لازال يعيش في وهم أن الناس على دين و مذهب ملوكها. اليوم هناك إضطهاد ليس فقط للمسيحيين، و إنما أيضا للمسلمين، فهناك إضطهاد للشيعة، أكانت زيدية أم جعفرية، وهناك أيضا إضطهاد للصوفية و إضطهاد للقرآنية و حتى االحنفية السنية، و الأدلة على ذلك أكثر من أن تعد، و أصعب من أن يدحضها عملاء النظام الحاكم من أبواقه في الإعلام و منهم مرتزقته العاملين في شرطة الإنترنت. هناك إعتقال و تعذيب الشيعة الجعفرية، و ما حدث للسيد الدريني لا يخفى على أحد، و هو الذي ضغطت الأمم المتحدة على مصر من أجل إطلاق سراحة. و تعذيب السيد الدريني بالصدمات الكهربائية حتى أصيب عموده الفقري بشروح أمر ثابت طبيا، و من قبل إعتقال الشيخ شحاته و الورداني و أخرين كثيرين، و تعرض الجميع للتعذيب. و هناك ما حدث لشيخ القرآنيين و إمامهم الأستاذ الدكتور أحمد صبحي منصور، من إعتقال و محاربة في رزقه و زرق أسرته، حتى أجبروه على الفرار بدينه و نفسه من مصر عصر مبارك. أما الصوفية فلا تحدث، فهناك مصادرة لكتبهم، و التضييق عليهم في إقامة إحتفالاتهم و إرغامهم على قبول وعاظ من أزهر آل سعود في أي تجمع لهم، فضلا عن التحرشات التي يلقاها المتصوفة من قبل شباب الوهابيين الذين يعملون في حماية الشرطة المباركية. الحنفية اليوم أيضا بدأ الدور عليهم، كأول مذهب سني تبدأ عملية الإجهاز عليه في مصر، فالأمر اليوم كما في قصة الثيران الثلاثة الشهيرة، فقد سكت الأحناف عن إضطهاد الشيعة، ثم سكتوا عند إضطهاد الصوفية و القرآنيين، فكان طبيعيا أن يأتي الوقت الذي تلتهمهم فيه الوهابية، فأصبح اليوم إمام الحنفية أبو حنيفة النعمان الفارسي، موضع طعن و لمز لفارسيته، و أصبح أي عالم شهير يفتي تبعا لمذهب أبو حنيفة موضع غمز و لمز و تشهير إلى أن يعود إلى جادة الحق الوهابي الحنبلي. إن هذا الإستعراض لا يلغي أبدا الإضطهاد و التمييز الواقعين بحق أهل الأديان غير الإسلامية، بل الغرض منه أن أوضح إننا جميعا مضطهدين في هذا البلد، سواء أكنا مسلمين أو مسيحيين أو غير ذلك، سواء أكنا سنة أو شيعة أو صوفية أو قرآنيين أو ميزانيين أو أباضيين أو غير ذلك، جميعنا مضطهدين و إن إختلفت نوعية الإضطهاد و درجته. لم يعد أمامنا جميعا، مسلمين و مسيحيين، سنة و شيعة و قرآنيين و صوفية و ميزانيين و أباضيين و أرثوذكس و كاثوليك و إنجيليين و غير ذلك، ممن يؤمنون بدولة مدنية ترعى حرية الضمير و تسيجها بسياج متين يحفظها و يرد عنها كيد الرافضين من أعداء الحريات، سوى أن نتحد صفا واحدا لمواجهة الإعصار الوهابي السعودي، الذي يرفض التعددية و ينكر حرية الضمير، و الذي إشترى حق إحتكار مصر دينيا، أو حق القدم، و أطلقت، بضم الهمزة، يده لتوهيب مصر، أو أسلفتها تبعا للإسم الجديد للوهابية. الوقوف موقف المتفرجين، أو الخائفين، لن ينفعنا، و لن يجلب علينا إلا مزيدا من الويلات، و كل خطوة تخطوها الوهابية المسيسة قدما في سبيل إحكام قبضتها على مصرنا، إنما يعني إننا نفقد قطعة من مصر لصالح مذهب يتبع إرادة سياسية خارجية، إنه يعني تبعية أكثر و أكثر لإرادة الدولة السعودية و إن مصر سائرة في طريق السوعدة على الصعيد الثقافي و الإجتماعي كما السياسي و الإقتصادي، بما يعني إن مهمتنا في إستعادة مصر باتت أكثر صعوبة عن ذي قبل، و أن مصر سائرة لتكون مجرد كوكب محطم مظلم يدور في الفلك السعودي. الوقت ليس في صالحنا جميعا، حان وقت الإفاقة و الإتحاد و العمل الجاد بالإعتماد على الذات لوقف هذا الخطر.
#أحمد_حسنين_الحسنية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حق القدم السعودي في مصر و الحرية الدينية المفقودة
-
لماذا لم و لن يظهر محمد يونس مصري؟؟؟
-
شرعية ثالثة، لا تعديلات دستورية
-
تحاولوا أن تزرعوا عقدة ذنب إسلامية
المزيد.....
-
كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان
...
-
قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر
...
-
قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب
...
-
قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود
...
-
قائد الثورة الإسلامية: الثورة الاسلامية جاءت لتعيد الثقة الى
...
-
قائد الثورة الاسلامية: العدو لم ولن ينتصر في غزة ولبنان وما
...
-
قائد الثورة الاسلامية: لا يكفي صدور احكام اعتقال قيادات الكي
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ينبغي صدور أحكام الاعدام ضد قيادات ال
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|