أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - ثائر دوري - أشباح فانون















المزيد.....



أشباح فانون


ثائر دوري

الحوار المتمدن-العدد: 1823 - 2007 / 2 / 11 - 12:30
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


وجدت أن خير ما أبدأ به كلماتي عن فرانز فانون هي كلماته نفسه في خاتمة كتابه معذبو الأرض . إذ يقول :
(( ..إن العالم الثالث يقف الآن أمام أوربا كتلة عظيمة تريد أن تحاول حل المشكلات التي لم تستطع أوربا أن تأتي لها بحلول . و لكن يجب علينا أن لا نتحدث عن وفرة الإنتاج،و أن لا نتحدث عن الجهد العنيف،أن لا نتحدث عن السرعة الكبيرة . ليس معنى هذا أن نعود على الطبيعة و إنما معناه أن لا نشد البشر إلى اتجاهات تشوههم،أن لا نفرض على الدماغ إيقاعا سرعان ما يفسده و يفقده سلامته . يجب علينا أن لا نتذرع بحجة اللحاق فنزعزع الإنسان و ننتزعه من ذاته،من صميمه،و نحطمه،و نقتله .
لا نحن لا نريد اللحاق بأحد،و لكننا نريد أن نمشي طوال الوقت ليلاً و نهاراً،في صحبة الإنسان،في صحبة جميع البشر . و علينا أن نجعل القافلة متراصة غير متباعدة،و إلا لم يستطع كل صف من الصفوف أن يرى الصف الذي تقدمه،و لم يستطع البشر أن يعرف بعضهم بعضاً،و أصبحوا لا يلتقون إلا لماماً و لا يتحدث بعضهم إلى بعض كثيراً .
إن على العالم الثالث أن يستأنف تاريخاً للإنسان يحسب حساب النظرات التي جاءت بها أوربا و كانت في بعض الأحيان رائعة . و لكنه يحسب حساب الجرائم التي قامت بها أوربا في الوقت نفسه،و أبشع هذه الجرائم أنها شتت وظائف الإنسان تشتيتاً مرضياً،و فتت وحدته،كما أوجدت في المجتمع تحطماً و تكسراً و توترات دامية تغذيها طبقات،و كما أوجدت على مستوى الإنسانية أحقاداً عرقية و استعباداً و استغلالاً بل و مجزرة نازفة تمثلت في نبذ مليار و نصف مليار من البشر .
فيا أيها الرفاق،يجب علينا أن لا ندفع جزية لأوربا بخلق دول و نظم و مجتمعات تستوحي أوربا . إن الإنسانية تنتظر منا شيئاً غير هذا التقليد الكاريكاتوري،الفاجر على وجه الإجمال . إذا أردنا أن نحول أفريقيا إلى أوربا جديدة،و أن نحول أمريكا إلى أوربا جديدة كان علينا أن نعهد بمصائر بلادنا إلى أوربيين،لأنهم سيحسنون التصرف أكثر من أعظمنا موهبة . ...))

في عام 2004 احتفلت الجزائر بذكرى مرور خمسين سنة على اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954 . نصف قرن بين اندلاع ثورة شكلت مع الثورة الفيتنامية عنواناً لأحلام عريضة بالتحرر و التقدم لكل شعوب العالم الثالث في آسيا ، وافريقيا، و أمريكا اللاتينية،و في القلب من هذا أمتنا العربية الموزعة بين القارتين المضطهدتين آسيا ، و أفريقيا . لقد حلمت الشعوب يومها أن هاتين الثورتين المظفرتين،الجزائرية و الفيتنامية ستشكلان عنواناً لنهوض العالم الثالث و تحرره من السيطرة الغربية و تصفية صفحة بغيضة من التاريخ البشري،هي صفحة الاستعمار .
لكن و كأن الزمان قد دار دورة كاملة خلال نصف القرن هذا، فبدل التقدم و التحرر و بناء نظام علاقات دولية متكافئة كما رغبت دول باندونغ،فإذ بنا نعود مع بداية الألفية الثالثة إلى عصر الاستعمار المباشر ببروفته الأفغانية،ثم باحتلال العراق من قبل أمريكا عام 2003. و هذه العودة للاستعمار العسكري المباشر و للعلاقات الكولونيالية لم تأت من سماء صافية،بل من سماء ملبدة بالغيوم التي تجمعت خلال نصف قرن،فقد فشل فكر اللحاق بالغرب الذي ساد في العالم،و الذي حذر منه فانون في المقدمة التي ذكرتها. لقد فشل هذا الفكر سواء بطبعته السوفيتية أم بنموذج باندونغ ، فوقعت دول العالم الثالث فريسة لاستعمار اقتصادي فقد اصطادها المرابون بشبكة الديون . فانهارت أحلام الجزائر،التي بدت في يوم انتصار ثورتها و كأنها قاطرة للثورة الافريقية المنشودة ،فغرقت بالحرب الأهلية. أما هانوي حلم الثوريين في العالم و النموذج الذي حاولنا استنساخه في كل مكان،فقد انتهى بها المطاف أن تفرش السجاد الأحمر لجورج بوش الابن و تستجديه أن يقبل انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية . و على الصعيد الثقافي و الفكري عاد الغرب إلى تمجيد تاريخه الاستعماري بعد أن انزوى خجلاً لبعض الوقت ، فصرح غولدن براون ، وزير المالية في بريطانيا و الخليفة المحتمل لتوني بلير ، قائلاً :
((ولّى الزمن الذي كانت بريطانيا مضطرّة فيه للاعتذار عن تاريخها الكولونيالي))
كما طلب من البريطانيين أن يعتزوا بتاريخهم الامبرطوري . ثم تلا ذلك قانون تمجيد الاستعمار في فرنسا . و كأننا عدنا إلى نقطة الصفر إلى العالم الكولونيالي الذي وصفه فرانز فانون . فكأن ما كتبه عن حرب التحرير الجزائرية مخصص لوصف حرب التحرير التي تدور رحاها اليوم على أرض العراق .
خصصت الجزائر جانباً من احتفاليتها باليوبيل الذهبي للثورة لإعادة التذكير بمفكر الثورة و منظرها و عنوانها المفكر المارتينيكي – الجزائري فرانز فانون فأعادت طباعة أعماله كاملة،و هذه الأعمال كانت قد طبعت من قبل بطبعات عربية كثيرة أغلبها في الستينات ، حيث كان المد الثوري يملأ الفضاء العربي قبل أن يتراجع الاهتمام بفانون منذ السبعينيات مع انكسار القوى الثورية التدريجي . لذلك كان طبيعياً أن لا أتعرف أنا على فانون إلا عندما رأيت الدبابات الأمريكية في بغداد في نيسان 2003 ، فإذ بهاجس غامض يدفعني لأنفض الغبار عن مكتبة أبي البعثي القديم فأستل منها كتابين لفانون مطبوعين على ورق أصفر و دون عناية بالغلاف على عادة الكتب الثورية التي طبعت في الستينات و التي كانت تهتم بالمضمون دون الشكل ، و على عكس ما حدث لاحقاً حين تراجع المضمون لصالح الشكل في كل مجالات الحياة .
أول الكتابين كتابه الأشهر "معذبو الأرض" ، و الثاني ، و هو أقل شهرة ، و قد غيّر المترجم عنوانه فنشره بالعربية تحت اسم " سوسيولوجيا الثورة " ، في حين أن اسمه الأصلي هو "خمس سنوات على الثورة الجزائرية" .و بعد عام و نيف اكتشفت حكاية احتفالية الجزائر بفانون عبر اصدار دار الفارابي في بيروت بالاشتراك مع منشورات آنيب ANEP في الجزائر أعمال هذا المفكر كاملة بغلاف أنيق و على ورق أبيض و قد تضمنت الكتابين سالفي الذكر و كتاب "بشرة سوداء أقنعة بيضاء" ، و كتاب " من أجل الثورة الأفريقية".
و هكذا أعيدت طباعة أعمال فرانز فانون و اكتسبت أفكاره حياة جديدة بعد أن ظن الكثيرون أنها قد انتهت بانتهاء العالم الذي تتحدث عنه،عالم الاستعمار العسكري المباشر.لكن الغرب أعاد إحياء العالم الكولونيالي فأعاد المقاومون إحياء فانون لتعود كتاباته معاصرة وكأنها تكتب اليوم . فحين يتحدث عن حرب التحرير الجزائرية تظن أنه يتحدث عن حرب التحرير العراقية،كما قلنا .
يقف على رأس أعمال فانون كتابه الشهير " معذبو الأرض " الذي كتبه و هو على فراش الموت يصارع مرض ابيضاض الدم و صدر عام 1961 و الثورة الجزائرية،التي ارتبط اسمه بها إلى الأبد ، على وشك الانتصار ، و قد ترجم هذا الكتاب إلى العربية المناضل العربي الراحل الدكتور جمال الأتاسي و سامي الدروبي و صدر عن دار الطليعة في بيروت مع مقدمة هامة للمفكر الفرنسي سارتر لا أدري لما تم حذفها في الطبعة الجديدة من الكتاب الصادرة عن دار الفارابي .
و لد فرانز فانون المفكر المارتينيكي – الجزائري عام 1925 في المارتينيك المستعمرة الفرنسية،التي صارت مقاطعة فرنسية فيما بعد،لكن دون أن يعني هذا أن سكانها السود قد صاروا فرنسيين،فأول أمر صدم فرانز فانون أثناء خدمته في الجيش الفرنسي بعد أن تطوع في الجيش الديغولي هو العنصرية مع أنهم كانوا افتراضياً يخوضون حرباً ضد العنصرية النازية فقد " عزلت كتائب الفرنسيين البيض عن كتائب الهنود الغربيين السود، المفترض أنهم مواطنون فرنسيون. عزل الجنود الافارقة السود عن القوات الفرنسية، كما عزل الافارقة العرب، الذين كان يسخر منهم الفرنسيين ويعاملونهم كما لو كانوا مواطنين درجة ثانية على تراب أرضهم نفسه. عاش فانون هذه التجربة في نفس اللحظة التي بدأ فيها الجيش الفرنسي مواجهة الفاشية الألمانية، بأفكارها عن النقاء العرقي. لم تضع منه المفارقة الساخرة لهذه الحالة" (تشخيص فرانز فانون) . و منذ تلك اللحظة تأكد فرانز فانون أن العالم الكولونيالي أبعد ما يكون عن قيم المساواة فهو عالم مقسوم إلى بيض و سود،إلى مستغلين و مستغلين،إلى مستعمرين (بكسر الميم ) و مستعمرين ( بفتحها ).
و بحكم تخصصه اللاحق بالطب النفسي أدرك أن العالم الكولونيالي معقد و يعتمد دوامه على تسليم الطرفين به،فلو لم يوافق المستعمر ( بفتح الميم ) على استمرار هذا العالم لانهار على الفور. لذلك ألف فرانز فانون كتاب " بشرة سوداء أقنعة بيضاء " خصصه لدراسة الاستلاب الذي يتعرض له المستعمر(بفتح الميم ) حين يتبنى قيم المستعمر( بالكسر) "
يقول فانون:
((تنشأ داخل الشعوب المستعمرة عقد دونية تجاه المستعمر فيحاول أفرادها اعتناق قيم المتروبول الثقافية ))
و بالنسبة للأسود،كما يحلل فانون،سيكون أبيض بقدر ما يرفض سواده ( دغله ). يتابع فانون :
(( حين وصل مارتينيكي إلى الهافر،دخل إلى مقهى.و صاح بثقة تامة:
Garrracon! ve de bie-
و هكذا نشهد تسمما حقيقاً.فهو مهووس بعدم التماهي مع صورة الزنجي الذي يأكل حروف الراء.فتزود منها بالزاد الوفير.لكنه لم يعرف كيف سيوزع مجهوده ))
و يتابع :
((....الذي يدخل فرنسا يتغير،لأن المتروبول يمثل بنظره المستقر و الملاذ،إنه يتغير ليس فقط لأن من هذه الأرض جاءه مونتسيكو،روسو،و فولتير،بل لأن من هناك جاءه الأطباء و رؤساء الخدمة،و أيضا صغار المتسلطين الذين لا يحصون........فذلك الذي يسافر لمدة أسبوع في اتجاه المتروبول يخلق حوله دائرة سحرية حيث تمثل الكلمات،مارسيليا،لا سوربون،بيغال،مفاتيح العقد....))
و عندما يعود إلى وطنه:
((...لنمض للقاء واحد ممن عادوا.(( العائد )) يؤكد نفسه منذ اتصاله الأول،فهو لا يرد إلا بالفرنسية و غالباً لا يعود يفهم لغة الكريول (( لغة شعبية في المارتينيك )).حول هذا الموضوع،يقدم لنا الفولكلور أمثلة.بعد عدة أشهر في فرنسا عاد فلاح إلى أهله.و عندما رأى آلة حراثية،سأل أباه،و هو مزارع عتيق لا يفوته شيء: (( كيف تسمي هذه الأداة؟))،و كان رد أبيه الوحيد أن رماها،و عندها زال فقدان الذاكرة.إنه علاج فريد من نوعه.))
و يوجه فانون أنظارنا بشكل خاص إلى هؤلاء الذين يقفون في المنتصف.يقول:
((...........و في ألوية القناصة السنغاليين كان الضباط المحليون مترجمين،في المقام الأول.فهم يقومون بنقل أوامر السيد إلى أبناء جلدتهم،و يتمتعون هم أيضاً ببعض التكريم ))
في عام 1953 عين في مشفى الأمراض العصبية في مدينة بليدا الجزائرية و هناك بدأت رحلته مع الثورة الجزائرية التي شاهد اندلاعها عام 1954،و في عام 1956 وجه رسالة إلى المفوض العام الفرنسي روبير لا كوست يعلن فيها استقالته من عمله و يدين السياسة التي حولت عدم المساواة و القتل،إلى مبادىء قانونية،موجهة ضد المواطنين الأصليين في الجزائر . هذه السياسة التي تطمس شخصيتهم و تذلهم في قلب وطنهم .
بعد هذه الرسالة طُرد فانون من الجزائر . لكن ارتباطه بالثورة الجزائرية صار أمراً لا رجعة عنه فبعد أن فشل بتحريض الرأي العام الفرنسي ضد استعمار الجزائر انتقل إلى تونس،و أنشأ هناك المنظمة الخارجية لجبهة التحرير الوطني . ثم أصبح عضواً في هيئة تحرير صحيفة المجاهد الناطقة باسم الجبهة . و في عام 1959 عينته جبهة التحرير سفيراً متجولاً لها في افريقيا السوداء و هناك شاهد الدول المستقلة حديثاً و عاين قادتها،فحذر من المصير السيء الذي تمشي إليه هذه الدول المستقلة إذا لم تتدارك الأمر . ففي فصل من كتاب " معذبو الأرض " تحت عنوان " مغامرات الوعي القومي البائسة نجده يحذر من البرجوازية الوطنية التي تستلم السلطة من الاستعمار ، لأنه لا قوة اقتصادية لها و لا خبرة لها بإدارة شؤون البلاد فهي ليست برجوازية منتجة. يقول فانون :
(( إن البرجوازية الوطنية في البلدان المتخلفة ليست متجهة نحو الإنتاج، و الابتكار و البناء،و العمل،و إنما هي تنفق نشاطها كله في أعمال من نوع الوساطة . إن نفسية البرجوازية الوطنية هي نفسية رجال أعمال،لا رواد صناعة . و يجب أن نعترف أن جشع المستوطنين . و نظام الحجر الذي أوجده الاستعمار لم يدعا للبرجوازية حرية الاختيار كثيراً .
إنه ليستحيل على برجوازية أن تراكم رأسمالاً في ظل النظام الاستعماري . و الرسالة التاريخية التي يبدو أن البرجوازية الوطنية الحقيقية في البلد المتخلف قد خلقت للنهوض بها هي أن تنكر نفسها كبرجوازية،هي أن تنكر نفسها كأداة لرأس المال،و أن تضع نفسها وضعاً كاملاً في خدمة رأس المال الثوري الذي هو الشعب .
إن على البرجوازية الوطنية الحقيقية في البلد المتخلف أن تفرض على نفسها خيانة المهمة التي كانت ميسرة لها،أن تدخل مدرسة الشعب،أي أن تضع تحت تصرف الشعب الرأسمال الثقافي و التقني الذي استطاعت أن تنتزعه حين مرورها بجامعات الاستعمار ))
لكن البرجوازية الوطنية لا تستمع لنصائح فانون التي طبقها على نفسه عندما التحق هو و رفاقه المثقفين بثورة الشعب حين يقول :
(( و إذا كنا نريد لأنفسنا أن نكون جزائريين فقد بدا لنا جميعاً أن واجبنا هو إما الالتحاق بالمقاومة و إما إعداد أنفسنا لنكون الكوادر المقبلة للدولة ))
تندفع البرجوازية في طريق مناقض لمصالح الأمة فتندمج برأس المال العالمي و تعجز عن التصنيع لذلك تمجد الحرف اليدوية، فتظل البلاد مصدرة للمواد أولية و ملتحقة بالسوق العالمية كتابع . و عندما تمارس هذه الطبقة عملية التأميم لا تفعل ذلك من أجل وضع مجموع الاقتصاد في خدمة الأمة لتحقيق حاجات الأمة إنما لنقل الإمتيازات الموروثة من عهد الاستعمار إليها كطبقة فيصير الوكلاء و ممثلي الشركات الأجنبية من أبناء البلد . يقول فانون :
(( إن البرجوازية الوطنية تكتشف لنفسها هذه المهمة التاريخية و هي أن تكون وسيطاً . و هكذا لا تكون رسالتها تغيير أحوال الأمة،بل جعل نفسها وسيطاً بين البلاد و بين رأسمالية مضطرة للتخفي،رأسمالية تضع على وجهها اليوم قناع الاستعمار الجديد .))
فتتجه هذه البرجوازية الوليدة إلى التشبه بالبرجوازية الأوربية الهرمة من ناحية البذخ و الاستمتاع بالملذات . دون أن تمر بأطوار المغامرة و الاستكشاف و البناء التي مرت بها الأوربية ."و هكذا تشبه البرجوازية الوطنية في أول عهدها البرجوازية الغربية في آخر عهدها "
و أمام عجز هذه البرجوازية عن تلبية مطالب الجماهير،التي لم تشعر أن وضعها قد تحسن مع زوال الاستعمار،تلجأ إلى حيل مختلفة منها تأجيج الشعور القومي ضد قوميات مجاورة بأية حجة كانت . أو نرى نفخاً في الدعوات الإقليمية و الانفصالية بسبب تفاوت التطور بين الأقاليم لأن اقتصاد الدول المستقلة حديثاً ليس متكاملاً على المستوى الوطني بل هو مرتبط باقتصاد المستعمر السابق . فالمناطق الغنية بالمواد الأولية تجد أن من مصلحتها الاستئثار بثرواتها و بيعها للمستعمر السابق مباشرة . و هذا يُظهر عجز البرجوازية الوطنية عن بناء الأمة . يقول فانون :
(( و هذا الصراع القومي الذي يقوم بين القبائل،و هذا الحرص العنيف على احتلال المراكز التي أصبحت شاغرة برحيل الأجنبي سيولدان تنافسات دينية . ففي الأرياف و البراري نجد الطوائف الدينية الصغيرة،و جماعات الطرق الصوفية،تستعيد نشاطها و حيويتها،و تستأنف لجوءها إلى تكفير غيرها،و في المدن الكبرى،على مستوى الوظائف الإدارية،نجد صراعاً يقوم بين الديانتين المنزلتين الكبيرتين : الإسلام و الكاثوليكية . ))
و هكذا يصبح إفلاس البرجوازية الوطنية شاملاً على كل المستويات الاقتصادية ، و الأخلاقية،و السياسية ،و الدستورية،فالنظام البرلماني الذي أشادته فاسد فساداً عميقاً . و هنا تختار هذه البرجوازية الحل الأسهل و هو اللجوء إلى نظام الحزب الواحد . يقول فانون :
(( ...إنها لا تملك راحة البال و الطمأنينة التي يمكن أن تؤمنه لها القوة الاقتصادية و الهيمنة على نظام الدولة . إنها لا تخلق دولة تطمئن المواطن بل تقيم دولة تبث القلق في نفس المواطن .
إن الدولة التي تؤهلها متانتها و يؤهلها تخفيها في الوقت نفسه،لأن تهب للناس الثقة،و أن تفل سلاحهم و أن تنومهم،تصبح دولة تفرض نفسها فرضاً صارخاً،و تعرض قواها،و تضرب و تقسو،و تفهم المواطن بذلك أنه في خطر دائم . إن نظام الحزب الواحد هو الشكل الحديث للدكتاتورية البرجوازية التي لا تتقنع و لا تتزين و لا يوزعها وازع و لا يردعها حياء ))
و من هذه النقطة يصبح الطريق مفتوحاً لبروز ظاهرة الزعيم الأوحد لضمان استقرار العهد و ضمان استمرار سيطرتها كطبقة . يقول فانون :
(( فالدكتاتورية و البرجوازية في البلاد المتخلفة إنما تستمد متانتها من وجود زعيم . إن البرجوازية الدكتاتورية في البلاد المتطورة هي،كما تعلمون،نتاج القوة الاقتصادية التي تتمتع بها البرجوازية . أما في البلاد المتخلفة فإن الزعيم هو القوة المعنوية التي تريد البرجوازية،الهزيلة الفقيرة،أن تغتني في ظلها و تحت حمايتها . و الشعب الذي ظل سنين طويلة يرى الزعيم و يسمع خطبه،و يتابع من بعيد،و هو فيما يشبه الحلم،ما يقوم بين الزعيم و بين السلطات الاستعمارية من مشاجرات،يمحض هذا الزعيم ثقة من تلقاء ذاته . لقد كان الزعيم قبل الاستقلال يجسد آمال الشعب بوجه عام : الاستقلال،الحريات السياسية،العزة القومية،و لكنه بعد الاستقلال .......................................تراه يكشف عن وظيفته الصميمية ألا و هي أن يكون الرئيس العام لشركة المنتفعين المسرعين إلى التمتع،أعني البرجوازية الوطنية ))
و تصبح وظيفة الزعيم لجم وعي الشعب و تضليل الجماهير عبر تذكير الشعب بالمعارك التي خاضها باسمهم و الانتصارات التي حققها . لقد صارت وظيفته تخدير الشعب عبر تذكيره بالماضي . و يتحول الحزب إلى نقابة تضامن لأصحاب المصالح و لا عمل له سوى توصيل الأوامر من القمة إلى القاعدة فيصبح حاجزاً بين الجماهير و بين القيادة بعد أن ينقطع طريق التوصيل من القاعدة إلى القمة . يقول فانون :
(( إن الحزب الذي جذب إليه أثناء معركة الكفاح مجموع الأمة يتحلل الآن . و المثقفون الذين انضموا إلى الحزب عشية الاستقلال يؤكدون بسلوكهم أن انضمامهم ذاك لم يكن له من هدف إلا الاشتراك في المائدة التي جاء بها الاستقلال . لقد أصبح الاستقلال وسيلة نجاح فردي ))
و قد شاهدنا بأم أعيننا كيف حدث هذا في أماكن كثيرة من العالم الثالث . و يتابع فانون :
(( إن سلوك البرجوازية الوطنية في بعض البلدان المتخلفة يذكر بسلوك أفراد عصابة من اللصوص الذين ما إن يفرغوا من القيام بعملية من العمليات حتى يخفوا حصصهم عن شركائهم،و يستعدوا للانسحاب بحكمة و تعقل ))
و يخلص فانون إلى أن البرجوازية في البلاد المتخلفة لا يمكن أن تحقق تقدماً و لا تصنيعاً لذلك يجب القفز فوقها إلا إذا كانت تمتلك قوة اقتصادية و تكنيكاً يكفيان لبناء مجتمع برجوازي ،و هذا أمر غير موجود في أغلب الحالات لذلك يجب تجاوزها فهي لا يمكن أن تنتج أفكاراً بل تتذكر ما درسته في الكتب المدرسية الغربية . يقول :
(( فإذ هي تستحيل شيئاً فشيئاً لا إلى نسخة عن أوربا،بل إلى كاريكاتور لأوربا ))
و يؤكد فانون مراراً و تكراراً أن هذه البرجوازية تافهة لا تفيد بشيء . فيقول :
(( إن هذه البرجوازية التافهة في أرباحها و في أعمالها و في فكرها تحاول أن تحجب هذه التفاهة بأقنعة شتى : بأبنية فخمة على المستوى الفردي،بسيارات أمريكية لماعة،بإجازات تقضيها على شواطيء الريفيرا، بعطل أسبوعية في الكباريهات المتوهجة بأضواء النيون . ذلك كل شأنها .))





فانون و العنف
لا يبدأ العالم الكولونيالي بالانهيار حسب فانون إلا عندما يتحرر المستعمر ( بفتح الميم ) نفسياً و ثقافياً من قيم المستعمر ( بكسر الميم ) و هنا يلاحظ فانون أن العنف يلعب دوراً بالغ الأهمية في تحرر المستعمر ( بفتح الميم )،لأن العالم الكولونيالي بني أساساً على العنف و ليس ثمرة تفاهم ودي . يقول فانون :
(( محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائماً لأن ذلك يبدل الكون تبديلاً تاماً ., لذلك لا يمكن أن يكون ثمرة تفاهم ودي ))
و يقول :
(( تغيير المستعمر ( بفتح الميم ) للعالم الاستعماري ليس معركة عقلية بين وجهتي نظر،ليس خطاباً في المساواة بين البشر،و إنما هو تأكيد عنيف للأصالة تفرض مطلقة ))
المستعمر ( بالكسر ) هو سبب العنف،و هو خالقه،و كل عنف يصدر عن أهل البلاد و من حركتهم الثورية مهما بلغت شدته هو رد فعل على العنف الأصلي . يقول فانون :
(( في المستعمرات وسيلة التواصل بين المستعمر و السكان الأصليين هو الشرطي و الدركي و بالتالي هي لغة عنف صرف ...))
و يلاحظ فانون " إن الاستعمار ليس آلة مفكرة،ليس جسماً مزوداً بعقل،إنما هو عنف هائج لا يمكن أن يخضع إلا لعنف أقوى ....."
و قد رأينا بأم أعيننا كيف يتم بناء العالم الكولونيالي في العراق عبر الغزو ، و شاهدنا كيف تعمل أمريكا على إدامته بواسطة المارينز و المرتزقة،أي بالقوة العارية،بعد أن تحولت أمريكا إلى مجرد آلة لإنتاج العنف،فماذا ينفع مع هذا العنف سوى عنف مواز له بالقوة و معاكس له بالاتجاه،أي عنف المستضعفين الساعين إلى حريتهم . و يلاحظ فانون أنه عندما يبلغ المستعمر ( بالفتح ) نقطة اللاعودة يكون قد اقترب من الانتصار،يقول فانون :
(( إن في الكفاح المسلح شيئا يصح أن نسميه (( النقطة التي لا عودة بعدها )) . و هذا يحققه أعمال القمع الواسعة . إن الإنسان يتحرر في العنف و بالعنف . ففي الجزائر جميع الرجال،تقريباً،الذين دعوا الشعب إلى الكفاح الوطني محكومين بالإعدام . و هنا نلاحظ أن الثقة تتناسب مع مقدار ما في كل حالة من يأس . ))
و لا يكتفي فانون بالعرض النظري للعنف إنما يعرض حالات سريرية تشير إلى أن العنف المكبوت في نفس الإنسان المستعمر ( بالفتح ) نتيجة العنف الممارس عليه منذ قرون يطيح بشخصيته أو يخرب مجتمعه إن لم يستطع أن يخرجه عبر الكفاح المسلح ضد المستعمر،لذلك يضع فصلاً كاملاً في كتاب معذبو الأرض بعنوان " من الاندفاع إلى الإجرام لدى أهل شمال أفريقيا إلى حرب التحرير الوطني " ، و يستنتج أن الكفاح المسلح نظم العنف الذي كان ينفلت عشوائياً .
و هنا لا بد لنا من ملاحظة أمر هام و هو أن تنظيرات فانون عن العنف تتم استعادتها أيضاً في الغرب لكن من باب الإدانة لهذا المفكر . " في العمود المكتوب في فبراير ٢٠٠٢ بالناشيونال بوست، "فرانز فانون: مفكر مسموم يرفض ان يموت"، ادعى الكاتب روبرت فولفورد "انه فانون الذي جلب الى الثقافة المعاصرة فكرة ان العنف يمكنه شفاء الذين جرحت ارواحهم"، وان فانون "قدم حجة ان العنف كان ضروريا لشعوب العالم الثالث ليس فقط كطريق للفوز بحريتهم ولكن حتى اكثر من ذلك، لان العنف سوف يعالج عقدة الدونية التي خلقتها لديهم تعاليم الرجل الابيض ، واخبرنا فولفورد ايضا ان المعذبون في الارض "ستة طبعات بالعربية"، يدس كالفضيحة علاقة بين العروبة والعنف " ( تشخيص فرانز فانون - ديفيد اوستين ) .
كما أنقل عن الصحفي السوري صبحي الحديدي أن "الأمريكية جيسيكا ستيرن، صاحبة كتاب "إرهاب باسم الله" والموظفة السابقة في مجلس الأمن القومي الأمريكي (قسم أوكرانيا!)، وفي مقال بعنوان "تفسير الإدمان على الجهاد"، تقيم الصلة التالية: "لقد انتبه الظواهري إلى أنّ النظام العالمي الجديد مصدر إذلال للمسلمين. وجادل بأنّ من الخير لشباب الإسلام ان يحملوا السلاح ويدافعوا عن دينهم بفخار وكرامة، من أن يخضعوا للمهانة. العنف، في كلمات أخرى، يردّ الكرامة للشبيبة المهانة. وهذا شبيه بفكرة فرانز فانون عن العنف بوصفه "قوّة تطهيرية" تحرّر الشباب المقهور من "عقدة النقص، واليأس، والعجز عن الفعل"، فتشدّ عزائمهم وتردّ لهم احترام الذات. كذلك حذّر فانون من مخاطر العولمة على العالم النامي". (( صبحي الحديدي- فرانز فانون و الظواهري))














فانون و المثقف
أما المثقفون من أبناء المستعمرات فقد صب فانون جام غضبه عليهم منذ البداية و حتى النهاية ،فالمستعمر ( بكسر الميم ) قد خرب عقولهم عبر حشوهم بالثقافة الغربية و الروح الفردية . يقول فانون :
(( و تأتي الفردية في طليعة هذه القيم . لقد أخذ المثقف المستعمر ( بالفتح ) عن أساتذته أن على الفرد أن يؤكد ذاته . لقد غرزت البرجوازية الاستعمارية في ذهن المستعمر ( بالفتح ) فكرة مجتمع الأفراد حيث ينزوي كل فرد في ذاتيته و حيث الغنى هو غنى الفكر .))
و لا منجى للمثقف المستعمر من هذا العالم الغربي الذي استلبه إلا بالتحاقه بشعبه . يتابع فانون :
(( إن كلمات الخ و الأخت والرفيق كلمات نبذتها البرجوازية،فالأح عندنا هو محفظة النقود،و الرفيق عندنا هو الصفقة الرابحة . و هكذا يشهد المثقف المستعمر ( بالفتح ) فناء جميع أصنافه احتراقاً بالنار : الأنانية،و الانتقاد المتكبر،و الغباء الغر الذي يحمل صاحبه على أن يريد أن يكون له القول الفصل . و سيكتشف هذا المثقف المستعمر ( بالفتح ) الذي خربته الثقافة الغربية،سيكتشف أيضاً أن للمجالس التي تشكل في القرى قوة كبيرة،و أن للجان التي تتألف من أفراد الشعب متانة هائلة،و أن للاجتماعات التي تمتد للحي او للخلية خصوبة ما بعدها خصوبة .........إن نجاة الفرد بنفسه و هو شكل كافر من أشكال السلامة،هي في الميدان أمر مرفوض . ))
و يحدث أن لا يتوفر الوقت الكافي للمثقف كي يتطهر بنار الشعب لأن الاستعمار زال بسرعة في مناطق لم يهزها الكفاح المسلح هزاً كافياً، و هنا تحدث الكارثة . يقول فانون في وصف ما يفعله المثقفون في تلك الأوضاع :
(( لقد كانوا للمستعمرين أبناءه المدللين،و هم للسلطة أبناؤها المدللون أيضاً،ينهبون الموارد الوطنية نهباً،و يندفعون إلى الإثراء بالصفقات المشبوهة و السرقات " القانونية " اندفاعا لا يعرف الرحمة،عن طريق الاستيراد و التصدير،و الشركات المغفلة ...))
كما أنهم فاقدو الثقة بنتيجة العنف الذي تمارسه الجماهير . يقول فانون :
(( قبل المفاوضات تكتفي أكثر الأحزاب،في أحسن الأحوال بأن تلتمس المعاذير ((لهذه الوحشية )) إنها لا تطالب بالكفاح الشعبي . و ليس نادراً أن نراها تنتقد،في حلقات مغلقة،تلك الأعمال التي تصفها صحافة البلد المستعمر و يصفها رأيه العام بأنها منكرة كريهة . و هذه السياسة التجميدية تعلل بالحرص على رواية الأمور رواية موضوعية .
و هذا الموقف ليس موضوعياً . إنما هؤلاء الناس ليسوا على ثقة بأن هذا العنف الجامح الذي تعمد إليه الجماهير هو السبيل الأجدى للدفاع عن مصالحهم الخاصة . ثم إنهم غير مقتنعين بجدوى الأساليب العنيفة . و عندهم أن كل محاولة لتحطيم الاضطهاد الاستعماري بالقوة إنما هو سلوك يأس،سلوك انتحار . ذلك أن دبابات المعمرين و الطائرات المقاتلة تحتل في أدمغتهم مكاناً كبيراً،فمتى قلت لهم يجب أن نعمل رأوا القنابل تتساقط فوق رؤوسهم و رأوا الدبابات تزحف على طول الطريق و رأوا الرشاشات و الشرطة فظلوا قاعدين لا يتحركون .
إن عجزهم عن الانتصار بالعنف أمر لا حاجة للرهان عليه . إنهم يبرهنون على هذا العجز في حياتهم اليومي و في مناوراتهم ............
هؤلاء يتصورون أن للعنف شروطه التحضيرية و الواقعية إن له أدوات يجب إنتاجها . و زبدة القول هم يعتقدون أن انتصار العنف يقوم على إنتاج الأسلحة و هذا يستند على القوة الاقتصادية، على الدولة الاقتصادية و على الوسائل المادية التي توضع تحت تصرف العنف،الواقع إن الإصلاحيين لا يقولون شيئاً آخر :
(( بأي شيء تريدون أن تحاربوا المعمرين ؟ بسكاكينكم ؟ ببنادق الصيد التي عندكم ؟ ))
اما الشعب فله رأي آخر في العنف :
(( إن حيازة بندقية أو عضوية جبهة التحرير الوطني،هي الفرصة الوحيدة المتبقية أمام الشخص الجزائري،لكي يعطي معنى لموته . ذلك أن الحياة في ظل السيطرة قد غدت منذ زمن طويل خالية من المعنى ....))



نتغير و نحن نغيّر العالم
هذه الفكرة الفلسفية البسيطة كرس لها فانون كتاباً كاملاً هو كتاب (( خمس سنوات على الثورة الجزائرية )) و قد ترجمه إلى العربية ذوقان قرقوط،و صدر عن دار الطليعة عام 1970 تحت اسم غير موفق على الإطلاق هو (( سوسيولوجيا الثورة )) .لكن الطبعة الجديدة الصادرة عن دار الفارابي و هي لنفس المترجم السابق أعادت للكتاب اسمه الأصلي .
اعتمد هذا الكتاب على منهجية وصفية للمجتمع الجزائري ليتبصر المرء ماذا حل بالمجتمع الجزائري خلال خمس سنوات من الثورة بين عامي 1954 و 1959 . و ما هي التغيرات التي طرأت على بنيته بفعل الثورة . لقد رصد الكاتب أغلب جوانب الحياة الاجتماعية و السياسية في هذا المجتمع قبل و بعد اندلاع الثورة و بيّن حجم التغيرات داخل الأسرة و القرية،كما درس تبدل الموقف من الحجاب ، و من المرأة ، و من التكنلوجيا الحديثة ، و من اللغة الفرنسية ...الخ
قسم المؤلف الكتاب إلى قسمين غير متساويين حجماً،القسم الأول و هو الأكبر خصصه لعالم المستعمر ( بفتح الميم )،و الثاني الأصغر خصصه لعالم المستعمر ( بكسره ) . إن عدم التساوي بالحجم هو منطقي تماماً فالفعل الثوري غيّر جذرياً عالم المستعمرين ( بفتح الميم ) في حين أنه فقط نزع الطمأنينة من عالم المستعمرين ( بالكسر ) ، فكتب أربعة فصول تعالج التبدلات التي طرأت على المجتمع الجزائري بفعل الثورة التي أعادت إنتاجه من جديد و ضخت به حيوية و دماء جديدة و أما الفصل الخامس فخص به الأقلية الأوربية في الجزائر .
يعالج الكتاب فكرة شهيرة تقول : إن البشر ليسوا كتل حجارة صلبة ينهون مشوارهم كما بدؤوه،بل هم كائنات حية تتفاعل مع الكون،لذلك تراهم و هم يقومون بفعل تغيير الكون يتغيرون هم أيضاً . فالثورة هي ولادة إنسان جديد . و مجتمع جديد . يقول فانون :
(( إن الثورة من حيث أنها ثورة في الأعماق،الثورة الحقيقية،تكون متقدمة جداً لأنها تبدل الإنسان و تجدد المجتمع،فهذا الأكسجين الذي يبدع إنسانية جديدة و يعدها،إنه هو كذلك الثورة الجزائرية ))
و يقول :
(( إن الفكرة التي تتطلب من الناس أن يتبدلوا في ذات الوقت الذي يبدلون فيه العالم،لم تكن أبداً ظاهرة على هذا النحو الواضح إلا في الجزائر ...))
في الفصل الأول من الكتاب عنوانه "الجزائر تلقي الحجاب " يسرد فانون قصة الحجاب في الجزائر،فقصة الحجاب في الجزائر بدأت عام 1930- 1935. و ذلك لتحطيم أصالة الشعب الجزائري . يقول :
(( ذلك أن المسوؤلين عن الإدارة الفرنسية في الجزائر،و قد أوكل إليهم تحطيم أصالة الشعب مهما كان الثمن وزودوا بالسلطات لممارسة تفتيت أشكال الوجود المؤهلة لإبراز حقيقة وطنية من قريب أو من بعيد،سوف يعملون على بذل أقصى مجهوداتهم ضد ارتداء الحجاب على اعتباره في الحالة الراهنة،رمزا لتمثال المرأة الجزائرية . و لم يكن موقف كهذا نتيجة لحدس طاريء . إلا أن الأخصائيين في المسائل التي تدعى مسائل السكان الأصليين و المسؤولين في الدوائر المختصة بالعرب قد نسقوا أعمالهم بالاستناد على تحليلات علماء الاجتماع..............إلى الصيغة المشهورة : (( لنعمل على أن تكون النساء معنا و سائر الشعب سوف يتبع ))
و يتابع :
(( و استطاعت الإدارة الاستعمارية تعريف نظرية سياسية محددة،قائلة : (( إذا أردنا أن نضرب المجتمع الجزائري في صميم تلاحم أجزائه،و في خواص مقاومته،فيجب علينا قبل كل شيء اكتساب النساء،و يجب علينا السعي للبحث عنهن خلف الحجاب حيث يتوارين،و في المنازل حيث يخفيهم الرجل ))
و يشرح فانون كيف بدأت الحملة على الرجل الجزائري لإشعاره بالمهانة لأنه يسجن النساء و يضطهدهن و يبدأ الحصار الفرنسي للنساء بالنساء الفقيرات الجائعات . فالجمعيات النسائية توزع الدقيق و السخط على الحريم و الحجاب،و بعدها يأتي دور النصائح العملية و يصار إلى حث النساء على التمرد و رفض التبعية لرجل و على نزع الحجاب .....
و يحاصر الرجل أيضا في العمل فيصبح موضع انتقاد زملائه الأوربيين و موضع انتقاد رؤسائه في العمل و يصبح توجيه أسئلة من نوع :
(( هل زوجتك سافرة ؟ لم لا تصطحب زوجتك إلى السينما و ألعاب الكرة و المقهى ؟ ))
و يتابع فانون أن الأوربيين يتبعون أساليب (( السيو )) في محاصرة الرجل الجزائري و هكذا فإن المدير يدعو الموظف الجزائري و زوجته بمناسبة أحد الأعياد كعيد الميلاد أو رأس السنة أو ببساطة في مناسبة خاصة بأعضاء الدائرة و لا تكون الدعوة جماعية،و إنما يُطلب كل جزائري إلى مكتب الإدارة و يدعى بالاسم للمجيء بصحبة (( عائلته الصغيرة )) و باعتبار أن الدائرة هي أسرة كبيرة فلسوف ينظر نظرة سيئة إلى الذين يحضرون بدون زوجاتهم،إنكم تفهمون اليس كذلك ؟
و يعاني الجزائري أمام هذا الإنذار الرسمي للقيام بالواجب لحظات صعبة في بعض الأحيان . فإن المجيء بصحبة زوجته معناه الاعتراف باندحاره و هذا معناه (( تعريض زوجته للمهانة )) و العمل على عرضها للأنظار و التخلي عن كيفية المقاومة . و يكون الحضور لوحده،على العكس امتناعاً عن إرضاء رب العمل و هذا ما يجعل البطالة ممكنة . إن دراسة أية حالة تؤخذ بالصدفة و دراسة نمو الكمائن التي ينصبها الأوربي بقصد حصر الجزائري لكي يتميز و يعلن :
(( زوجتي محجبة و لن تخرج )) أو لكي يتخاذل و لسان حاله يقول : (( بما أنكم تريدون رؤيتها،فها هي ذي )) و ما في الروابط و العلاقات من طابع سادي و فاسد سوف توضح باختصار،على المستوى النفسي،مأساة الوضع الاستعماري و التصدي الذي يجري خطوة،خطوة بين نظامين،أي ملحمة المجتمع المستعمر ( بالفتح ) بخصائصه في الوجود،في مواجهة الأخطبوط الاستعماري
الحجاب . لقد أصبحت المرأة محورية في برنامج التدمير الثقافي الذي سنه المستعمر( بكسر الميم ) فهي التي ستحول الرجل بعد أن يتمكن من كسبها إلى جانب القيم الغربية،و هي التي ستكون المعول الذي سيفتت الثقافة الجزائرية. يقول فانون عام 1959،أي بعد أربع سنوات من بداية الثورة الجزائرية :
(( إن الحلم بعملية ترويض شاملة للمجتمع الجزائري تجري بمعونة (( النساء السافرات المعاونات لرجل الاحتلال )) لم ينفك حتى يومنا هذا يراود عقول المسؤولين السياسيين عن عملية الاستعمار ))
و قد وصلت جدية البرنامج الاستعماري حول موضوع الحجاب أن تدخل الجنرال ديغول شخصياً بالأمر و ذلك عام 1958 في قسنطينة،كما يتدخل جاك شيراك اليوم في باريس .
(( ففي تجمع في قسنطينة لاستقبال الجنرال ديغول في أكتوبر 1958 طلبت السلطات الفرنسية من بنت أحد الموظفين في إدارتها أن ترتدي الحجاب و تقف في صفوف المشاهدين الجزائريين،حتى إذا صدر آمر التخلص من الحجاب من قبل ديغول ترمي هي بحجابها على انه استجابة للطلب الفرنسي،و هذه البنت معروفة في قسنطينة،و لم تكن قد ارتدت الحجاب في حياتها أصلاً قبل ذلك اليوم . و تجدر الإشارة إلى أن عدداً كبيرا من الفتيات الجزائريات كن سافرات آنئذ . و أن عددهن كان في تزايد . لكن طريقة نزع الحجاب هذه جعلت عددا من السافرات يرجعن على الحجاب حتى لا يتصور الناس أن سفورهن استجابة لطلب الزعيم الفرنسي )) ( الجزائر في سنوات التسعينيات - بنيامين سنورا - وجهات نظر العدد 36 يناير 2002)
يقول فانون :
((... كل حجاب منزوع يكشف للمستعمرين آفاقا كانت ممنوعة حتى ذلك الحين،يبرز لهم قطعة فقطعة الجسد الجزائري المعرى و بعد سفور كل وجه تظهر روح المحتل العدائية و بالتالي آماله،مضاعف عشرات المرات . و تعلن كل امرأة جزائرية جديدة سافرة،إلى المحتل عن مجتمع جزائري،تأذن نظمه الدفاعية بالتفسخ،و انه مجتمع مفتوح و ممهد . و كل حجاب يسقط و كل جسم يتحرر من وثاق الحايك التقليدي و كل وجه يبرز لنظر المحتل الوقح،الجزع يكشف على نحو سالبي بأن الجزائر قد بدأت بالتنكر لنفسها و تقبل بهتك سترها من قبل المستعمر ( بالكسر ) . و يبدو لمجتمع الجزائري مع كل حجاب مهجور،انه يرضى بوضع نفسه في مدرسة السيد و أنه يقرر تغيير عاداته،تحت إدارة و إشراف الاستعمار ))
فإذا كان المستعمر ينظر إلى نزع حجاب المرأة الجزائرية على أنه وسيلة لهتك القيم الحضارية و الثقافية للمجتمع الجزائري و يبني استراتيجية الغزو و الهيمنة و الإلحاق على هذا الأمر فمن المنطقي أن ينظر الشعب الجزائري إلى التمسك بالحجاب على أنه وسيلة من وسائل المقاومة للحفاظ على الشخصية الحضارية و لمقاومة التذويب في الثقافة الفرنسية ، و بالتالي مقاومة التلاشي حضاريا و سياسيا كما يريد له المستعمر ( بكسر الميم ) . و هنا نصل إلى الملاحظة النافذة لفرانس فانون :
(( و هنا نعثر على قوانين علم النفس الخاص بالاستعمار . هو أن الفعل و مشاريع المحتل هي التي تحدد في المرحلة الأولى مراكز المقاومة التي تنتظم حولها إرادة البقاء في شعب ما . إن الأبيض هو الذي يخلق الزنجي،لكن الزنجي هو الذي يخلق صفات الزنجية ))
و هكذا يصبح مفهوماً أن تكون رموز المقاومة العربية - الإسلامية رموزاً دينية في هذه المرحلة،طالما أن الغازي الأمريكي يعلنها حرباً صليبية . و تشن أجهزة إعلامه و مراكز أبحاثه و مثقفيه و جيوشه حرباً على مدار الساعة على الإسلام ............، و يتابع فرانز فانون :
(( وردا على الروح العدائية الاستعمارية من حول الحجاب فإن المستعمر ينمي التعلق بالحجاب و ما كان عنصرا لا نصيب له من الاكتراث في مجموع متجانس،اكتسب صفة التابو لذلك فإن موقف تلك الجزائرية من الحجاب سوف يقارن باستمرار بموقفها الكلي من الاحتلال الأجنبي ))
و نتيجة لمجمل السياسة الاستعمارية نمت عادة التعلق بالحجاب و صار من المحرمات التي لا يجوز المساس بها . بل ازداد عدد المحجبات . لكن مع اندلاع الثورة الجزائرية تبدل الموقف من الحجاب جذرياً فلم يعد له طابع التابو ، بل حلت نظرة لها طابع براغماتي خاصة بعد انخراط المرأة في جبهة التحرير و قيامها بمهام نضالية كالرجل،و بعد أصبحت تسير سافرة في المدينة الأوربية كي لا تلفت الانتباه بحجابها و هي تنقل الرسائل الشفهية للمناضلين ، أو عندما تكون كشافة للطريق ،أو عندما تكون حقيبتها محشوة بالقنابل و المسدسات التي ستسلمها لمناضل عند الزاوية . و عندما انتبه المستعمر الفرنسي لدور النساء هذا و صار حذراً من النساء السافرات عادت المرأة لاستخدام الحجاب كي تخفي السلاح تحته .
أما الفصل الثاني من الكتاب و المعنون (( هنا صوت الجزائر ..)) فيدرس به فانون موقف الشعب الجزائري من التكنلوجيا الحديثة التي حملها الاستعمار ، و التغيير الذي طرأ على هذا الموقف بفعل اندلاع الثورة الجزائرية،فيختار لذلك دراسة الموقف من المذياع .
كان البث قبل اندلاع الثورة يقتصر على محطة فرنسية تعبر عن المجتمع الاستعماري و قيمه . و كان ما نسبته 95 % من أجهزة الراديو بأيدي الأوربيين . أما لدى الجزائريين فقد اقتصر اقتناء هذا الجهاز على (( البرجوازية المتطورة )) .
كان المجتمع الجزائري يتقبل بصعوبة أجهزة الراديو،بل إنه يرفض هذا الجهاز الذي كانت برامجه منقولة حرفياً عن برامج فرنسية لا تناسب مجتمع الجزائر أو تقاليده . و يحلل فرانز فانون موقف كل من المستوطن و رجل البلد الأصلي الجزائري من الراديو،فيقول :
(( إن الراديو يذكر المعمر،و هو في المزارع،بواقع السلطة،و يعلله،بوجوده ذاته،و بالأمن و راحة البال،فراديو الجزائر يؤسس حق المعمر و يعزز يقينه بالاتصال التاريخي بواقعة الفتح و بالتالي لاستثماره الزراعي،و موسيقى باريس و مقتطفات صحف العاصمة الأم و الأزمات الحكومية الفرنسية تشكل لوحة متلاحمة تظهر فيها آخر أنواع الزخرف في البلاد .....إن راديو الجزائر يتعهد غرس ثقافة رجل الاحتلال،و سوء التوزيع اللا ثقافي – بالنسبة لطبيعة المحتل . إن راديو الجزائر أي صوت فرنسا في الجزائر يشكل مركز المعلومات الوحيد على مستوى الإعلام ...و هو دعوة يومية للمعمر لعدم التمازج مع السكان الأصليين و عدم نسيان لاحق لثقافته . إن جماعات المعمرين المنتشرين في أواسط البلاد،المغامرين وراء استصلاح الأراضي البور يعرفون ذلك جيداً و لا ينفكون يرددون أن (( لولا الخمر و الراديو لاستعربنا ))
لقد وضع فانون الراديو كتفصيل في لوحة الاستعمار الشاملة،فقد ركز في أكثر من مكان على أنه لا يوجد شيء حيادي في العلاقة بين المستعمر( بالكسر ) و المستعمر ( بالفتح ) ، لأن كل الأشياء في الوضعية الاستعمارية تكتسب سياقاً خاصاً بها . فالراديو هو وسيلة للضغط الثقافي على المجتمع الخاضع و شبه وسيلة صمود لدى المزارعين الأوربيين . أما عند الأسرة الجزائرية فالأوضاع معكوسة فهي لا تقتني الراديو " كنوع من عدم الاكتراث الكئيب بهذه القطعة من الوجود الفرنسي " . و ينبه فانون إلى أن الباحث الذي يسعى إلى جواب حول عدم اقتناء الراديو سيحصل على أجوبة مختلفة بعضها له طابع تحريمي ديني و لا يُتوقع أن يحصل على تفسير معقول .
إن العالم الاستعماري المغلق لا يترك فرصة للجزائري أن يجد نفسه في هذا الراديو،الذي يمجد المستعمرين،مما دعا بعض الجزائريين للقول عنه بأنه : (( فرنسيون يتحدثون إلى فرنسيين )) . لكن هذه الوضعية تبدأ بالانقلاب مع اندلاع الثورة المسلحة،فالجزائري يطور أجهزة استعلامه ليعرف ما يجري في الجبل و يسمع عن الهزائم التي يتلقاها جندي الإحتلال . و هنا برز الراديو بوظيفة جديدة مختلفة كلياً عن وظيفته الاستعمارية السابقة بعد أن أنشأت جبهة التحرير الجزائرية محطة إذاعة . يقول فانون :
(( كان الحصول على جهاز للراديو،يمثل في الجزائر عام 1955 الوسيلة الوحيدة لحيازة مصدر،غير فرنسي للأخبار،عن الثورة . و تتخذ هذه الضرورة صفة الأمر الملح عندما يعلم الشعب أن هناك كل يوم جزائريون يقدمون من القاهرة،سجلاً بكفاح التحرير و هكذا تعود أمواج الصفحات الكبرى المكتوبة في الجبال من قبل الأخوة و الأهل و الأصدقاء،متدفقة من القاهرة و سوريا و من البلاد العربية جميعها تقريباً ))
و حدث التحول الكبير عام 1956 عندما وزعت منشورات تنبأ بوجود صوت الجزائر الحرة،حددت فيها ساعات البث و أطوال موجات البث . ففي أقل من عشرين يوما نفذ جميع ما في المستودعات من أجهزة الراديو و ظهرت تجارة الأجهزة المستعملة . و نلاحظ هنا انقلاب الآية فالسلطات الاستعمارية التي كانت تتهم الجزائريين بالتخلف لرفضهم شراء الراديو بل و تحريمه في بعض المناطق فإذ بها تقوم بين ليلة و ضحاها بمنع بيع الراديو لأنه صار جزءاً من الشخصية الوطنية،فهو يصل مالكه مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية . يقول فانون :
(( فالجزائري الذي يأمل أن يحيا في مستوى الثورة،يملك أخيراً إمكانية الاستماع إلى صوت رسمي،هو أصوات المقاتلين،تشرح له المعركة،و تفسر له تاريخ التحرير في مسيرته و أخيراً تعمل على اندماجه مع تنفس الأمة الجديد ))
و في الفصل الثالث درس فانون التغيرات التي طرأت على الأسرة الجزائرية بعد اندلاع الثورة،فدرس علاقة الأب بالابن،و علاقة الأخ الأكبر بأخيه،و تغير وضعية المرأة الجزائرية،و ما طرأ على علاقات الزواج من تغير . فقبل الثورة كان المجتمع الجزائري مجتمعاً بطرياركياً،المقام الأعلى فيه للأب الذي لا يناقش و لا يجوز الضحك بحضرته أو النظر إلى وجهه . كما أن وضع المراة فيه شديد التعقيد فما إن تصبح البنت امرأة توجب أن تتزوج . و لم تكن الفتاة تسأل في أمر زواجها،كما أنها لا تجلس بحضرة أبيها أبداً . لكن اندلاع الثورة دفع هذا العالم نحو الانهيار فتغيرت وضعية الأفراد داخل الأسرة . إذ بات الابن الذي التحق بجبهة التحرير هو الذي يتكلم و الأب هو الذي يصغي . و إذا كان الأب لا يشعر بالراحة تماماً لالتحاق ابنه بهذا المركب الخطر إلا أنه لا يستطيع أن يعبر عن ذلك سوى بشكل موارب فالثورة اقتحمت كل الميادين و باتت لها الأولوية على كل ما عداها من المشاعر . و ما حدث في الجزائر ليس استثناءاً بل هو أمر يحدث في كل الثورات ،فقد حدث أمر مماثل في الثورة الفلسطينية حين ترك الابن صفة لاجيء لأبيه ليتحول إلى فدائي . يقول فانون :
(( ...فإن الأب يمحى أمام العالم الجديد و يسلس القياد لابنه . و الفتى الجزائري هو الذي يدفع بالأسرة نحو الحركة الواسعة للتحرر الوطني .
و بنفس الطريقة لكن بألم أكبر تتغير علاقة الابنة بأبيها . فالذكر في المجتمعات الزراعية له القيمة الأولى لأنه يد عاملة تضاف للأسرة . و الرجل وصي على المرأة و لا يوجد امرأة بدون وصي،زوج أو أب أو أخ ..الخ . لكن الثورة تعصف عصفاً بهذا العالم فالجزائرية التي تشارك في الثورة بنقل السلاح أو بتنظيم الخلايا النسائية تكتسب تقاليد ثورية و تنخرط في لجة عمل خطير لم تعد بحاجة إلى موافقة الأب أو لذكر يكون وصياً عليها . فهي تذهب بدون موافقة أحد و بدون علم أحد أو تذهب إلى الجبل و تبقى هناك مع الثوار . كما أن طرق الزواج تتغير فتشترط بعض الفتيات أن يكون زوج المستقبل عضواً في جبهة التحرير أو تقع بعلاقة حب مع رفيق لها بالجبل فتتزوج تحت إشراف مسؤوليها من جبهة التحرير و لا يعمل الأب سوى أن يبارك هذا الزواج و تقوم الأسرة بتربية الأطفال بينما الأبوين في الجبال . . و يغدو سؤال المرأة عما إذا كانت جدية و هي تواجه الموت يومياً،سخرية و هزءا لاذعاً . فالفتاة المناضلة إذ تتبنى مواقف سلوكية جديدة،تخلت عن السلوكيات القديمة،و تختفي القيم و المخاوف الجنونية المجدبة التي تبقي على الإنسان في هالة الطفولة . ))
و نفس الأمر يحدث في العلاقة الزوجية فغياب الزوج في المعتقل أو في الجبل أو بسبب استشهاده يدفع المرأة إلى لجة الحياة للحصول على رزقها و تربية أطفالها . كما أن الرجل الذي شاركته زوجته عضوية جبهة التحرير على استعداد ليتحمل تبعات ذلك . لكن العالم القديم لا يزول بسهولة . ينقل فانون عن أحد الرجال :
(( فليس هناك ما يستثيرك كمثل سماعك شخصاً يطلب زوجتك على الهاتف . فتناديها و تناولها السماعة،ثم ترى نفسك منصاعاً لدعوتها إياك لمغادرة الغرفة ...ثم تنصرف زوجتك لتعود بعد أربع ساعات أو بعد أربعة أيام . و لم تكن لتقدم لك أي تفسير،لكنك لا تستطيع أن تجهل العمل الذي انخرطت فيه ما دمت أنت نفسك قد جندتها فيه و أنت نفسك قد لقنتها قواعد السرية . ))
لقد اكتسبت العلاقة الزوجية أبعاداً جديدة " فالاختلاط ما بين التجربة المقاتلة و الحياة الزوجية يعمق العلاقات بين الأزواج و يوثق روابط الزواج . فثمة انبجاس في ذلك و تفتح يحدثان في آن واحد للمواطن و للوطني و للزوج العصري . و ينتزع الزوجان الجزائريان من نفسيهما نقاط الضعف التقليدية في الوقت الذي يكتب فيه تلاحم الشعب في التاريخ . ......."
الطب الاستعماري و وضعية الطبيب في المستعمرات قبل و بعد اندلاع الثورة .
دائماً تخلق التجربة الاستعمارية سياقاً خاصاً بها . إن كل حالة من الحالات في هذا السياق تكتسب وضعية خاصة توجب تحليلها قبل إبداء رأي قاطع حولها ، نضرب مثالاً على ذلك موضوع الصحفيين في العراق . فقد اعتاد الإعلام العالمي على تصوير الصحفي كقديس أو كمسيح لا هم له سوى الوصول إلى الحقيقة ، و نقل أفكار و آمال و عذابات الناس و الأحداث الجسام التي تلم بهم،لذلك اعتبر مقتلهم كارثة كبيرة . و تصدر المنظمات الدولية تقارير سنوية تبين أعداد الصحفيين القتلى في كل عام ، و يعتبر ذلك مشعراً من المشعرات الهامة لأوضاع الحريات في العالم . لكن كما قلنا من قبل فإنه في إطار التجربة الاستعمارية تبرز سياقات جديدة غير معهودة للأمور،ففي العدوان الأمريكي على العراق اخترع الأمريكان بدعة الصحفي المدفون مع القوات ( embaded ) ، و هو صحفي يأكل و يشرب و ينام في فراش واحد مع الجندي الأمريكي و بالتالي فإن كاميرته و قلمه ينقلان وجهة نظر هذا الجندي، و يصير هذا الصحفي أشبه بناطق عسكري أمريكي و يمكن اعتباره براحة ضمير جزءاً من الإعلام الحربي . فهل يمكن اعتبار هذا الصحفي مسيحاً أو رسولاً للحقيقة ؟ هل يمكن إعطاء مقتله ، عندما تتعرض القوات الأمريكية إلى كمين أو عملية تفجير ، قيمة مساوية لمقتل صحفي مستقل ؟ أبداً فهذا الصحفي وضع نفسه في أحد جانبي الصراع و تحول إلى صحفي مقاتل .
نسوق هذا المثال بغية التدقيق في كل الحالات التي تحدث في أثناء التجربة الاستعمارية التي تخلق سياقاتها الخاصة . و نفس الأمر السابق يقال عن المنظمات الدولية ، التي لم تستطع أن تمنع العدوان الأمريكي على العراق ، ثم وقفت موقف المتفرج على حدوثه ، و بعدها شرعنته ، و لنا في موقف الأمم المتحدة من العدوان الصهيوني الأخير على لبنان خير مثال . فالأمم المتحدة التي سارعت إلى إدانة أسر الجنديين لم تنبث ببنت شفة أمام ما يجري من مجازر . هل هناك من يمنع أباً مكلوماً او أماً مفجوعة من توجيه اللوم إلى هذه المؤسسات التي تحولت بنظر الناس إلى شريكة في العدوان ؟
يحلل فانون وضعية مشابهة هي وضعية الطبيب في المستعمرات ، فالتجربة الاستعمارية تخرج كل الأمور عن سياقها الإنساني .
يعتبر الطب مفخرة التجربة الاستعمارية ، كما يقول منظروها لأنه أنقذ حياة المستعمرين ( بالفتح ) و خفض وفيات الأطفال و أدخل طرق علاجية حديثة كانت هذه الشعوب لا تعرفها ، و هذه أكذوبة أخرى من أكاذيب ممتدحي الدور التقدمي للكولونيالية سنتعرض لها في المستقبل بتفصيل أكبر .
يلاحظ فانون أن الطب في الجزائر لا يمارس كما يمارس في فرنسا . فشخصية الطبيب في باريس الذي حصل على وضع اقتصادي نتيجة وضعه العلمي هي غير شخصية الطبيب في الجزائر الذي تقترب شخصيته من شخصية المغامر أو المستكشف ، و نادراً ما نجد هذا الطبيب يعيش من دخله من الطب إنما هو مزارع أو مالك كروم أو يمارس التجارة . يقول فانون :
(( و عندما لا يكون الطبيب رهين زبائنه فحسب،من حيث الكسب،و إنما تأتيه دخول هائلة من موارد أخرى فإنه يكون لنفسه مفهوماً معيناً عن الأخلاق المهنية و الممارسة الطبية . إن الغطرسة الاستعمارية و احتقار الزبون و الجلافة الحاقدة في تصرفه مع المريض من الأهالي و فقدان الضمير . نجدها كلها في قليل أو كثير في ثنايا الجملة التالية " إنني لا أعيش من وراء الزبائن ")) .
و في المركز الاستعماري يكون الأطباء ذوي انتماء يساري أو ديمقراطي غالباً بسبب احتكاكهم بالألم البشري ، أما في المستعمرات فالأطباء جزء من الهيئة المستعمرة و من الإستغلال . لذلك تجدهم أكثر يمينية لأن هاجسهم ينحصر في بقاء الاستعمار ، لذلك كانوا في دائرة الاستهداف من قبل مناضلي جبهة التحرير في الجزائر ، و هذا أمر شوش أذهان حتى المتعاطفين مع الجبهة في الغرب فهم لا يفهمون هذه الحقائق و لا يستوعبون كيف يمكن أن يكون الطبيب مجرم حرب . لأنهم لم يسمعوا عن طبيب يساهم بتعذيب الثوار و يعطي للمناضل حقنة الحقيقة بالوريد ( و هو أمر محرم في فرنسا) كي يدلي بما يعرفه. كما أن هناك أطباء تابعون لمراكز التعذيب كي يضمنوا أن لا يموت المريض من التعذيب قبل الحصول على المعلومات منه .
لذلك من الطبيعي أن يتخذ الجزائري موقفاً من الطب الحديث و من الطبيب و يجده امتداداً للمستعمر و يبقى يعالج نفسه بالطب البدائي المتوارث فلا يلجأ للمستشفى الاستعماري إلا مضطراً . لكن كل ذلك يتغير مع اندلاع الثورة و انضمام الأطباء إلى جبهة التحرير ، فجميع سكان الأرياف حتى المتخلفة منها يطبقون تعليمات الطبيب بحذافيرها و يبحثون عن حقنة الكزاز للجريح و يعقمون الجروح بالكحول ، لكن المفارقة أن المستعمر الآن هو من يمنع هذه الأشياء عن المواطن كي لا تتسرب لمقاتلي جبهة التحرير ، و من جديد نرى أن المستعمر هو من يحجز تطور المجتمع .
و تتغير أيضاً وضعية الطبيب الأهلي ،الذي كان ينظر له من قبل على أنه سفير رجل الإحتلال،أما بعد التحاقه بالثورة فيندمج مع الجماعة ، يصبح قطعة من لحم الجسد الجزائري " فلم يعد "الـ " طبيب،أي طبيب و إنما أصبح طبيب"نا" نحن و خبير"نا" نحن . و تنهار الأوهام القديمة المتعلقة بالسحر و قدرة بعض الرجال على شفاء الأمراض دفعة واحدة . إن العالم القديم ينهار دفعة واحدة بفعل اندلاع الثورة و تتطهر الأرواح بنار الثورة و تستعد لاستقبال عالم جديد . و هذا ما دعا ديغول لمخاطبة المتطرفين قائلاً إن "جزائر بابا" قد ماتت .
و يبقى الفصل الأخير من هذا الكتاب ليتحدث عن التغيرات التي طرأت على وضع الأقلية الأوربية في الجزائر . لقد هزت الثورة جميع المجتمعات التي بدا أنها راسخة و منها مجتمع مستوطني الجزائر .
اتخذت جبهة التحرير قراراً ذكرت فيه مناضليها بضرورة عدم دفع هذه الأقلية إلى أحضان المستعمر و ذلك عبر فتح حوار مع ممثلي هذه الأقلية . و قد حققت سياسة الجبهة هذه نجاحات بجذب أفراد و قطاعات من الديمقراطيين الأوربيين إلى جانبها بل و تجند بعض الأفراد في جبهة التحرير أو قدموا الدعم اللوجستي لها،و قد أورد فرانز فانون في ملاحق الكتاب شهادات لبعض الفرنسين يشرحون فيها أسباب انحيازهم لجبهة التحرير و كيفية حدوث ذلك . و بالطبع فهناك مجرمو الحرب من المستوطنين الذين لا ينفع معهم سوى العنف. و بالنتيجة خلص فانون إلى أن الأقلية الأوربية قد تفتت تحت تأثير الثورة الجزائرية و السياسة الواعية لجبهة التحرير

في الثقافة الوطنية :
امتاز فانون بنظرته العميقة للأمور و قدرته على النفاذ إلى عمق الظواهر الاجتماعية،و ساعده على ذلك اختصاصه في الطب النفسي فطبق بعض مناهج التحليل النفسي التي تخص الأفراد على المجتمعات . لذلك لم يقع في النظرة التبسيطية و لم يتوقف عند سطح الظواهر،كما يفعل كثير من كتاب و مثقفي هذه الأيام و هم يدرسون أسباب تأخر مجتمعاتهم و مشكلاتها .
فاعتماداً على القانون الأساسي الذي يحكم العالم الكولونيالي،و هو الانقسام العميق إلى مستعمرين و مستعمرين،استنتج فانون أنه لا يمكن قط أن يتفق طرفا هذا العالم على احترام قيمة ما في الوقت نفسه . كما أنه أدرك أن كل الظواهر و العادات و التقاليد ما إن تدخل في سياق العالم الاستعماري حتى تكتسب سياقاً ومعاني و دلالات جديدة . لأن العلاقة بين المستعمر( بالكسر) و المستعمر ( بالفتح ) هي علاقة تناحرية على الدوام . علاقة قائمة على العنف : عنف المستعمر ( بالكسر )، و عنف المستعمر ( بالفتح ) .
أثناء توصيف فرانز فانون لحال الثقافة الوطنية تحت الاستعمار توصل إلى نتائج بالغة الأهمية قد تكون مفاجئة للبعض،فقد وجد أن للتخلف الذي يصيب الثقافة الوطنية بسبب قيام المستعمر ( بالكسر ) بحجز تطورها ، وجد أن له بعض الفائدة . يقول بهذا المجال :
(( نرى البلدان المستعمرة تحيط مجالها الثقافي بأسيجة و أوتاد . و هذا النوع البدائي من الدفاع عن النفس يشبه منعكسات غريزة البقاء في كثير من الوجوه )).
و هي نفس النتيجة التي خلص إليها الشيخ البشير الإبراهيمي نائب رئيس جمعية علماء الجزائر،حيث ينقل عنه أنه حمد ربه ذات مرة لأن أمه كانت أمية لذلك علمته اللغة العربية،فلو كانت متعلمة لكان يرطن بالفرنسية .
إن ردة فعل الجماهير تجاه الهجوم الضاري الذي تتعرض له ثقافتها القومية من قبل المحتل،يكون تمسكاً مبالغاً به بالعادات و التقاليد و هذا يثير حنق المستعمر . يقول فانون :
(( فالمستعمر يرى في الاستمرار على الأشكال الثقافية التي يستنكرها مظهراً قومياً عليه أن يحاربه )) .
و نتيجة هذا الهجوم الضاري من المستعمر لا يحصل تجديد للثقافة القومية أو للعلاقات داخلها،و إنما مجرد انكماش للحفاظ على النواة . لكن هذا الموات الظاهري،الذي يشبه ما تفعله في الطبيعة بعض الكائنات الحية،حيث تتكيس،أو تدخل في سبات في الظروف الطبيعية الصعبة،فتبدو و كأنها فاقدة للحياة . هذا الموات الظاهري لا يلبث أن يضج بالحياة مع أول طلقة مقاومة،فمع اندلاع شرارة الثورة على الأوضاع التي جمد المحتل البلد فيها تنشأ آداب جديدة من رواية و شعر و مسرح،وحتى الثقافة الشفوية تصيبها رياح التجديد فنرى أن الرواة التقليديون قد أضافوا على السير و الملامح التي يتلونها منذ عشرات السنين بدون تغيير ، أضافوا أحداثا و سيراً جديدة تتناسب مع أحداث الثورة ، كما أن النساجين يغيرون من زخارفهم و من ألوانهم . لقد عادت الحياة تدب في الجسد،فإذا بالثورة و قد أحيت الأرض بعد مواتها . و كما حدث في قصة الراديو بعد اندلاع الثورة يعمد المحتل إلى تمجيد التراث الجامد و يحاول ان يثبت فكر المجتمع عنده .
إن فانون يربط بين التجديد في المجال الثقافي و الفكري و بين امتلاك المجتمع لناصية مصيره ، أي باندلاع الثورة،بل هو يعتبر إن محاولة التجديد و الشعب قابع تحت السيطرة الاستعمارية خطأ فادح . يقول :
(( إن أحد الأخطاء الفادحة،التي يصعب الدفاع عنها أن نحاول تحقيق تجديدات ثقافية،و أن نحاول رد الاعتبار و القيمة إلى الثقافة الوطنية و نحن ما نزال في ظل السيطرة الاستعمارية . و إني لأنتهي من هذا إلى تقدير نتيجة قد تبدو غريبة مفارقة هي : أن أقوى دفاع و أجدى دفاع عن الثقافة القومية إنما يكون بالأخذ بالعقيدة القومية و لو في أبسط أشكالها و في أكثر أشكالها بدائية و فجاجة ))
و يخلص فانون أخيراً إلى قانون هام يقول ،إن التحرير القومي و انبعاث الدولة شرط لوجود الثقافة الوطنية . فيقول :
(( ليست الأمة فقط الشرط اللازم لقيام الثقافة و ازدهارها و تجددها المتصل و عمقها،فهي أيضا حاجة و ضرورة . إن الكفاح الذي تخوضه الأمة هو الذي يطلق الثقافة من عقالها و يفتح لها أبواب الإبداع،كما أن الأمة في مرحلة ثانية،هي التي توفر للثقافة ظروف نمائها و إطار تعبيرها . )) .
إن الشعوب تولد ثقافيا و حضاريا أثناء صراعها مع عدوها . يقول :
(( إننا نعتقد أن الكفاح المنظم الواعي الذي يخوضه شعب من الشعوب لاسترداد سيادة الأمة هو أكمل مظهر ثقافي ممكن . ليس نجاح الكفاح وحده هو الذي يهب للثقافة قيمة و صدقاً و قوة،بل إن معارك الكفاح نفسها تنمي،في أثناء انطلاقتها،مختلف الاتجاهات الثقافية و تخلق اتجاهات ثقافية جديدة،فالكفاح لا ينيم الثقافة أثناء اندفاعه . و كفاح التحرير لا يرد إلى الثقافة الوطنية قيمها القديمة و أطرها القديمة،و لا يملك ما دام يهدف إلى إعادة تنظيم العلاقات بين البشر إلا أن يبدل الأشكال و المضامين الثقافية للشعب . إن التحرير لا يزيل الاستعمار فحسب،بل يزيل المستعمر ( بالفتح ) أيضاً .)).
. إن هذا القانون الفانوني لا زال يعمل حتى اليوم ، حيث نشاهد أن المقاومة تكون في الأوساط الأكثر خشونة و تستخدم العناصر الأكثر خشونة من الثقافة الوطنية لأن الثقافة وطنية تبقى حية داخل هذه الأوساط بأشكال خشنة و بدائية . و كثير من مفكري و كتاب هذه الأيام لا يدركون هذا الأمر بل إنهم يخافون منه،و قد وصل الأمر ببعضهم إلى اعتبار هذه الأشكال الخشنة من المقاومة أشد خطورة من المحتل نفسه !
لقد سمعنا و قرأنا كثيراً من الكتابات تدور حول الخوف أو يحركها هذا الخوف،و هذا أمر ينم على عدم فهم لآليات الصراع و لا للوقائع على الأرض في ظل السيطرة و الاجتياح الغربيين،فالغزو الغربي الماحق جعل البشر يحتمون بنويات ثقافتهم،فيقيمون الأسيجة و يمنعون الغرباء من الاقتراب،لأنهم يريدون الحافظ على الرشيم من الضياع بعد أن سلبهم الغازي الغربي كل شيء و تركهم عراة لا يملكون سوى هذه النويات التي تحتوي أبسط أشكال الهوية التي باتت مهددة بالضياع . و إن هذه النويات مهما بدت بدائية،متخلفة،خشنة،عنيفة،هي الوحيدة التي تفتح أفق المستقبل،لأنها تحافظ على هوية و ثقافة الأمة،و من هذه الرشيمات البسيطة البدائية ستنتش نبتة الثقافة القومية عندما يمتلك المجتمع لحظته التاريخية و يبدأ عملية التحرر و إزالة التبعية بكافة أشكالها : سياسية،اقتصادية،و عسكرية .
في الخاتمة إن العالم الكولونيالي،الذي كرس فرانز فانون حياته القصيرة ( 36 سنة ) لكن الغنية لدراسته لم يمت بل أعيد بعثه على يد الولايات المتحدة بعد أن أخفى وجهه القبيح لردح من الزمان خلف قناع الاستعمار الحديث ، الاقتصادي . إن هذا العالم منقسم بشدة إلى معسكرين متناقضين متحاربين لا تربطهما سوى علاقة العنف،عنف المستعمر ( بكسر الميم ) من اجل فرض هيمنته،و عنف المستعمر ( بفتح الميم ) للتحرر من السيطرة الغربية . كما أن هذا العالم منقسم بشدة على الأرض فكذلك هو منقسم على صعيد الفكر و الثقافة ، فمن غير الطبيعي أن يتفق المستعمر و المستعمر على احترام قيمة واحدة . و إن الحل الوحيد لزوال هذا الإنقسام و بناء إنسانية جديدة هو زوال الاستعمار فحين يموت الاستعمار يموت معه كل من المستعمر و المستعمر و تبدأ دورة حياة جديدة .
" إن افكار فانون تتحاشى الموت بعناد، مثل الجرح النازف الذي يرفض الالتئام، فالمظالم التي يدينها ويرفضها فانون بقوة وحيوية ما زالت معنا حتى اليوم ، إن شبح فانون ما زال يحوم حولنا، ليس على شكل رؤية شيطانية ولكن كشبح ما زال يتحدانا حتى نضع صورة لعالم أفضل ، وأن ننذر أنفسنا لنأتي بهذا العالم الى الدنيا الحقيقية " ( أشباح فانون – ديفيد أوستن )



#ثائر_دوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معنى صعود ساركوزي الأمريكي في فرنسا
- العراق ليس قصة نفطية فقط
- أوهام الفكر الطائفي الأزلية
- في مديح البرتو فرنانديز
- تجديد الثقافة الوطنية و معركة التحرر من التبعية
- عصر الدكتاتورية العالمية يتمدد إلى علم التاريخ
- عزمي بشارة ونووي كوريا الشمالية
- تصريحات بابا روما من زاوية أخرى
- مساخر فكرية سورية
- هل هناك ما يمنع أن يكون المرء عاطفيا و عقلانيا في الوقت عينه ...
- التفجع على خمسينيات القرن العشرين
- خمس قوى في مركب واحد
- معنى استعادة قناة المنار لنشيد -الله أكبر فوق كيد المعتدي -
- المقاومة تعيد الاعتبار للإنسان أمام الآلة
- الفرق بين الصيد في المياه العكرة و المياه الصافية
- استبداد أم احتلال ؟
- من سيحاسب من في لبنان ؟
- مع المقاومة تحت أي راية كانت
- ولادة العربي الجديد
- قنابل نووية يدوية الصنع


المزيد.....




- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...
- بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو ...
- حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء ...
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ...
- جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر ...
- بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- «الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد ...
- الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - ثائر دوري - أشباح فانون