أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - تناقضات سياسة الاحتلال الأميركي المستعصية في العراق















المزيد.....



تناقضات سياسة الاحتلال الأميركي المستعصية في العراق


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1823 - 2007 / 2 / 11 - 12:31
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


جدل التغيير وتناقضاته!
لا توجد أوقات صالحة وأخرى طالحة عند البحث عن مشروع وطني. بيد أن الأزمان الطالحة تعقد وتؤخر وتشوه ولادة البدائل الثقافية والسياسية والاجتماعية. ففي الحقبة القريبة السابقة للاحتلال كان العراق مهيئا لخوض جولة من الصراع الديموقراطي, كان من الممكن لها أن تقود الى ولادة حركة سياسية, اجتماعية, ثقافية, للتغيير السلمي للمجتمع, بواسطة التعبئة الاجتماعية للطاقات الشعبية في مواجهة السلطة الديكتاتورية. وكان من الممكن لتلك الحقبة أن تكون مدرسة عملية لتدريب المواطنين على ممارسة انتزاع الديموقراطية والمشاركة الفعلية في تحقيقها وتعلم ممارستها. بيد أن صيغة الحرب والتغيير بواسطة الغزو الأجنبي عطلت تلك الإمكانية وجعلت مشروع العنف بديلا وحيدا. وتلك هي البذرة الأساسية الأولى, التي أسست لنهوض وتعاظم الصراع, المفرغ من محتواه الوطني, الذي مارسته القوى الطائفية والعرقية والحزبية, ذات المصالح الأنانية الضيقة وقصر النظر السياسي. لقد قوبل خيار الحرب بخيار البديل الديموقراطي, الذي كان من الممكن له أن يكون درسا تجريبيا في فن ممارسة الديموقراطية في بلد لم يعرف الديموقراطية قط. وكان من الممكن أن يكون أداة للتغيير الإجتماعي السياسي الداخلي الشامل, الذي يحافظ على وحدة البلاد وعلى البنى الاجتماعية والاقتصادية والبشرية الايجابية, التي هي ملك الشعب العراقي بأجمعه, لكي تكون أساسا أوليا لعملية التغيير. لقد اختار تيار الحرب الوقوف الى جانب القوى المحتلة خشية من احتمالات نهوض الجماهير المنظم. فالقوى المؤيدة للحرب لم تكن لتختلف كثيرا من حيث الجوهر عن طغمة صدام في أنانيتها وصلفها, رغم شعاراتها البراقة, الفارغة. لقد أثبتت أنها مجرد قوى ذليلة, عصبوية, ضيقة الآفاق, مجردة من الحس الوطني والفهم التاريخي. كان العراق أمام امتحان صعب, عرض العالم فيه خيارين على الشعب العراقي, الأول خيار الحرب, الذي هو خيار المخابرات الأميركية والبنتاغون وبضعة قوى سياسية أوروبية مشهورة في عدائها لخيارات السلام كاستراليا وبريطانيا. أما الخيار الثاني فهو الخيار السلمي, الذي وقفت معه كل القوى الديموقراطية الأوروبية وشعوبها, والذي كان من الممكن له أن يكون نقطة الالتقاء مع المشروع العراقي الوطني للتغيير الاجتماعي, بالاستناد الى الأمم المتحدة ودعم الديموقراطيات الأوروبية ونهوض الحركة الشعبية العراقية. لقد عارض أصدقاء واشنطن الأمم المتحدة معارضة صريحة, ولم يخفوا عداءهم لها, ولم يزل هذا الميل قائما بقوة, لأنها في اعتقادهم تقود الى تقوية نزعات ديموقراطية محتملة, "غير منضبطة", قد يتم توظيفها وتأطيرها خارج كتلهم السياسية. لذلك يقول كنعان مكية: «أخشى من تعاظم نفوذ الأمم المتحدة، فهي قد تؤثر على ما يجري في المنطقة ». ( الشرق الاوسط - الاثنيـن 19 صفـر 1424 هـ 21 ابريل 2003 العدد 8910 ). وقد فسر بعض المراقبين جريمة اغتيال سيرجيو دوميللو, ممثل الأمم المتحد في العراق, على أنها جزء من تلك الخشية. ويروي عن دوميللو أنه "فيما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت أنقاض مبنى مكتب الأمم المتحدة في بغداد, قال للسيرجنت الأميركي الذي كان يحاول انقاذه: "لا تتركوهم ينقلون مكتب الأمم المتحدة خارج العراق"( الحياة 17-8-2004 ) وكان ذلك آخر دور جدّي للأمم المتحدة في العراق.
شدة الأزمة العراقية جعلت كثيرين يتساءلون: ألم يكن من مصلحة الولايات المتحدة الأميركية أن ترى عراقا مستقرا, يمتلك أسباب الرخاء والتقدم, لكي يكون مثالا للتغيير على الطريقة الأميركية؟ أين ذهب تفاؤل الأميركيين الذي عبر عنه بول بريمر في كلمته التي بثها الى الشعب العراقي في الساعة 5:30 في 10 تشرين الأول 2003 , والتي قال فيها : "لقد مرت الآن ستة أشهر على تحرير بغداد. سيُظهر التاريخ أن الإطاحة بنظام صدام البعثي هو يوم عظيم بالنسبة لكم, شعب العراق. الآن وبعد ستة أشهر, أنا متاكد بانكم تعرفون أن الأوضاع افضل بكثير وهي في تحسن مستمر طول الوقت• وصل إنتاج الطاقة الكهربائية لمستويات ما قبل الحرب. يساهم المزيد والمزيد من العراقيين في المهام الأمنية الضرورية لحماية حياتكم وأملاككم. يقوم مجلس الحكم والوزراء الذين عينهم بتمثيلكم حول العالم- في الجمعية العامة للأمم المتحدة والجامعة العربية ومؤتمر القمة الأسلامي. أعلن وزير خارجيتكم يوم الخميس بأن العراق سيفتتح سفارات في 30 قطر مختلف. أنا اتحدث مع العراقيين يومياً وانا على علم بمدى تفائلهم. انا مثلكم أعتقد إن مستقبلكم مليء بالأمل. التغيير القادم هو إشارة أخرى على ظهور عراق جديد, عراق مليء بالأمل. إبتداءاً من 15 تشرين الاول ستكون لديكم عملة جديدة. ستُستبدل الأوراق النقدية القديمة التي تملكوها بأخرى جديدة بدون أي كلفة...". ( ترجمة النص منقولة عن نشرة وزارة الخارجية الأميركية)
أين ذهبت تلك الوعود؟ على هذا السؤال علقت صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية قائلة " انه منذ الظهور الدعائي للرئيس بوش علي متن البارجة لينكولن عندما أعلن عن نهاية العمليات العسكرية على خلفية ملصق كبير المهمة انجزت وذلك في الاول من ايار (مايو) 2003 لم يشهد العراق يوما لم يكن أسوأ من الذي سبقه "
ولكن, هل تردي الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية في العراق خطة مرتبة؟ وإذا كان الأمر كذلك, ما فائدتها للأميركيين وحلفائهم؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك, فما أسباب هذا السوء, الذي لا شبيه له إلا في في أساطير العالم السفلي؟ الجواب على ذلك: كل الاحتمالات قائمة. فكلها, مجتمعة, صنعت هذا الواقع المعقد. بعضها مخطط ومرتب لأهداف تعود بالنفع على المحتلين وعلى حلفائهم الإقليميين والمحليين. وبعضها يعود بالنفع للطرف الأقوى وحده. ومنها ما يعود بالنفع لهذا الطرف وبالسوء لذلك الطرف. أما الطرفان الوحيدان الخاسران عمليا في معادلات النفع المتبادل فهما: الديموقراطية كفكرة للتغيير الاجتماعي, والشعب العراقي, الذي لم يكن طرفا في المعادلة السياسية, سواء كمشروع سياسي معبر عنه بواسطة جماعات حزبية, أو كإرادة وطنية صامتة لشعب أعزل.
ولم تكن معركة الخيارات وتناقضاتها معركة عراقية خالصة. فقد ساهمت أطراف عربية ودولية بقوة, من موقع التأييد أو الرفض, في الجدل الدائر حول ذلك. فلم يزل عالقا بفكري سيل الكلمات الحماسية التي نطق بها الشهيد جبران تويني للتلفزيون السويدي قبيل الاحتلال بوقت قصير جدا. وكان التلفزيون السويدي قد استضافه كصوت ليبرالي وديموقراطي معروف عربيا, ولكن لمهمة عصيبة, تتناقض مع مبادئ الديموقراطية, التي يؤمن بها: تأييد خيار الحرب, وتسويق الاحتلال. وكان ردي عليه في مقالة بعنوان " مساء الخير أيها النهار!", من على صفحات جريدة النهار واضحا وصريحا, خلاصته تقول: إن التبريرات النظرية الجميلة لا تصنع واقعا على نفس القدر من البهاء. وأن الحرب خيار ظالم, وأن النظرية القائلة بأن الحرب هي المطهر الوحيد للشرور شأن ينطوي على خطر جسيم, نظرا لكون هذه الحرب تُشن من قبل قوى مشكوك في عدالتها وأغراضها, وثانيا أن الأجساد المريضة قد لا تنفعها نظرية الهزة الزلزالية, فقد تصيبها إصابة قاتلة. لقد أضحى هذا الجدل ضربا من الماضي, ولم يتبق من مشروع الحرب سوى العنف والاحتلال كواقع قاهر, تدميري, ماثل بقوة لا تقبل الإنكار, ولم يتبق من تويني سوى ذكرى مؤلمة لرجل ذي اجتهاد غيبته مؤسسة العنف الدولي, ميتة الضمير, بنيرانها الذكية, المفرغة من أخلاق التحالفات. وكان هذا الجدل ومآله الحسي والفكري - في تقديري- أبرز تناقضات مشروع الاحتلال النظرية, أو بدقة أكبر تنافضاته التنظيرية, التي أراد الأميركيون فرضها بقوة, كممهد عقلي للغزو العسكري, الذي كان مقررا له أن يكون الخطوة الأساسية الأولى في مشروع الحملة على الشرق, الهادفة الى الاستيلاء على العالم القديم, بكل مضامينه السياسية والجغرافية والثقافية والاقتصادية, من المحيط الهادئ حتى الصين تحديدا, وما ورائها. ومن هذه الزاوية فإن الحديث عن صراع الحضارات ليس مجرد كلمات طائشة لزعيم متهور أو منظّر غافل. إن القوة المنتصرة في عالمنا تبحث عن ركائز ثقافية وتاريخية لكي تؤسس عليها منطق التمدد الجغرافي والعسكري والسياسي, بعد خروجها منتصرة من جولة الصراع التاريخية ضد الخصم الايديولوجي الدولي المنافس: الكتلة الشيوعية. ومثل هذا الأمر ليس بدعة, فقد حدث ما يشبهه في تاريخ البشرية مرارا عقب كل عملية تغيير عالمية شاملة. بيد أن ما يثير الدهشة هو أن المشروع الأميركي, لم يقدم مثالا مقبولا يرضي أحدا. فحتى القوى التي أدعت التبشير بالديموقراطية سرعان ما وجدت أن أصلح ما ينفع العراق والعراقيين هو الحكم العسكري. فالنضال ضد الديكتاتورية أختتم بالبحث عن بديل ديكتاتوري.
لذلك كله, يغدو السؤال الأكثر أهمية الآن, والذي يتجاوز حدود الافتراضات والنظريات والملاسنات, هو: ألم يكن بمقدور أحد تعديل مسار الأحداث, لكي تكون أقل سوءا؟ الجواب على ذلك: الجميع يحاول ذلك, لكن تناقضات الواقع أكبر من أن تحل. فمن أجل إيجاد حل لمشكلة ما, يتوجب التوقف أولا أمام تناقضاتها الأساسية وايجاد مخارج لها. فما تناقضات الواقع العراقي المستعصية والأقل استعصاء؟
التناقضات وصناعة الأزمة!
قبل أن نقوم بجرد سريع لسلسلة تناقضات الواقع, يتوجب علينا أن نشير هنا بوضوح الى أن التناقضات ليست من صنع إرادة البشر. أي أنها ليست إرادة خارجية تفرض على الواقع, وإنما هي عنصر داخلي يحتمه لزوم وجودها في لحظة معينة. وهذا الأمر لا يعني أن الإرادة لا تستطيع تطوير وتسريع ولادة تناقضات معينة في الوضع السياسي والاجتماعي. على العكس تستطيع الإرادات استثمار التناقضات من طريق تصعيد طاقاتها وتغيير جدول أولوياتها, بتعجيل أو تأخير, وبتهميش أو تضخيم حدوثها. فالواقع العراقي مثلا يتيح إمكانية قيام تناقض عرقي, نظرا لوجود أعراق متعددة, ويتيح قيام تناقض مذهبي, للسبب ذاته, ويتيح أيضا إمكانية ظهور تناقض أقليمي وغيرها من التناقضات. بيد أن ما يتيحه الواقع العراقي قد لا يتيحه, بالقدر والشكل نفسه, الواقع اللبناني أو السوري, على الرغم من وجود نقاط تشابه عديدة بين عناصر الواقع في هذه المجتمعات. إن التناقضات تفعل فعلها الذاتي المستقل أحيانا, وفي أحيان كثيرة تتمرد على إرادة صانعيها, وفي أحوال عدة تكون هي ذاتها مصدرا لولادة تناقضات جديدة. فلنتأمل كيف ولدت تناقضات الواقع العراقي.
1- ولد التناقض الأول مع ولادة فكرة غزو العراق واحتلاله, ويتمثل في التناقض بين الأهداف المعلنة للحرب (الدعائية والذرائعية) والأهداف الحقيقيّة. فعقب غزو الكويت نشأت فرصة تاريخية نادرة بغطاء شرعي دوليا, وبقبول وطني, وأكاد لا أخطيء لو قلت بقبول بعثي صامت أيضا, وبقبول من أوساط عسكرية عراقية شعرت بمرارة الأزمة وتوقعت حدوث الهزيمة. كل تلك العوامل جعلت مشروع إسقاط السطة أمرا مشروعا وممكنا. لكن الشرط الخارجي لم يكن متوافرا. فلم يكن الأميركيون راغبين بالتعاون مع قوى سياسية واجتماعية لم يتضح ولاؤها الكامل لهم بعد. لذلك تم تضييع تلك الفرصة الثمينة. لقد استغرق إعداد القوى الحليفية أميركيا (المؤتمنة) أكثر من عقد, من عام 1991حتى عام 2003. وحينما قدمت أجهزة المخابرات تقاريرها الى القيادة الأميركية قائلة إن تشكيلة الحلفاء المحليين جاهزة, وإنها لا تحمل موشرات تحول باتجاه غير مرغوب, كظهور كتلة إسلامية قوية, سواء أكانت شيعية منفردة أو في صورة تحالف شيعي سني, أعطيت الإشارة للبدء بعملية "تحرير العراق". ولكن, غاب حينذاك المبررالعسكري لوجود قوات أجنيبة على أرض العراق, بعكس ما كانت عليه الحال ابان حرب الكويت. فلم يعد مقبولا, من الناحية المنطقية, شن حرب على دولة أجنبية يتم ابتزازها علنا كل يوم, ويجري اختراق أجوائها وأراضيها ليل نهار, ولا تجرؤ على الرد. لذلك تم اختراع هدف وهمي اسمه "البحث عن أسلحة الدمار الشامل". وبهذا الصدد يقول كولن باول في تبريره غزو العراق: "إن الاكتشافات الأولية لديفيد كاي وفريق المسح الخاص بالعراق يوضح أمرين بجلاء: أن عراق صدام حسين كان في حالة خرق مادي لالتزاماته تجاه الأمم المتحدة قبل أن يتخذ مجلس الأمن قراره 1441 في تشرين الثاني / نوفمبر، وأن العراق ارتكب مزيدا من الخروقات بعد أن تمت الموافقة على القرار. وقد وفرت اكتشافات كاي الأولية أدلة مفصلة على جهود صدام حسين لتحدي المجتمع الدولي إلى آخر مدى. ويصف التقرير مجموعة من النشاطات المتصلة بأسلحة الدمار الشامل التي "كان ينبغي أن يتم الإعلان عنها للأمم المتحدة." وهو يعيد التأكيد بأن برامج العراق المتعلقة بالأسلحة المحظورة تمتد إلى أكثر من عقدين، وتتناول آلاف الأشخاص وبلايين الدولارات.
وما عرفه العالم في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي عن أسلحة الدمار الشامل العراقية كان كافيا لتبرير التهديد بتبعات خطيرة وفق القرار 1441. وما نعرفه الآن نتيجة جهود ديفيد كاي يثبت أن صدام حسين كان له كل قصد بأن يواصل عمله على أسلحة محظورة رغم وجود مفتشي الأمم المتحدة، وأننا كنا، نحن وشركاؤنا في التحالف مصيبين بإزالة الخطر الذي كان نظامه يشكله على العالم" . بعد أيام من الغزو اعترف الأميركيون أن ما يعرف بتقرير كاي كان مجرد أكذوبة. وكشف تقرير السويدي هانس بلكس زيف هذا التقرير بتقرير مقابل. ومن يقوم بتحليل الخطاب الأميركي الموجه ضد إيران اليوم يجد تطابقا تاما مع ذرائع الحرب على العراق لا في الأهداف فحسب, بل حتى في اللغة والتعابير. وما يهمنا هنا هو التالي: في هذا التبرير الكاذب, لا يعثر المرء على كلمة واحد تخص الشعب العراقي, أو تشير الى أهداف عراقية, ولو على سبيل الدعاية, كتحقيق الديموقراطية أو القضاء على الديكتاتورية وغيرها من الشعارات, التي التفت حولها قوى المعارضة العراقية. فأهداف الغزو واضحة ومحددة تماما, بما لا يقبل اللبس أو التأويل: تقرير كاي.
وهذا أول تناقض بين الأهداف المعلنة والغايات الحقيقية. لقد أنتج هذا التناقض طائفة واسعة من التناقضات الفرعية, لا مجال لذكرها, منها على سبيل المثال أن هذا الهدف تطلب وجود شركاء سياسيين محليين يناصرون الفكرة المعلنة, ولا نقول الهدف الخفي. فنشأت جماعات سياسية ذات خطاب تبريري, أضطرت الى التخلي عن الشعار الحقيقي: النضال ضد الديكتاتورية, لتتمكن من التلاؤم مع ما طرحه باول في الأمم المتحدة من تبرير وهمي للغزو. وهذا الأمر دفعها, مرغمة, الى التخلي عن جزء من برامجها المعلنة لصالح الهدف الدعائي. وسرى الأمر ذاته على جهاز الإعلام المصاحب لهذه الجماعات. وحينما سقطت ورقة أسلحة الدمار الشامل أضطر الفريق المتحالف مع الاحتلال الى البحث عن تبرير جديد, يزيف به مشروع تحالفه, فظهرت نظرية: التقاء المصالح. ولكنهم لم يحددوا لشعبهم على أي مصالح يلتقون؟ وكيف وأين سيتم اللقاء؟ وما حدود هذه المصالح؟ ومن يتحكم بتقاسمها وكيف؟ لقد قاد التناقض بين الأهداف الأميركية المعلنة والخطط الحقيقية, بين المحتل وحلفائه, بين مشروع حلفاء الاحتلال المحليين الوطني للتغير ومشروع التلاؤم مع خطط الاحتلال, الى ضياع الأفق الوطني الذي ينظم ويحكم العملية السياسية, وقاد الى تجريد القوى السياسية, كلها, من المقدرة على التأثير في مجريات الصراع السياسي, وأحالها الى مجرد لاعب احتياط يجلس على مقاعد الانتظار, ويغادر الملعب حينما تنتفي الحاجة منه. وهنا يجد المرء تفسيرا لبعض مشكلات تيار أحمد الجلبي. فقد اضطر تيار الجلبي بحكم هذا التناقض الى البحث عن حلول خاصة لأزماته على هيئة دعم سياسي من خارج القبضة الأميركية, وعلى وجه التحديد من خارج سلطة القادة العسكريين الأميركيين. لكن الجلبي أخطأ في توقيت الصدام, في مرحلة كان للعسكريين اليد الطولى, وليس للسياسيين, كما فهم الجلبي سهوا, فاضطر الى الوقوع في تناقضات سياسية وايديولوجية تحالفية أعمق, قادت في النهاية الى إخراجه تماما, خطوة خطوة, من العملية السياسية, بعد أن كان نجمها الأول. من هنا نرى أن الصدام الأول, أو التناقض الأول, ولد في قلب المشروع الأميركي, وليس خارجه, وأن هذا التناقض كان أرضية طبيعية لولادة تناقضات جديدة داخل دائرة الحلفاء أنفسهم.
2- إن القوى السياسية التي تتهم اليوم بفقدان الأفق والمنهج الوطني لم تكن فارغة اليدين حينما بدأت عملية الإعداد لاسقاط نظام صدام حسين. على العكس من ذلك, فقد قدمت, بصورة فردية أو مجتمعة, مشاريعها الخاصة والمشتركة, والتي كان بعضها صالحا كإطار عام لعمل جماعي وطني مشترك. فأغلب الأحزاب كانت تملك أوراق عمل خاصة بها. وحتى مجاميع الضباط العراقيين المنشقين قدموا تصوراتهم عن الجيش القادم وعلاقته بالسلطة والمجتمع, وظهرت إسهامات نظرية لصياغة بعض أوجه الحياة الدستورية والمدنية, ونشطت جماعات ما يعرف بالمجتمع المدني وحقوق الإنسان, التي تبخرت بأسرع مما ظهرت فيه, وتحول بعضها الى مجرد لص دولي, يتولى مهمات زائفة, مبتكرة, في هيئة مشاريع وهمية لدعم الديموقراطية, يتم بيعها مقابل إعانات مالية ومساعدات ممنوحة الى "الشعب العراقي". بيد أن الجميع أضطر الى التخلي عن أوراقه ومشاريعه, الصادقة منها والكاذبة. لأن الأهداف الوهمية تتطلب ذرائع زائفة, ولا تتطلب خططا واقعية قابلة للتنفيذ. وهذا ما اسميناه بغياب المشروع الوطني. والذي يمكن أن نسميه بدقة أكبر, في تلك المرحلة, بالتخلي عن المشروع الوطني لمصلحة التطابق مع أهداف الإحتلال الأجنبي.
ما الأسباب التي دفعت الأميركان الى ذلك؟
السبب الأساسي, وهو ما عبر عنه من خرجوا من لعبة الحكم: السعي الى لمّ عناصر الواقع الممزقة في وحدة مفككة, وحصرها في قبضة واحدة هي قبضة الحاكم الأميركي. أي أن الأميركان كانوا راغبين في تجميع أكبر قدر من المزق السياسية, ليس كمجموع وطني متجانس, وإنما كقطع مبعثرة, يجمعها سقف خارجي, هو سلطة الاحتلال. وهنا, ربما تبدو فكرة غياب المشروع الوطني, التي هي محور بحثنا, أكثر وضوحا. ولكن, لماذا أراد الأميركيون حدوث ذلك؟
كان تجميع القوى السياسية العراقية تحت شعار "تحرير العراق" مؤشرا للقيادة الأميركية على أن اصطفافا سياسيا عراقيا غدا ناضجا لتسلم السلطة عند إزاحة صدام عنها. والأهم من هذا كله أن هذا الاصطفاف لا يجتمع حول أهداف وطنية, وإنما تجمعه مصالح أقل من مرتبة الهم الوطني المشترك. وهذا أمر يطابق شعار الحرب الزائف: البحث عن أسلحة الدمار الشامل, الذي لا يشكل للعراقيين إطارا حقيقيا للوحدة, لأنه هدف مختلق, بإدراك الجميع. فالنيات الزائفة تشترط قواعد أخلاقية وسياسية زائفة, والتحالف على قاعدة الزيف يخلق حلفاء مزيفين. وهنا يكمن عنصر عدم الثقة المتبادل بين الأطراف السياسية العراقية المتحالفة مع المشروع الأميركي. هذا هو التناقض الجوهري الثاني. إن التناقض بين الهدف الذرائعي والهدف الحقيقي, الذي نجح في تجميع الكتل العراقية المؤيدة للاحتلال حول مشروع الحرب, وتحت سقفها, رغم زيف ذرائعها, سرعان ما أصبح عائقا جديا للأميركيين أنفسهم عقب سقوط النظام المفاجيء, غير المتوقع, وافتضاح كذبة أسلحة الدمار الشامل. لقد أدى هذا التبدل المفاجئ في ترتيب الأحداث الى تغيير سريع في الخطاب السياسي, جعله يعود الى موضعه الطبيعي: الشعار الوطني, الذي جرى تغييبه مع بدء الحرب, وجرى تجاهله قبلها, في مرحلة الإعداد لاسقاط السلطة من الخارج, وليس بواسطة الممارسة الشعبية الميدانية. فظهرت مجددا كلمات الديموقراطية وبناء السلطة المنتخبة ديموقراطيا. وفي هذا الحقل ولد التناقض الثالث. فقد قادت الانتخابات, كشكل من أشكال الممارسة الديموقراطية, الى عودة الخطر الذي ناضل الأميركيون طويلا من أجل تلافيه: ظهور تأثير القوى الدينية. لقد انتجت الانتخابات حالة فريدة, بسبب الفراغ السياسي وانعدام الخبرة الديموقراطية لدى المواطنين, لم تكن ضمن خطط الأميركان وضمن سياسة تفكيك الكتل. ففي الانتخابات, أضحى الدين والقومية عاملين حاسمين. والأخطر من هذا, لدى الأميركيين, تحوّل الشيعة, الجانب غير المؤتمن من قبل الأميركان, بسبب قضية إيران, طرفا أساسيا في المعادلة السياسية, إن لم نقل طرفا حاسما. فشعار الديموقراطية أنجب عند التطبيق ما يناقضه على أرض الواقع, من وجهة نظر الأميركيين. وهنا بدأت معضلة حل هذا الاشكال, التي تدرجت من ازدواج الولاء, الى المساومات, الى إنشاء جيوش خاصة, وفي الأخير الى الصراع المكشوف: تشكيل حكومة عريضة, مجلس وطني, مجلس أمن قومي, لويا جركا, ووصلت الأمر الى حد التلويح السافر بانقلاب عسكري وبحكومة جنرالات. وبهذا انقلب الشعار الديموقراطي المبشر بالحرية الى شعار القبضة العليا والمشروع الانقلابي, والحل العسكري. أي تمت استعادة لغة العسكريين والانقلابيين الدمويين والبعث, ولكن من قبل الطرف الذي يدعي الديموقراطية. من هذا نخلص الى أن التناقض قد يخلق نقائضه الخاصة ويولد تناقضات جديدة لم تكن محسوبة, أو مدرجة أصلا ضمن قائمة الصراع. والتناقضات السالفة, كلها, تناقضات طرف واحد: القوى المؤيدة لمشروع الحرب والاحتلال.
3- إن إضعاف القوى السياسية, وتمزيقها الى كتل صغيرة على أسس عرقية ومذهبية, والذي هو هدف سياسي أساسي للسياسة الأميركية, قاد الى نشوء تناقض داخلي مستعص: سلطة هشة, وحلفاء يسودهم عدم الثقة. لقد قاد هذا التناقض الى تقوية عنصر العنف في المجتمع. فقد قويت شوكة العناصر المعارضة للسلطة, واضطرت قوى سياسية واجتماعية الى التأقلم مع منطق الصراع المسلح, فأمعنت في إضعاف قوة السلطة, وعززت مكانة الفوضى والعنف. ومن هنا نشأت سلسلة من الحلقات المتصلة, متناقضة في الظاهر, لكنها تنتظم, جميعها, حول رابط واحد هو غياب الإرادة الوطنية الجامعة, وتسيير الحدث من خارجه, من قبل قوى عليا, مركزية, ممثلة في سلطة الاحتلال. وهذا يطابق مطابقة تامة الهدف السياسي الأميركي, رغم أن تحقيقه مشروط بتقديم تضحيات جسيمة من قبل الشعب العراقي, وبمقدار احتمال الشعب لهذه التضحيات. وكان, ولم يزل, تقدير الأميركيين يرى أن الشعب العراقي على درجة عالية من السلبية السياسية والتمزق الروحي والجهل بـ "المصالح الوطنية المشتركة", تجعله غير قادر على ابتداع سبل للتخلص من أزماته السياسية. وهذا مؤشر ايجابي, في نظر الأميركيين, يمنحهم فرصا أطول للتجريب والبحث عن حلول, مهما كانت قسوة الواقع ومرارته.
4- لقد قاد ضعف السلطة, وتمزق الأحزاب الى نشوء تناقض جديد لم يضعه حلفاء الأميركان في حسبانهم. فقد اضطر الجيش الأميركي الى استعارة تقاليد جيوش القوى الاستيطانية, حينما وجد أن الواقع لا يستجيب لإرادته كما يجب. فحل الجيش العراقي, والخشية من إشراك العناصر العسكرية التي تحالفت مع الأميركان قبل السقوط, قاد الى أن يعود الجيش الأميركي الى استخدام الأساليب التي تدرب عليها كاحتمال. فلجأ الى أسلوب التطويق الجماعي للمدن والأحياء والجماعات السكانية, و"انتخاب" مواجهات ذات طابع عقابي جماعي شديد الفظاظة والقسوة, باسم الدفاع, مستغلا تناقضات المجتمع العرقية والطائفية ونوازع الحقد التاريخية وصمت المجتمع الدولي. وهي استعارة مثلى لتقاليد الجيش الاسرائيلي في مواجهة الفلسطينيين واللبنانيين. وقد أخطأ الأميركيون في الأمر هنا أيضا, لا بسبب عدم فعالية هذا الأسلوب فحسب, بل بسبب أنه أسلوب قد يتلاءم مع العقيدة الاستيطانية, لكنه لا يمكن أن يكون نهجا لدولة أجنبية, تدعي أن وجودها مؤقت وطارئ وضروري. وفي هذه الناحية نعثر على نقطة التفوق التي حصل عليها " المقاومون", الذين اختلفت الآراء في تحديد طبيعتهم, لكنها اتفقت على الاعتراف بمهاراتهم القتالية في مواجهة القوات الأميركية خاصة. إن حرق الأرض والسجون الجماهيرية, ودك المدن, والتعامل مع المواطنين ككتل, إجراء استيطاني لا يتلاءم مع أهداف الأميركيين المعلنة, وسلوك عدائي علني فظ يضع حلفاءهم في موضع حرج وطنيا, وفي أحيان كثيرة يضعهم في قفص الاتهام. إن حرق الأرض, وهو الأسلوب الأرخص والأسهل والأقصر, قاد الى نشوء تناقض لم يكن محسوبا بدقة بالغة. ففي المناطق التي لا تخضع للنفوذ الشيعي ظهر ضرب من المقاومة يقوم تفوقه الأساسي على السرية والتكتم الشخصي, كنقيض للقمع الشامل. لذلك لم تُتح للقوات الأميركية فرصة لاصطياد المقاتلين على طريقة صيد اسرائيل للـ " الناشطين" الفلسطينيين. فإذا كانت اسرائيل قد أفادت من حالة الصراع والتنافس الأناني الفلسطيني المَرَضيّة, فإنها لم تتمكن من فعل ذلك في جنوب لبنان, وبالقدر نفسه فشلت أميركا في فعل ذلك في مناطق المقاومة العراقية التي لا تقع تحت النفوذ الشيعي. وسبب ذلك يعود كما أسلفنا الى لجوء المقاومة الى عنصر الكتمان المطلق. بيد أن القوات الأميركية نجحت في توجيه ضربات عنيفة الى جيش المهدي, وتم اصطياد الكثير من عناصره تحت تسميات عديدة: ذوي الملابس السوداء, فرق الموت, المتمردون, وغيرها. وأحد أسباب النجاح هذا يكمن في لجوء هذه القوة الى العلنية, التي أرغمت على الدخول فيها بسبب التنافس السياسي في المناطق التي تخضع للنفوذ الشيعي. لقد قاد اتكاء الحكام العراقيين الجدد التام, في حماية ظهورهم, على على آلة الحرب الأجنبية, وأنانيتهم المتطرفة, ومواقفهم السلبية تجاه أبناء شعبهم, الى تخلي الأميركيين نهائيا عن أي محاولة لبذل جهد يهدف الى إعادة تطبيع الحياة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. ومن الناحية الأمنية, لجأوا الى العنف كحل وحيد للخروج من مأزق الواقع, نتيجة لغياب المشروع الوطني العراقي, ولعزلة واغتراب الحكام الجدد, الذين ما أن تنتهي فترة خدمتهم حتى نجدهم عائدين من حيث أتوا, كما لو أنهم متعاقدون غرباء. وينطبق هذا أيضا على أنصارهم من إعلاميين ودعاة سياسيين, الذين يمارسون تأييدهم والدفاع عن نظامهم الجديد من خارج الحدود, بواسطة الانترنيت والدعوة للانقلابات السياسية والعسكرية. كل تلك الأسباب جعلت القوات الأجنبية تلجأ الى النموذج الاسرائيلي, القائم على الاعتقالات الواسعة والتدمير والقتل اليومي, جاعلة من الشعب بأسره مشبوهين, معرضين للقتل والبطش في أية لحظة, من دون حسيب أو رقيب, وجعلت من السلطة مجرد مرشد بائس يقوم بدور الواشي أو الدرع الواقية. فستراتيجية التدمير الشامل قادت خصومها الى ابتكار أسلوب التخفي الشامل, أي قادت الى ولادة بعض عناصر موتها بنفسها. ولهذا السبب فإن مشروع المصالحة الذي أعلنه المالكي يعني في بعض وجوهه تعديل وتغيير مجرى النتائج الناشئة بسبب تناقضات الأميركان العسكرية والتقليل من حجم فشلهم في مواجهة خصومهم ميدانيا. لقد أسهم غياب المشروع الوطني العراقي في إرباك خطط المحتلين أنفسهم, فجعلهم يظهرون كقوة عسكرية خالصة, ليس لها من هدف سوى القتل والمطاردة واختلاق أساطير مقاومة الإرهاب والإرهابيين. وهذا هو التناقض الرابع والأساسي, الذي يبين كيف أن التناقضات تولد بعضها البعض, وفي أحوال كثيرة تصنع تناقضا جديدا, لم يكن قائما من قبل.
5- إن تغيير أسلوب عمل الجيش الأميركي قاد الى نشوء تناقضات فنية وعقائدية, لم تكن في الحسبان أيضا, كظهورالجيوش الداخلية الخاصة وفرق الاغتيالات, التي تطورت وأضحت أقوى من السلطة المركزية, المعدومة المركزية أصلا. فبناء الجيش الأميركي الجديد يقوم على ضم أعداد كبيرة من المجندين المتعاقدين, من أصول أجنيبة, أو حديثة العهد بالمواطنة الأميركية. وهذا يقلل من شدة الضغط السياسي والاجتماعي على القيادة في حال حدوث أخطاء و إصابات عسكرية جسيمة, كما يقلل من مسؤوليتها الأخلاقية في حال حدوث تقصير في الواجب يتناقض مع مبادئ الأميركان الدعائية. لكن التغيير الأعظم تعلق بتشكيلات القوات المسلحة وببنية وتركيبة هذه القوات, التي خضعت عند بنائها للمعيار السابق نفسه. فقد قام الجيش الأميركي العامل في البلدان الأجنبية بالتخلص من أحماله الزائدة: النقل والتموين والهندسة والخدمات, وحتى بعض فرق الاستطلاع الميداني والتجسس والسجون, إضافة الى جزء أساسي من جهاز الدعاية والإعلام, وتم توكيلها الى شركات خاصة, يتم اختيارها من قبل لجان عسكرية وأمنية. والهدف من وراء ذلك التقليل من خطر تعرض هذه القوات الى هجمات على الطرق الخارجية, والتقليل من احتمالات المعارك خارج الثكنات, والاشتباكات المباشرة. أي توحيد مهمات الجندي الأميركي وربطها بزند البندقية وحده. فهو جندي معد لغاية واحدة: إطلاق النيران وقتل العدو. وبذلك أضحى كل من يمر أمام مواقع الحراسة الأميركية أو قواتها المتحركة عدوا محتملا, حتى لو كان رئيس مجلس الحكم المؤقت. وهذا تحول جذري في العقيدة القتالية الأميركية لصالح تنشيط غريزة القتل وكره الآخر, التي تتناقض تماما مع مبادئ الديموقراطية ومع الهدف الكاذب : لقاء المصالح. وهذا تناقض آيديولوجي وأخلاقي ظاهري, لكنه تناقض يطابق مفهوم صراع الحضارات ويترجمه ترجمة أمينة. ولم يتوقف الأمر على هذا فالتحول في بنية القوات العسكرية فنيا قاد, في ظروف العراق, الى نشوء مافيات عسكرية وحلقات سرية وعلنية من التشكيلات المسلحة والأمنية, أخذت على عاتقها مهام تنفيذ عمليات مشتركة ومنفردة وخاصة أحيانا. وقد قاد هذا الأمر لاحقا, في ظل تعدد مراكز القوى, وضعف مواقع السلطة اجتماعيا وعزلتها, الى نشوء مليشيات خفية تدار من قبل قوى سياسية محلية وأجنبية, تقوم بمهام خلق ظروف تفاوضية وأزمات أمنية, كوسيلة من وسائل عقد الصفقات الكبيرة, كتغيير الوزارات وتعيين الوزراء, أو تغيير القوانين وعقد الاتفاقيات والصفقات وغيرها. وقد أفتضح مؤخرا دور الألوية العسكرية العراقية, التي تعمل تحت إمرة القوات الأميركية, باسم الجيش العراقي, من دون علم السلطات العراقية بمنتسبي هذه الوحدات وبهوياتها وبتحركاتها ومهامها. أما القوى الكردية الحاكمة فتملك عددا من الوحدات العسكرية, العاملة باسم الجيش العراقي أيضا, وأهمها الوحدات العسكرية المرابطة في كركوك, باسم الفرقة الرابعة, إضافة الى القوات العاملة الآن في بغداد, والتي جرى انكار وجودها طويلا, حتى افتضاح أمرها عند مناقشة تخصيصات الرئاسة. وكان الخلاف المالي الأساسي يتعلق بتخصيصات تلك القوات: حجمها, الجهة التي تستلمها, المهام المرتبطة بها, والأهم تحديد ولائها عسكريا وسياسيا.
وفي هذا السياق يلعب جيش ما يعرف بـ "المتعاقدين" دورا أساسيا في تقرير الحالة السياسية والأمنية. ولا يعود سبب ذلك الى سرية ودرجة تأهيل هذا الجهاز العالية وتفوقه العددي, الذي يصل الى مئة ألف مقاتل, فحسب, بل الى الدور الخاص المناط به ضمن بنية القوات العاملة في العراق. فهو جزء عضوي من منظومة جيش الاحتلال. وهو القوة الاستخبارية الأساسية, والقوة الميدانية الأكثر فعالية ومهارة في مجال تنفيذ الأعمال الدقيقة, الخاصة. ولا بد من الإشارة هنا الى أن هذا الجيش يستخدم كل التقنيات المتاحة, من أشكالها البدائية القائمة على شراء نفوس المجرمين والمعوزين من ضعاف النفوس لزرع الأجسام الملغومة, الى استخدام تقنيات التفجير عن بعد, بواسطة المروحيات. وقد كشفت المعلومات التي روجت لها المخابرات الأميركية مؤخرا عن وجود طرف أساسي خفي آخر في العملية السياسية والأمنية, اسمه " منظمة مجاهدي خلق", التي نشرت بالوثائق اسماء وعناوين ورواتب عشرات الآلاف من الإيرانيين التابعين لطهران العاملين خفية في العراق( مئة وثلاثين ألفا!), وقد ذكر بعضهم بالاسم. وإذا صحت هذه المعلومات, فإن "منظمة مجاهدي خلق" تثبت للجميع, أنها القوة الاستخبارية الأكثر تمكنا في العراق. فهي تتفوق حتى على أجهزة الاستخبارات الأميركية في سعة شبكة معلوماتها, وعمق تغلغلها في المجتمع العراقي وأجهزته, وأنها على دراية بكل حي وشارع من شوارع العراق, من أدناه الى أقصاه!
ويدخل ضمن هذا التغيير إدخال العناصر الإرهابية من الخارج, من الدول التي كانت ممرا للقوات الأجنيبة, عند الغزو. والجميع يعرف أن مقرات القاعدة وجماعة الزرقاوي كانت قائمة, بشكل علني, في ما يعرف بالمناطق المحررة من كردستان. لقد جرى غض الطرف عن تسرب هذه العناصر الى الأراضي العراقية, لتحقيق أهداف عديدة, أهمها: أولا, التخلص من فائض الإرهاب في تلك الدول وحصرها في جبهة الحرب المتقدمة, العراق, كما صرح الرئيس بوش. ثانيا, الضغط على الكتل السياسية العراقية وتخويفها بواسطة مجاميع, ظن صانعوها, أنها ستكون معزولة اجتماعيا وسياسيا ومحدودة الأثر. أي قد تربك الوضع السياسي وتقلقه, لكنها لا تغير مجرى الصراع السياسي جذريا أو تحسمه. ثالثا, خلق وحدة وهمية في الأهداف مع الجماعات غير المؤتمنة, الشيعة, تحت شعار مكافحة الإرهاب. إضافة الى تهديد هذه الجماعات بالإرهابيين, الذين ينتمون الى طائفة مغايرة. ومن أبرز أسباب تسريب العناصر التكفيرية هو تنشيط حاسة التمايز الطائفي عند الطوائف والمذاهب جميعها: الشيعي تجاه السني, والمسلم تجاه غير المسلم, والتركماني والعربي تجاه الكردي. لقد استخدم الأميركان هذه الورقة " الأجنبية", أو الاسلام الأجنبي (الزرقاوي, المصري, الليبي, اليماني) بنجاح تام حتى هذه اللحظة, وحققوا قدرا عاليا من المكاسب السياسية بواسطتها, لكنهم لم يتمكنوا من السيطرة على تفاعلاتها داخل المجتمع العراقي المعقد, مما جعلها تكون عظيمة الضرر على المواطن العراقي. وفي ظل ضعف الدولة, وتعدد مراكز القوى العسكرية والسياسية أدى تزايد نفوذ هذه الجماعات, في أحوال كثيرة, الى خروجها على الإرادة التي أوجدتها, أو الغاية الأساسية التي خططت لها, والتي وجدت من أجلها. وبذلك أضاف الأميركيون تناقضات جديدة الى تناقضات الواقع القائمة.
إن تعدد وتنوع مصادر الجيوش الأجنبية, قد يبدو ظاهريا عاملا إيجابيا لصالح الإحتلال, لأنه يضفي نوعا من الشرعية العالمية "المجتمع الدولي" على هذه القوات. وقد يمنحها هذا التعدد قدرا من التفوق الفني بسبب تنوع تخصصاتها وخبراتها, لكنها من ناحية ثانية تشكل بتعددها تعدد الإرادات وتعدد مصادر الضغط على الحكومة المحلية, كما أنها تقود الى التحلل من المسؤولية الجنائية عند ارتكاب الأخطاء والى تفكك مبدأ العدالة, حيث يخضع كل طرف من هذه الأطراف الى قوانيه الخاصه ومعاييره, وفي الغالب تتم محاسبته لا باعتباره جزءا من كل, وإنما باعتباره طرفا منفردا, وبذلك يتم تجزئة الأضرار السياسية والقانونية وتمييع حدة مواجهة الأخطاء. وقد أفادت السلطات العراقية المتعاقبة من هذا الأمر, لكنها وجدت نفسها في نهاية المطاف غارقة في صفقات تبريرية لا نهاية لها, هدفها الأساسي إسباغ الشرعية على ما هو غير شرعي وقانوني. كل ذلك عزز من انفصال القوى العراقية الحاكمة عن المجتمع, وجعلها تبدو سلطة غريبة, مفروضة من الأعلى على المجتمع, على الرغم من أنها جاءت كنتيجة من نتائج عملية انتخابية.
6- لقد أقام أنصار الاتجاه الأميركي مشروع "التحرير" بواسطة الحرب والغزو, وشيدوا سلطة لهم بواسطة مشروع العنف, ولعبوا دور المساعد والشريك في عملية تدمير البنى الاجتماعية والاقتصادية و الثقافية, والعبث بها, وما رسوا سياسة تضليلة فيما يخص إعادة تأهيل المجتمع والتخلص من آثار الديكتاتورية, متجاهلين أن إعادة تطبيع الحياة حلقة أساسية, ضرورية, ولازمة من حلقات بناء الديموقراطية والمجتمع الجديد. أما التعامل مع الأرث البعثي فهو الحلقة الأولى من حلقات إعادة تأهيل المجتمع وإعداده لتقبل حياته الجديدة.
لقد كان مشروع " اجتثاث البعث" عملية فوقية, وخطأ في التسلسل الإجرائي تاريخيا. لذلك غدا مصدرا أساسيا من مصادر ولادة تناقضات جديدة غير قابلة للاحتواء. لأن الاجتثاث, وفق الصيغة التي نفذ بها, كان جزءا من ظاهرة مجلوية ضمن خطة خارجية, ذات أهداف خفية, لا صلة لها بتسلسل عملية التغيير الاجتماعي, وبمراحل تطور عملية التغيير: الإعداد, ووسائل التغيير , والمشاركة الاجتماعية في التغيير, ثم إزالة آثار النظام السابق وإعادة تأهيل المجتمع. كان الاجتثاث صيغة ملحقة بالمشروع السياسي وليست جزءا عضويا من عملية التغيير الاجتماعي التاريخية. فهي سياق مقطوع, فوقي, يعكس تفكك فكر ومصالح القوى الحاكمة, والطابع المصطنع للتغيير. أما الأميركيون, فكانوا أول من شكك في جدوى الاجتثاث, لأسباب عملية, وليس لأسباب آيديولوجية. لأنهم لم يكونوا, ولن يكونوا, في تناقض تناحري مع حزب البعث أو النظام السياسي الذي أقامه.
من هذا العرض المسهب نصل الى خلاصة موجزة: إن مشروع العنف البعثي ومشروع العنف الأجنبي وجهان لعملة واحدة, فهما يشتركان في جوانب جوهرية, رغم تعارضهما الظاهر. وأهم ما يشتركان فيه هو قسوتهما المفرطة على أبناء الشعب العراقي واستهانتهما بآدميتهم. لذلك,¸ربما يكون قد آن الأوان لأنصار مشروع التغيير بواسطة الاحتلال أن يلقوا أسحلتهم, ويقللوا من حجم إثرتهم, وأن يبدأوا بمراجعة ولو متأخرة, علها تعيدهم الى شعبهم المهان, كفئات مسالمة, وليس كمهندسين للحروب والعنف ومشعلي حرائق ومبشرين بالطغم العسكرية. وقد آن الأوان أيضا لمن سايروا حقبة صناعة الديكتاتورية, ممن لم يرتكبوا جرائم إنسانية أو مهنية, أن يقدموا لشعبهم وجها صادقا, جريئا, ناقدا لآثام الحقبة الديكتاتورية وجرائمها, لكي يتمكن الشعب من قبولهم بثقة كأعضاء في جماعته الكبيرة, ولكي يتمكن من إعادة تطبيع الحياة على أسس وطنية, والإعداد لبناء المستقبل.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جواز سفر عيراقي, ولكن لغير العراقيين!
- هل كان الرصافي طائفيا؟
- نيران خفيّة: ما لم تقله جوليانا سيغرينا
- لقد سقط صدام, ولكن باتجاه السماء
- مقدمة لدراسة الشخصية العراقية
- جيش الوشاة.. شعراء السيد القائد.. شعراء السيد العريف
- نوبل على مائدة هادئة
- خرافة اجتثاث البعث في التطبيق
- اجتثاث البعث, دراسة تحليلية تاريخية حول قضية اجتثاث البعث وص ...
- البرابرة يستيقظون مساء ..رسالة شخصية الى مواطن اسرائيلي
- رسالة الى صديق لبناني
- الواقعيون العرب:من نظرية المؤامرة الى نظرية المغامرة
- العودة الى آل ازيرج
- سنلتقي خلف منعطف النهر :::الى أخي كمال سبتي
- من الثورة الغادرة الى الثورة المغدورة
- من أجل مشروع ثقافي عراقي بديل.. جدل ثقافي ساخن على قبر يوسف ...
- لماذا يخشى السياسيّون العراقيون جدولة رحيل قوات الاحتلال؟
- جماليات فن التعذيب
- بريد الأنبياء الى أجمل الشهيدات:أطوار بهجت
- ما بعد جائزة نوبل للأدب, أزمة الذات الثقافية العربية


المزيد.....




- أمسكت مضرب بيسبول واندفعت لإنقاذه.. كاميرا ترصد ردة فعل طفلة ...
- إسرائيل ترسل عسكريين كبار ورؤساء أجهزة الاستخبارات لمحادثات ...
- الدفاع الروسية تنشر لقطات لعملية أسر عسكريين من -لواء النخبة ...
- فيروس جدري القرود -الإمبوكس-: حالة طوارئ صحية في أفريقيا ودع ...
- بشير الحجيمي.. المحلل السياسي العراقي أمام القضاء بسبب كلامه ...
- عاملُ نظافة جزائري يُشعل المنصات ووسائلَ الإعلام بعد عثوره ع ...
- رافضة المساس بوضع الأماكن المقدسة.. برلين تدين زيارة بن غفير ...
- رباعية دفع روسية جديدة تظهر في منتدى -الجيش-2024-
- بيلاوسوف يبحث مع وزير دفاع بوركينا فاسو آفاق التعاون العسكري ...
- بالفيديو.. لحظة قصف الجيش الإسرائيلي شبانا في مدينة طوباس


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - تناقضات سياسة الاحتلال الأميركي المستعصية في العراق