أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - أوزجان يشار - قراءة في خرفان بانورج: بين السخرية والمجتمع في ملحمة رابلي الخالدة















المزيد.....

قراءة في خرفان بانورج: بين السخرية والمجتمع في ملحمة رابلي الخالدة


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8455 - 2025 / 9 / 4 - 19:56
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


في عبقرية اللامعقول

لا تُقرأ حكاية “خرفان بانورج” إلا في سياقها الأوسع داخل رواية «غارغانتوا وبانتاغرويل» (Gargantua et Pantagruel) للكاتب الفرنسي فرانسوا رابلي (1483 – 1553). هذه الرواية، التي صدرت على مراحل بين عامي 1532 و1564، لم تكن مجرد قصص طريفة عن عملاقين غريبين، بل كانت لوحة واسعة لعصر النهضة بكل تناقضاته: صراع بين القديم والجديد، بين سلطة الدين وسلطة العقل، بين هزل الجسد وجِدّ الروح.

وحكاية بانورج مع الخرفان ليست مجرد طرفة عابرة، بل هي مفتاح لفهم رؤية رابلي الساخرة للعالم، وصورة مكثفة لشخصية بانورج، التي لا تزال واحدة من أكثر الشخصيات تعقيدًا في الأدب العالمي.



فرانسوا رابلي: الراهب، الطبيب، والفيلسوف المازح

لفهم النصوص، يجب أن نعرف صاحبها.
• الراهب الهارب: عاش رابلي بداياته في الأديرة، حيث غاص في الكتب الدينية، لكنه شعر أن الرهبنة تقيد الفكر وتخنق الحرية. فكان خروجه منها تمردًا على الجمود.
• الطبيب الإنسانوي: حين درس الطب تغيّرت نظرته إلى الإنسان. لم يعد الجسد عنده لغزًا غامضًا يفسره الكهنة، بل كيانًا يمكن فهمه بالعقل والعلم. وهكذا اقترب أكثر من الفكر الإنسانوي الذي يضع الإنسان، لا الغيب المجرّد، في مركز التفكير.
• الأديب الساخر: جمع بين حكمة الفلاسفة ونوادر العامة. استخدم السخرية أداة لنقد فساد الكنيسة، وتعصّب الجامعات، وتحجّر القضاء. كتب متخفيًا تحت اسم مستعار، وكأنه يعلن أن الضحك نفسه شكل من أشكال التمرد.

هذه الأبعاد الثلاثة تفسر لماذا جاءت روايته هجينة: فيها الحكاية الشعبية، وفيها الفلسفة، وفيها النقد الاجتماعي المغلف بالهزل.



ملحمة “غارغانتوا وبانتاغرويل”: الإطار العام

تروي الرواية مغامرات عملاقين، الأب غارغانتوا والابن بانتاغرويل. أحداثها مبنية على المبالغة الساخرة، كإغراق باريس بالبول أو سرقة أجراس الكنائس. لكن خلف هذه النوادر يختبئ نصّ يموج بالحوارات الفلسفية والتأملات النقدية.

إلى جانب بانتاغرويل يظهر بانورج: شخصية مراوغة، مزيج من الدهاء والجبن، من الفسق والفلسفة، من الطرافة والعمق. وهو بطل قصة الخرفان.



تشريح الحكاية: السرد والرمز

في أثناء رحلة بحرية، يلتقي بانورج ورفاقه بتاجر ثري متغطرس يُدعى دندينو، صاحب قطيع من الخرفان. يسخر التاجر من بانورج ويحتقره.

يرد بانورج بخطة ماكرة. يتظاهر بالودّ ويطلب شراء خروف واحد، بل ويدفع ثمنًا أعلى من المطلوب. ثم يفاجئ الجميع بإلقاء الخروف في البحر. وما إن سقط الأول حتى تبعته باقي الخرفان بلا تفكير، اندفاعًا وراء الغريزة. يحاول التاجر إنقاذ ماشيته، فيتشبث بآخر كبش، لكن اندفاع القطيع يجره هو نفسه إلى الغرق.

الحكاية قصيرة، لكنها محكمة:
• الصراع بين ذكاء الفقير وغرور الغني.
• الذروة حين يقفز أول خروف.
• النهاية المأساوية بالهلاك الجماعي.
• والرمز واضح: الخرفان هي الجماهير التي تتبع بلا وعي، والتاجر هو السلطة التي تظن نفسها قائدة لكنها في النهاية تُبتلع مع القطيع.



أسلوب رابلي: السخرية المتجردة

سر خلود هذه الحكاية ليس في الحدث وحده، بل في أسلوب رابلي نفسه:
• المبالغة: تضخيم التفاصيل حتى تبدو سذاجة القطيع مضحكة ومفزعة في آن.
• الهجاء: نقد طبقة التجار المتكبرة والتبعية العمياء للجماهير.
• الفكاهة السوداء: مشهد يضحك القارئ في البداية لكنه يترك داخله مرارة، كأن الضحك قناع يخفي رعبًا.
• اللغة: لغة نابضة، تجمع بين ألفاظ الشارع وحِكم الفلاسفة، بين الطرافة والموعظة.



القراءة النقدية: أبعد من “عقلية القطيع”

لو اكتفينا برؤية الحكاية كتعبير عن “عقلية القطيع”، لضيّعنا ثراءها. فهي تحمل أبعادًا أوسع، وأهمها:
• ذكاء الفقير في مواجهة الغني: بانورج شخصية بلا مال ولا قوة، لكنه لا يواجه التاجر بالانكسار، بل بالمكر. يستخدم حيلة صغيرة ليقلب المعادلة، فيثبت أن الذكاء قد يكون سلاحًا أقوى من الثروة.
• الانتقام من جشع التاجر الاستغلالي: دندينو ليس مجرد تاجر، بل صورة للطبقة المتغطرسة التي تكدّس الثروة وتزدري الآخرين. ما يفعله بانورج ليس لعبًا بريئًا، بل انتقامًا مدروسًا يفضح جشع التاجر ويقوده إلى الهلاك مع قطيعه.
• العبث: أن يهلك قطيع كامل لأن واحدًا قفز في البحر، مشهد عبثي يسبق مسرح العبث بقرون.
• الانتقام الشخصي كمرآة اجتماعية: ما بدأ كردّ اعتبار فردي تحوّل إلى كشف عن مرض اجتماعي: الجماهير تنقاد بلا تفكير، والسلطة المتغطرسة تسقط مع من استغلتهم.
• العقل والغريزة: بانورج يمثّل العقل الماكر، الخرفان تمثل الغريزة، والتاجر يملك عقلًا مغرورًا لكنه ينتهي عبدًا للغريزة نفسها.



لماذا تبقى الحكاية حيّة؟

رغم ارتباطها بسياق النهضة وصراعها مع السلطة، إلا أن الحكاية تجاوزت زمنها لأنها:
• وصفت ضعفًا إنسانيًا خالدًا: سهولة الانقياد.
• قدّمت نقدًا عميقًا في شكل قصة مضحكة يسهل تذكّرها.
• منحتنا شخصية مربكة مثل بانورج: نصفها محبوب، ونصفها مكروه. هذه الازدواجية هي ما يصنع الأدب العظيم.



الخاتمة: ضحكة لا تموت

قصة “خرفان بانورج” ليست مجرد مشهد طريف عن قطيع يتبع بعضه إلى الغرق، بل هي مرآة مزدوجة: مرآة تكشف غباء الجماهير التي تتحرك بلا وعي، ومرآة أخرى تكشف جشع السلطة والثروة التي تظن نفسها قادرة على السيطرة، فإذا بها تهلك مع من استغلتهم.

بانورج هنا ليس بطلًا بريئًا، بل شخصية ماكرة انتقمت لكرامتها من تاجر متغطرس. لكنه في الوقت نفسه قدّم درسًا أعمق: أن الفقير، وإن حُرم من القوة المادية، يستطيع بعقله أن يهزم الغني الذي يملك المال، بل ويحوّل نقطة ضعفه (الجشع والتباهي) إلى سلاح ضده.

ضحكة رابلي إذن ليست للتسلية، بل هي صفعة ساخرة للغني المستغل وللجماهير التي تتبعه بلا تفكير معًا. وهي دعوة لنا، بعد خمسة قرون، إلى ألا نكون مثل الخرفان التي تقفز لأن غيرها قفز، ولا مثل التاجر الذي ظن ثروته حصنًا فإذا بها تغرقه.

إنها ضحكة مُرّة، لكنها ضرورة لفهم العالم: الضحك الذي يحرّر العقل، ويذكّرنا بأن الذكاء قد يهزم الجشع، وأن الجماهير إن لم تُفكّر ستجرّ نفسها ومن يقودها إلى الهلاك.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كذبة الكناري ووصيّة الحمار الوحشي
- الجنس عبر الحضارات: من طقوس الخلق إلى ثورات الحرية
- النخب العربية بين الوعي والتخاذل: مأساة أمة تعرف الطريق ثم ت ...
- الإخوة كارامازوف: ملحمة النفس البشرية بين الإيمان والشك
- خرفان بانورج: بين سيكولوجية القطيع وتميّز العقل الحر
- نظرية الكون 25: حين تتحول الجنة إلى مقبرة
- نظرية -الضفدع المسلوق-: كيف يقتلنا التكيف المفرط مع الأوضاع ...
- فن القيادة الصعبة: بين بصيرة القائد وتحدي القرارات
- الشركات والدول المستفيدة من الإبادة الجماعية في غزة
- الكاهن والشيطان: جحيم دوستويفسكي فوق جدران الزنزانة
- المستشار: بين هيبة الصلاحيات وفقدان الفحولة
- انتقام أولجا من الدريفليان: تشريح الغضب المُبرَّر والدهاء ال ...
- الفرق بين القانون والأخلاق في فلسفة إيمانويل كانط
- لم أخنك حتى في أفكاري: دوستويفسكي والحب كمرآة للوجود
- حين يتحدث الإنسان إلى الطير: من نبي الله سليمان إلى تجارب ال ...
- التواضع والمحبة في التعامل مع الآخرين: رؤية إنسانية وفلسفية ...
- ومضات من حياة فيرجينيا وولف
- ومضلات من حياة كافكا وهل كان يكتب عن العبث الإنساني… أم عن ا ...
- نظرية باريتو: من حقول البازلاء إلى قانون عمل وفلسفة اقتصاد
- كائنات صغيرة، كوابيس صناعية: عندما تُهدِّد الأحياء الغازية أ ...


المزيد.....




- رد على روسيا.. إعلان الناتو إطلاق عملية -الحارس الشرقي- يثير ...
- -سيدة الحمام- تثير غضب سكان روما.. بلدية المدينة تمنعها من إ ...
- زلزال عنيف بقوة 7.4 درجة يضرب الساحل الشرقي لمنطقة كامتشاتكا ...
- هل ينقل الهجوم الإسرائيلي على قطر العلاقات الخليجية-الإسرائي ...
- أمريكا ودول عربية تدعو لهدنة وحكم مدني في السودان
- الجري المتقطع.. فوائد أعلى ووقت أقل بخدعة بسيطة
- إسرائيل تعلن اعتراض صاروخ أُطلق من اليمن
- تايوان: الصين تستعد للحرب وإزاحة واشنطن من قيادة العالم
- لقاحات كوفيد 19 وموت الأطفال.. هل هناك ارتباط؟
- زلزال بقوة 7.4 درجة قرب ساحل كامتشاتكا ولا خطر من تسونامي


المزيد.....

- قراءة تفكيكية في رواية - ورقات من دفاتر ناظم العربي - لبشير ... / رياض الشرايطي
- نظرية التطور الاجتماعي نحو الفعل والحرية بين الوعي الحضاري و ... / زهير الخويلدي
- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - أوزجان يشار - قراءة في خرفان بانورج: بين السخرية والمجتمع في ملحمة رابلي الخالدة