كاتب فلسطيني ـ دمشق
لعل تصريح مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية "والتر كانشتاينر" الذي قال فيه: "إن نفط القارة السوداء بات يشكل مصلحة قومية استراتيجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية" يلخص وبدقة متناهية أهداف الجولة الإفريقية التي قام بها الرئيس بوش، وشملت خمس دول هي: السنغال، بوتسوانا، جنوب أفريقيا، أوغنده، نيجيريا، وهذا ما يفسر سيل الانتقادات الحادة التي وجهت لهذه الجولة، واتهمت الرئيس بوش بأن اهتماماته الإفريقية المعلن عنها تحت شعارات إنهاء الصراعات الأهلية، وتحرير اقتصاديات الدول الإفريقية كمدخل للولوج إلى العولمة، وتعزيز الديمقراطية وإقامة مؤسساتها في هذه الدول ومكافحة الإيدز لا يعدو كونه محاولة لإخفاء السياسات الحقيقية لإدارته القائمة على حماية مصالح واهتمامات المؤسسات الأمريكية الكبرى، والشركات متعددة الجنسيات في القارة السمراء. وتجلى عدم حماس الأفارقة لجولة بوش في التصريحات التي أطلقها الزعيم الإفريقي نلسون مانديلا حين رفض مبدأ مقابلة بوش على أرضية إدانة السلوك العدواني الأمريكي ضد شعب العراق واحتلاله، وقال:" منذ تأسيس الأمم المتحدة لم تندلع حرب عالمية، ولذلك أي شخص يريد السلام يجب أن يدين كل من يعمل خارج الأمم المتحدة، بخاصة إذا كان زعيم دولة عظمى".
جولة بوش التي افتتحها بزيارة السنغال حاول الرئيس الأمريكي تحميلها أكثر من معنى، فالسنغال بلد إفريقي مسلم مستقر، قطع شوطاً كبيراً في بناء المؤسسات الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، لم يشهد في تاريخه أية نزاعات داخلية أو نزاعات مع دول الجوار، وهو أحد أعمدة الفرانكوفونية ومناطق النفوذ التقليدية الفرنسية، وبوقوفه مع زوجته أمام "باب اللاعودة" في جزيرة غوريه السنغالية، وهي البوابة التي كان يعبر منها الأفارقة المختطفون ليساقوا عبيداً للعمل في مزارع أمريكا ومنطقة الكاريبي، أو ما كان يسمى "بالعالم الجديد"، وسجلها التاريخ صفحة سوداء مليئة بالفظائع والجرائم ضد الإنسانية وتاريخها الحضاري. حاول بوش الإيحاء بأن المصالحة التاريخية قد تمت وطُويت هذه الصفحة المؤلمة إلى الأبد، ولا أدل على ذلك من مرافقة مستشارة الأمن القومي ووزير الخارجية ذوي الأصول الإفريقية للرئيس بوش في جولته، وفي هذا أكثر من إشارة إلى أن بوش فضل أن يبدأ حملته الانتخابية باستمالة الأمريكيين (من أصل إفريقي) إلى جانبه والبالغة نسبتهم 8% من المقترعين تعويضاً لخسارته المتوقعة لأعداد واسعة من أصوات الكاثوليك وذوي الأصول العربية والآسيوية، نتيجة لسياسات إدارته الداخلية والخارجية.
فقر وإيدز وحروب بلا نهاية:
أفريقيا المتعبة لم تحد دوامة العنف والإيدز والفقر من طموحاتها الوطنية في سعيها لتجسيد اتحادها الإفريقي الذي جاء كتطوير لمنظمة الوحدة الإفريقية من خلال تشكيل مجلس للسلام والأمن الإفريقي يعطي الاتحاد حق التدخل عسكرياً في الصراعات الوطنية، وإنشاء مؤسسات الديمقراطية والتنمية الإفريقية، وهي خطوات مهمة رغم تشكيك البعض في مقدرة دول الاتحاد الإفريقي على تطبيقها.
وترى العديد من الدول الإفريقية بأن مدخل حل إشكالات القارة لا يكون إلا بالاعتماد على الذات الإفريقية، فالوصفات الجاهزة الأمريكية لتحرير الاقتصاد الإفريقي، وربطه بالاقتصاد الأمريكي، وإشاعة الديمقراطية وبناء مؤسساتها على الطريقة الأمريكية لا تأخذ بعين الاعتبار مستوى التطور الاجتماعي والفوارق الثقافية والحضارية، وتصب في نهاية المطاف في ترسيم تبعية اقتصادية كولونيالية واستلاب حضاري، يقوض أسس الاستقلال والثقافة للدول الإفريقية، ويأخذ أبعاداً أشد خطورة إذا أقرن مع نهج الإدارة الأمريكية الذي بات ينطلق من مقولة حماية المصالح الوطنية الأمريكية بقوة السلاح، ومثال ذلك ما صدر عن "مجموعة المبادرة السياسية للنفط الإفريقي"، وهي منظمة أمريكية تضم ممثلي كبريات شركات الصناعات النفطية الأمريكية، وشركات الاستثمار بالإضافة إلى بعض مستشاري بوش، وأعضاء من الكونغرس حيث طالبت "بإعلان خليج غينيا منطقة ذات أهمية سياسية للإدارة الأمريكية" وحثت واشنطن على إقامة قاعدة عسكرية مهمة لها تحمي الاستثمارات النفطية الأمريكية فيها. علماً بأن الاحتياطات النفطية الإفريقية تقدر بـ 8 % من الاحتياطي النفطي العالمي.
الصراعات الدامية في ليبريا، ساح العاج، الكونفو الديمقراطية، الصومال، السودان، الصحراء الغربية، سيراليون، أوغندة، لا تبدوا كلها بانتظار مفاجآت سعيدة. فرحيل الدكتاتور الليبيري تشارلز تيلر حليف زعماء عصابات الماس في سيراليون، وأحد مفجري الحرب الأهلية في ساحل العاج لن يغلق كل الملفات في هذا البلد الجريح مباشرة. ومفاوضات السلام في جنوب السودان، والصحراء الغربية عادت للاستعصاء مرة أخرى، حيث رفضت الخرطوم توقيع الاتفاق النهائي للسلام في كينيا الذي اقترحته منظمة "إيغاد" كونه يخرج عن اتفاق "مشاكوس" ويجنح إلى اقتراحات غير متوازنة وغير قابلة للتطبيق، ورفضت الدار البيضاء خطه الوسيط الدولي جيمس بيكر لحل مشكلة الصحراء الغربية لأنها تمس بوحدة التراب المغربي. وأمراء الحرب في الصومال يعطلون حتى الآن تشكيل حكومة اتحادية حسب اتفاق نيروبي، ودول البحيرات الإفريقية لم تتخطى مخاطر عن الحرب الأهلية بعد. ويبدو أن التدخلات الأمريكية الإنقاذية لن تعطي مفعولاً سريعاً، لكن الإصرار الأمريكي لن يقف عند حد، كما عبر أكثر من مرة أركان الإدارة الأمريكية، وسيكون مدعوماً بالقوة العسكرية كما يظهر في تصريح الجنرال ماستين روبسون قائد القوات الأمريكية في القرن الأفريقي حيث قال:" إن الحاجة إلى القوة القتالية ستظهر يوماً ما، وعلى ضرورة قيام بعض المقاتلات بمهمات عملياتية في المنطقة ".
التدخل العسكري وعقدة الصومال:
في العام 1993 أدخلت صورة جثة جندي أمريكي تجرّ في شوارع مقديشو الرعب والأسى في قلوب الأمريكيين، وكانت السبب في تراجع الحكومة الأمريكية عن التدخل العسكري المباشر في الصومال، وهذا ما يجعل البعض يجزمون بأن أمريكا ستحسب أي تورط عسكري لها في أفريقيا بميزان الذهب، ودليل ذلك الرفض الأمريكي حتى الآن للمشاركة بقوة السلام الدولية المقترحة في ليبيريا. لكن يبقى التدخل العسكري قدر لا مناص منه حسب أوساط البنتاغون ذوي الصوت القوي والنافذ في البيت الأبيض.
التدخل الأمريكي الفظ في الشؤون الإفريقية لا يواجه رفضاً من بعض الدول الإفريقية فقط، بل ورفضاً أوروبياً وعلى الخصوص من جانب فرنسا على اعتبار أن الهجوم الأمريكي يستهدف تقويض النفوذ الفرنسي في القارة الإفريقية، التي تربطها علاقات ثقافية واقتصادية عميقة مع فرنسا تاريخياً، وهذا ما سيؤثر على اندفاع بعض الحكومات الإفريقية نحو السياسات الأمريكية في القارة السمراء. وزاد من التشكك الإفريقي بجدية الوعود الأمريكية بأن حبر كلمات الرئيس بوش لم تجف بعد حتى أعلن الكونغرس الأمريكي تخفيض الموازنة الأمريكية لمكافحة الإيدز من 15 مليار دولار كما وعد بوش إلى 10 مليار دولار فقط، أي 2 مليار دولار سنوياً.
ويبقى أن نقول بأن القارة الإفريقية أمام تعقد أزماتها تجد نفسها بحاجة للجهد الأمريكي وهو ما عبر عنه أيضاً كوفي أنان الذي أقر "بمحورية الدور الأمريكية في حل نزاعات ومشاكل أفريقيا"، لكن المشكلة تكمن في الشروط والثمن المطلوب دفعه إفريقياً، فالكلام الأمريكي عن تقرير المصير، وتعزيز الديمقراطية وبناء مؤسساتها يفقد معناه، بل يأخذ معنىً عكسياً عند فرض المفهوم الأمريكي للعولمة الذي يؤدي إلى استحواذ الشركات متعددة الجنسية على السلطة الفعلية في هذه الدول وتقرير مصائر شعوبها ومستقبل ثقافاتها، والشروط السياسية والاقتصادية التي تحكم تقديم المساعدات تمنع استفادة الدول النامية بما فيها الإفريقية من أية إيجابيات تعطيها لها العولمة.
الدول الإفريقية تنظر إلى دور أوروبي أكثر فاعلية في مساعدتها لحل مشاكلها، يمنع الاستفراد الأمريكي، ويشكل معادلاً له. بما يعيد التوازن إلى السياسات الجامحة الأمريكية المبنية على منطق القوة الاقتصادية والعسكرية الغاشمة، حيث لا مجال للضعفاء في حلبة المواجهة مع القوة الأعظم.
بوش حمل في سلته الكثير من الوعود، فهل ستجد لها تطبيقات عملية في ظل سياسات إدارته التي ترسمها مصالح كبريات الشركات الاستثمارية والصناعية النفطية ؟ أم ستشكل مدخلاً لحروب تزيد من جروح القارة المثخنة بجراح الحروب والأوبئة والفقر.