|
تحييد لبنان إقليميا وحياد الدولة اللبناني الطائفي
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1821 - 2007 / 2 / 9 - 12:26
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أشعر بمسؤولية خاصة، كسوري، عما يجري للبنان وفيه. يزيدها حدة كون لبنان وطنا للمثقفين العرب جميعا، وبيروت عاصمة دائمة للثقافة العربية. الصفة هذه تدفعني إلى السير على درب آثره مواطني وسميي ياسين الحافظ قبل أكثر من ثلاثين عاما. "اعتزل" الحافظ، وقد كان مقيما بصورة نصف قسرية في بيروت، حرب لبنان، ودعا الناس لاعتزالها واصفا إياها بأنها حرب طائفية قذرة، تخصم من انفتاح لبنان الثقافي وتعدده السياسي. لا أقيم في بيروت، لكني رأيت الدخان يغطيها. دخان فوق بيروت؟ أية مخيلة هذه التي اهتدت إلى إظهار بيروت كأنها تحترق؟ وأية قضية ينصرها هذا المشهد القبيح؟ والسؤال الذي يحيرني: أليس لتلك السيارات المحروقة أصحاب؟ هل أخذت موافقتهم على حرقها؟ وفي بلد لطالما احترق بنيران حروب من كل صنف، وقبل أشهر فحسب بنيران البربرية الإسرائيلية، أما كان يجدر تجنب الحرائق والدخان؟ وبعد الدخان الدم. هل هذا مفاجئ كثيرا؟ هل يدخل الدم في "الفتنة"، ولا يدخلها الدخان؟ "الفتنة" التي يبدي الجميع حرصا على تجنبها لا تأتي وقد كتبت على جبينها إنها فتنة. وهي لا تأتي بالزي ذاته مرتين. قد تبدأ بإضراب "سلمي"، مفروض على غير المضربين بحواجز تقطع الشوارع، يقوم عليها حاملو عصي عابسون؛ وليس بالضرورة بإطلاق النار على حافلة تحمل مسلحين. لا أريد أن آخذ موقفا جماليا من شأن سياسي معقد. لكني مقتنع أن سياسة معادية للجمال لا يمكن أن تكون عادلة أو تحررية. هذه المقالة مساهمة عاجز، لا يملك غير الكلمات لتحمل "مسؤوليته"، في نقاش الأزمة اللبنانية، ********* يتوزع السجال حول الشأن اللبناني على تيارين عريضين: تيار يحمل المسؤولية عن اضطراب أحوال البلد على التكوين الطائفي الموروث لنظامه السياسي، وتيار ينحي باللائمة على أطراف خارجية تجعل من لبنان ساحة لاقتتالها. تنحاز هذه المقالة إلى فرضية تفيد بأن مشكلات لبنان تتولد من تفاعل نظامه الطائفي المضعف للدولة مع استقطابات إقليمية ممزِّقة واسمة لمنطقة "الشرق الأوسط". وسنرتب على هذه الفرضية المخرج الذي نتصوره للأزمة اللبنانية المزمنة. يضعف النظام الطائفي (ما يحتفى به أحيانا باسم "الديمقراطية التوافقية") كلا من الدولة والفرد لحساب "الطوائف" التي يقوم النظام على جعلها وحداته السياسية. ورغم أن الفكرة اللبنانية، أعني ارتباط اللبنانيين بوطنهم، ظل قويا على الدوام، إلا أنه قلما تعارض مع بقاء الدولة ضعيفة، إن في المجال الدفاعي أو في التنموي، أو بالخصوص التعليمي. فالنظام ذاته يطيف اللبنانيين ولا يعترف بهم إلا في وصفهم "أعضاء" في طوائف. ولم يبد اللبنانيون، من جهتهم، استعدادا متسقا للتوظيف في الدولة ومنحها ولاء يقارن بذاك الذي يسارعون في الملمات، وهي وفيرة، إلى منحه لطوائفهم. كذلك لم نلمح في أي وقت بوادر تحالف بين الدولة والأفراد، يوهن هيمنة الطوائف على هؤلاء وضعف تلك أمامها. وفي "الشرق الأوسط"، المتميز بمزيج من التطرف والوحشية في صراعاته، بفضل مشترك من المحور الإسرائيلي الأميركي من جهة، وما قد يسمى محور الطغيان والطائفية والريع في البلاد العربية من جهة ثانية، يشكل ضعف الدولة وانقسام المجتمع فرصة لللاعبين الإقليميين والدوليين لتصفية حساباتهم في ملعب داشر لا يعز على أحد منهم. ولن يفتقر اللعب هذا إلى قواعد داخلية لبنانية بالنظر إلى الانقسام الطائفي الذي يرعاه النظام ذاته. ولعله من ثوابت تاريخ "الشرق الأوسط"، منذ أيام "المسألة الشرقية" حتى يومنا، أنه كلما تصاعد النفوذ الخارجى ضعفت الدولة وانتظم المجتمع طائفيا وفَجَرت الطوائف بلا حياء. وهذا وضع مولد للانقسام الأهلي أو الحرب الأهلية الصريحة. وتاريخ لبنان بالذات، منذ عام 1840 حتى 2007، هو المصداق الأكبر لهذه القاعدة. لا جديد في تقرير مسؤولية النظام اللبناني و"التدخلات الخارجية"، القريبة منها كما البعيدة، عن اختلاجات تاريخ لبنان الدورية. لا جديد، حتى وأن كان أكثر اللبنانيين ينزعون إلى قصر لومهم على هذا العامل أو ذاك: من يقررون مسؤولية النظام اللبناني يميلون إلى إغفال دور "الخارج" أو التقليل من شأنه، ومن يلحون على دور هذا يجنحون إلى إعفاء النظام اللبناني من اللوم. لا جديد كذلك في القول إن المخرج من هذا الشرط المقوض لأكثر البلاد العربية ليبرالية وحيوية هو المزج بين إصلاح شامل للنظام السياسي وتحييد لبنان بكفالة دولية عن الصراعات الإقليمية. فمن شأن إصلاح النظام اللبناني، السياسي والتربوي والاقتصادي، أن يضعف الطوائف كوحدات وفاعلين سياسيين؛ ويحرم تاليا القوى الخارجية من مواطئ قدم في البلد الصغير. ومن شأن تحييده المكفول دوليا أن يتيح لعملية الإصلاح الداخلية أن تسير بقليل من الارتجاج المغري بالعودة إلى القواقع الطائفية الآمنة. بالعكس، يتعذر إصلاح "الآلة" اللبنانية العطوب بينما هي مفتوحة على رياح الأرض جميعا ومعرضة لـ"أمطار صيفها" وشتائها؛ وبالمثل، لن يجدي عزلها عن العواصف اللبنانيين نفعا إن لم يقترن بترتيب "البيت الداخلي"، بما يحصنه ويزيده مناعة. لكن لا يبدو أن هذا برنامج أو توجه أحد، خلا مثقفين أفرادا، اعتادوا ألا يسمع صوتهم، فامتنعوا من جهتهم عن التفصيل. وليس كاتب هذه السطور، وهو "خارجي" بدوره، مؤهلا لقول مفصل في الشأن اللبناني. سيكتفي هذا المقال، لذلك، بتقصي دلالات وشرائط المطلب المزدوج: إصلاح علماني الاتجاه للنظام اللبناني، وإخراج لبنان من دوائر التجاذب الإقليمية والدولية. والحال إن توجها هذه أهدافه يقتضي، في آن، "حاملا اجتماعيا" داخليا وتوافقا إقليمية ودولية على احترام حياد لبنان. بيد أن بدوته الأساسية هي توجه فريق من اللبنانيين، عابر للطوائف، إلى مواطنيهم والعالم من حولهم بخطة معقولة في هذا الاتجاه. ويتعين عدم التذرع بأن أحدا لن يستجيب، أو حتى يصغي، تسويغا لتقاعس لم يعد مقبولا عن توفير خطة مفصلة بعض الشيء لمخاطبة الفاعلين المحليين والدوليين بها. فمن شأن التخطيط للبنان المستقبل، وإن لم يثمر المرغوب في أمد قصير، أن يتيح تمرسا بالعمل العام ودربة في التدبير لا يوفر التقاعس ما يضاهيهما.
القضية المضادة للتحييد ينتصب في وجه "مشروع" كهذا صنفان من الاعتراضات: صنف ينكر تحييد لبنان، وصنف ينفر من نزع طائفية نظامه. في وجه الاعتراض الأول نقول: كفى لبنان قرابة أربعين عاما كان خلالها ساحة مفتوحة للصراع العربي الإسرائيلي ولنزاعات فرعية متنوعة، فيما البلدان "الشقيقة" الأخرى تغلق جبهاتها وميادينها العامة، ومجتمعاتها ما قدرت، دون أي تأثير خارجي. لا يصدر هذا الكلام عن لبنانوية أو مركزية لبنانية نافدة الصبر، تريد عزل لبنان تعسفيا عن محيطه، بل هو وجه لبناني لتصور أوسع يتوجه نحو إبطال الإيديولوجية القومية العربية التي لم تعد تولد غير الفرقة والتمزق بعد إخفاق النظام الذي بني عليها قبل أربعة عقود في الرد على إسرائيل وبناء نواة ديناميكية للتعاون العربي. الواقع أن النظام العربي الذي استبطن ذلك الإخفاق عمليا مندرج اليوم كامل الاندارج في النظام الشرق أوسطي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وتشكل إسرائيل قلبه النابض. أما الإيديولوجية القومية التي انفصلت عنه فتشتغل اليوم منبعا لأحكام التخوين والاتهام، في خدمة نظم ومنظمات وطغم تزداد فئوية وطغيانا. التصور الذي ندافع عنه يتمثل في تهدئة واسعة لجبهات الصراع في المنطقة، بما في ذلك مع إسرائيل، والالتفات إلى بناء مجتمعاتنا بتواضع وصبر. بدءا من شوارع نظيفة وحدائق مرتبة وكهرباء لا تنقطع، إلى مدارس تتحسن وجامعات لا يتقاتل طلابها فيكادون يتسببون في حرب أهلية (أو يستعرضون بصورة خرقاء ومتشاوفة قوتهم أمام زملائهم العزل، وفي وجه نظام أقوى منهم) ومشاف لا تهدر كرامة فقراء السكان أو تتركهم للموت على أبوابها، إلى نظم حكم لا تقتل مواطنيها ولا تبدد موارد بلدانها شعبها ولا تتمسك بالسلطة للأبد وما بعده. قد يقال: ربما يكون هذا التصور متسقا ذاتيا، لكنه ليس منسجما مع الواقع؛ فهو يهمل أننا نعيش في ظل نظام إقليمي، أي شبكة من التفاعلات التي لا خيار لنا في الاندراج فيها أو الخروج منها، ويتعذر تاليا أن نندار إلى شؤوننا الذاتية كما لو أنه غير موجود. هذا صحيح. لكن ثمة شيء من الاستقلال الذاتي للبلدان المحتواة في النظام، بدليل ما نراه من تحكم بعض دوله بداخلها: سورية والأردن ومصر وبلدان الخليج وإيران... فيما لا داخل لكل من فلسطين والعراق، وبدرجة أقل لبنان. ومن الممكن أن تعزز النخب المثقفة والسياسية هذه الاستقلالية بقدر ما تنحاز إلى خيار البناء الداخلي وتجتهد لبلورته بوضوح. إلى ذلك فإن الخيار المعاكس، خيار "المواجهة" على اختلاف درجاتها، من المقاومة حتى "الممانعة"، غير متسق ذاتيا فوق كونه غير منسجم مع الواقع. أي لا يمكن صوغه في تصور واضح ومقنع، ولا مجال بلورة استراتيجية متماسكة وواقعية حوله. وفي حدود ما نعلم فإن أحدا لم يقترح سياسة متسقة ذاتيا ومنسجمة مع القدرات الواقعية لمعالجة تحديات النظام الشرق أوسطي. والواقع أنه ليس ثمة غير خيارين متسقين: مواجهة النظام الشرق أوسطي بهدف تغييره، وهو ما يقتضي توسيع جبهة المواجهة ضد كل من إسرائيل والولايات المتحدة، لتشمل على الأقل الأطراف التي تتخذ من المواجهة إيديولوجية مشرعة لنظمها الحاكمة مثل سورية وإيران؛ وإلا فالعمل على مسايسة القوى المهيمنة في النظام والتوجه نحو نزع العسكرة منه أو حصرها في أضيق نطاق ممكن. بالعسكرة يكسب الأقوى الأميركي الإسرائيلي، ويخسر الأضعف العربي. بالحيلة يكسبون ونخسر أيضا، لكن حسن السياسة يتركز في التفريق بين خسارتين أو هزيمتين. نخسر أقل بالحيلة مما بالعضلات. نريد أن الخيار الثاني أكثر انسجاما مع الواقع. نعود، بعد هذا الاستطراد، إلى القول إن مصر وسورية والأردن من بين الدول العربية خبرت إخفاقات أو هزائم عسكرية أمام المحور الأميركي الإسرائيلي، بيد أن كياناتها الوطنية ظلت سليمة على العموم. فيما تكرر أن كان الكيان اللبناني ذاته مهددا بالانهيار. وفقد طوال نصف تاريخه مستقلا سيادته لمصلحة هيمنة "أخوية"، بقي في ظلها ملتئما لكن مقابل استقلاله وقسط غير قليل من حرية مواطنيه (قسط محمي، للمفارقة، بالتكوينات الأهلية، بالطوائف لا غيرها). وما انطوى عهد الهيمنة تلك حتى أقحم البلد الضعيف في مقايضة معاكسة: استقلاله مقابل التئام كيانه وتفاهم شعبه. ولا نعدو الحقيقة أن قلنا إن إسرائيل قامت على حساب فلسطين وأهلها أولا، ولبنان واللبنانيين ثانيا. يمكن لسورية مصر والأردن أن تتنافس على المواقع التالية. هذا ينتزع من الملاحظ المتجرد ابتسامة كئيبة، بالنظر إلى أن صوت الابتعاد عن الصراع العربي الإسرائيلي كان مسموعا دوما في لبنان، بينما كان صوت مواجهتها هو الأعلى، الذي لا صوت يعلو فوقه، في سورية مثلا. من الميسور كذلك الدفاع عن تحييد لبنان من وجهة نظر عروبة عقلانية (ولا أقول "قومية عربية"، فهذه "مذهبة" للعروبة باتت تنتمي لماض مندثر)، يفترض المرء أنها منفتحة على حماية ورعاية بلد يشكل المسيحيون نسبة من سكانه لا نظير لها في أي بلد آخر. إن عروبة لبنان يمكن أن تعني عناية القوى العربية الفاعلة برعاية اختلافه وضرب مثل على غيرية يحتاج إليها العرب والمسلمون لإصلاح سمعتهم مما لحق بها من أذى بليغ خلال السنوات (والعقود) المنصرمة. إلى ذلك فإن جعل لبنان جبهة متقدمة في مواجهة إسرائيل أوثق صلة في الواقع بإطالة عمر الاستبدادية العربية (والإيرانية؟) منه باستعادة الأراضي المحتلة أو نصرة الشعب الفلسطيني. وهو، من جهة أخرى، وثيق الصلة بمنافسات طائفية داخل لبنان، كما يثبت تاريخ النزاعات الأهلية فيه في نصف القرن الأخير، 1958، 1975-1989، وتجاذبات 2005-2007. لقد آن أن تنتهي العاب الخفة هذه، التي لا تتورع عن استخدام أوزن "القضايا" في خدمة سلطات وطغم معدومة الوزن والقيمة. نقطة أخيرة في قضية التحييد. عزل لبنان عن ميدان الصراع مع إسرائيل ومتفرعاته لا يعني الانعزال عن القضايا العربية إلا إذا جعلنا الصراع العربي الإسرائيلي معيارا للعروبة، أو ثابرنا على الاعتقاد أن فلسطين هي قضية العرب الأولى. والحال، آن أن نفكر في أن التعليم والتنمية والسلم الأهلي وحرية الأفراد والصحافة الحرة هي قضايا للعرب، كيلا نقول إنها قضايانا الأولى! لبنان يمثل منذ الآن الكثير في ميدان هذه القضايا الثانوية! ولعله الدولة العربية الأشد "تطرفا" في هذه المجالات.
القضية المضادة لنزع الطائفية بالمثل، يتعين ألا يكون الدفاع عن إصلاح عميق في النظام اللبناني، باتجاه نزع طائفيته وعلمنته، أمرا صعبا. ثمة من يتحمسون دوريا لـ"ديمقراطية توافقية" يظن أنها ميزة لبنان، وربما الشكل المناسب من الديمقراطية في بلدان المشرق العربي، المتعددة الأديان والمذاهب والإثنيات. يهمل هؤلاء أن الديمقراطيات التوافقية الشغالة (سويسرا، بلجيكا، هولندا..) تنجح في بلدان صغيرة محايدة أو غير منافسة على مسرحها الإقليمي أو المسرح العالمي، بشرط أن يتوفر لها مناخ إقليمي يجمع بين الاستقرار والازدهار والتكافل الأمني كحال أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. يهملون أيضا هيمنة النموذج الديمقراطي الأكثري في أوربا ذاتها، وكون ازدهار النظام الأوربي واستقراره لا يقوم هو ذاته على أسس توافقية (الهيمنة الفعلية فيه للولايات المتحدة). نريد القول إن "ديمقراطية توافقية" يمكن أن "تمشي" في لبنان لو كانت كل من سوريا والعراق ومصر وإيران والسعودية.. ديمقراطيات ناهضة صلبة الأسس، تستطيع أن تحميه من إسرائيل أو تساهم في ضمان حياده. دون ذلك تبقى "الديمقراطية التوافقية" وصفة لتغلغلات خارجية وعدم استقرار يشارف ضفاف الحرب الأهلية، أو يوغل في مستنقعها الدامي. ويتراءى لنا أن مسيحيين لبنانيين هم الأقوى حساسية حيال إصلاح جدي في النظام اللبناني. تتبدى التوافقية ضمانة لهم في سياق محلي يتسم بتراجع نسبتهم العددية، وفي سياق إقليمي يُعتقد أنه يتصف بنزوع الأكثرية المسلمة باتجاه أكثر إسلامية. والسؤال الذي يصعب تجنبه في هذا المقام: كيف الجمع بين نزع طائفية النظام اللبناني، وفي الوقت ذاته طمأنة المسيحيين إلى موقع محفوظ في النظام المُصْلَح؟ هذه معضلة يتعين التفكير فيها بإمعان. تناقضات قضيتين قد يتساءل البعض: ما الداعي لتحييد لبنان إن أمكن إصلاح نظامه السياسي باتجاه ينزع طائفيته؟ لماذا لا نستفيد منه قاعدة أكثر صلابة في مواجهة إسرائيل..؟ البعض هذا "قومي عربي" على الأغلب. وهو لا يبالي بإمكان أو تعذر قيام إجماع وطني حول انخراط لبنان في صراعات بيئة إقليمية متميزة بقسوتها وسيولتها الفائقة. كما لا يتساءل عن وجود استراتيجية عربية من أي نوع في مواجهة إسرائيل. والحال إن اقتراحا سياسيا معزولا خاطئ حتما ما لم يندرج في استراتيجية متماسكة يكتسب منها وحدها قيمته ودوره. ونميل إلى أن إذابة الطوائف وارتفاع الدولة فوقها وعلى رؤوسها جميعا دون تحييد لبنان هي، في الشروط الحالية، وصفة لضرب من التسلطية يقارب ما تعرفه دول عربية مجاورة، تتوسل المواجهة والصمود وأخواتهما كذبة مشرعة. كما قد يدفع إلى الانخراط في سياسة المحاور على غرار الدول ذاتها أيضا. إن ما يحول دون التسلطية في لبنان اليوم هو "الطوائف". فهي سياج جيد ضد التسلط، وإن تكن سياجا بالغ السوء ضد الحرب الأهلية. وقد يتساءل بعض آخر عن دواعي علمنة الدولة وتصليب عودها إذا أمكن تحييد لبنان عن نزاعات محيطه. البعض هذا هم من الموالين لمذهب "حروب الآخرين على أرض لبنان" ومتصنعي البراءة من حروبه الأهلية. لكن صيغة كهذه تناسب هيمنة طائفية داخلية. فتحييد لبنان خارجيا دون حياد الدولة بين الأديان والطوائف وسيادتها عليها، يتوافق مع هيمنة الجماعة التي تحتل الآن الموقع الأفضل للهيمنة على اقتصاديات البلد (المسلمون السنيون؟)، ما يذكر بما كان عليه الحال أيام الهيمنة المارونية التي انطوى عهدها رسميا باتفاق الطائف 1989. إن إدراج نزع الطائفية في سياق التحييد، والعكس بالعكس، هو ما قد يقود إلى تجديد معنى لبنان وبناء مواطنة لبنانية متجددة. ولعل من شأن تعافي لبنان أن يسهم في تشكل ونهوض "عروبة دستورية"، منزهة من الانحطاط الاستبدادي والطائفي الذي واكب غرق لبنان وأسهم فيه. في الختام ، يتعين الإلحاح على أن إصلاح النظام الطائفي أمر مراد لذاته لضمان المساواة بين اللبنانيين وليس فقط لتعطيل احتمالات التغلغل الخارجي. أما التحييد فهو شرط ملائم للإصلاح اللبناني، يستجيب من جهة لتكوين لبنان الاجتماعي الثقافي الخاص، ومن جهة أخرى لمقتضيات انطواء صفحة الزمن القومي في منطقة المشرق.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في أصول تطييف السياسة وصناعة الطوائف
-
أميركا الشرق أوسطية: هيمنة بلا هيمنة!
-
رُبّ سيرة أنقذت من حيرة! -هويات متعددة وحيرة واحدة- لحسام عي
...
-
في سورية، استقرارٌ يستبطن حصارا و..يستدعيه
-
حول الطائفية: ورقة نقاش ومقدمة ملف
-
عن حال القانون تحت ظلال الطغيان
-
بيروتُ سوريٍ ملتبس!
-
إهدار المعنى القرباني لإعدام صدام
-
اللهُمَّ أعزَّ الحرية بأحد الدالَيْن: الدين أو الدولة!
-
عمقان لإسرائيل وضحالات متعددة لنا
-
المعارضة الديمقراطية السورية في أزمة!
-
معضلة حزب الله ومحنة لبنان
-
حنين إلى الوطنية القبلية في حمى الدكتاتور
-
في أصل السخط العربي وفصله
-
تعاقب أطوار ثلاث للسياسة والثقافة العربية...
-
كل التلفزيون للسلطة، ولا سلطة للتلفزيون!
-
أزمة الهيمنة وعسر التغيير السياسي العربي
-
في -نقد السياسة-: من الإصلاح والتغيير إلى العمل الاجتماعي
-
ديمقراطية أكثرية، علمانية فوقية، ديمقراطية توافقية؟
-
الخرائط العقلية والسياسية أم الخرائط الجغرافية هي التي ينبغي
...
المزيد.....
-
-قريب للغاية-.. مصدر يوضح لـCNN عن المفاوضات حول اتفاق وقف إ
...
-
سفارة إيران في أبوظبي تفند مزاعم ضلوع إيران في مقتل الحاخام
...
-
الدفاعات الجوية الروسية تتصدى لــ6 مسيرات أوكرانية في أجواء
...
-
-سقوط صاروخ بشكل مباشر وتصاعد الدخان-..-حزب الله- يعرض مشاهد
...
-
برلماني روسي: فرنسا تحتاج إلى الحرب في أوكرانيا لتسويق أسلحت
...
-
إعلام أوكراني: دوي صفارات الإنذار في 8 مقاطعات وسط انفجارات
...
-
بوليتيكو: إيلون ماسك يستطيع إقناع ترامب بتخصيص مليارات الدول
...
-
مصر.. غرق جزئي لسفينة بعد جنوحها في البحر الأحمر
-
بريطانيا.. عريضة تطالب باستقالة رئيس الوزراء
-
-ذا إيكونوميست-: كييف أكملت خطة التعبئة بنسبة الثلثين فقط
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|