محمد السعدي
الحوار المتمدن-العدد: 8444 - 2025 / 8 / 24 - 15:37
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
عندما قفز البعثيين على كرسي السلطة والدولة في المرة الثانية يوم ١٧ تموز عام ١٩٦٨ ، جاؤوا بدعاة حسن نية رغم تاريخهم الدموي وما أقترفوه من جرائم وإنتهاكات صارخة في القفزة الأولى يوم الجمعة ٨ شباط عام ١٩٦٣ وقتلوا خيرة أبناء شعبنا ومناضليه . التاريخ يتحدث ويقول قبل قفزتهم الثانية ، فتحوا قنوات أتصال مع قوى معارضة ومناوئه لهم ، كانت بينهم أنهار من الدماء والعداء والضغينة ، لكن بسياستهم الجديدة البرغماتية المعلنة ، التي طرحوها في برنامجهم السياسي الجديد من تحولات وأصلاحات وعلاقات عبدت لهم الطريق بسهولة ، بعد ما جسوا نبض الطرف المقابل وغزارة اللعاب الذي سال وضعف بالمواقف وضغوطات دولية ”سوفيتيية ”لاتمت بمصلحة حقيقية للوطن ولا للحزب . كان الشيوعيين أول من وقع في فخ شباكهم رغم عمق الجراح ومأساة الماضي القريب . نتج عن هذا التقارب المريب بين البعثيين والشيوعيين ميثاق العمل الوطني ( الجبهة الوطنية والقومية التقدمية يوم ١٦ تموز عام ١٩٧٣ . وعشنا أعراس هذا التحالف الملغوم ورغم خيباته ونذور الشؤوم حوله لمدة زمنية قاربت الخمسة سنوات ، والتي كانت حبلى بالتناقضات والريبة بما أقترنت بها من تجاوزات وإغتيالات من الطرف الحليف ”البعثيين ” ، وعلاوة على ذلك سبقتها ثمة إغتيالات لكوادر وقادة شيوعيين ستار خضير ، محمد الخضري ، شاكر محمود وآخرين ، لكن هذه الدماء الزكية لم تمنع من ولادة هذا المولود المشوه ، الذي ولد في الاساس ميتاً !.
ورغم علات هذا المولود ، تمكن الشيوعيين من تحقيق إنجازات كبيرة تنظيمية وسياسية وإخلاقية وسمعة كبيرة في الشارع العراقي وكسب واسع وجماهيرية كبيرة ، التي لم يتحملها البعثيين مما أثارت هلعهم وخوفهم من المستقبل البعيد قابلوه الشيوعيين بحرص شديد وحسن نية في بناء وطن آمن للعراقيين ، فعل المواقف المسؤولة والحرص الشيوعي دفع البعثيين في شن حملتهم الارهابية في قمع وتصفية الشيوعيين في نهايات عام ١٩٧٨ وبدايات علم ١٩٧٩ ، سبقتها في إعدام كوكبة جميلة من الشيوعيين بجريرة تنظيم عسكري داخل الثكنات العسكرية ، والتي فرضها البعثيين على الشيوعيين في منع التنظيم داخل الجيش وقبل بها الشيوعيين ضمن أتفاقية ميثاق العمل الوطني !.
شن البعثيين حملتهم على الشيوعيين بأساليب بعيدة عن شرف الخصومة وتفتقد إلى المعايير الاخلاقية والانسانية وبوتائر سريعة ومستعجلة ومما زاد سرعتها في الشدة والسقوط ، موقف الشيوعيين الضعيف والمتهاون في مواجهة الحملة والتصدي لها ، بل أكتفت قيادة الحزب الشيوعي بخطوة ” خلص نفسك يا رفيق ” ، مما تركت ظلالاً من الحسرة واليأس والاستسلام السريع في أوساط الشيوعيين وأصدقاؤهم في التوقيع على قرار ٢٠٠ السيء الصيت ، الذي أستحدثوه البعثيين في عشية الحملة المسعورة ضد الشيوعيين وفي نصه يمنع ممارسة أي نشاط سياسي إلا داخل صفوف حزب البعث العربي ضمن تنظيم مهلهل سمي ” الخط الوطني ” .
هذا القرار أعتمدوه البعثيين في بداية حملتهم الارهابية في التسقيط السريع للشيوعيين ، ولم ينجوا معتقل شيوعي من قبضة الإعتقال إلا أن يوقع على هذا القرار ، خلافاً لذلك سيتهم بتنظيم شيوعي سري يهدد مستقبل السلطة الوطنية ، وإذا ذهبنا بعيداً أو قليلاً عن ذلك سيلاحقوه بتهمة الخيانة الوطنية للوطن وسيواجه الموت الحتمي .
وأنا أكتب الآن عن هذه الجزئية السياسية التاريخية بدراية وترقب ومسؤولية أخلاقية وتاريخية بكوني شيوعي لم تنقطع صلتي برحم التنظيم الشيوعي السري بعد توجيه الضربة القاسمة وعلاوة على ذلك نية البعثيين السيئة وحملتهم الدموية المسعورة في تصفية تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي . ومما لفت أنتباهي في السنوات الأخيرة وحثني عن البوح بهذه الجزئية التاريخية ، نشرت وأنتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وناصيات رسمية ومواقع حزبية كتابات وشهادات وذكريات لرفاق ومناضلين ، كانوا معتقلين في زمن النظام السابق وخرجوا بدون توقيع على قرار ٢٠٠ ، أو تعهدات خطية في صك البراءة من الشيوعية ، وهذه منافية للواقع والظرف والحقيقة ، إلا في أحتمال واحد وهو خطير جداً أن سلطة البعث العراقي ، كانت رحيمة وإنسانية وديمقراطية ، وهنا أؤكد على نيتي الصافية بعدم التقليل أو الأساءة لبطولات الشيوعيين التاريخية المشهودة في مواجهة القمع والارهاب ، لكن هذا واقع الحال وتاريخ لابد أن يقال !.
في سنوات لاحقة وفي بداية الثمانينات ونحن نشهد وضع سياسي مضطرب طبول الحرب تلوح في الأفق وصقور البعث الجارحة تعتلي مقاليد كراسي الحكم في مسرحية هزيلة في قاعة الخلد ببغداد قتل وأعتقل بها ٥٥ رفيقاً بعثياً ، وصوت الشيوعيين بدأ يسمع من خلال تبنيهم أسلوب جديد من النضال والكفاح المسلح في جبال كردستان مع قوى كردية وديمقراطية بعدة تحالفات جديدة جلها كانت مضطربة وأدت بالنتيجة إلى القتل والعزلة .
عقلية البعثيين وأجهزتهم القمعية هنا أختلفت تماماً في مواجهة الشيوعيين بأساليب وطرق جديدة ، حين رصدوا المال والخبرة والخسة في تفتيت كيان الحزب الشيوعي العراقي ، لم يعد ينفع للشيوعي المعتقل التوقيع على قرار ٢٠٠ السيء الصيت أو البراءة من الحزب في الحفاظ على حياته فمصيره محتوم إلى الموت ، هو ومن ساعده أو آواه . هنا جزئية مهمة لا بد من أن تعرف وتقرأ وأقرتها الوثائق المتعلقة بالشيوعيين بعد إحتلال العراق عام ٢٠٠٣ ، وأطنان منها وقعت بيد الشيوعيين ومجايليهم ، لكن للأسف لم تأخذ على محمل المسؤولية ، بل أهملت وأحرقت ، وذهبت المواقف والأسرار معها ، وسادت لغة الاجحاف والطعن والتشهير والتنكيل والاتهامات بدون وازع أخلاقي وأنساني !.
في تلك الفترة أعتمد البعثيين أسلوب جديد في الخلاص من الشيوعيين ، فالذي يعتقل مهما يكون موقفه المعنوي والسياسي سيواجه الموت إلا في حالة واحدة ولا تقبل الدحض والنقاش والتبرير ، عندما يعتقل الشيوعي أو يخطف من الشارع بدون ضوضاء وبعيداً عن صدى التنظيم وقنوات الحزب بقصة إعتقاله هنا يكمن ” بيت القصيد ” سوف يفاوضوه على التعاون معهم مقابل الحفاظ على حياته ، وأن تمت الصفقة بسلام وكتمان وأخلى سبيله ، وأراد في لحظة ما أن يخفي عنهم معلومة أو حركة سيكون مصيره الموت لا محاله !.
في سنوات لاحقة ، وبعد عام ٢٠٠٣ ، أقدمت أمريكيا الامبريالية وحلفائها على إحتلال أرض العراق الطيبة ودمرت بنيته وفككت نسيجه الاجتماعي وشوهت تاريخه السياسي والفكري والثقافي والاخلاقي ونصبت أركان عمليتها السياسية على أسس طائفية وفساد وخراب ، وهذه واحدة من سينياريوهات الإحتلال من خلال تركيزها وأعتمادها على الاحزاب والتكتلات والشخصيات ، والتي لا تمت بصلة إلى أرض العراق وتاريخه ، كان هنا علينا نحن الشيوعيين العراقيين نعلن عن موقفنا التاريخي تجاه العملية السياسية باعتبارها من صنع الإحتلال ، ويكون موقفنا وأستناداً على تاريخنا النضالي والوطني العريق ووقوفنا أمام قبور شهدائنا الميامين نحدد موقفنا من تلك العملية بخطاب وطني صريح ومستقل بعيداً عن كل أجندة الإحتلال وطائفيته وفساده ، لكن الذي وقع فاجأ الألاف من الشيوعيين وأصدقائهم الاصرار على المشاركة في العملية السياسية وخوض التحالفات الفاشلة تلو التحالفات مع قوى وكيانات متخلفة ورجعية وأحياناً مشبوهة مما ضيع صوت الشيوعيين الحقيقي وسبب ضرراً كبيراً لتاريخنا المجيد في النضال بمقارعة الامبريالية والتخلف والاستعمار . ونحن على أبواب أنتخابات قادمة في ظل وضع سياسي ملامحه واضحة في الاندحار والانتحار لكثرة منابع الفساد والطائفية والصراعات ، ونحن مصرين على المشاركة في هذا السيرك البائس ضمن تحالفات بائسة وفاشلة رغم تيقنا بالاندحار !.
التاريخ مليء بالوقائع والاحداث في بلدان مختلفة موقف الثوريين واليساريين تجاه هذه المنعطفات التاريخية الوطنية إستناداً إلى الأدب الماركسي الخالد . ونحن في العراق ..أين موقفنا وموقعنا منه !.
مالمو/٢٠٢٥
#محمد_السعدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟