6 . للأخوان العرب: حول الكرد وكردستان
يقال للأكراد بالعربية (الكرد) و( الأكراد ) كما يقال الترك و الأتراك أو العرب و الأعراب ، والأصح هو ( الكرد بضم الكاف واسكان الراء ) وهو الأصل كما يقال في الكردية ( وفي اللغات الأوربية) . وإسم (الأكراد ) أو ( الأتراك ) بالعربية هو من جمع التكسير المخصص للأسماء الأعجمية ، في حين أن إسم ( الأعراب ) يدل على أصول البداوة لدى العرب . ولعل لإسم (الأتراك) و (الأكراد) هذا الدليل أيضا في الأصل ، كما جاء في "مقدمة " ابن خلدون الشهيرة للمؤرخ المغربي المتوفي عام 808 هجرية ، 1406 م ، فقد صنف الأكراد و الأتراك و البربر مع الأعراب في فصيلة الأمم غير المتحضرة اي البدوية وكان ذلك يخالف الواقع الأجتماعي لهذه الأمم التي كان لها جميعا في عصر ابن خلدون حياة مدينية و عشائرية بدوية في الوقت ذاته ، بل حسب أبحاث كاتب هذه السطور ترجع الحياة المدينية في كردستان لعصور عديدة قبل المسيح .
ونظراً لغزاره الماء فی کل انحاء کردستان کانت البداوة الکردیة نسبیة وقصیرة المدی وتتواجد مع الحیاة الزراعیة فی کل الاحقاب خلافاً للبداوة العربیة البعیدة المدی لدی القبائل التی تعیش علی تربیة الابل.
واللغة الكردية ، هي لغة هندية - اوربية ولها مفردات و أشكال نحوية كثيرة شديدة الشبه بما في اللغات الأوربية من سلافية او لاتينية او جرمانية، ولكن اكثر اللغات قربا من الكردية هي الفارسية وتشكل اللغتان الى جانب لغات اخرى متقاربة كالبلوجية و البشتونية (في أفغانستان و باكستان ) فصيلة اللغات الأيرانية في المجموعة الهندية - الأوربية ، بمعنى أنه يجب التمييز بين ( الأيرانية ) و هي كل في حد ذاته و ( الفارسية ) ، وهي جزء من هذا الكل ، منها الكردية. وللكردية لهجات لم تسمح الظروف بتوحيدها كما وحدت العربية بفضل القرآن كما لها أدب كتابي صوفي أو حماسي أو عاطفي ترجع أوائله الى نحو القرن الخامس عشر ، وبعضهم يقول الى القرن الحادي عشر مع بابا طاهر الهمداني . ويقع القسم الأعظم من كردستان خارج حدود الدولة الأيرانية غربا ، ولكن الكرد لعبوا دورا أساسيا في تأريخ إيران القديمة فهم أحفاد الميديين القدماء ثم إنتشروا غربا . وتعرف لهم دول في كردستان على الأقل منذ القرن الثاني قبل المسيح كدولة (كوردوئين ) شمالا ( جنوبي بحيرة وان حتى مابعد الفرات الأعلى غربا ) و دولة (آديابين) جنوبا ( وكانت أربيل عاصمة لها ) . وفي العهد الأسلامي نجد عدة دول أسلامية أسسها الكرد في كردستان منذ القرن العاشر و منها الدولة المروانية ( والأصح الدوستكية حسب أسم مؤسسها) في دياربكر و الجزيرة و حوض بحيرة وان حتى منابع نهر الرس (آراس ) و دولة ( حسنويه ) في كردستان إيران ( حتى أصفهان ) و الدولة الشدادية الكردية في القفقاس و الدولة الراوندية في آذربايجان التي كانت معظمها كردية - فنحن هنا قبل هجرات العشائر التركمانية ، هذا فضلا عن الدولة الأيوبية التي كانت تحكم جزءا مهما من كردستان إضافة لعدد كبير من البلاد العربية. ومنذ القرن الرابع عشر نجد كردستان مقسمة الى عدد كبير من الأمارات الكردية الأقطاعية ، التي إنحاز معظمها الى الدولة العثمانية في معركة جالديران عام 1514 . و بقي القسم الآخر الى جانب الدولة الصفوية في إيران . وإنهارت آخر الأمارات الكردية في منتصف القرن التاسع عشر .
ونجد في العهد العباسي معلومات كثيرة عن الكرد و تعريفات جغرافية ( لبلاد الكرد ) و منها تعريف اليعقوبي الذي عاش في بغداد في القرن التاسع الميلادي فوصف أقليم الجبال ، وهو ميديا القديمة ، " بأنها دار الأكراد " ومنها تعريف إبن حوقل الذي عاش في بغداد في القرن العاشر فخصص نحو خمسة صفحات من كتابه الجغرافي لوصف " الجبال المأهولة المسكونة بالأكراد " وذكر عددا من قبائلهم و قلاعهم ، ومنها البحث الذي تركه لنا المسعودي ، وكان حجازي الولادة و عاش في بغداد في القرن العاشر ، مؤرخا نبيها و محبا للأستطلاع فكتب تحقيقا مسهبا عن الأكراد وبلادهم و عاداتهم وأسماء بعض عشائرهم و قلاعهم و معتقداتهم و أساطيرهم فيما قبل الأسلام ، ولم يخطئ في إرجاع الأساطير الفارسية و الكردية لأصول واحدة ( خرافية طبعا ) ولعل المسعودي كان الوحيد بين كتاب ذلك العصر الأسلامي الذي كان يميز بين الفارسية و الكردية ضمن عائلة اللغات الأيرانية ، في حين أن بقية من عاصره من كتاب العرب و الأسلام كانوا يطلقون إسم (الفارسية) على جميع اللغات الأيرانية الأخرى مما حمل مستشرقو أوربا في العصر الحديث للوقوع في نفس الخطأ ، بل كان المسعودي لا يجهل وجود لهجات في اللغة الكردية.
وهناك معلومات متناثرة عن الأكراد لدى مؤرخي الأغريق و الرومان القدماء لن أتوقف عندها . كما هنالك معلومات أكثر عن الكرد و دولهم و إماراتهم في المصادر الشرقية السريانية و الأرمنية . ومنها ما ذكره الكاتب الأرمني ( ماتيو ) وكان من أهالي مدينة أورفة عن سقوط هذه المدينة في يد القوات الكردية التي ارسلها الأمير المرواني صاحب فارقين و دياربكر في عام 1031 ثم مجئ عشائر عربية و قوى بيزنطية لتخليص المدينة من أيادي " حكومة كردستان " ( والكتاب مترجم للفرنسية منذ عهد لويس الرابع عشر ). و تجدر الأشارة لكتاب ( ظفرنامة ) الذي ألفه المؤرخ الفارسي ( علي يزدي ) عن فتوحات تيمورلنك باللغة الفارسية فذكر لنا بأن الفاتح التتري حط الحصار في عام 1387 على قلعة وان التي كان يدافع عنها الملك عزالدين الكردي فطال الحصار و لم يتمكن تيمورلنك منها ، ثم خشي الملك عزالدين من مغبة المقاومة نظرا لشهرة الغازي فقبل بالتفاوض معه و حصل اتفاق تم بموجبه ان قدم عزالدين الطاعة لتيمورلنك و قبل هذا الأخير بمغادرة المنطقة مع جيشه تاركا لعزالدين " قلعة وان وحكومة جميع كردستان " . وخلاصة القول بأنه خلافا للرأي السائد لدى المستشرقين و أخذه منهم كثير من كتاب الكرد بأن"ولاية كردستان" قد أوجدها لأول مرة السلطان سنجر في قسم كبير من كردستان الأيرانية في القرن الثاني عشر تشهد الهيستوريوغرافيا الأرمنية بأن إسم " حكومة كردستان " كان يطلق على الدولة المروانية - الدوستكية الكردية على الأقل منذ القرن الحادي عشر ( عام 1031 ) في كردستان الشمالية و الغربية ( في تركيا الحالية ) . وهناك فرق بين آخر فقد كانت ولاية كردستان في إيران تحت حكم السلطان السلجوقي سنجر بينما كانت حكومة كردستان المروانية دولة مستقلة ولها علاقات دبلوماسية مع الخليفة العباسي و الخليفة الفاطمي و إمبراطور بيزنطة و الملك البويهي ( أنظر : تاريخ الفارقي عن الدولة المروانية).
حسب تعريف لكاتب هذه السطور تتألف كردستان من جميع المناطق المتصلة بعضها ببعض جغرافيا و التي كانت ذات أكثرية كردية على الأقل حتى عام 1918 و حسب هذا التعريف ان المجموعات الكردية النائية التي أبعدت عن كردستان منذ عصور ليست جزءا من كردستان
( ومنها مجموعة أكراد خراسان الذين يبلغ عددهم نحو مليون ونصف ولو كانوا اكرادا وينادون بكرديتهم ) . فأكراد خراسان ومن ماثلهم هم جزء من الشعب الكردي خارج كردستان . ومن جهة ثانية ان نتائج سياسة ( التطهير العرقي ) التي قامت بها بعض الحكومات من التي تقتسم كردستان في بعذ المناطق ذات الأكثرية الكردية ، منذ عام 1923 ومابعده ، تعتبر لاغية و بالتالي يجب إعادة الأوضاع الأثنية الى ما كانت عليها قبل هذه العمليات . لا يمكن ( التصديق ) على سياسة القمع و التطهير العرقي الأجرامية.
وعلى هذا الأساس و إستنادا الى الأرقام المتعلقة بمساحات المحافظات الداخلة في كردستان (كليا أو جزئيا ) تبلغ مساحة مجموع كردستان نحو 440000 كم2 ( أي أكثر من مساحة الدولة العراقية بقليل ) كان منها نحو 316000 كم2 تمثل كردستان العثمانية أی %72 من المجموع. ونحو 124000 کم2 تمثل کردستان الایرانیة ای %28 . وبعد تقسیم کردستان العثمانیة ( بدلا من حصولها على الأستقلال ) إحتفظت تركيا الكمالية منها بحصة الأسد اي نحو 224000 كم2 تشكل حاليا كردستان تركيا ، وأخذت بريطانيا منها نحو 75000 كم2 ( مع حقول النفط ) فضمتها للملكة العراقية ، بينما كانت حصة فرنسا منها نحو 17000 كم2 اصبحت كردستان سوريا ( المشكلة من ثلاثة مناطق شمال البلاد ملاصقة للمناطق الكردية في تركيا ).
لم أحسب منطقة اللر في ايران ( لورستان ) داخل كردستان في هذه التقديرات ، مع أن كافة جغرافيي و مؤرخي العهد الأسلامي الكلاسيكي ذكروا اللر كقسم من الكرد ، أكانوا من (اللر الكبير : لوري بزرك ) الذين يسمون الآن ( البختياري ) أو من (اللر الصغير ) أي ( اللر الأصلي أو لري كوتشوك ) كما زالوا يسمون حتى الآن . ويمكن التحقق من كردية اللر في الأسفار القديمة بإستشارة ( معجم البلدان ) لياقوت الحموي في باب (( اللر )) و باب (( اللرية )) أو المستوفي القزويني المؤرخ الفارسي الذي عاش في القرن الرابع عشر و كتب بالفارسية . ولم أحسبهم في عداد الكرد لأن كون اللهجة اللرية أو البختيارية من اللهجات الكردية أو الفارسية هي مسألة بها نقاش بين بعض إخصائيي اللغات الأيرانية من أوربيين ( ولعلها ليست مسألة علمية بل تهجما على الكرد ) . إن كافة الأخوان البختياريين و اللوريين الذين شاء الحظ لكاتب هذه السطور أن يتعرف عليهم يقدمون أنفسهم كأكراد و يمتعضون من إدعاء العكس .
إن تقدير عدد الأكراد أصعب من تقدير مساحة كردستان و الأرقام تتغير عاما بعد عام علما بأنهم يتزايدون بنسبة تماثل مالدى العرب ( نحو 3,4 % بالسنة) وهي أعلى بكثير مما لدى الأتراك مثلا ( وتزايد نفوس تركيا يرجع لحد كبير لتزايد عدد أكرادها ) . وحسب تقديرات كاتب هذه السطور ان عدد الأكراد في اواخر عام 2000 ( أوائل عام 2001 ) هو كما يلي :
في تركيا : 21 مليون كردي أي بنسبة 32 % من مجموع السكان منهم 13 مليون في كردستان و 8 ملايين مبعثرين في جميع انحاء تركيا الأخرى و لاسيما أسطنبول بسبب سياسات التنكيل و التأخر الأقتصادي في كردستان ،
في إيران : 10,2 مليون كردي منهم 7,6 في كردستان و 2,6 مليون في بقية إيران ( بما فيها خراسان ).
في العراق : 6,1 مليون كردي منهم 3,5 مليون في منطقة حكومة كردستان المحررة و 1,9 مليون في منطقة كردستان التي كان يحكمها صدام حسين و نحو سبعمائة ألف في العراق العربي و بغداد .
سوريا : 1,8 مليون كردي ، منهم نحو 1,2 في المناطق الشمالية ذات الأكثرية الكردية و هي ثلاثة و نحو ستمائة ألف في مدن سوريا الداخلية و لاسيما حلب و دمشق و حماة و بعض المدن الأخرى .
وحسب هذا الجدول يبلغ مجموع اكراد الدول الأربعة المذكورة 39,1 مليون شخصا منهم 27,2 مليون في كردستان و 11,9 مليون (30,2 % منهم ) خارج كردستان . ونسبة الأكراد الذين يعيشون خارج كردستان هي أعلاها في تركيا (38,1 ) و أقلها في العراق ( 11,5 ) .
وإذا ما أضيف الى عدد الكرد في كردستان ( 27,2 مليون ) العناصر غير الكردية التي تعيش بين الأكراد ( ويبلغ عددها نحو 4 مليون ) تبلغ نفوس كردستان 31,2 مليون ، ومن هذه العناصر هنالك ترك و عجم و عرب و تركمان و آشوريون-كلدان ، ونسبتهم الى الكرد في كردستان هي بمعدل 13 % ، أقل أو أكثر بقليل حسب المناطق.
وإذا ما أضفنا الى رقم 39,1 مليون كردي داخل حدود الدول الأربع الجماعات الكردية التي هاجرت قديما أو حديثا الى بلاد أخرى بعيدة - اي "الدياسبورا " الكردية- و التي مازالت تتكلم بالکردية أو تطالب بكرديتها على الأقل يبلغ مجموع عدد الكرد 42,1 مليون ، منهم 27,2 مليون فقط في كردستان ، وهذا مايشير الى شدة الضغوط التي تمارس على كردستان و لاسيما في تركيا. ومن هذه الهجرات الخارجية يجب ذكر نحو 300 ألف كردي في روسيا و نحو 800 ألف في أسيا المركزية و القفقاس السوفيتية سابقا ، و1,6 مليون في أوربا الغربية (نحو نصفهم في ألمانيا ) و جاليات أخرى في اميركا و أستراليا و البلاد العربية و الأسلامية .
ويلاحظ أن كردستان تركيا ( تسمى عادة بالشمالية و الغربية ) تمثل 51 % من مجموع كردستان و أن الكرد الذين يعيشون ضمن حدود تركيا يمثلون نصف مجموع الأمة الكردية . و نظرا لتحريم اللغة الكردية في تركيا منذ ثمانية عقود أجبر أكرادها على تعلم التركية و إستعمالها في الحياة اليومية إضافة الى الكردية ، بل أن كثيرا منهم قد نسوا لغتهم الكردية أو يعرفون التركية بشكل أفضل ، وتسمع التركية أكثر من الكردية في المجالس التي يعقدها اكراد تركيا للتخلص من الأستعمار التركي . إنه إستعمار كما عرفته الجزائر و مستعمرات أخرى في أفريقيا .
ويلاحظ أيضا بأنه بالرغم من سياسة الردع و التهجير و التأخير الأقتصادي مازال الشعب الكردي يمثل أكثرية كبرى تعادل 85 % أو 87 % من نفوس كردستان في كافة أجزائها. لقد تضخمت نفوس المدن الكردية كثيرا خلال السنوات العشرين الماضية بسبب تخريب كثير من الأرياف الكردية و النزعة العالمية للنزوح الى المدن . وهنالك عدد متزايد من مدن كردستان في تركيا و العراق و ايران قد بلغ عدد سكانها ما بين نصف مليون الى المليون و بعضها اكثر و منها كرمانشاه في كردستان الأيرانية . وهذه النزعة لتضخم المدن و تنشيط الحياة المدينية من شأنها دعم الحركات التحررية و الفكرية و الفنية .
ومازال هنالك بقية من الأدعاء الذي كان شائعا بين الأوساط الحاكمة للدول التي إقتسمت كردستان فيما بينها بعد الحرب العالمية الأولى و لاسيما تركيا بأن الأكراد هم شعب همجي لا تراث ثقافي له و لاحضارة و لاهم له سوى الثورات على الدول (المتمدنة ) التي تحكمه ، في حين أن الأكراد هم أحفاد مدنيات قديمة و أقدم من غيرها في المنطقة . وقامت الدولة العثمانية بتخريب المدنية الكردية في كردستان و نهب خيراتها و في إبقاء البلاد العربية على حالة من الجمود الفكري و الأقتصادي و منعها من الرقي و التقدم - ماعدا مصر التي نجحت بفضل محمد على في الأفلات من قبضتها . وفي العهد الجمهوري الكمالي كانت حجة الطبقة التركية الحاكمة في البطش بالأكراد و تخريب ديارهم و منع لغتهم و تتريكهم بالقوة هي (( جلب المدنية التركية لهم))- كما فعلت أوربا في القارة الأفريقية في القرن التاسع عشر -، في حين أن المدنية التركية هي خليط مما إقتبسته العشائر التركية الرحالة في تقدمها من آسيا الوسطى بإتجاه الغرب من مدنيات الشعوب و الأمم التي تغلبت عليها ، بدءا بإيران ثم بيزنطة و أرمينيا ، ثم كردستان و بالتالي البلاد العربية . وكان للأتراك عبقرية امتصاص هذه المدنيات و هضمها و عبقرية التنظيم العسكري و الحكومي ( الذي إقتبسوه من بيزنطة اليونانية ) ، ولكنهم مالبثوا أن قالوا " إنها مدنيتنا ، المدنية التركية " . ولعلهم على حق ، فالحق للقوة . إنما هل يحق - على سبيل المثال ان يقال في تركيا و في العالم " القهوة التركية " و هي قهوة يمنية عربية و نبات القهوة لا ينمو في تركيا ؟
حكم أكراد العراق أنفسهم بأنفسهم خلال 12 عاما ، من عام 1992 حتى الآن 2003 في منطقة مساحتها نحو 42 ألف كم2 ( بقدر مساحة سویسره ) تشكل نحو 56 % من كردستان العراق على أثر إنتخابات برلمانية ديموقراطية حرة حدثت لأول مرة في كردستان تحت رقابة دولية وأدت لأنتخاب برلمان كردي حر . وإنبثقت عن هذا البرلمان حكومة إئتلافية تجمع الحزب الديموقراطي الكردستاني و الأتحاد الوطني الكردستاني . وبالرغم من الخلافات التي نشبت مع الأسف بين الحزبين و أدت لأنقسام المنطقة المحررة الى منطقتين ، فقد كان نجاح هذ التجربة بالغا في الأدارة و تأمين الخدمات العامة للمواطنين ، والحريات الفردية والأقتصادية و التعليم و الثقافة وإعمار ماخربه حكم صدام ، فإنتشرت حرية الصحافة و الأعلام بشكل لم تعرفه اية حكومة شرقية أخرى ، وإزدهر إقتصاد المنطقة وباتت قيمة الدينار الكردي تفوق بعشرات الأضعاف قيمة الدينار العراقي المستعمل في بقية أنحاء العراق الرازح تحت حكم صدام ، وتزاحم التجار لأستيراد البضائع من المنطقة الكردية المحررة الى كافة مناطق العراق التي يحكمها صدام ، وإمتلأت الجامعات الكردية و هي ثلاثة بعشرات الآلاف من الطلبة الكرد شبانا و فتيات لتعلم العلوم و الفنون و الآداب باللغة الكردية أو الأنكليزية ، حسب الفرع المختار بدون إهمال اللغة العربية. فلها فروع في هذه الجامعات . وسكان مدن كردستان العراقية و مثقفوها ، دون سكان الأرياف ، يعرفون اللغة العربية و يستطيعون التكلم بها بسهولة ، وبلمون بالتراث العربي - الأسلامي و يثمنونه فقد ساهم أجدادهم في إنمائه ، ولكنهم يتكلمون باللغة الكردية فيما بينهم و يستعملونها للكتابة في مؤسساتهم ، و يعتبرون التكلم في بيوتهم و تنمية أطفالهم بلغة أخرى غير الكردية من العار و العيب عليهم . و لكن المثقفين العرب في العراق يجهلون اللغة الكردية - إلا إذا ماحدث أن إلتجأ أحدهم لكردستان و عاش بين الأكراد. وهذا ناتج عن عدم المساواة بين اللغتين في المؤسسات العراقية حتى الآن ، إضافة الى أن التراث الثقافي التاريخي الذي وصلنا جيلا بعد جيل بواسطة اللغة العربية يحمل كنوزا من المعرفة لا مثيل لها في تراث اي شعب مسلم آخر . وتلي الفارسية بعد العربية مباشرة .و ما جاء حول اللغة العربية و مكانتها في كردستان العراق وارد ايضا بشأن الفارسية في كردستان إيران . ومن العيب أيضا بالنسبة لأكراد إيران و سوريا بل حتى روسيا النائية وكازاخستان التكلم في بيوتهم و تربية أطفالهم بلغة أخرى غير الكردية.
وكان من نتائج تجربة المنطقة المحررة من كردستان العراقية على الصعيد الأقتصادي و الأداري و الثقافي أن المعارضة العراقية قد إتخذت القرار للأستفادة منها لأجل بناء العراق الجديد . وجاء ذلك ايضا في تصريحات بعض المسؤولين الأميركيين في العراق بعد سقوط الحكم الدكتاتوري .
7. تعلق الكرد التاريخي بالحرية و حكم بلادهم بأنفسهم :
بعد القضاء على الأمارات الكردية الواحدة بعد الأخرى بدون أن تتمكن من توحيد طاقاتها للدفاع عن البلاد مع نصيب من النجاح اصبح تاريخ القرن التاسع عشر في كردستان العثمانية خاصة عبارة عن سلسلة من الثورات الشعبية يقودها شيوخ طرق صوفية و رجال دين في سبيل الأستقلال و طرد " الروم " من كردستان . وكان يقصد (بالروم) الدولة العثمانية و أي فاتح أجنبي يأتي من الغرب ( أي القسطنطنية بالنسبة للكرد ) لأخضاع البلاد الكردية لحكمه، بل إن سلاطين آل عثمان الأوائل كانوا أنفسهم يسمون بلادهم التركية بإسم ( روم) كما فعل السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر في فرمان كان يفتخر به بالحكم على العديد من البلاد ذكر منها (روم) و ( روملي - أي البلقان ) و ركردستان و شبه جزيرة القرم و سوريا و فلسطين و مصر و مكة المكرمة و غيرها . وكانت كلمة (روم ) تشير سابقا الى دولة ( بيزنطة ) و هي نفسها تعني ( ألأمبراطوية الرومانية الشرقية ) منذ تقسيم إمبراطورية روما لقسمين ، قسم شرقي و آخر غربي . وكان أول من أطلق إسم ( تركيا ) على تركيا الآسيوية الرحالة إبن بطوطة من بلاد المغرب العربي و أصل بربري المولود في طنجه عام 1304 م . ولاشك أن إستمرار الكرد في تسمية الأتراك العثمانيين بإسم ( الروم ) يرمز أيضا في الذاكرة الجماعية الكردية الى أن كافة القواد و الملوك الأجانب الذين أتوا من الغرب بغية فتح البلاد الكردية كانوا من الظالمين و يجب ردهم و لافرق في هذا بين الأغريق و الرومان القدماء و بين بيزنطة و آل عثمان . وحملات القادة اليونانيين و الأباطرة الرومان في البلاد الكردية مسجلة في الآثار القديمة ، وكان الكرد يقاومونها بدون هوادة .
وفي عام 1880 ثار الشيخ عبيدالله شمديناني في مدينة نهري و مقاطعة هكاري ( في كردستان العثمانية جنوبي وان ، حاليا في كردستان تركيا) على الدولة العثمانية ، وكان شيخ الطريقة النقشبندية في المنطقة ، فأسس ( رابطة إستقلال كردستان ) وكاتب القنصل البريطاني في أورمية طالبا مساعدة بريطانيا لتحقيق هذا الهدف ، واعدا بإحترام الأقليات المسيحية في كردستان . وكان له أتباع كثيرون في كردستان الأيرانية ، فإجتاح حدودها وكاد يحتل تبريز ، فتعاونت تركيا و إيران ضد حركته ، وكان ينقصها التنظيم ، ووقفت كل من إنكلترا و روسيا ضده . وكانت روسيا لاترغب بقيام دولة كردية إسلامية على حدودها الجنوبية بعد الصعوبات التي لاقتها في القضاء على ثورة الشيخ شامیل الأسلامية في القفقاس . فألقي القبض على الشيخ عبيدالله و نفته تركيا الى مكة حيث وافته المنية.
وفي صيف عام 1919 ثار الشيخ محمود البرزنجي ، دليل الطريقة القادرية في منطقة السليمانية ، على بريطانيا ، ويقول الكولونيل ويلسون ، الحاكم المدني البريطاني آنذاك في العراق ، " كان للشيخ محمود أتباع كثيرون بين العشائر الكردية في إيران ، ممن يؤيدون مشروعه في تأسيس كردستان حرة و موحدة " . وحدثت المعركة بين القوات البريطانية و الكردية في مضيق بازيان ، شرقي كركوك ، فجرح الشيخ في المعركة و أخذ أسيرا لبغداد . ولما زاره الكولونيل ويلسون في المستشفى حيث كانت تعالج جروحه أنكر الشيخ حق أية محكمة بريطانية في محاكمته و إستمر مطالبا بحرية كردستان ثم فتح حجابا كان ملفوفا على ذراعه وبه أوراق من القرآن كان قد كتب عليها بالترجمة الكردية نص البنود الأربعة عشر التي كان قد أعلنها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون حول حق الشعوب في تقرير مصيرها و نص البيان المشترك الذي كان قد أعلنه البريطانيون و الفرنسيون بتاريخ 8 . 11 . 1918 حول حق الشعوب التي كانت ترزح تحت النير العثماني في الأنعتاق و التحرر ( أنظر كتاب : Arnold Wilson , Loyalties 1917 - 1920 , Oxford 1936 ,pp.137-139 ) .
ومن هذه الحركات الوطنية التي قادها شيوخ و رجال دين يمكن إعطاء أمثلة أخرى كثيرة ، ومنها الحركات البارزانية و ثورة الشيخ سعيد بيران في ديار بكر و ثورة سيد رضا في درسيم ، بل ولحد ما إعلان جمهورية مهاباد التي ترأسها القاضي محمد . إنما هنالك أيضا حركات كردية كانت تقودها منظمات غير دينية بل سياسية كثورة آرارات ( آغري داغ ) أعوام 1927 - 1930 التي أعلنتها منظمة ( خويبون ) الأستقلالية ، فضلا عن ثورات العقود الأخيرة التي نظمتها أحزاب سياسية .
وكل هذه الحركات كانت تقول و تؤمن بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه ، هدفها أن يحكم هذا الشعب نفسه بنفسه و يكون سيد نفسه على أرض بلاده كردستان ، سواء عن طريق الأستقلال التام ، أو الحكم الذاتي أو إتحاد متكافئ بين الأمة الكردية و الأمم المجاورة.
وكان معظم المراقبين و الرحالة الغربيين الذين جابوا كردستان خلال القرن التاسع عشر و حتى الحرب العالمية الأولى يتوقعون للأمة الكردية مستقبلا باهرا كدولة مستقلة بشرط نبذ الخلافات الداخلية و وحدة العمل الوطني ، ثم حدث ماحدث و سبق ذكره من وعود الحلفاء بإستقلال كردستان في معاهدة سيفر ، ثم خيانتهم لوعودهم في معاهدة لوزان بعد نجاح الحركة الكمالية في تركيا و تقسيم كردستان . وكان رد الفعل الكردي حمل السلاح و الثورة على الدول التي تقتسم كردستان و الدول الأوربية التي كانت تساعد هذه الأخيرة بالمال و السلاح لمنافعها الخاصة ، ومنها النفط بالنسبة لبريطانيا. وكان هدف هذه الأنتفاضات في البداية الأستقلال الوطني الكردي كما في ثورة الشيخ سعيد ، وثورة الشيخ محمود البرزنجي الأولى و ثورة ( خويبون ) - وهذه كلمة تعني " الأستقلال " بالكردية - في منطقة آرارات . ثم حملت الظروف الواقعية بعد بروز الأحزاب السياسية الكردية للمطالبة بالحكم الذاتي لكردستان داخل حدود الدول القائمة كما حدث في جمهورية مهاباد ( التي لم تعش سوى سنة واحدة ) و الثورات التي قادها مصطفى البارزاني في كردستان العراق على رأس الحزب الديموقراطي الكردستاني . وكما رأينا أصبح هدف الأحزاب الكردستانية في العراق منذ عام 1992 الوصول الى حل فدرالي ضمن عراق ديموقراطي ، مع التأكيد على حق تقرير المصير . أما حزب العمال الكردستاني برئاسة الأخ عبدالله أوجالان فقد بدأ بالثورة في كردستان تركيا عام 1984 مطالبا في الوقت ذاته بالديموقراطية في تركيا و إستقلال كردستان .
وفي الواقع لم يكن الشعب الكردي في بداية القرن العشرين في أوضاع إجتماعية و إقتصادية تمكنه من مواجهة تحديات هذا القرن . فقد فقد آخر إماراته الأقطاعية شبه المستقلة في منتصف القرن التاسع عشر ، وعلى كل حال لم تكن الأرستقراطية و طبقة النبلاء التي حكمت تلك الأمارات قادرة بالتعريف على حمل عبئ النضال الوطني لأنقساماتها العديدة بعضها على بعض و ولاء معظم أمرائها للسلاطين و شاهات ايران . وكانت الحركات الشعبية التي قادها رجال دين و مشايخ طرق صوفية تفتقر للتنظيم العصري ، تهب كالنار في الهشيم ثم تخمد بعد حين. ولم تسمح هذه الظروف و لا الوقت في مطلع القرن العشرين بظهور طبقة بورجوازية و مثقفين كرد بعدد كاف و تجربة تؤهلهم لدفع النضال الى الأمام مع نصيب كاف من النجاح. و خرجت كردستان من الحرب العالمية الأولى قاعا صفصفا خربتها الجيوش التركية و الروسية و البريطانية و شاعت فيها المجاعات و أجبر الكرد مع ذلك لمشاركة العثمانيين في " الجهاد " اي في حرب لا ناقة لهم فيها و لاجمل . وبعد الحرب أنكر الحلفاء الوعود التي كانوا قد قطعوها للكرد و لم يكن لهؤلاء الحظ الذي كان للعرب في قيام الحلفاء بإنشاء دول عربية لمصالحهم و لكنها حصلت على إستقلالها بعد حين.
وإضافة لكل هذا حدث تغيير جذري في الفلسفة السياسية و ايديولوجية الحكم في الدول الشرقية مابين قبل الحرب و بعدها . فكانت الدولة تقوم على الولاء لشخص لسلطان في تركيا العثمانية و لشخص الشاه في ايران . وعلى الدين ، الأسلام السني في تركيا و الأسلام الشيعي في ايران ، بدون أي تمييز آخر بين المسلمين على أساس اللغة أو القومية ، مع الأعتراف ببعض الحقوق الشخصية "لأهل الذمة " أي الطوائف المسيحية و اليهودية من (أهل الكتاب ) . وبعد الحرب تغيرت المفاهيم و أصبحت كافة الدول قومية تقوم على سيطرة القومية الكبرى أو التي سبق لها ممارسة السلطة على القومية أو القوميات الأقل عددا . حقا أن الحكم الملكي الهاشمي في العراق - مرورا بالأدارة البريطانية - كان يعترف ببعض الحقوق الثقافية "لأخواننا الأكراد" ولكنه لم ينفذ الوعود المعطاة لممثلي الكرد خلال فترة الأنتداب في جعل (كردستان الجنوبية ) منطقة حكم ذاتي ضمن الحدود العراقية .
ومن العوامل الأساسية التي أثارت أطماع الدول الأمبريالية في كردستان و حرمت بالتالي الأكراد من تأسيس دولة لهم بعد الحرب العالمية الأولى هي ثروات بلادهم و موقعها الجيوستراتيجي من الدرجة الأولى .وقال الأب توماس بوا ، وكان من المستشرقين الفرنسيين الذين كتبوا كثيرا عن الكرد ، (( بأن كردستان هي العمود الفقري للشرق الأوسط و مخزن مياهه )). فهي غزيرة الماء و النفط ، ثروتين قلما تتواجدان سوية في البلاد المجاورة ، وغنية بالوديان الخضراء و السهول الداخلية المزروعة بين سلاسل الجبال و بالمراعي الخصبة و المنتجات الحيوانية و الحبوب و التبغ و خشب الجوز و السنديان . وشعبها عامل لا يقتصد في بذل الجهود .
أدى فشل الثورات الكردية في كردستان تركيا في فترة مابين الحربين العالميتين الى إنتكاسة خطيرة في نفسية الشعب الكردي و لقبول أعداد متزايدة من الكرد بسياسة التتريك . ولكن إندلاع ثورة حزب العمال الكردستاني ( ب ك ك ) منذ عام 1984 بزعامة الأخ عبدالله أوجالان كان لها أن تغير هذه الأتجاهات السلبية بفضل تنظيمها المرتكز على وحدة المثقفين و العمال و الفلاحين و الأستعداد للتضحية بالنفس ، فأعادت سنوات النضال الى الشعب الكردي شعوره بالعزة القومية و الأمل في المستقبل و التحرر الوطني ، وشاركت الجماهير الكردية في النضال حسب طاقاتها و أصيبت بأضرار جسيمة . ولم تكن أهداف الثورة الأنفصال بل مخضرمة اي مزدوجة من جهة ( تحرير كردستان ) و من جهة أخرى ( دمقرطة تركيا ) . وقد أعلن قائد الثورة مرتين وقف القتال بغية الوصول الى حل سلمي للنزاع عن طريق الحوار مع تركيا التي رفضت العرض لأعتبارها حزب العمال " كمنظمة أرهابية " لايمكن الدخول معها بأي حوار . وبعد القاء القبض على عبدالله أوجالان في شباط من عام 1999 نتيجة لمؤامرة دولية ترأستها أميركا ، كان دفاعه عن نفسه و حركته أمام محكمة أمن الدولة التركية مركزا على ندمه لحمل السلاح و الأكتفاء بالمطالبة بتحويل تركيا سلميا الى ( جمهورية ديموقراطية ) يعيش فيها كافة المواطنين بالمساواة و ينعمون بالحريات الشخصية . في الواقع أن هذه المطاليب تكاد لا تعني شيئا لشعب قاتل خلال 15 عاما تحت راية حزب العمال و لم يخسر مقاتلوه الحرب ضد دولة عاتية يحكمها الجيش عمليا وتعتبر نفسها مع ذلك دولة ديموقراطية و إنها قد تغلبت عسكريا على " الأرهاب ". و الأرهاب بنظرها هو الحركة الوطنية الكردية مهما كانت أساليب نضالها ولو كان بالقلم فقط .
8. حق الشعب الكردي في تقرير مصيره:
كتبت صحيفة ( لوموند Le Monde ) الفرنسية في إفتتاحية لها بتاريخ 19 نوفمبر 1998 " أن الأكراد آخر شعب كبير مايزال يرفض له حق تقرير المصير " . وجاء في مجلة التايم ( Time ) الأميركية عدد أول آذار 1999 " أن الأكراد يشكلون أكبر قومية اثنية في العالم لادولة لها " . وصرح هيلموت شميدت مستشار ألمانيا الأسبق(رئیس حکومتها) في حديث له مع الصحيفة الألمانية ( برلينر تاغس شبيغل Berliner Tagesspiegel ) عدد 31 ديسمبر عام 2000 قائلا " إن الجاليات الكردية و التركية تتقاتل في شوراع مدينتنا هامبورغ ، أحيانا بالسلاح . كان خطأ فادحا ان الدول العظمى لم تأخذ قرارا في معاهدة فرساي عام 1919 بإنشاء دولة كردية مستقلة . فهل يجب أن ندخل هذا النزاع الخطير لحظيرة الأتحاد الأوربي ؟" .
بالنسبة لحق تقرير المصير يجب التمييز بين مجرد وجوده على الصعيد الطبيعي ، وهو نظري ، و بين إمكانية إستعماله و كذلك الرغبة أو الأرادة في ممارسته و لأي غرض ، وهذه الأسئلة تثير قضايا مختلفة على الصعيد المثالي و الأخلاقي ، وعلى الصعيد الحقوقي ، و الصعيد السياسي . والصعيد المثالي الأخلاقي هو مانقول به المثل العليا كالعدالة و قانون الطبيعة ، والحقوقي هو مايقال به القانون أو العرف الدولي ، والأجوبة تختلف حسب وجهة النظر المطروحة . ولا يمكن الأطالة في مناقشة هذه الأسئلة إنما محاولة الأجابة بشكل مقتضب .
يؤمن الشعب الكردي ، وكاتب هذه السطور هو أحد أبنائه ، بأنه شعب واحد ، وأن وطنه كردستان هو بلد واحد ، بالرغم من تجزئته السياسية ، وإن للكرد حق تقريرالمصیر كأي شعب آخر. هذه هي النظرة المثالية و الطبيعية . فحق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه هو حق طبيعي اي قائم بمجرد وجود هذا الشعب ، وحق أبدي غير قابل للمساومة و البيع و الشراء. لا يستطيع أي إنسان كردي و لا أي حزب كردي ولا أي جيل كردي التخلي عن هذا الحق أو الأنقاص من محتواه على حساب الأجيال القادمة . وإذا ما مارسته أحدى الأجيال بشكل ما تستطيع الأجيال القادمة إعادة ممارسته بشكل أو آخر . و لايستطيع أي طرف آخر غير كردي ، أكان دولة أو مجموعة من الدول ، حرمان الشعب الكردي من حقه في تقرير المصير ، بإسم القانون و الدستور أو بالقوة . إنه حق باق مابقي الشعب الكردي على وجه الأرض . ويلاحظ ان الصحافة العالمية عندما تطرح القضية الكردية في إحدى الدول الحاوية على جزء من كردستان فإنها قلما لاتطرحها في الوقت ذاته في الدول الأخرى المجاورة اي بمجموعها . ففي عقيدة الرأي العالمي أيضا أن الشعب الكردي هو شعب واحد.
والقانون الدولي هو ما اتفقت عليه الدول المستقلة فيما بينها ، ولايمثل العدالة و المثل العليا بالضرورة ، بل قد يمثل العكس . والهيئة الشاملة التي تجسم القانون الدولي هي الأمم المتحدة ، وهذه منظمة أي جمعية دولية أعضاؤها دول مستقلة و متساوية نظريا في الحقوق و الواجبات ، ولها مجلس أمن لأخذ القرارات السياسية أو العسكرية لفرض احترام القانون الدولي ، عند اللزوم بالقوة . وقد تكون الدول العضوة ديموقراطية او نصف ديموقراطية او دكتاتورية بل همجية النظام،فلا أهمية لذلك و لها كلها نفس الأعتبار مادامت عضوة في ( ندوة مانهاتن العليا ) كما سبق لي أن سميت الأمم المتحدة . إنما قد تتخذ المنظمة قرارا ضد احد أعضائها اذا ماتجاوز القانون الدولي بشكل سافر ، كما حدث ضد عراق صدام حسين لدى إحتلاله لدولة الكويت . أما حرب عام 2003 على دكتاتورية صدام فكانت حربا اميركية - بريطانية و لم تحدث بقرار من الأمم المتحدة . ويلاحظ انه مازال في العالم دكتاتوريات اخرى كثيرة تظلم شعوبها ، ولكنها مازالت عضوة في الأمم المتحدة و تتمتع بإعتبارها وبكامل حقوق العضوية .
ويلاحظ ان الشعب الكردي يمثل كتلة بشرية تفوق بعددها و مساحة و ثروات بلادها و طاقاتها الكامنة و خطورة قضاياها ماتمثله معظم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ، أكثر من ثمانية أعشارها، ولكنه في نظر القانون الدولي لا شخصية دولية له ذات حقوق و لايستطيع كشعب تمثيل نفسه أمام هيئات الأمم المتحدة أو المحاكم الدولية لطلب العدالة . فلا وجود للشعب الكردي في نظر القانون الدولي الا كأفراد مواطنين في الدول التي تقتسم كردستان و خاضعين لقوانين هذه الدول . ولاحق للشعب الكردي تمثيل نفسه حتى امام ( لجنة حقوق الأنسان ) التابعة للأمم المتحدة - الا في حالة رفع قضيته من قبل دولة اخرى عضوة في المنظمة الدولية ، ويمكن آنذاك لمثل هذه الدولة رفع القضية حتى امام مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة - كما فعل الأتحاد السوفياتي عام 1963 بعد سقوط عبدالكريم قاسم لصالح اكراد العراق ، ولكن محاولات السوفيات باءت بالفشل لعدم توفر أكثرية من الدول لصالحها . ويمكن أيضا لأفراد اكراد من مواطني تركيا تقديم شكايات ضد تركيا امام ( المحكمة الأوربية لحقوق الأنسان ) ، علما ان تركيا هي عضوة في المجلس الأوربي ( وليس في الأتحاد الأوربي حتى الآن ) ، وهذا مافعله محامو السيد عبدالله أوجالان وأكراد آخرون من تركيا . ولكن البت في قضايا حقوق الأنسان الفردية ليس من شأنها حل القضية الوطنية الكردية و أهميتها رمزية فقط .
ومن العجيب ان حق تقرير المصير ، وهو في جوهره حق جماعي للشعوب ، قد اصبح في عرف القانون الدولي الحالي جزءا من حقوق الأنسان ، وهي حقوق فردية بالتعريف . وكان الأمر يختلف في القرن التاسع عشر و حتى نهاية الحرب العالمية الأولى ، فقد كان حق تقرير المصير في تلك الحقبة الطويلة يتماشى عمليا و يتطابق مع ( مبدأ القوميات ) القائل بأن كل قومية لها العدد الكافي و أرض تمثل بها الأكثرية و طاقة اقتصادية مساعدة و الأرادة في التحرر الوطني تستطيع ان تصبح دولة مستقلة حسب حق تقرير المصير - عادة بعد اجراء استفتاء في المنطقة . وقام نابليون خلال حروبه في اوربا بتطبيق هذا المبدأ بإسم الثورة الفرنسية ، كما طبق مبدأ القوميات من قبل الدول الأوربية الكبرى لمساعدة الشعوب البلقانية في التخلص من النير العثماني خلال القرن التاسع عشر ، وطبق اخيرا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى لتصفية الأمبراطورية النمساوية - المجرية و الأمبراطورية العثمانية و مساعدة شعوبها للحصول على الأستقلال . وكما رأينا كان الشعب الكردي الشعب الوحيد الذي وعد بالأستقلال انذاك ثم نقضت الوعود المعطاة له . اما الشعب الأرمني في تركيا العثمانية ، وكان مبعثرا في كافة مدنها من كردستان الشمالية الى الأناضول فالقسطنطنية و البلقان ، فقد ذهب بأمر من القائمين على شؤون الدولة ضحية القتل الجماعي عام 1915 ، أثناء الحرب و لجأ من نجى منه الى البلاد المجاورة و أرمينيا الروسية.
وكانت ثمة ( مستعمرات رسمية ) معترف بها كمستعمرات في القانون الدولي و لها اسمها و حدودها على الخرائط الرسمية، وكان هنالك "وزارة مستعمرات" رسمية في كل من بريطانيا و فرنسا حتى مابعد الحرب العالمية الاولى، و كانت عصبة الأمم في حينها تسلم ادارة المستعمرات الرسمية كما في أفريقيا الى دول صناعية متقدمة ، اوربية في أغلب الأحيان ، ثم تساعدها للوصول الى الأستقلال ، كما حدث في ناميبيا مثلا. وثمة بلاد اخرى كانت مستعمرة في الواقع بدون ان يعترف بها كمستعمرة كالجزائر التي كانت فرنسا تعتبرها مقاطعة فرنسية ، وبلاد اخرى تحت الحماية الفرنسية او البريطانية وغيرهما . وبعد الحرب العالمية الثانية و حركات تحرر الشعوب تمكنت معظم المستعمرات من تحرير نفسها ، اما برضاء الدول الصناعية المستعمرة ( كما فعلت بريطانيا في الهند و الباكستان و فرنسا في عدد من البلاد الأفريقية و مدغشقر) ، أو بمساعدة الأمم المتحدة ، او عن طريق الحرب التحررية ، وهذا ماحدث في الجزائر و في ( الهند - الصينية ) الفرنسية كما كانت تسمى مجموعة من ثلاثة دول حاليا هي الفيتنام و كامبودج و لاووس . ودامت الحرب لتحرير فيتنام ثلاثة عقود ، ضد فرنسا اولا ثم أميركا .
ومازال في العالم عدد من (المستعمرات غير الرسمية ) تحت اسماء مختلفة ، لا يعترف بها كمستعمرات ، ولاشك ان إحداها هي كردستان في تركيا، ولعل وضعها اسوأ بكثير من غيرها ، فهي بلد محتل عسكريا ، مهدد في تراثه الثقافي و لغته ، ولاحق له في المطالبة بهويته و لا حتى استعمال اسمه . و لايختلف رأي السوسيولوجي التركي اسماعيل بيشكجي عن هذا في الموضوع، ونشر به كتبا عديدة بالتركية ادت الى سجنه بنحو عشرين عاما ( ومن كتبه "كردستان مستعمرة دولية") .
لقد توصلت ( المستعمرات الرسمية ) الى الأستقلال تقريبا بدون قتال و في أغلب الأحيان برضاء الدول المستعمرة و مساعدة الأمم المتحدة . أما ( المستعمرات غير الرسمية ) فكان عليها في أغلب الأحيان ان تخوض حربا تحررية طويلة الأمد ، ولكن ظروفها كانت تختلف . فقد استفاد شعب الفيتنام في حربه التحررية من مساعدات الصين الشيوعية ، واستفادت الجزائر من دعم البلاد العربية لها ومعظم الرأي العام الفرنسي و العالمي ، فقد انقسم الشعب الفرنسي نفسه اثناء حرب استقلال الجزائر الى معسكرين متخاصمين الأول ينادي بالمحافظة على الجزائر كمقاطعة فرنسية و الثاني يعمل لمساعدة الجزائريين و اعتراف فرنسا بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه ، وهذا ماحدث عندما استلم الجنرال ديغول الحكم في فرنسا ، وكان يفهم مسيرة التاريخ ، فإعترف بحق تقرير المصير للجزائر و ادت ممارسة هذا الحق الى الأستقلال عام 1962 .
ولكن حرب الأنصار في سبيل تحرير كردستان تركيا قد حدثت في ظروف مختلفة و عسيرة. فتركيا دولة عسكرية كبيرة و " ديموقراطيتها " المعلنة في الدستور زائفة و خاضعة لأرادة الجيش و هي حليفة أميركا الأولى في المنطقة مع اسرائيل و عضو اساسي في حلف الأطلسي ، وتلقت مساعدات عسكرية و مالية هائلة من اميركا و الدول الأوربية الكبرى . وإرضاء لتركيا وضعت اميركا اسم حزب العمال الكردستاني على لائحة المنظمات الأرهابية منذ بدء القتال و تبعتها بعد حين معظم الدول الأوربية الكبيرة . وامتنعت الدول العربية و الأسلامية في هذه الظروف عن تقديم اية مساعدة لهذه الحركة الكردية التحررية ، ماعدا سوريا بشكل محدود حتى عام 1998 ، بسبب قضية شحة المياه التي بقيت لسوريا و العراق نتيجة للسدود التي اقامتها تركيا على نهر الفرات في كردستان . أما دعم الأوساط الديموقراطية التركية للحركة التحررية الكردية فكان محدودا لحفنة من الأشخاص دفعوا ثمنه غاليا و جمعية حقوق الأنسان و عدد من الشبان الذين شاركوا في حرب الأنصار و تنظيمات حزب العمال عن عقيدة ، فالرأي العام التركي يتبع عادة وسائل الأعلام و هذه تقيد نفسها بإرادة الجيش الا ماندر ، ونشهد مع ذلك انفتاحا محدودا في الصحافة التركية في السنوات الأخيرة .
وهنالك فرق آخر بين الحركة التحررية التي قادها حزب العمال الكردستاني في تركيا و الحركات التحررية في معظم المستعمرات الأخرى ، فقد كانت هذه الأخيرة تقع جغرافيا ( فيما وراء البحار ) بالنسبة للدول الصناعية الأوربية المستعمرة و تنتمي اضافة لذلك لثقافات و حضارات اسلامية أو أفريقية أو آسيوية تختلف كليا عن التراث الثقافي للدول الأوربية المستعمرة التي كانت تعرف نفسها بانتمائها للحضارة المسيحية و قيامها على التراث الفكري الأغريقي أو الروماني القديم ، كما ان بعضها كان يفسر احتلاله لبلاد متخلفة صناعيا و اقتصاديا " بجلب المدنية لها " كما كانت تفعل فرنسا و انكلترا و غيرها في البلاد المستعمرة . أما كردستان الشمالية و الغربية فلا ثمة بحر يفصلها جغرافيا عن بقية الدولة التركية ، كما ان الشعبين التركي و الكردي ينتميان لنفس المجموعة الأسلامية و ليس هنالك سوى الطبقة التركية الحاكمة التي تدعي بأنها (أوربية ) و هي بمثابة غطاء شفاف ليس من شأنه طمس التقاليد الأسلامية التي تتقيد بها الأكثرية الساحقة من الأتراك . وعلى كل حال لايفترض في ظاهرة الأستعمار ان يكون المستعمر الظالم ابيض اللون او مسيحيا او اوربيا و المستعمر المظلوم ان يكون اسود او أسمر أو أصفر اللون و ألا يكون مسيحيا . فالأستعمار قام على إحتلال بلاد متأخرة صناعيا و عادة فيما وراء البحار من قبل دول متقدمة صناعيا لحب السيطرة و الحصول على المواد الخام بأبخس الأثمان .
وهنالك امثلة لأنقسام بلد له نفس المستوى الحضاري الى بلدين مستقلين بدون ان يكون ثمة بحر يفصل بينهما ، كما حدث بين الهند و باكستان عام 1947 ثم بين الباكستان و بنغلاديش ، و بين الجمهورية التشيكية و سلوفاكيا ، و بين اريتريا و الحبشة في عام 1993 ، بعد حرب تحرر وطني خاضها الشعب الأريتري دامت سبعة و عشرين عاما . وكانت اريتريا بمثابة نافذة الأمبراطورية الحبشية على البحر الأحمر .
9 .هل يمكن التوفيق بين عراق فدرالي و حق الكرد في تقرير المصير ؟
كان كاتب هذه السطور في الكتاب الذي نشره بالفرنسية عام 1970 عن القضية الكردية في العراق (جاء ذكره اعلاه ) قد إقترح ، اضافة لحل فدرالي ديموقراطي للقضية الكردية في العراق ، حلا لهذه القضية في كل من ايران و تركيا و سوريا على نفس الأسس الديموقراطية الفدرالية ، وفي مرحلة تالية في المستقبل ، عندما تتوطد مفاهيم الديموقراطية في المنطقة و تتوضح المصالح المشتركة بين أممها المختلفة ، حلا لمجموع القضية الكردية بإزالة الحدود التي تفصل - بصورة اصطناعية- بين اجزائها الأربعة و توحيدها ضمن دولة كردية فدرالية ديموقراطية مع المحافظة على العرى الفدرالية التي تجمع بين الكرد و جيرانهم من العرب و الترك و الفرس الأيرانيين و غيرهم ، وذلك ضمن نطاق اتحاد فدرالي او كونفدرالي للبلاد و الأمم الشرقية على شاكلة ماتحاول الأمم الأوربية تحقيقه فيما بينها حاليا ضمن اطار الأتحاد الأوربي . ويترأس حاليا السيد جيسكار دي ستان و هو رئيس سابق للجمهورية الفرنسية ، لجنة اوربية عليا لوضع دستور لأتحاد اوربي يجمع مابين نحو خمسة و عشرين دولة اوربية و حسب مشروع هذه اللجنة سوف يكون للأتحاد الأوربي رئيس واحد منتخب من قبل البرلمان الأوربي ، ومجلس وزراء و دفاع مشترك (لمن يرغب) و اقتصاد موحد و علاقات خارجية موحدة يديرها "وزير خارجية اوروبا" تحت اشراف الرئيس الاوروبي ، و برلمان اوربي قائم حاليا و انما بصلاحيات موسعة . هذا مع المحافظة على الدول الأوربية " الوطنية " القائمة حاليا مع تقليص صلاحياتها لصالح الأتحاد الأوربي ، اذ لايمكن الغاء ما يسمى " بالدول الوطنية " التي عاشت في اوربا خلال قرون بالحروب فيما بينها و نشرت في القارة الدمار و الكراهية بين الأمم بين ليلة و ضحاها.
وإذا ماتم في المستقبل انشاء مثل هذا الأتحاد الفدرالي او الكونفدرالي بين الأمم و الشعوب الشرق - اوسطية او في منطقة الشرق الأدنى سوف تحل القضية الكردية بمجموعها بشكل سلمي و ديموقراطي و تصبح كردستان الموحدة فدراليا ارض سلام و رخاء و همزة وصل بموقعها الجغرافي المتوسط بين الأمم التركية و العربية و الفارسية اضافة للكردية و غيرها لمصلحة المجموع و مصلحة كل منها . ومنذ عام 1970 كرر هذا الكاتب نفس الآراء في مناسبات أخرى . وقد تبدو هذه الاراء خيالا . ولكن الأتحاد الأوربي كان خيالا و لاسيما بين فرنسا و ألمانيا اللتين انهكتا قواها في الحروب فيما بينها في القرن التاسع عشر ثم في الحربين العالميتين ، وهما الآن ركيزتا الأتحاد الأوربي . ومازال هذا الأتحاد يحاول شق طريق وحدته و توسيعها و توثيقها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن ، ويخطو خطوة الى الأمام ثم يتوقف لتوطيد ماحققه . وهنالك معارضات للأتحاد الأوربي حتى داخل الدول العضوة و دول اوربية لم تدخل في الأتحاد أو لم تتوفر فيها شروط العضوية . ورفضت سویسره الدخول في الأتحاد الأوربي ، وهي في حد ذاتها مثال حي للأتحاد ، بل اكتفت بعقد اتفاقات معه في المجالات التي تخص الطرفين.
ولكن امكانيات الأتحاد بين الدول الشرقية و الرغبة به مازالت بعيدة ، ولو ان التاريخ يسير بسرعة لم تكن معروفة سابقا . واذا كانت فكرة انشاء اتحاد فدرالي او كونفدرالي بين الأمم الشرقية فكرة سابقة لأوانها فيجدر عدم نسيانها في مستقبل لانعرفه تفصيلا منذ الآن. انما يجب البدء بما هو ممكن وقابل للتحقيق حاليا، وماهو ممكن و قابل للتحقيق هو بناء العراق الجديد . انها فرصة يجب على جميع العراقيين الا يدعوها تذهب عبثا وأن يأخذوها بروح العزم و الأخاء . وقد تتوقف على حسن البناء تطورات بعيدة المدى .
وبالرغم من الثورات التي قام بها الشعب الكردي أو الظلم الذي حل به داخل العراق و ايران و تركيا و سوريا ، فإن تقسيم كردستان بين هذه الدول و تعايش الكرد الى جانب العرب في العراق و سوريا ، والى جانب الفرس و الآذريين و غيرهم في ايران ، والترك في تركيا ، قد ادى خلال ثمانين عاما لظهور مصالح مشتركة و تفهم متبادل - تختلف درجته من دولة لأخرى - بين الشعب الكردي و الشعوب المجاورة . ولاشك ان أوثق هذه العلاقات بين الكرد وجيرانهم هي مابينهم و بين عرب العراق وذلك لأسباب تاريخية ولأن الشعبين عرفا سوية مساوئ الدكتاتورية وناضلا متحدين للخلاص منها . ومما لاشك فيه ان عزم المعارضة العراقية لحل القضية الكردية في العراق على اسس فدرالية وتحقيق ذلك بشكل سليم سيكون من شأنه توثيق العرى الأخوية العربية- الكردية وتوطيد الوحدة العراقية. وبالعكس ان استمرار احدى هذه الدول بانكار حقوق الشعب الكردي وظلم ابنائه سوف يعطيه الحق في الأنفصال ، أو الأتحاد مع دولة اخرى مجاورة يتمتع فيها الكرد بكامل حقوقهم .
ولكن تطلعات الكرد لدولة توحدهم يجب الا ينظر اليها نظرة سلبية ، كعقاب لدولة ظالمة ، فهو حق لهم. وكما جاء ذكره ان الحل الفدرالي هو في حد ذاته اتحاد بين دول تترك قسما من الصلاحيات للحكومة الفدرالية المركزية . واذا كان الأتحاد الفدرالي يصلح لحل القضية الكردية في الدول التي تقتسم كردستان فلماذا لايصلح لتوحيد اجزاء الشعب الكردي نفسه؟
نعلم ان العرب يؤمنون جميعا بوجود أمة عربية واحدة و يعلمون تعذر توحيدها في دولة واسعة لسعة اقطارها و لأسباب جغرافية وتاريخية و اقتصادية و لوجود عدد كبير من الدول العربية المستقلة لكل منها مصالح خاصة. ولكن توحيد بعض هذه الدول قد يكون ممكنا بشكل او آخر ، اذا شاءت الشعوب العربية ذلك . اما كردستان فعلى سعتها فهي وطن واحد متجانس جغرافيا ويشعر سكانه بانهم شعب واحد تبلورت وحدته المعنوية بالآلآم و الآمال المشتركة ، وغالبا بتقاسم النضال ، رجالا و نساء . وليس في كردستان مايقسمها جغرافيا الى مناطق متباعدة كما في العالم العربي .
يجب ان لايخشى الشعب العربي في العراق من الحركات التحررية الكردية الهادفة للوحدة الكردية ، فلن يكون ثمن اي وحدة كردية فصم العرى التي تربط مابين الشعبين العربي و الكردي في العراق . لايتعارض حق تقرير المصير للشعب الكردي مع وجود دولة عراقية فدرالية تجمع مابين هذين الشعبين . ويمكن تصور اتحاد بين العراق و سوريا من شأنه حل القضية الكردية في سوريا و توحيد العرب من جهة و الكرد من جهة اخى بين البلدين. من شأن الفدرالية انها مبادئ ديموقراطية تستطيع التطابق مع الواقع وليس تغيير الواقع حسب العقائد. انها مبادئ قابلة لتطبيقات براغماتية . لنفرض ان كردستان تركيا قد توصلت لوضع تستطيع به اختيار مستقبلها بعد تأسيس الدولة الفدرالية العراقية حسب المبادئ التي جاء ذكرها: وعند ذلك ان المبادئ الفدرالية نفسها لا تمنع من ايجاد اتحاد فدرالي بين كردستان تركيا و كردستان العراق مع المحافظة على العرى الفدرالية بين كردستان العراقية و العراق العربي ، ويمكن ان نتصور إدخال تركيا التركية في هذا الكيان الفدرالي أو أن تتحد معه على اسس كونفدرالية، اذ يمكن للفدرالية والكونفدرالية أن تتعايشا سوية في مجموع واحد حسب المعطيات الاساسية ورغبة الاطراف المعنية. وهذا وارد ايضا بالنسبة لأيران . والشروط اللازمة لحصول مثل هذه التطورات هي تطبيق الديموقراطية و تفهم روح المبادئ الفدرالية التي بإمكانها الوصول لحلول مثلى لأوضاع مختلفة من منطقة لأخرى . وعلى كل حال سوف يترتب على تحويل العراق لدولة فدرالية مسؤوليات خاصة لجمهورية كردستان العراقية الأتحادية تجاه الشعب الكردي خارج العراق . ويمكننا ان نتصور مراحل تدريجية من التعاون و التضامن بين اكراد العراق و اكراد ايران و تركيا و سوريا قبل تحقيق ديموقراطية فدرالية في هذه الدول . كما في محاولات اللغة و التعليم و الثقافة و الصحة و المواصلات حسب الأمكانات المتورفرة ، وذلك بعلم و مشاركة الدولة الفدرالية العراقية.
10- حول ترشيح تركيا لعضوية الأتحاد الأوربي و القضية الكردية و الشرق الأسلامي:
قدمت تركيا طلب العضوية للأتحاد الأوربي منذ الستينات ولم تكن اوروبا راغبة به ، فلم يرفض الطلب انما ترك بدون جواب ، فشروط العضوية لم تكن متوفرة لديها . فإن تركيا لا تتقيد بقواعد الديموقراطية داخليا و لاتعترف بالحقوق الكردية و إحتلت القسم الشمالي من قبرص بالقوة العسكرية وتعدت الحدود العراقية مرارا ولاسيما منذ بدء ثورة حزب العمال الكردستاني عام 1984 ، كما أن وضعها الأقتصادي و المالي كان يتعارض مع شروط العضوية فكانت في ازمة مالية مستمرة وسياسة الحرب و القمع في كردستان تكلفها بمعدل عشرة مليارات دولار سنويا ، و الليرة التركية تفقد نحو 70 % من قيمتها كل عام بالرغم من المساعدات الغربية . وكانت الطبقة الحاكمة التركية ترى نفسها اوربية وديموقراطية ، اضافة الى كونها عضوا في الحلف الأطلسي ، فأعتبرت تأخير قبولها شبه إهانة . وفي التسعينات اتخذ كل من البرلمان الأوربي و مجلس اوربا قرارات متتالية تدعو لوقف القتال في كردستان و الوصول الى حل سياسي للقضية الكردية عن طريق الحوار الديموقراطي بين الدولة التركية و ممثلي الشعب الكردي .
وبعد تهديدات تركيا بإجتياح سوريا عسكريا عام 1998 اذا ما بقي الأخ عبدالله اوجالان ضيفا عندها ورفض الدول الأوربية منحه حق اللجوء ثم القاء القبض عليه في مطلع عام 1999 بتهمة الأرهاب و تسليمه لتركيا اصيب الشعب الكردي بصدمة شديدة . وتلتها صدمة أخرى عندما طلب السيد اوجالان انهاء القتال في كردستان الشمالية و انسحاب قوات حزب العمال ( ب ك ك ) لخارج تركيا و اكتفى لحل القضية الكردية بالمطالبة ان تصبح تركيا (جمهورية ديموقراطية ) بدون اي طلب اخر يتعلق بمصير الكرد و كردستان . وكانت تركيا الظالمة تدعي نفسها مثالا للديموقراطية ( وأم المدنيات البشرية ).
وكانت هذه الحوادث الأليمة جزءا من مخطط تركي تبنته أميركا ويقضي بتصفية الحركة الكردية في كردستان الشمالية تمهيدا لدخول تركيا عضوية الأتحاد الأوربي . وفي إجتماع مجلس ( المؤتمر الوطني الكردستاني ) في بروكسل صيف عام 1999 اخذنا القرار بأن استراتيجية العمل بطرق سلمية لحل القضية الكردية في تركيا هي استراتيجية صالحة بشرط الأعتراف بوجود الشعب الكردي وحقه في تقرير المصير ، فالشعوب تريد السلام على أن يكون عادلا ، وهذا ماجاء في شرعة المؤتمر .
وفي عام 1999 ارسل كاتب هذه السطور باسم المؤتمر الوطني الكردستاني رسائل الى المؤسسات الأوربية تطالب بحل سلمي ديموقراطي للقضية الوطنية الكردية في تركيا على مرحلتين ، المرحلة الأولى تقضي بقبول تركيا عن طريق دستور جديد بوجود الشعب الكردي في تركيا واسم كردستان و باللغة الكردية كلغة رسمية ، وفي المرحلة الثانية ان تقبل تركيا بواسطة حوار ديموقراطي مع ممثلي الشعب الكردي بحل القضية الكردية على اساس تحويل تركيا لدولة فدرالية - مع جمهورية كردية في منطقة كردستان و جمهورية تركية في بقية المناطق و الأعتراف بحقوق العناصر الأخرى ، وان يتم تحقيق ذلك قبل بدء المفاوضات بين الأتحاد الأوربي و تركيا بغية قبول هذه كعضوة في الأتحاد . وبتاريخ 16 حزيران من عام 2000 كتب هذا الكاتب باسم المؤتمر الوطني الكردستاني رسالة الى رئيس الجمهورية التركية السيد أحمد نجدت سزر ، وبها نفس المطاليب و الأهداف بغية ترسيخ العلاقات بين الشعبين التركي و الكردي على أسس سليمة وثابتة من التعاون والأتحاد و الأخاء .
ولكن الذي حدث كان خلاف ذلك ، انما يتوافق مع المؤامرة الدولية على حركة الشعب الكردي التحررية في كردستان تركيا .فخلافا لما كان يطلبه البرلمان الأوربي حول الوصول (لحل سياسي ) للقضية الكردية بطرق سلمية عن طريق الحوار الديموقراطي وخلافا للأقتراحات المقدمة مرارا بإسم المؤتمر الوطني الكردستاني للمؤسسات الأوربية ، قبل الأتحاد الأوربي في إجتماع قمته في هلسنكي في شهر ديسمبر من عام 1999 ان يوضع اسم تركيا على لائحة الدول الأوربية المرشحة للعضوية بشرط ان تحترم ( معايير كوبنهاغن ) . وهذه المعايير أو المبادئ كما هو معلوم هي مبادئ عامة تقضي بتطبيق الديموقراطية و احترام حقوق الأنسان وحقوق الأقليات القومية . وفي صيف من عام 2000 قدمت اللجنة الأوربية ( الكومسيون ) كتابيا مشروع الشروط التي يجب على الدول المرشحة تحقيقها قبل بدء المفاوضات في سبيل العضوية ، وكانت هذه الشروط هي نفس الشروط لتركيا و الدول الأخرى المرشحة بدون اي ذكر للقضية الكردية و ضرورة ايجاد حل سياسي لها وبدون ذكر أسم الشعب الكردي و لاحتى "كأقلية " . وعندما عرض المشروع لمناقشة البرلمان الأوربي في شهر آب من عام 2000 أضاف اليه بنودا تطلب الوصول ( لحل سياسي لقضية الشعب الكردي ) و إرجاع الأكراد الذين هجروا الى مدنهم و قراهم واعادة تعميرها . ولكن القمة الأوربية لم تأخذ هذه الاضافات بعين الأعتبار وقدمت شروطها لتركيا بدون اي ذكر للكرد و قضيتهم .كما لايوجد اي ذكر للكرد و القضية الكردية في (البرنامج الوطنی) الذي قدمته تركيا للأتحاد الأوربي بغية الأستجابة لمعايير كوبنهاغن .
اذا كان الأتحاد الأوربي لايحترم قرارات برلمانه فكيف يمكن ان يحترم حقوق الشعب الكردي في تركيا ؟ الا يعني هذا ان الشعب الكردي كان في نظر الأتحاد الأوربي شعبا محترما عندما كان يقاتل بقوة السلاح في سبيل حقوقه وانه قد بات غير جدير بالأحترام عندما شاءت الظروف ان يعدل عن القتال بغية الحصول على حقوقه بأساليب سلمية - اساليب سلمية كان الأتحاد الأوربي نفسه يطلب من تركيا و حزب العمال اتباعها؟ من الواضح انه طالما ان الدولة التركية ترفض الأعتراف بوجود شعب اسمه (الشعب الكردي ) ضمن حدودها فلا جرأة للدول الأوربية الكبرى العضوة في الأتحاد ان تسميه شعبا و انها تخشى حتى من ذكر اسم (كرد ) في الشروط الرسمية التي وضعتها لقبول هذه العضوية .لايستطيع كاتب هذه ان يتخيل موقفا اقل مسؤولية واكثر مراوغة في المبادئ من موقف الأتحاد الأوربي تجاه قضية الشعب الكردي في تركيا .
ان ( معايير كوبنهاغن ) بشأن تطبيق قواعد الديموقراطية واحترام حقوق الأنسان وحقوق الأقليات هي مبادئ عامة واساسية ويجب احترامها في كافة الدول وليس فقط في اوربا ، ولكنها لا تكفي و لاتصلح في حد ذاتها لحل قضية وطنية تحررية خطيرة كقضية الشعب الكردي في تركيا ، الذي يبلغ تعدداه في هذه الدولة ثلث مجموع سكانها ويشكل الأكثرية الساحقة من سكان كردستان تركيا اي منطقة أوسع مساحة من انكلترة نفسها . واللغة الكردية ليست مهددة لا في العراق ولا ايران و لا حتى سوريا ، ولا حتى بين اكراد روسيا النائية ، ولكنها مهددة في تركيا امام استعمال اللغة التركية الأجباري وحدها ولا يمكن انقاذها الا بجعلها لغة التدريس الرسمية و الأجبارية في منطقة جغرافية معينة هي بطبيعة الحال كردستان الشمالية ، ولو الى جانب التركية ، بشرط ان تكون اللغتين في نفس المستوى وان يفتح التدريس باللغة الكردية في المؤسسات و الجامعات نفس الأمكانيات لمستقبل الشبيبة الكردية كاللغة التركية . ولا يمكن تحقيق ذلك عن طريق المبادرات الفردية و النوادي الأهلية انما عن طريق الدولة نفسها ومؤسساتها التعليمية. وبكلمة اخرى ان انقاذ اللغة الكردية في تركيا مرتبط ارتباطا وثيقا بحل سياسي لقضية كردستان تركيا . والدول الديموقراطية تعترف بوجود قومياتها لا كأقليات و جاليات مبعثرة هنا و هناك بل كقوميات لها أرضها و تراثها الثقافي و حقها في الحياة الكريمة و التقدم الأقتصادي وحكم نفسها بنفسها وهذا شأن اسكتلندا و بلاد الغال و ايرلاندة الشمالية الى جانب انكلترة في المملكة المتحدة ، وشأن القوميات الفلامندية و الوالونية و الألمانية في بلجيكا ، وشأن بلاد الباسك و الكاتالان و غيرهم في اسبانيا ، وشأن ولاية كبك و القومية الناطقة بالفرنسية في كندا ، والأمثلة كثيرة و هي كافية . بل ان نظام صدام حسين الدكتاتوري نفسه كان يعترف بالحقوق الثقافية الكردية و بأسم ( كردستان ) في قسم من كردستان العراقية و فتح جامعات تدرس باللغة الكردية . فلماذا لا تقبل تركيا التي تدعي نفسها " دولة ديموقراطية " بما تقبل به كافة هذه الدول وما قبل به حتى صدام حسين - شكليا و جزئيا ، في الوقت الذي كان يستعمل به الغازات الخانقة ضد اكراد العراق ؟ ولكن تركيا نفسها قد ارتكبت ضد الشعب الكردي خلال ثمانين عاما من اعمال التشريد و القتل اكثر مما ارتكبه صدام حسين ضد اكراد العراق خلال ثلاثين عاما .
ومرة اخرى طلبنا باسم المؤتمر الوطني الكردستاني من رئيس اللجنة الأوربية ( السيد رومانو برودي Romano Prodi ) ان يتفضل بعرض مطاليبنا من اجل حل القضية الكردية في تركيا على اجتماع قمة الأتحاد الأوربي التي كانت ستعقد في الشهر الأخير من عام 2002 في كوبنهاغن لكي يصار الى حلها حلا صحيحا كقضية شعب مظلوم. وقررت القمة الأوربية بدء مفاوضات العضوية مع عشرة دول ( اي الجمهورية التشيكية وسلوفاكيا و بولونيا و هنغاريا و سلوفينيا و دول البلطيق و قبرص و مالطة ) ، ولكنها لم تأخذ قرارا بشأن تركيا بل اجلت ذلك الى مابعد سنتين و النظر في المسألة في اجتماع شهر ديسمبر عام 2004 . وبذلك بقي مصير عضوية تركيا او عدم قبولها و بطبيعة الحال مصير الشعب الكردي في تركيا معلقا لمدة سنتين.
11 . مستقبل الكرد والشعوب الشرقية الأخرى هو الشرق الأسلامي وليس اوربا و الغرب :
كتب في هذه الأثناء السيد ف . جيسكار دي ستان ، الرئيس الفرنسي للجنة العليا لوضع دستور الأتحاد الأوربي في مقالة له بصحيفة ( الموند ) قائلا " بأن تركيا ليست دولة اوربية " ثم كرر ذلك على التلفزيون الفرنسي في شهر نيسان عام 2003 قائلا " بأن خمسة بالمائة فقط من ارض الدولة التركية هو في القارة الأوربية وخمسة وتسعين بالمائة هو آسيوي " ، مما أثار غضب و احتجاج الأوساط التركية الحاكمة .وكان رئيس الحكومة الألمانية السابق السيد هيلموت شميدت ، في تصريحه لحصيفة برلينية آخر يوم من عام 2000 ( وسبق ذكره ) قد ذكر ايضا "بان قبول تركيا كمرشحة للعضوية كان خطأ كبيرا لأن عضويتها ستجلب النزاع الكردي - التركي الى الساحة الأوربية وتكلف أوربا على الصعيد المالي ثمنا باهظا ". وصرحت السيدة مارغريت ثاتشر عندما كانت رئيسة للحكومة البريطانية من طرفها " بأن تركيا ليست دولة اوربية و لاديموقراطية " . وماقاله هؤلاء الأقطاب علنا يمثل مايفكر به اقطاب اوربيون آخرون في قرارة انفسهم انما لاجرأة لهم لذكره حفظا للمصالح التجارية واستجابة للضغوط الأميركية لصالح تركيا.
والفروق بين تركيا و معظم دول الأتحاد الأوربي تتعدى قضايا الديموقراطية و حقوق الأنسان ، وضخامة الثروة و الأنتاج و مستوى الحياة و توزيع الثروة بين الأفراد الى طراز الحياة و الثقافة و التقاليد ، فالجماهير التركية و طبقاتها العاملة في طراز حياتها و تقاليدها بقيت شرقية و اسلامية ، خلافا للطبقة البورجوازية الحاكمة التي اصبحت اوربية شكلا فقط . ويلاحظ ذلك في حياة الجاليات التركية العديدة في اوربا. فباستثناء عدد محدود من الذين تطبعوا لحد ما بالحياة الأوربية ولاسيما في الجيل التركي الذي ولد في المهجر ، تعيش هذه الجاليات في قلب اوربا وفيما يتعلق بمكانة المرأة في المجتمع و عادات الطعام و الزواج على الطريقة التركية و الشرقية التقليدية ، ومعظم ابنائها لا يتعلمون لغة البلد الأوربي الذي يعيشون به و لايهتمون بالحياة الثقافية او الفنية او السياسية او الرياضية الأوربية، بل يعيشون في حلقة مغلقة فيما بينهم لهم مطاعمهم وانتاجاتهم التركية ولا يقرأون سوی الصحف التركية .
ولا تختلف الجماهير الكردية في هذا عن الجماهير التركية أكانت في الوطن ام في ديار الهجرة ، فقد بقي المجتمع الكردي مجتمعا شرقيا و اسلاميا ، ولعل الفرق الوحيد بينهما هو ان الجاليات الكردية في اوربا ، وهي ايضا كثيرة العدد أ لا تختلط مع الجاليات التركية ، بل هناك قطيعة بينهما ، ليس بسبب العادات و التقاليد ، فانها متشابهة ، بل لأسباب سياسية و نفسية ، لوجود قضية وطنية في كردستان مازالت بدون حلول وبحاجة للمساندة و العمل.
من نتائج القوانين الأساسية المتبعة في الأتحاد الأوربي على الصعيد الأقتصادي و الأجتماعي كان ايجاد ( سوق اوربية حرة واحدة ) عن طريق الغاء الحدود بين الدول العضوة امام استیراد وتصدير المنتجات الزراعية و الصناعية وأمام تنقل الأفراد و اقامتهم في اية دولة عضوة لممارسة مهنهم و العمل فيها . وقد ادى ذلك شيئا فشيئا الى اعادة توزيع الثروة وفرص العمل من الدول العضوة القوية الأقتصاد ( كألمانيا و فرنسا و بريطانيا لصالح الدول الأقل ثروة و تقدما كاليونان و البرتغال و ايرلاندا و اسبانيا، وكان من نتائج ذلك عمليا تقدم الأقتصاد مع غلاء الاسعارفي الدول الفقيرة وتدهوره في الدول الغنية كما حدث في ألمانيا مثلا ولحد ما في فرنسا. وتعاني ألمانيا حاليا من أزمة إقتصادية و إجتماعية بليغة اذ نجدها بها 4,6 مليون من الألمان العاطلين عن العمل و 7,3 مليون من الأجانب ( غير الألمان ) الذين يعملون بها او يعيشون بمساعدات اجتماعية المانية بدون عمل ، وبين هؤلاء 28 % اتوا من تركيا و استقروا في المانيا كيد عاملة ، تركا وكردا ، وهذا ماحدى بسویسره لرفض عضوية الأتحاد الأوربي في حين انها عقدة مواصلات بين شمال و جنوب اوربا.
وبكلمة اخرى ان إصرار تركيا على الأنضمام للأتحاد الأوربي يجب تفسيره ، قبل ادعاءاتها بانها اوربية ، برغبتها في فتح الحدود الأوربية على مصراعيها ، امام المحاصيل الزراعية التركية الرخيصة الثمن ( مما سوف يؤدي الى قتل الزراعة الأوربية ) وأمام اليد العاملة التركية ( والكردية ) لمجئ ملايين اخرى من العمال او من اصحاب المهن الحرة ( كالمهندسين و الأطباء ) من تركيا للأقامة في اوربا و العمل بها - او أخذ بدل البطالة عن العمل من اوربا.
لقد انهت اللجنة الأوربية العليا لوضع دستور الأتحاد الأوربي ، التي يترأسها السيد ف .
جيسكار دي ستان ، اعمالها وهذه السطور تحت الكتابة ، اي في اوائل حزيران من عام 2003 ، وسوف يعرض مشروع الدستور لموافقة هيئات الأتحاد و الدول العضوة خلال هذا العام وهو يقول بأن الأتحاد الأوربي يتألف من 25 دولة ، اي بدون تركيا حاليا (وقد جاء ذكر اهم نقاط المشروع اعلاه ) ، مما يشير بأن الموعد الذي اعطي لتركيا لأعادة فحص طلب عضويتها في شهر ديسمبر من عام 2004 قد يكون فارغ المحتوى ، ولكن هذا ليس اكيدا فتركيا ليست وحدها في ( قاعة الأنتظار ) انما برفقة دول اخرى لم تقبل حتى الآن ومنها بلغاريا و رومانيا و البانيا. ولاشك بأن تركيا سوف تصر على طلبها ، انما من المحتمل بانها لن تحظى هذه المرة بتأييد اميركا لدى الدول الأوربية، فان الحكومة التركية الحالية التي يترأسها السيد ( اردوغان ) وهو زعيم ( العدالة و التنمية ) الأسلامي الجديد الذي خرج ظافرا في الأنتخابات النيابية التركية في شهر نوفمبر عام 2002 ، قد رفض السماح للقوى الأميركية استعمال الأراضي التركية لفتح جبهة في شمال العراق في الحرب التي ادت للأطاحة بنظام صدام حسين . فاستغنت اميركا عن ذلك و عدلت ستراتيجية الحرب بدون المرور بالأراضي التركية ، وقد لا تنسى اميركا " هذه الخيانة " من قبل دولة حليفة ظلت تمدها بالمال و السلاح خلال نصف قرن.
بعد الصعوبات المرة التي عرفتها الحركة التحررية الكردية في تركيا منذ عام 1999 ، وجاء ذكرها ، ركز معظم العاملين في الحركة امالهم في قبول تركيا ببعض التنازلات البسيطة لصالح الحقوق الكردية ضمن نطاق ( مبادئ كوبنهاغن ) تحت ضغط الدول الأوربية . وكان كاتب هذه السطور من الأوائل الذين وجدوا ان هذه المبادئ ليس من شأنها في حد ذاتها حل القضية الوطنية ولم يشأ بالتالي دمج المطاليب الكردية الأساسية حول مصير كردستان كوطن الشعب الكردي و بشأن اللغة الكردية كلغة رسمية في ضباب " الديموقراطية التركية " ، وهي بدون اساس و لاتقاليد لها .كان بدون جدوى استجداء بعض الحقوق الكردية من الأتحاد الأوربي مع الأمل في ان الأتحاد سوف يقبل بعضوية الدولة التركية في حين ان نفاقه كان قد بلغ درجة بحيث ان لم يجرأ على ذكر اسم (كرد ) و القضية الكردية ضمن الشروط التي اشترط على تركيا تنفيذها .
لنفرض ان اوربا سوف تقبل عضوية تركيا في الأتحاد وان تركيا سوف تكون قد قبلت احترام ( معايير كوبنهاغن ) - وهذا ماتدعي به منذ الآن خلافا للواقع - فإن نتائج ذلك ستكون كما يلي:
1 . لن يكون من شأن ( مبادئ كوبنهاغن ) ، اذا ماطبقت حل القضية الوطنية الكردية في تركيا ،كما جاء.
2 . سوف تمتد حدود الأتحاد الأوربي ، عبر تركيا و كردستان الشمالية و الغربية ، الى الحدود السورية ، والعراقية و الأيرانية و الأرمنية ، مما يضع هذه الدول امام قضايا وتحديات جديدة لم تكن في الحسبان و قد لاتتمكن من مواجهتها .
3 . سوف تصبح كردستان تركيا جزءا من أوربا و تبقى اجزاء كردستان الأخرى آسيوية ، اي أن نصف الأمة الكردية سوف يعتبر اوربيا ونصفها الآخر يبقى آسيويا . وهذه نتيجة غير معقولة وتخالف الواقع بالنسبة لشعب واحد له نفس الوطن ونفس اللغة و تطلعات مشتركة للمستقبل .
4 . سيعني ذلك عمليا انكار حق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه في كافة أجزاء بلاده وسد الطريق لوحدته في المستقبل . ولكننا نعلم ان حق الشعب الكردي في تقرير مصيره يفوق حق اي طرف آخر على أرض هذا الوطن ، اكان هذا الطرف دولة أو مجموعة من الدول كالأتحاد الأوربي . وقد راينا في العام المنصرم بأن اوربا انكرت على مراكش ملكية صخرة خالية من السكان اسمها ( جزيرة ليلى ) تقع على بعد بضعة مئات من الأمتار من شاطئها بحجة انها اسبانية اي اوربية .
ان كردستان تقع في آسيا الجنوبية - الغربية و الشعب الكردي بمجموعه ينتمي لمجموعة الشعوب الشرقية - الأسلامية ، وليس لأوربا ، والمقصود هنا بالمجموعة الشرقية - الأسلامية هو بمعناها الحضاري الأوسع الذي ساهم الكرد في بنائه ، وليس مجرد المعنى الديني ، فقد ساهم في بناء هذه الحضارة شعوب شرقية لم تكن مسلمة ، كالآشوريين والكلدان.
وهذا صحيح ايضا بالنسبة للأكثرية الساحقة من الشعب التركي فهي تنتمي لنفس المجموعة ، خلافا لما يدعيه الحزب " الأسلامي " الذي يحكم تركيا حاليا ويعمل لربطها باوربا و ليس بالشرق . ولكن الأنتماء للحضارة الشرقية لا يعني تبني نظرية ( ولاية الفقيه ) و لا التعصب القومي الأعمى كما فعل صدام حسين وكما تفعل تركيا منذ ثمانين عاما ، كما لا يعني عبادة شخص كان اسمه مصطفى كمال ثم اطلق عليه لقب " أتاتورك " (اي أب الأتراك ) . ان عبادة شخص ذهب زمانه تدل على الجمود الفكري و انعدام الديموقراطية . لم يجعل البريطانيون من تشرشل و لا الفرنسيون من ديغول ابا لهم ، وهذا يعني حرية الفكر . وعلى كل حال لن يصبح مصطفى كمال ابا للشعب الكردي في تركيا .
وانتماء الشعب الكردي للمجموعة الشرقية - الأسلامية ، كالعرب و الترك و الأيرانيين ، لايعني اغلاق كافة الأبواب في وجه اوربا ، فان زمن ( تصادم الحضارات ) قد ولى ، انما ينبغي على الأتحاد الأوربي اذا ما اراد انشاء علاقات مع الكرد ان يعترف بهويتهم الجماعية كشعب له شخصيته القومية و تراثه الثقافي الخاص وحقه في تقرير المصير في مجموعة الشعوب الشرقية- الأسلامية ، وعلاقات مع كافة هذه الشعوب ، فاذا تم ذلك قد يصبح ممكنا بناء شئ جديد ، بكامل الحرية و ليس بالأكراه.
انما يتعذراي بناء بين الشرق و الغرب بدون مشاركة الشعب التركي .والعقدة في هذا ان الشعب التركي قد فقد هويته ، فحكامه يريدونه أوربيا و اوربا تعرفه شرقيا اسلاميا في اخلاقه و تراثه . ليس له سوى موطئ قدم على حافة اوربا ، ومما زاد الأمر تعقيدا هو ان حكام تركيا قد اقتبسوا من اوربا مفهوم "الدولة الأمة " و التعصب القومي ، دون التقاليد الديموقراطية ، منذ بداية القرن العشرين ، ومازالوا يعيشون في هذا المنطق حتى هذا اليوم . والتعصب القومي و الغدر بالجار تتعارض مع التقاليد الشرقية و الأسلامية . وقد يكون لأوربا ، اذا ما صدقت ، الطاقة في دفع الشعب التركي لأسترجاع شخصيته .فإدعاء اوربا في توسيع حدودها حتى كردستان و العراق و ايران هو ادعاء عجيب. ومن الأجدر بالشعوب و الأمم الشرقية ان تعمل لأتحاد فيما بينها على أسس الديموقراطية و المساواة ومن شأنه حل القضية الوطنية الكردية ، ولا يمكن الوصول لأتحاد شرقي خلاف ذلك فكردستان هي قلب الشرق وعموده الفقري ومخزن مياهه . ومهما يكن لا يليق بالترك ان يطلبوا مكانا على مائدة لم يدعوا اليها و لايرغب اهلها بصحبتهم و لابالكرد ان يدخوا في ذيل الترك لتجدية فتات المائدة الأوربية.
لاحاجة للذکر بأن النقد الذی جاء فی هذه الصفحات بشأن المواقف الترکیة لایستهدف الشعب الترکی نفسه، انما سیاسة الأوساط العسکریة والسیاسیة التی تحکمه والتی تحدد بفضل سیطرتها علی وسائل الاعلام، او عجز هذه تجاهها، مواقف الجماهیر الترکیة لحد کبیر تجاه القضیة الکردیة، داخل ترکیا وخارجها. لقد تحجرت هذه السیاسة خلال ثمانین عاماً علی انکار وجود الشعب الکردی وانکار حقوقه ومحاربة نهضته، کما بدت مواقفها السلبیة بشکل واضح تجاه کرد العراق والحرکة الدیمقراطیة العراقیة. ولکن النهضة الکردیة فی کردستان الشمالیة، بعد سنوات القتال، هی اساسیاً یقظة فکریة ونفسیة لایمکن لأیه دولة النیل منها بالبطش والتنکیل. لقد آن الاوان ان تعدل عن عقلیة عام 1923 وان تعترف بحقیقة هذا الیوم، بوجود الشعب الکردی ومایترتب علیه من حقوق. فاذا ماحدث ذلک بالسلام وروح العصر فلسوف تتبدد الغیوم التی تلبدت فی سماء العلاقات الکردیة الترکیة. وهذا مایطلب من ترکیا القیام به، لکی تفتح صفحة بیضاء ناصعة فی تاریخ هذه العلاقات، ومع الشعوب الاخری المجاورة.
العالم الحالي الذي تقلصت به المسافات وكادت ان تزول الحدود يبدو لازما التوصل لنوع من التعايش بين الشرق و الغرب لمصلحة الجميع و الأحترام المتبادل . ولايمكن ان يبنى هذا التعايش على اساس (نيوامبريالية) لا مكان لها في هذا العصر . ولكن الشرق يجب ان يغير ويجدد نفسه ، وان يعترف بواقع الشعب الكردي ، ويجب على الشعب الكردي نفسه ان يجدد و يوحد قواه وأن يبدأ بإحترام شخصيته و التكلم بلغته أو تعلمها في حالة تكلمه بلغة من يظلمه كما حدث لقسم كبير من أبناء الكرد في تركيا ، والا يقبل باي وضع او اي حل لا يحقق له كامل المساواة مع الشعوب الشرقية المجاورة ، وهذه المساواة هي مفتاح الحلول و الطريق الذي لابد من سلوكه لبناء شرق جديد له الطاقة لمحاورة الغرب كالند للند . وللعراق دور كبير في بناء هذا الشرق بشرط ان يحسن العراقيون بناء العراق الجديد .
عصمت شريف وانلي
لوزان ، في 9 حزيران عام 2003