أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - هيثم حسين - الجغرافيّة المطعونة تاريخيّاً















المزيد.....



الجغرافيّة المطعونة تاريخيّاً


هيثم حسين

الحوار المتمدن-العدد: 1819 - 2007 / 2 / 7 - 01:09
المحور: سيرة ذاتية
    


(مشاهدات وتداعيات) في بلدة Qizil Tepe قزل تبه
الأرض تنبسط باتّجاه Qizil Tepe قزل تبه، مروراً بماردين الجديدة التي تتزيّا بالزيّ العصريّ، من بنايات مزركشة بأحجار ملوّنة ومدهونة بدهانات زاهية تتكلّم العصرنة والجِدّة، وبعدها سلْك الطريق الأوتستراديّ الذي يخلو منه طريق نصيبين إلى غيرها من المدن المجاورة.

في الحافلة التي أقلّتنا، كانت الموسيقا التركيّة تعلو من الراديو، يتخلّل كلّ بضع أغنيات تركيّة أغنية كرديّة ينطرب لها البعض، ويتهرّب من سماعها إلى التشاغل بالطريق أو بالموبايل بعضٌ آخر، ومن هذا البعض المنكّر المتنكّر لذاته هاربٌ من ماضيه ومن ذاته، لائذٌ بالحضارة وملحقاتها؛ الحضارة التي تعني لدى أولاء التنكّر لكلّ شيء غير متحضّر، وهذا بدوره، يعني الكرديّة التي هي صنو القرويّة المستنكَرة، والتي يشكّل التخلّص من ذنبها مأرباً مسعيّاً إليه من مترَّكين غسيلَ دماغٍ، لتكون اللغة التركيّة التي يتباهون بإتقانها أكثر من كثيرٍ من الأتراك مفخرة لهم وهم يحدّثون بها ذويهم، ومن يحدّثهم، ويفضّلونها لغة وحيدة لأطفالهم، لأنّها لغة العلم والمستقبل، كما أُوهموا ويُوهَمون..

في قزل تبه، كثير من الأقارب الذين أستطيع أن أزورهم، لا بل، وسأسعد إن أنا زرتهم، لأنّهم شكّلوا مواضيع حكايات كانت تروى لنا على سبيل التسلية – لنا - على لسان الجدّات، وعلى سبيل التأسية لهنّ، لأنّ بعض المذكورين كان بُعدهم غصصاً لهنّ، تشكّل قسم منهم أساطير في وعينا ولا وعينا، كنت على عتبات المواجهة مع ما روي لنا، كنت أتآكل فضولاً لمطابقة ما تأسطر لنا بما هو واقع موجود، كنت أتوق لاستكشاف ذلك الأسى الذي كان يغلّف الحكايات، وتلك الحسرة التي كانت تختتم بها عادة، وهكذا كنت مسكوناً بأحلام وأساطير وتعظيمات، لا بدّ من الشفاء منها، بوقعنتها، وتخليص الذاكرة من الكثير الذي يحتكر مكانه فيها..

وكما يقول سعدالله ونوّس في مسرحيّته "الأيّام المخمورة": حين تتخمّر الرواية في أفواهنا مع طول الأداء، نشعر أنّنا نجد التعاطف والتواصل والحقيقة.

هكذا وباختصار، حنينُ الجدّات إلى أمكنة الطفولة الأولى، كان هو المجمّل لكلّ ما حُبِك، وكنّ متمسّكات بحلمهنّ ذاك، ولا يزال قسم منهنّ رافضاً التخلّي عنه.. وكان تقديسهنّ صادقاً نابعاً من يقينهنّ بأنّهنّ ظُلمن بمجرّد أن أُبعدن عن أقربائهنّ، لأسباب يلعب الجهل والتخلّف ولواحقهما الدور الرئيس فيما طُبّق.. وربّما يكون اختلاف الأمكنة والأزمنة هو الذي فرض نفسه متحكّماً بالشعور المتولّد، لأنّ ما كان يشكلّ القداسة للأجداد قد يكون بسيطاً وطبيعيّاً للأحفاد، لأنّ التجربة هي المحكّ وهي الحكم..

في قزل تبه، تتجاور الحداثة العمرانيّة بالبدائيّة، وهذا التجاور لم ينحصر في الأبنية فقط، بل انعكس على هيئات أهاليها، وسكّانها الوافدين إليها من القرى والمدن الأخرى، باعتبارها المركز العمليّ، وهي التي يكبر دورها الاقتصاديّ على حساب دور ماردين كمركز للولاية..

انسجام بادٍ في اللوحات الإعلانيّة أحياناً، وعدم انسجام صارخ بين المحلاّت المتجاورة أحياناً أخرى، يستطيع المرء تمييز الفوارق بسهولة، سألت عن مكان لا يحتاج الاستدلال إليه أيّ استفسار، سألت عن مبنى البلديّة، فكان أشهر من أن يُسال عنه..

دخلت المبنى سائلاً عن مكتب رئيسة البلديّة، وعندما دخلت غرفة مدير مكتب رئيسة البلدية، كان عدد من الرجال جالساً وآنسة خلف الطاولة تردّ على الهاتف، حيّيتُ بالكرديّة، وسألت، بعدما عرّفت بنفسي وبأنّني من عامودا، عن إمكانيّة لقائي برئيسة البلديّة السيّدة جيهان سنجاري، رحّبوا بي وطلبوا منّي الاستراحة لحظات حتّى يتمّ إبلاغها، وما إن جلست حتّى طلب منّي أحدهم الدخول إلى غرفة رئاسة البلديّة، تقدّمت السيّدة جيهان مرحّبة، عرّفتها باسمي ومهنتي ومكاني، وأبلغتها بأنّي أحمل لها التحيّات الخاصّة من عدد من أهالي مدينة عامودا، وقلت لها، بعد الجلوس، بأنّ لها فضلاً وشكراً وذكراً، ذكر الفضل عند زيارتها البروتوكوليّة مع وفد من بلديّتهم إلى بلدية عامودا، حين زارت حديقة الشهداء التي رمّمت بعد تلك الزيارة، والشكر على ذلك الفضل المذكور، وأخبرتها بأنّنا كـ(أسرة كتاب عامودا تحترق) وجّهنا ل! ها شكراً مكتوباً في كتاب "عامودا تحترق" للمحامي حسن دريعي والذي قدّمتُ له ودقّقته لغويّاً، على حرصها عند زيارة عامودا على زيارة حديقة الشهداء..

هي بدورها شكرت الجهد، وأهّلت وسهّلت بالتحيّات، وبجميع العاموديّين، وشكرتنا على كتابنا، كما قالت بأنّها قد سمعت عن الكتاب، وتأسّفت لأنّها لا تستطيع قراءته، لأنّه مكتوب بالعربيّة، وتمنّت أن يترجم إلى الكرديّة وإلى التركيّة ليعلم الجميع بالمأساة ويقرؤوا عنها..

اكتفيت بدقائق قليلة، إذ قدّرت الانشغال في بلدية تدير شؤون أكثر من مِائة ألف مواطن في المدينة.

ثمّ كان التجوّل في المدينة مطلبي، وهنا، طلبت من أحد الأقارب مرافقتي إلى بعض المكتبات، حيث أحتاج إلى بعض الكتب التي صدرت حديثاً بالكرديّة في إسطنبول، دخلنا إلى مكتبة، قيل بأنّها الكبرى في المدينة، عرض عليّ صاحبها العناوين الصادرة حديثاً، اقتنيت بعضها، حسب ما أتيح لي، وسألته عن حال الكتاب الكرديّ، وعن حال القراءة بالكرديّة، ولا سيّما قد سمحت الحكومة بذلك، اشتكى لهجر الناس القراءة والكتب إلى المال والمعيشة واللهو، ولكنّه أكّد متفائلاً بأنّ الكمّ الكبير من القرّاء سيتشكّل رويداً رويداً، حين يكتشف أهلنا قيمة لغتنا وعظمتها، وقال بأنّ من يقرأ يحرّض غيره على التعلّم والقراءة، ليكون التحدّي باللغة من ضمن التحدّيات التي يجب أن تستمرّ..

وهنا، إذا ما قلت بأنّ السمة المميّزة، تبدو الحداثة، سأكون مجانباً الحقيقة بعض الشيء، فالفقر والبطالة هما السائدان، وكذلك لأنّ إفقاراً مُمنهجاً يطبَّق في المدن الكرديّة كلّها، وتجويعاً موازياً له يمارَس على أبناء الشعب الكرديّ، لتهجيره قسريّاً إلى المدن الغربيّة، لتسخيره في الأعمال التي تحتاج جهداً كبيراً، وتشكّل مشقّة للعامل، وهكذا فإنّ بقاء الكرديّ حيّاً في هذه الحياة هو بحدّ ذاته جسارة، لأنّ الحياة في ظلّ ظروفٍ كالتي تعرّض لها تاريخيّاً، والتي لا يزال يتعرّض لها، تحتاج قوّةَ إرادة، وتحدّياً، وصموداً، وعناداً هو أجمل ما يماهي الكرديّ بجباله الشمّ، إذ يتحدّى طمس هويّته، بترسيخ هذه الهويّة في الجبال، والسهول، والوديان، وفي القلوب والعقول..

وتحدّي الإفقار الممارَس يكون بالكرم المضادّ، والكرم في هذه الحالة، يختلف عن الكرم الطائيّ الأعرابيّ المهلَّل له، بنحر الفرس وإطعامه للضيف، أو على طريقة الشاعر العربيّ الذي بالغ في رسم صورة الكرم لنفسه، إذ جهر بأنّه كان على وشك أن يذبح ابنه ليقدّمه قرىً لضيوفه، إلى أن جادت الطبيعة عليه بدابّة أغنته عن فعله، هذه صور شعريّة دعائيّة للكرم للإعلان عن المتشبّه بالكرم طلب فَلاحٍ، والتعتيم على الكرم الحقيقيّ، الذي يكون بالكلمة الصادقة، بالبسمة القلبيّة، بالتحيّة البريئة، بالصدق مع النفس والغير، بالدمعة العزيزة على الأعزّاء، بافتداء الوطن بكلّ الكلّ، لأنّ هذا هو الكرم الذي التقيته، وأحسست به، والمثل القائل لكلّ حجرة أجرة، يتطوّر بفعل الزمن، إذ أنّ وسائط النقل قرّبت بين الأمكنة، ولم يعد الضيف يحتار في مأكله أو مطعمه، بقدر ما يحتار في العثور على التقدير والاحترام، والصدق! ، والحبّ قبل كلّ شيء وبعده.. ومعظم ذلك يلقاه زائر قزل تبه وشقيقاتها..

لكنّ ما يوجع المرء في الصميم سيادة الوعي العشائريّ وتجذُّره في المجتمع على اختلاف طبقاته، حيث الحكم المسبق هو الفيصل، يُطلب إليك، بمجرّد التعارف، توضيح انتسابك القرويّ الذي يعكس العشائريّ الحاكم وحده في العقول، تضطرّ على غير قناعة منك، التعريف ببدائيّتك القرويّة ونسبك المكانيّ، لتكتمل الصورة في ذهن السائل عنك، أو ليقرّر فيما بعد هل سيكمل معك الحوار أم أنت لست على مستوى نسبه القرويّ البدائيّ، أو لمعرفة عدوّه من صديقه، والعدوّ والصديق هنا، كلاهما أخٌ، وكلاهما كرديّ، ولكن لأنّ التعصّب لثأر العشيرة أو الأسرة هو الذي لا يزال المسيطر، فلابدّ من الحذر عند التعرّف على وافدٍ جديد، وقد يكون الفضول لمعرفة الخلفيّة المكانيّة هو الدافع للاستفسار عند كلّ تعارف..

إنّه إسراف في التخلّف، وبذخٌ في عدم الانتماء، وتمادٍ في التحالف ضدّ النفس مع المرسّخ من الأعداء..

ومن أبسط ما يتحدّى به الكرديّ التتريك الذي يثقل كاهله، رغم انصياع ورضوخ البعض وتَتَرُّكُهُم، هو إطلاق اسمٍ كرديٍّ على الطفل أو الطفلة، بالإضافة إلى الاسم التركيّ الذي يجبرون على كتابته في دفتر العائلة، فيعيش الطفل باسمين، اسم يختاره له أهله رضىً وحبّاً، وآخر يجبرون على اختياره من بين أسماء تركيّة، أو إسلاميّة، ترضى بها الأنظمة التركيّة، ليكون الكرديّ هناك تركيّاً، كما هنا عربيّاً، في البطاقة الشخصيّة الرسميّة، وكرديّاً في بطاقته الحياتيّة غير القابلة للكتابة والتوثيق الرسميّين، ليكون اسمه كتاريخه، متناقلاً شفاهاً، ليبقى هو نفسه مختلَفاً عليه، وقابلاً للتزوير بمرور الأيّام، كما يراد ويخطّط..

ولكنّه يبقى العصيّ على الإمحاء، لأنّه الجبليّ العنيد، فاضح التاريخ المزوَّر وقاهره..





الجغرافيّة المطعونة تاريخيّاً (مشاهدات وتداعيات) الضبابُ يلفّ ماردين وسهلَها

صباح شتائيّ بارد، يجلّل بروده هدوؤه، ، نباح الكلاب كان يُسمع في الجوار، تمسكُنُ الدجاج الروميّ كان ملفتاً في الزوايا، لم يُخفَ لوذُ الدجاج البلديّ من البرد والظلمة إلى الأكواخ ، وفي الحظائر المفتوحة الأبواب، ترى أبقاراً كسلى تتثاءب مجترّة، كما أنّ أشعّة الشمس بدأت باللمعان على بعض الأسطح العالية، وبعض عصافير الدوريّ تتطاير من سطح لآخر، البخار يتبخّر من الأراضي التي تعانقها الشمس مدفّئة..

كان الاستيقاظ فجراً، للتوجّه إلى ماردين وبخاصّة أنّ عطلة العيد قد انتهت، والطلاّب الذين يدرسون في المدارس الثانويّة يجب أن يتوجّهوا إلى مدارسهم في المدينة..

رأيت الدخّان المرتفع المنبعث من التنانير المتعدّدة، كان يشكّل في تبدّده في السماء غيوماً لن تمطر، رغم تأميل الداعين لذلك..

كان موعد الميكرو القادم من darê - دارِى السادسة صباحاً، أفقنا قبل ذلك استعداداً للذهاب، رأينا الفطور بانتظارنا، وخبز التنّور الطازج، شكّل مفاجأة، ومكمن المفاجأة كان في تحضيره باكراً جدّاً وفي هذا الفجر الكانونيّ بالذات، وبصورة خاصّة، عندما تبادر إلى ذهني التفكير في المراحل التي يجب أن يمرّ فيها الخبز، من عجنٍ، وتخميرٍ، وإعداد التنّور، والخَبز، ثمّ الإنضاج، وكعادة النسوة في إبداء الكرم، كان الإكثار من أنواع الحواضر على المائدة المحضَّرة، أيقنت بأنّ المرأة الكرديّة بشكلٍ عامٍ، والقرويّة خصوصاً، هي آخر من ينام، أوّل من يفيق، آخر من يأكل، أوّل من يضحّي، هي القائد الثائر بالفطرة، هي المجسّدة قول غيفارا في الثائر، حتّى قبل أن يقول كلامه المشهور..

تأكّدت بأنّ هذا هو دأب النساء اليوميّ، عملهنّ فدائيّ إلى حدٍّ بعيد، قضيّتهنّ كبرى القضايا، هي بناء الإنسان المستقبليّ، تعليم أبنائهنّ حبّ العمل وحبّ الأرض، وضرورة التجذّر في الأرض، والتسلّح بالعلم لتطبيق ذلك، والتصدّي للآخر، أيّاً كان ذلك الآخر، بأسلحة العصر، وقد يكون التعليم بطرق عفويّة، منها قولهنّ مع أزواجهنّ للأولاد:

- لا نريد لكم أن تعيشوا حياتاً كحياتنا..

- لا نريد لكم أن تقاسوا ما قاسيناه ونقاسيه..

- لا نريد لكم أن تعوّضوا ما فشل سابقوكم في تحقيقه..

- نحن عشنا التعاسة والشقاء وسندفع أعمارنا كي لا تعيدوا تجاربنا القاتلة.. جاء الميكرو متأخّراً عن موعده، ولا سيّما يعلم بوجوب انتظار الركّاب له، لأنّهم لا يملكون خياراً آخر إلاّ الانتظار..

توادعنا، وُكِّلتُ بحمل التحيّات إلى الأهل والأقارب وكلّ من سيسأل عنهم من المعارف..

وفي الطريق توقّف الميكرو في أكثر من قرية، حاملاً الركّاب والأمتعة، لم يتذمّر أحدٌ من تكديس الركّاب، وبدا الوضع كأنّه طبيعيّ أو اعتياديّ، وما أزاد تقديري وضاعف احترامي لمجموعة من الطلاّب، أنّهم يحملون بالإضافة إلى حقائب كتبهم ولوازمهم، سطول اللبن وسلال البيض إلى الدكاكين التي يتعاملون معها، ليكون في أثمانها مصروفهم الدراسيّ الأسبوعيّ، وليكونوا قرويّين مدنيّين، ثمّ مشاريع بناة وطن مأمول..

في الطريق الملتوية أفعوانيّاً صعوداً إلى المدينة الجبليّة، التي كانت قد بُنيت على أساس مكانها العصيّ على الطامعين، إلى مدينة اللغات المتعدّدة، التي لابدّ أن يجيد ساكنها العربيّة يقيناً، والكرديّة لزوماً، والتركيّة إجباراً.. الثلج يعرّش في الجوار، وعلى المرتفعات، وفي الشوارع، حيث الصقيع قد جمّده وحافظ على صورته ثابتة، بأن أبقاه على حاله إثر نوبات صقيعيّة مجتاحة المنطقة كلّها.. وريح خفيفة خنجريّة تكتسح العظام وتدخلها، تسيل الأنف رغماً عن أنف السائر..

عند الوصول، لم يشكّل التوقّف المتتالي كلّ أقلّ من مِائة متر أيّ انزعاج لأيّ راكب، ومرّة أخرى بدا الأمر، وكأنّه معتاد، أو طبيعيّ، وكانت الأبواب كلّها تفتح في كلّ وقوف، باب السائق ينزل منه السائق، ليفتح الباب الخلفيّ لإنزال الأمتعة، والراكب يفتح باب الركّاب بدوره منزلاً معه أغراضه، وقد يصعد السائق إلى سطح الميكرو، ليُنزل البضاعة المحمّلة عليه، والمربوطة ربطاً محكماً، باعتبار أنّ الطرق منعرجة ومتصاعدة.. ويبقى الباقون منتظرين، حتّى ينتهي السائق من الموقف المتكرّر، وينفض ثيابه، ليكمل سيره، غير متأفّفٍ وغير ضاجر، على عكس السائقين الآخرين من الذين يعملون على الخطوط الأخرى، لأنّ هذا يدرك خصوصيّة منطقته، علاوة على أنّ أكثر الركّاب معه هم من أقاربه..

جلسنا في مقهى ماردينيّ، احتسى كلانا، أنا وصديقي، كوب شايه، كنت مرتاحاً للجوّ في المقهى، تحلّقت حلقة من الشيوخ تحيط بمدفأة الحطب، لم يلفت جلوسنا انتباهاً كبيراًُ، إذ أكملوا موضوعهم الآنيّ، حيث الفكرة تطرح ارتجالاً دون سابق تفكير بها وتقديم أو تدبير لها، يدلو كلّ منهم برأيه، كان الموضوع الرئيس حينها، إعدام صدّام، كان النقاش يتمّ بلهجة ماردينيّة، والتي هي تطعيم العربيّة بالكرديّة والتركيّة، تراوح الصوت بين مؤيّد وبين معارض، مؤيّد يدعم قرار التنفيذ ويباركه، ولا يضطرّ لشرح الأسباب، لأنّها معروفة ويجب أن تكون مفهومة، ومعارض، هو الصوت المنقاد إعلاميّاً ـ كما تبدّى لي ـ والذي هو وضع أكثر من نقطة استفهام واستنكار على اليوم الذي نُفِّذ فيه الحكم، وهو المتعاطف مع صدّام، لأنّه كان وبقي المعادي للأمريكان والشيعة الفرس ـ برأيهم ـ، وقد يفهم من ذلك أنّ التعاطف العلنيّ عند البعض مع الطاغية يفسح مجال استدراك الفعل بقول يريح قائله من فظاعة الانتكاسة التي لحقته، وثمّ يكون التشكيك من بعضٍ آخر بما ارتكبه صدّام من جرائم، بأنّها تلفيق أمريكيّ شيعيّ.. وآخرون يجهرون بصدق وواقعيّة الحكم، لكنّهم يتأسّفون لعدم القدرة على قتله وإعدامه أكثر من مرّة، وهلمّ جرّاً إلى آخر الآراء الأخرى، منها التوفيقيّة، الممهلة، المشكّكة، المصدّقة، المصادقة، وبعد ذلك توجيه الصراع إلى شيعيّ سنّي، وكأنّ إعدام صدّام هو انتقام شيعيّ لإثارة الفتنة الطائفيّة بين المسلمين، باعتبار الشيعة من غير الإسلام، إذ ارتفع صوت من بين الجالسين، حين أدلى بدلوه، ثمّ سكت ليمنحهم فرصة للتدبّر في دلوه..

سألني صديقي عن رأيي فيما يُطرح، رغم أنّه يعرفه:

لم أمنح نفسي فرصة للتدبّر، لأنّ الأمر محسوم عندي، حين قلت له بأنّني كتبت سابقاً: إنّ كلّ صدّاميّ هدّاميّ، وأقول الآن: إنّ كلّ من يدافع عن صدّام يجب أن يُحاكم، لأنّه لا يمتّ إلى الإنسانيّة بأيّ رابطٍ..

هكذا تركنا روّاد المقهى ومناقشتهم لموضوع الساعة، خرجنا إلى الشوارع الخالية إلاّ من التلاميذ المتوجّهين إلى مدارسهم، ومن الموظّفين السائرين إلى دوائرهم.. كنت السائح في غير أوقات السياحة المتعارَف عليها، ولكنّ الوقت تحكّم بالسياحة هذه المرّة، ورغم صعوبة التنقّل، أصررت على زيارة عدد من المواقع الأثريّة، التي كنت قد سمعت أو قرأت عن بعضها، وشاهدت بعضها الآخر في التلفزيون، جلّ الصعوبة كمن في ارتقاء الدرجات، التي تشكّلت منها منزلقات جليديّة، حيث التجوّل في مدينة كماردين في صباح صقيعيّ، مغامرة تشتمل على أبعاد المغامرة، من توفُّقٍ أو انكسار، ولم يكن هناك من خيار إلاّ خوضها واعتبارها مغامرة ممتعة والتفاؤل بها، والاستمتاع قدر المستطاع.. طبعاً لم يكن بعض تلك الأماكن، التي استطعنا الوصول إليها، أفضل حالاً بكثيرٍ من آثار دارِى، لكنّها كانت، كما يقول المثل: الرمد أحسن من العمى، موضعَ بعضٍ من الاعتناء البادي للعيان، كونها مركز الولاية، ولكن مع ذلك، ليس الاعتناء المطلوب تماماً..

حاولت أن أنظر من هناك إلى عامودا، كما كنّا ننظر، وكما لا زلنا ننظر بكثير من الفضول إلى ماردين من عامودا، وبخاصّة ليلاً عندما تضيء أضواؤها كبد طوروس، وكأنّها قلادة ملوّنة الأضواء تغريك بالاقتراب منها، وتقبيلها، وامتلاكها، والتمتّع رفقتها، كان الضباب سائداً، والرؤية شبه منعدمة، تأسّفت كثيراً لحال سهل ماردين(Berya Mêrdînê)، دبلجت حواراً افتراضيّاً بين ماردين وسهلها، فكان العتاب مسيطراً، والألم سائطاً، والتحسّر موضوعاً،.. وأنا أقحمت الأملَ على أملِ أن يسطو هو على ماعداه..

كما أنّ نداءات التقارب انجدلت لتنتج صراخاً مكتوماً، يفجّر المخافر الحدوديّة، ويقطع الكهرباء عن الأسلاك التي تشكّل نصلاً يقيم الحدَّ على الأبرياء، وتسنّ النصل نفسه بالقتل...

قطعت سلسلة الأفكار، لأنّها كفيلة بتنغيص أيّ مروّق، وتوتير أيّ سياحة، ولم أنزعج من الافتراض، لأنّ ذلك هو القريب من الحقيقة، الحقيقة التي تبقى بمفهومها المطلق جميلة، رغم بشاعة الممارسة، وهنا هي التمهيد لتعرية التاريخ، بكسر أقلام مدوّنيه، ومنح الإخوة المبعَدين عن بعضهم قطّاعات أسلاكٍ، وكاسحات ألغامٍ تفجّر الألغام على رؤوس زارعيها، وتبتر أيادي من امتدّت أياديهم بسوء إلى هذه الجغرافيّة التي كم يحاوَل تغييرها، .. والتي كم وكم تفشل تلك المحاولات، وستفشل، لأنّ حكم التاريخ هو الأبقى والأدوم..

لم أكتفِ من المشاعر، على تناقضها، في ماردين، ظلّت تلاحقني الأفكار، وستظلّ، ولكنّ التوجّه إلى قزل تبه كان لابدّاً منه، لأنّ هناك أيضاً، ستكون لي وقفة..





الجغرافيّة المطعونة تاريخيّاً (مشاهدات وتداعيات) - 1 – في دارِى darê يُقتَل التاريخُ وينقتل:

سُئل الشاعر الكرديّ الشهيد موسى عنتر ذات يوم عن مدّة إجازة ضيوفه فقال: كانت شهراً فجعلناها شهرين. وعندما استُفهم منه عن كيفيّة إطالة المدّة، أجاب: أوصلنا الليل بالنهار، فكان الشهر شهرين. هكذا حاولت أن أفعل في زيارتي القصيرة، وذلك في المأذونيّة المسموح بها في العيد (48 ساعة)، وفق الاتّفاقيّة الموقعة بين البلدين (سوريا وتركيا)، حرصت على أن أوصل الليل بالنهار، لأستفيد من الوقت قدر المستطاع.

لم يكن ذلك تطبيقاً منّي لمقولة عمر بن الورديّ: غب وزر غبّاً تزد حبّاً / فإنّ من أكثر الترداد أقصاه الملل، بل التقييدُ الزمنيُّ ألزمني بتطبيقها، بأن أزور أكثر ما يمكن في الوقت المحدَّد، لأنّ الترداد على الأحبّة أو تردادهم علينا يكون غاية الرضا والبهجة، ولن يكون مدعاةَ ملل أبداً. فكان البرنامج الذي وضعته لنفسي، بأن أتنقّل بين نصيبين وماردين وقزل تبه وسري كانيه، يتخلّل ذلك توقّف في القرى، التي هي موطن الآباء والأجداد في الماضي القريب، قبل أن يتشتّت الإخوة في المكان، والتي لا تزال موطن ومسكن الأعمام والأخوال ومتفرّعاتهم من ابن عمٍّ أو ابن خال... إلخ.

ولم يشكّل التنقّل من مدينة إلى أخرى، أو في المدينة نفسها من مكان إلى آخر، أيّ إشكال، وبخاصّة من ناحية اللغة، فاللغة الرئيسة هي الكرديّة، كلغة الشارع والشعب، فكان السؤال يُجاب بابتسامة وترحاب، حيث لا يشعر المرء بأيّة غربة، أو أيّ بعدٍ نفسيّ، كما يتصوّر ساكن الـ (binxet ) قبل أن يزور الـ (serxet )، أو العكس، فكلّ من يتصادف أن تسألهم يصبحون لك أدلاّءً يوصلونك إلى النقطة التي تريدها.

كان هذا هو التلاقي الظاهريّ والمتبدّى بداية، ولكن عند التعمّق في جوهر البعد والإبعاد المعمول به، تبدأ الاختلافات التي تشقّ طرق الخلافات على أمور لا تستحقّ أن تصبح موضع الخلاف، ليس ابتداء بطريقة إعداد الشاي أو شربه، أو الفروق اللغويّة التي اكتسحت اللغة الكرمانجيّة، هنا تأثّراً بالعربيّة، وهناك انسحاقاً مؤسفاً ورضوخاً مُكئباً للتركيّة، وليس انتهاء بالصدوع التي تتعمّق بين العقليّتين، هذا إذا كنّا حسني النيّة بأن نقسّم كلّ جهة إلى عقليّة، والحقيقة تقول إنّ كلّ جهة هي منقسمة على نفسها وعلى العقليّة الواحدة، بعقليّات مختلفة، منها ما هو متآلف، ومنها ما هو منقلب على نفسه وعلى غيره، ومروراً بالأمور الحياتيّة المختلفة.. ولا أستبسط التمسّك بتلك التي تبدو وكأنّها صغائر الأمور، لأنّ أعظم النار من مستصغر الشرر، وهذه الصغائر هي التي ستعظم بمرور الوقت القليل، لأنّها لن تعالج..

صحيح أنّ الأنظمة التركيّة قد سمحت للكرد في المناطق الكرديّة بالتمتّع ببعضٍ من الحرّيّة الثقافيّة، وأبدت نفسها وكأنّها قد انسحبت جزئيّاً من الساحة التي كانت تحتكرها، لتُدخل إليها جانباً من الثقافة الكرديّة الناشئة، لكنّها تركت خلفها إرثاً كارثيّاً، تركت خلفها حلفاء صدوقين جدّاً معها، وأعداء للشعب أشرس منها، خلّفت بين القوم الجهل والتخلّف والتعادي والتناحر والبطالة، وفوق هذا وذاك، خلّفت تراثاً من الدين المشوَّه الذي يحتاج إلى عشرات السنين حتّى يستقيم، ـ هذا إذا بالغنا في التفاؤل ـ، فيكفي أن تتلفّظ بجملة عربيّة، ومن ثمّ تنسبها إلى القرآن أو إلى السنة حتّى يكتسب كلامك قداسة لا تُطاوَل، وهذا ما يستغلّه مدّعو التديّن؛ أذناب الأنظمة.

وإذا ما تجاوزنا عتبة الحدود، التي هي حدود وألغام ومقاصٍ ومقاصل بأكثر من معنىً، سيكون المرء في نزال بعيدٍ عن تكافؤ الفرص، في حلبة التاريخ، على أرض يشهد لها التاريخ برسوخها في جغرافيّتها، ويشهد لها الكلّ التجاء الآخرين إليها، حتّى لكرمها المفرط، ظنّ الملتجئون إليها، إن هم إلاّ في أرضهم التاريخيّة يقيمون، وتمادوا في ظنّهم، وتمادوا على المكرمين عليهم، فحاولوا أن يستبدلوها، سعياً إلى إحلال المستجدّين فيها بعد تفريغها من مانحيها ومانحيهم الإقامة والاسم والبقاء، ليكون ردّ الجميل بنكران الجميل نفسه. وذلك مداواة لؤم بداء آخر، واستقبال الكرم والبشاشة ببالغ التشفّي والخساسة.. لن أكون أسير التاريخ، ولا أقبل أن أكونه، ولن أحبس نفسي في قفص جغرافيّةٍ لا تتجاوز بضع عشرات من الكيلومترات، (وهنا أقصد حدود قرىً بعينها ولا أقصد المناطق الكردستانيّة الحدودية كلّها)، ولن أعيد اجترار أمجاد ماضٍ تليدٍ كان ذات يوم ما كانه، لكن سأعتمد على أطلال عظمة تاريخيّة، تفضح بدورها التزوير العبثيّ المطبّق عليها، وتكشف عري التشويه الملحق بجغرافيتّها، وهنا، عندما سأتحدّث عن مكان تاريخيّ، لا أقصده بذاته فقط، ولا أقوقع نفسي فيه، رغم قربه إليّ مكانيّاً وتقديريّاً، بقدر ما أذكره نموذجاً ومثالاً على ما يحدث من جرمٍ بحقّ تاريخ يتبرّأ من مدوّنيه ومزوّريه، ويحنّ إلى ملاحم منقوشة على رُقُم وأحجار معتَّم عليها، مخفاة في أقبية مزوّرين، يسعون جهدهم، وسيسعون لإبقائها في العتمة، لأنّ نورها يعمي أبصارهم، ولن يكون هناك أيّ بارق أمل لينير بصائرهم، لأنّها قد تلفت، ولا يفيدها الترميم أو الإبدال، ولن تعيدها أيّة عمليّات جراحيّة، لأنّها وُئدت منذ زمان طويل، أو لأنّ شبكيّة البصيرة قد اختُرِقت بناءً على الطلب. سأتوقّف عند مكان توقّفت عنده قبل أكثر من سنة، في مقالة كتبتها وقتذاك بعنوان (قرية darê رهين الظلمين) ونشرتها في عدد من المواقع الإلكترونيّة مرفقة بالصور التي تبيّن الخراب والتخريب الملحقين بها من الطبيعة، ومن الأنظمة، ومن أهلها.

أُخبِرت هاتفيّاً بعد تلك الزيارة، بأنّ أعمال الترميم قد بدأت في سجن darê، وبأنّ فريقاً بقيادة بروفسورٍ بدأ التنقيب في القرية. وفي زيارتي هذه صمّمت أن أزور بداية قرية darê، لأطمئنّ على عظمتها التاريخيّة، هل حُميت أم هل تَمُودي في إهمالها..؟!!!

شاهدت بأمّ العين، وصوّرت بأكثر من عين إلكترونيّة، ما يُفترض أنّه رُمِّم، رأيت بأنّ الترميم اقتصر على إزالة بعض الأوساخ والأتربة المتراكمة في أرضيّة السجن، والتي أنتجت ظهور عدّة درجات نحو الأسفل، أظهرت أحجاراً مكتوباً عليها بعض الكتابات، هذه الدرجات التي كان يشكّل التراب المتراكم عليها منزلقاً زلقاً جدّاً، تزحلق عليه أحد الزوّار – كما قيل لي - الذي أصيب إثر سقطته بنزيف دماغيّ قضى عليه، خاصّة كانت العتمة هي الطاغية مع التعتيم، ولا تزال، كما لم يتجاوز هذا الترميم إضاءة هذا السجن التاريخيّ ببعض البجكتورات، التي هي وقف للأطفال يتسلّون بها ما شاء لهم أن يتسلّوا، دون أيّ مهتمّ، أو موظّف، أو مكلَّف.. كما شاهدت بأنّ البَرْطويل قد سقطت منه بضع حجرات أخرى، أي قَصُر، وأشدّ ما أخشاه أن يصبح بعد بضع سنوات (البَرْقصير أو القزّوم).

بالتأكيد لا أسرد نكاتاً هنا، ولكنّها الحقيقة المؤلمة المرّة، والتي تحتاج إلى أكثر من مساهم للمحافظة على ما يمكن المحافظة عليه، أي إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كما يقال.

إن كانت المجتمعات الحيّة تُحيي مُواتها وأمواتها، وتهيّئ أرضيّة خصبة لتطوير أحيائها، فعلى العكس منها، المجتمعات الميتة تميت أحياءها، وتقضي على كلّ ذكرٍ لأمواتها، وتجهز على الميّت بأن تقصيه من ذاكرتها، وتمحو كلّ أثر يشي به، أو يشير إليه، من أرشيفها، وهكذا يكون التعامل مع الآثار، لأنّها زوّادة المستقبل، اتّكاءً على عظمة الأسلاف، لتشييد فرادة الأحفاد، لا حنيناً ماضويّاً يعكس عجزاً حاضراً، بل حفظاً لإبداعٍ إنسانيّ في هذه المنطقة التي تُخَلَّى وتُجوَّف من التاريخ، ومن هنا، الأحياء يحيونها، يجذّرونها، يرمّمونها، أمّا الأموات يقضون عليها، يفنونها، يتفانون معها، يجعلونها قبوراً لأنفسهم، وتاريخهم، وحاضرهم ومستقبلهم..

أعتقد أنّ إنقاذ الكلّ بات من شبه المستحيل، لأنّ منها ما ضاع، ومنها ما اندُثر، ومنها ما يندثر، والباقي رويداً رويداً يطاله التبديد والتضييع والاندثار، لقد فات من الوقت ما فات منه، في انتظار من سيبادر إلى إنقاذ العظمة التاريخيّة من براثن الوحش الساعي إلى تبديد وتشتيت الجغرافيّة الواحدة جغرافيّاتٍ للاستفراد بها، وتقديمها ولائم على موائد السلاطين.

انتصر التاريخ لاسمه، نوعاً ما، بأن أعادت الحكومة التركيّة اسم القرية (دارا) كما هي معروفة تاريخيّاً وحاضراً، بعد أن كانت قد ترّكتها إلى دارا أوغس. حذفت اللاحقة اللغويّة منها، هذه الزائدة التي بقيت في الكثير من الأسماء الأخرى في جغرافيّتنا المطعونة تاريخيّاً، هذه الأحرف الزائدة قسراً، والتي هي أبشع من الزائدة الدوديّة، تتريكاً وتعريباً وتفريساً..

لن أرفق المقالة هذه بالصور، رغم أنّي أملكها، لئلاّ أصدم بها مشاعر الجميع، وعشّاق الآثار عامّة، أو أؤذي بها عيون المشاهدين الذين سينتكبون لما سيرونه، ومن هنا أقترح أن تصنَّف آثار darê على لوائح الأمم المتّحدة ضمن التراث الإنسانيّ المهدَّد بالاندثار.. وأكتفي بالقول:

إنّ خراباً وتخريباً كبيرين يحصلان في darê.. وإنّ تاريخاً بعمق آلافٍ من السنين يضاع وينتهي إلى غورٍ..

مَنْ المنقذ.. ؟!!! من سيكون ذاك.. ؟!!!





الجغرافيّة المطعونة تاريخيّاً (مشاهدات وتداعيات) - 4 - الحدودُ اللُّحُود

الإهداء دوماً يكون إلى الساعين لكسر الحدود.. المتمرّدين على التزوير.. الجابرين كسورَ الخرائط.. الماحين خطوطَ الطول والعرض، ليكون لهم أطلسهم المحقّ حقَّهم، والفاضح عُري التاريخ وجرمه أمام صمود الجغرافيّة، رغم مداومة الطعن فيها، ومضاعفة النزف البشريّ منها..

إنّ هذه الجغرافيّة المطعونة تاريخيّاً تُدفع إلى التناسف ذاتها، لتنسف نفسها، وتغور، ومن ثَمّ ليتبدّد انتماء الإنسان نفسه ويتجزّأ، ليتخبّط بين أجزاء مجزّأة ومحوَّلة إلى متاهة تُتيهه في بحثه عن دروب الخلاص، هذه الدروب التي تساق إليه معلَّبة تعليباً عدائيّاً، لا يهدف سوى تجريده من كلِّه، ليتوهّم بأنّه يعيش، وإن كان عيشة روبوت مهيكل، مسلوب الروح الحيّة، آليّ يدار ويُحرَّك بأزرار حسب الطلب، ولا شكّ حينذاك سيكون من الطراز الآليّ الرديء الصنع، أو المعدّ للاستخدام لمرّة واحدة فقط..

هذه هي الصورة اليتيمة التي يريد أيّ مستغلٍّ أو عدوّ أن يرى عدوّه عليها، لأنّها تطابق مواصفاته التي ينشدها له، وتراه يستميت لإبقائه كذلك..

إنّها مشاهدات ووقائع تماسست معها، وهي تداعيات تتبعها، أو تسبقها، أو توازيها، منها ما لمسته، ومنها ما أتألّم له، ومنها كذلك ما تقصّدت إطالة التوقّف عنده، لأنّ تهميشها واقعيّاً لا يلغي دورها التاريخيّ برأيي، وليس بالضرورة أن يكون المُمحى الكيان، وفق منطق العدوّ المطبَّق، منسيّاً بالنسبة لنا، لأنّ تحدّي الأعداء يكون بذكر من يريدون لنا أن ننساهم أو نتناساهم، والتذكير بهم، لأنّ الذاكرة هي أكثر من يوثَق به، عندما ينعدم من نثق بهم، فهي لا تخون من لا يخونها، ولا تُفقده نفسها.. وتساعد من يلتجئ إليها، وتخبّئ له ما يظنّ بأنّه لن يحتاج إليه..

الذاكرة هي لوح الكرديّ المحفوظ، الذي ينشدّ به إلى الجذور، ولا يَنْشدِهُ معه أمام استعراضيّات جوفاء، والذاكرة أكثر ما يحتاجها الكرديّ في أرضه التي يسكنها، وفي أيّ أرضٍ أخرى يمكن له أن يسكنها.. لذا فيجب أن يكون الكرديّ مسكوناً بالذاكرة المحفّزة للمستقبل، لأنّ:

ذاكرة الكرديّ سلاحه..

ذاكرة الكرديّ رباطه المقدَّس..

ذاكرة الكرديّ ميثاق شرفه مع تاريخه..

ذاكرة الكرديّ رهانه على نفسه وتاريخه ومستقبله..

إنّ هذه ليست مزاودات أو مضاربات في الساحة، إنّها سياحات بين الحدود، ووقوف على الأسلاك المكهربة القاتلة تحدّياً، إنّها مفارقات الذهنيّة المتشتّتة، إنّها التماسات الانتماء الوحيد، ونبذ الانتماءات المتضالّة معاً.. وهي صرخات رفضٍ تعني كلّ مهتمّ، مغتمٍّ، رافضٍ للواقع الكارثيّ المفروض بسياط الأحلاف المبتزّة والتحالفات المُنهكة، وهي بالمقابل عناوين للبحث عن افتراضٍ لواقعٍ كان واقعاً قبل أن يُفترَض افتراضاً..

ويستمرّ الطعن مخترقاً هذا الجسد الذي بات يجاهد على نفسه والبلاوى التي يُبتَلى بها، آملاً في استفاقة قريبة من التنويم والتنوُّم، أملها في ذلك، كاوا:ها الحدّاد العالِم المعاصر، ليقضي على الضحّاك المخضرم الظالم المريض.. في انتظار كاوا، الحلمُ، والتحدّي، والتجذّر..

الحدود اللحُود، الحدود التي تشكّل بتراً للشرايين وتقسيماً إجباريّاً للقلوب، هذه التي سيلقى بها على الطرفين دون أيّ اعتبار لإنسانيّة مجتثّة من جذورها، ليكمل الإنسان المقسّم بين الحدود حياته مقسّم الأعضاء والعواطف، مشتَّت الرؤى، معدوم الكيان، لتتطوّر الحدود بمفهومها الفاصل، وتضيّق على الحدوديّين، إذ تصير لحود الآمال، وقبوراً لمن يحاول خرقها وتجاوزها من الطرفين بدون الاتّفاق مع أحدهما، وسدوداً لكلّ تواصلٍ محتمَلٍ..

هكذا حدودنا، هي السدود،.. إنّها اللحُود..!!!

أترك للذاكرة بعضاً من الذكريات التي سأحتاج إليها حين يحينُ حينُها، في مكانٍ آخر، لن يبتعد كثيراً عمّا سبق الحديث عنه، إنّما سيتخصّص أكثر، رغبة في التعميم المُبتغَى.. لأعود إلى الواقع، إلى المشاهدة دون التداعي.. تأخّرنا عن المأذونيّة ليلة قضيناها في نصيبن، بعد أن أُرجعنا من الحدود، إذ أغلقتها السلطات، بسبب الجوّ المثلج والممطر، إضافة إلى انقطاع التيّار الكهربائيّ..

كان عدد المتأخّرين كبيراً، حيث سُدّت مجموعة من الطرق بسبب تراكم الثلوج.. إذ أنّ بضاعة الزوّار كانت مزيجاً من الهدايا والمشتريات، منها للتجارة، ومنها ما أوجبته ضرورات الزيارة..

لم أقيّد نفسي بالدارج من بعض العرف الذي يُنهك، ويمنع الكثيرين من التزاور، وتُرغم، كذلك، كثيراً من المتزاورين على اختلاق أسباب عدم قيامهم بواجبهم تجاه جميع الأقارب، على اختلاف درجات القرابة، ومن تلك الأسباب، أنّهم لم يكونوا يعرفون أقاربهم كلّهم بالتفصيل، أو أنّهم قرّروا، في اللحظة الأخيرة، أن يقوموا بالزيارة، وعندها كان الوقت قد فاتهم..

وحقيقة، تشكّل هذه الأمور عبئاً حقيقيّاً، على السَرختيّين، وعلى البنختيّين، على الجميع سواء بسواء، لكنّني خرجت عن المألوف، تجاوزت الألغام، كسرت الحواجز، سوّيت الأرض، وتخفّفت من أعباء العادات، إذ كانت "بضاعتي" كتباً، لا غير.. على الحدود، استقبلنا عسكريّ بابتسامة بلاستيكيّة بلهاء قائلاً: شو اللي أخّركن اولاك يا .....

هكذا استُقبلنا على الحدود..

تُرى كيف كنّا سنُستَقبل لو كنّا لصوصاً أو مهرّبين.. ؟!

لا أريد أن أسمع الجواب..



#هيثم_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التحدّي المُقْلِق..-دُوار الحرّيّة- ل -مالك داغستاني-
- خرق المحظورات.. سمر يزبك في روايتها -طفلة السماء-
- ثقافةُ الريحِ.. أرشيفُ الأسى*
- لا مساوَمة على الحرق، لا مساواة في الحرق
- تهشيم الحرّيّات
- النخبويّة التلفزيونيّة
- آراء.. وآرام
- مات الوطن.. عاش الوطن..
- لبنان واأسفي عليك.. وواأسفي علينا
- المنبرُ الإعلاميّ .. موقعُه وموقفُه
- الهاجس الشعريّ في نداء اللازورد
- مهدي عامل .. شهيدُ الفكر
- أُلْفةُ الأمكنة ، أمكنةُ الأُلاَّف
- لَعْنَةُ الجغرافيا وخيانتُها روائيّاً
- آمد والجرم الماضي المستمرّ
- الحوار المتمدِّن تجذير التمدُّن في الحوار
- أَرَبٌ عربيٌّ في الأدب الكرديِّ
- بعض التوضيحات حول مقالة :الأدب الكرديّ بعيون عربيّة
- حرائقنا ... نَيْرٌ ناريٌّ
- الحدائيّات العربانيّة


المزيد.....




- صدق أو لا تصدق.. العثور على زعيم -كارتيل- مكسيكي وكيف يعيش ب ...
- لفهم خطورة الأمر.. إليكم عدد الرؤوس النووية الروسية الممكن ح ...
- الشرطة تنفذ تفجيراً متحكما به خارج السفارة الأمريكية في لندن ...
- المليارديريان إيلون ماسك وجيف بيزوس يتنازعان علنًا بشأن ترام ...
- كرملين روستوف.. تحفة معمارية روسية من قصص الخيال! (صور)
- إيران تنوي تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة رداً على انتقادات لوك ...
- العراق.. توجيه عاجل بإخلاء بناية حكومية في البصرة بعد العثور ...
- الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا استعدادا لضرب منطقة جديدة في ضا ...
- -أحسن رد من بوتين على تعنّت الغرب-.. صدى صاروخ -أوريشنيك- يص ...
- درونات -تشيرنيكا-2- الروسية تثبت جدارتها في المعارك


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - هيثم حسين - الجغرافيّة المطعونة تاريخيّاً